بر الله وقداسته
اختص الروح القدس الرسول بولس ليكلِّمنا عن مقاصد الله ومشوراته الأزلية، وبصفة خاصة نحو الكنيسة، وشغل الرسول يوحنا أن يكلِّمنا عن طبيعة الله وهي النور والمحبة، كذلك شغل الرسول بطرس أن يكلِّمنا عن حكومة الله البارة التي لا تتساهل مع الشَّر بل تقضي عليه سواء مع المؤمنين أو مع الأشرار.
وبالنسبة لعلاقة الله مع الإنسان الخاطئ الساقط ما كان ممكنًا أن تتوافق صفات محبته مع مطاليب بره إلا في صليب المسيح حيث «الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مز85: 10). فالله لا يستخف أو يستهين بالخطية، ولا بد أن يُعاقِب المذنبين. ولكي يُبرِّر الله المذنب كان لا بد لعدالته أن تستوفي حقوقها؛ ومن هنا وضع الله الديَّان عقوبة خطاياهم على المسيح فوق الصليب. فلم يتساهل مع خطية واحدة وضعها على المسيح، ومن هنا يستطيع أن يُبرِّر كل مَنْ يؤمن بالرب يسوع.
وإن كان بر الله لم تتساهل مع أية خطية وُضعت على المسيح، فقداسته أيضًا لا تتساهل مع أي مؤمن لا يسلك طبقًا لهذه القداسة. ويؤكد الرسول بطرس في الرسالة الأولى على نعمة الله تجاه أولاده. فتبدأ الرسالة بالرحمة الكثيرة، وتُختم بالنعمة، حيث دعانا إله كل نعمة إلى مجده الأبدي. لكنه في الوقت نفسه، يريد أن يقول إن النعمة والامتيازات لا تغيران طبيعة الله القدوسة، فلا بد أن يتوافق معها كل شيء. وسرور الله أن يتوافق مسلكنا مع مبادئ قداسته، لذلك يقول: «كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ، بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (1بط1: 14-16)، لأن مبدأ القداسة في ذاته ثابت لا يتغير بتغير التدابير، فقداسته في العهد القديم هي نفسها في العهد الجديد.
ويقول أيضًا: «وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ» (1بط1: 17)؛ أي أن الله أبانا وقد رضي - في نعمته - أن يدعونا أولاده، فإنه في الوقت نفسه لا يتساهل في قداسته لكوننا أولاده، بل يجب أن يكون سلوكنا في خوف أبينا في زمان غربتنا. وإن كان المؤمن لا يأتي إلى دينونة، لكنه خاضع للقضاء والحُكم الذي يجريه الآب معنا هنا ونحن على الأرض، وهذا يختلف عن دينونة الله المستقبلة التي سيجريها الله بواسطة المسيح كابن الإنسان، بينما الذي يحكم الآن هو الآب.
ويشير الرسول أيضًا إلى حكومة الله في الأصحاح الرابع فيقول: «لأَنَّهُ الْوَقْتُ لاِبْتِدَاءِ الْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ اللهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلاً مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ اللهِ؟» (1بط4: 17). وهنا يشير الرسول إلى القضاء المُريع الذي حلَّ بأورشليم والهيكل والأرض أيام نبوخذنصَّر كما يصفه النبي حزقيال، ففي الوقت الذي كان الناس يظنون أن الهيكل لا يمكن أن ينهدم أو يزول، قال الرب: «ابْتَدِئُوا مِنْ مَقْدِسِي» (حز9: 6). والمسيحية لا تتساهل أيضًا مع الشَّر بل تجلو هذه الحقيقة أكثر، لأن الله يحافظ على كلمته وحقه في أن يدين ويقضي على كل انحراف عنه. فلا بد أن يتوافق كل شيء مع طبيعته الطاهرة القدُّوسة، وإذا اختل مقامنا مع سلوكنا العملي فإن الله يُجري في هذه الحالة القضاء بواسطة التأديب.
حكومة الله البارة مع الأشرار:
وهذا نراه في رسالة بطرس الثانية، وهو يصف حالة الارتداد المسيحي الذي سيقع عليه القضاء، فنقرأ: «يُنْكِرُونَ الرَّبَّ الَّذِي اشْتَرَاهُمْ، يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكًا سَرِيعًا... الَّذِينَ دَيْنُونَتُهُمْ مُنْذُ الْقَدِيمِ لاَ تَتَوَانَى، وَهَلاَكُهُمْ لاَ يَنْعَسُ... يَعْلَمُ الرَّبُّ أَنْ يُنْقِذَ الأَتْقِيَاءَ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَيَحْفَظَ الأَثَمَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مُعَاقَبِينَ... قَدْ حُفِظَ لَهُمْ قَتَامُ الظَّلاَمِ إِلَى الأَبَدِ... وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْكَائِنَةُ الآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلاَكِ النَّاسِ الْفُجَّارِ» (2بط2: 1، 3، 9، 15-17؛ 3: 7).
القضاء الذي يقع على دائرة الاعتراف المسيحي:
لقد أعطى الرب إنذارًا واضحًا لحالة الملكوت في شكله السري أثناء غياب الملك فنقرأ «هَكَذَا يَكُونُ فِي انْقِضَاءِ الْعَالَمِ: يَخْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَيُفْرِزُونَ الأَشْرَارَ مِنْ بَيْنِ الأَبْرَارِ، وَيَطْرَحُونَهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (مت13: 49، 50).