منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 18 - 02 - 2022, 12:30 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,316

تفسير مبسط لمثل الزارع في الكتاب المقدس




مثل الزارع

التقى السيّد المسيح بالجموع خارج البيت، إذ يقول الإنجيلي: "في ذلك اليوم خرج يسوع من البيت وجلس عند البحر. فاجتمع إليه جموع كثيرة حتى أنه دخل السفينة وجلس، والجمع كلّه وقف على الشاطئ" [1-2]. أمّاعند تفسيره المثل للتلاميذ، فكان معهم داخل البيت بعدما صرف الجموع [36]، فماذا يقصد بالبيت؟
أولًا: ربّماقصد بالبيت "الكنيسة المقدّسة كجماعة المؤمنين" فقد خرج السيّد المسيح خارج ليلتقي مع جماهير غير المؤمنين، الذين لم يدخلوا بعد في العضويّة الكنسيّة، ولا وُلدوا كأبناء لله... يخرج إليهم ليلتقي معهم خلال محبّته بكلمة الكرازة، ويجلس عند البحر، الذي يُشير إلى العالم المملوء اضطرابًا، لكي يدخل بهم إلى كنيسته، بدخوله هو إلى سفينة إنسانيّتنا وحديثه معهم عن ملكوت السماوات خلال الأمثال.
بحبّه يتحدّث مع الجميع، لكنّه لا يأتمن أحدًا على أسرار الملكوت وتذوّق الأمجاد الأبديّة خارج البيت. إنه يصرف الجماهير ليلتقي مع تلاميذه وحدهم داخل البيت، ويحدّثهم في أمورٍ لا ينطق بها ومجيدة.
يقول العلامة أوريجينوس: [عندما يكون يسوع مع الجموع يكون خارج بيته، لأن الجموع خارج البيت. هذا العمل ينبع عن حبّه للبشر، إذ يترك البيت ويذهب بعيدًا إلى أولئك الذين يعجزون عن الحضور إليه.]
ثانيًا: يُشيرالبيت أيضًا إلى السماء بكونها هيكل الله. فإذ عجزت البشريّة عن الارتفاع إلى السماء لتلتقي بخاِلقها نزل هو إليها. إنه كمن يخرج من البيت ليلتقي بالبشريّة خلال إنسانيّتهم، حتى بدخوله إليهم لا يهابونه كديّان، فيهربون منه، بل يسمعون صوته خلال السفينة الخشبيّة، أي خلال الصليب ليجتذبهم بالحب إلى السمويّات "بيته"، ويكشف لهم أسراره كعريس يناجي عروسه في حجاله الأبدي. لا يحدّثها عن أسراره علانيّة بين الجماهير، بل خلال علاقة الحب الشخصي في لقائهما معًا تحت سقف واحد!
ليتنا بالحق لا نكتفي بالوقوف مع الجماهير عند الشاطئ لنسمع الأمثال، إنّما ندخل به وفيه إلى بيته، ننعم بالعضويّة الروحيّة في كنيسته والدخول إلى سماواته، فنرتمي في أحضانه الإلهيّة ليحدّثنا حديث حُبّه السرّي الفائق.

هوذا الزارع قد خرج

غاية الله فينا هو "الخروج exodus"، ينطلق بنا كما مع بني إسرائيل من أرض العبوديّة إلى خيرات أرض الموعد. إنه يشتهي أن يخرج بنا من عبوديّة الخطيّة إلى حرّية مجد أولاد الله. ولما كان الخروج بالنسبة لنا مستحيلًا خرج هو أولًا كما من أمجاده، حتى يخرج بنا نحن أيضًا من طبيعتنا الفاسدة، فنلتقي معه وفيه، متمتّعين بالطبيعة الجديدة التي على صورته.

يتحدّث القديس يوحنا الذهبي الفمعن هذا الخروج الإلهي هكذا: [خرج ذاك الذي هو كائن في كل مكان، لكنّه غير محدود بمكان؛ جاءنا في ثوب جسدنا. يتحدّث المسيح بحق عن اقترابه إلينا كخروج. لأننا قد طُردنا خارج الله كمن هم مدينين وثائرين مطرودين من حضرة الملك. لكن ذاك الذي يرغب في مصالحتهم مع الملك يخرج إليهم، ويتحدّث معهم خارج المملكة، ومتى تأهّلوا يحضرهم إلى الحضرة الإلهيّة. هذا هو ما فعله المسيح(558).] كما يقول: [لم يخرج إلى موضع إنّما يُعلن عن حياة وتدبير يخصّان خلاصنا، إذ صار قريبًا لنا بالتحافه جسدنا. فإذ لم نستطع نحن أن ندخل بسبب خطايانا خرج هو إلينا. ولماذا خرج؟ هل لكي يُهلك الأرض التي أنتجت أشواكًا...؟ لا، إنّما خرج ليهتمّ بالأرض ويبذر كلمة الحنو. إذ يدعو تعاليمه هنا بذارًا، ونفوس البشر حقلًا مفلحًا، ويدعو نفسه بالباذر(559).]
السيّد المسيح هو الزارع الذي يخرج دومًا ليلقي ببذار حبّه فينا لكي تثمر في قلبنا شجرة حب يشتهي الله أن يقطف ثمارها، قائلًا: "قد دخلتِ جنتي يا أختي العروس، قطفتِ مرِّي مع طيبي، أكلتِ شهدي مع عسلي، شربتِ خمري مع لبني. كلوا أيها الأصحاب اشربوا واسكروا أيها الأحبّاء" (نش 5: 1). ألقى الله بذاره في الفردوس، لكن أبوينا الأولين قبِلا الزوان عِوض بذار الرب، فخرجا يحملان ثمار المرارة والعصيان. عاد الله وخرج إلى شعبه خلال موسى لينطلق بهم من أرض العبوديّة، مقدّمًا لهم الشريعة كبذارٍ إلهيّة، لكن القلب الذي ارتبط بعبادة الأوثان المصريّة، خاصة عِجل أبيس الذهبي تفسير مبسط لمثل الزارع في الكتاب المقدس تفسير مبسط لمثل الزارع في الكتاب المقدس تفسير مبسط لمثل الزارع في الكتاب المقدس تفسير مبسط لمثل الزارع في الكتاب المقدس ، رفض البذار الإلهيّة مثمِرًا شجرة تذمُّر مستمر. وفي ملء الزمان خرج كلمة الله بنفسه إلينا متجسّدًا، وحلّ وسطنا، لنتقبّله حالاًّ فينا، فنثمر ثمار روحه القدّوس. وقد تمّ كمال خروجه بانطلاقه خارج أورشليم حاملًا عار الصليب، حتى نخرج نحن أيضًا بالصليب خارج "الأنا"، أي خارج ذواتنا المتعجرفة، فنلتقي به عند صليبه ونتقبّل ينبوع دمه الطاهر بذار حب تعمل فينا؛ الأمر الذي أوضحه الرسول بقوله "لذلك يسوع أيضًا لكي يقدّس الشعب بدم نفسه تألّم خارج الباب؛ فلنخرج إذًا إليه خارج المحلّة، حاملين عاره" (عب 13: 12-13).

البذار

ما هي البذار التي يلقيها السيّد المسيح في حياتنا كما في الأرض؟ قديمًا كان موسى والأنبياء يتقبّلون الكلمة من الله، أي يستعيرونها لكي ينعمون بها في حياتهم ويقدّمونها للشعب، إنها عارية! أمّا السيّد المسيح فهو بعينه الكلمة الإلهي، يوَد أن يُدفن في قلب المؤمن، لكي يُعلن ذاته شجرة حياة في داخله. إنه لا يقدّم شيئًا خارجًا عنه استعارة، إنّما يقدّم حياته سرّ حياة لنا، وقيامته علّة قيامتنا، ونصرته بكر نصرتنا، وأمجاده سرّ تمجيدنا! إنه الباذر والبذرة في نفس الوقت.

الأرض

الأرض التي تستقبل السيّد المسيح نفسه كبذرة لها أن تقبله أو ترفضه، وقد قدّم لنا السيّد المسيح أربعة أنواع من التربة: الطريق، والأرض المحجرة، والأرض المملوءة أشواكًا، والأرض الجيّدة. حقًا إن الزارع واحد، والبذار واحدة، لكن الثمر أو عدمه يتوقّف على الأرض التي تستقبل البذار. وقد استغلّ البعض هذا المثل للمناداة بوجود طبائع مختلفة لا يمكن تغييرها، فالشرّير إنّما يصنع الشرّ بسبب طبيعته، والصالح بسبب صلاح طبيعته، وكأن الإنسان ملتزم بتصرّفات لا يمكنه إلا أن يفعلها، وكأنه لا يحمل حرّية إرادة. هذه البدعة تصدّى لها كثير من الآباء، لكنّني هنا أود تأكيد أن هذا المفهوم لا يمكن استنباطه من المثل، فلو أن الله يُعلّم هذا، فلماذا ضرب لنا المثل؟ إنه يقول: "من له أذنان للسمع فليسمع" [9]،وكأنه يأمرنا أن ننصت لكلماته فنطلب تغيير طبيعتنا إلى الأرض الجيّدة.
* عند سماعكم هذا لا تبتدئوا تفتكروا في طبائع مختلفة كبعض الهراطقة، الذين يذكرون أن للواحد طبيعة شرّيرة وللآخر صالحة، وأن البعض تقودهم إرادتهم خلال تكوينهم إلى ما هو صالح أو شرير. أضف إلى هذا أن الكلمات "قد أُعطى لكم"، تعني أنه لكم إرادة(560).
الأب غريغوريوس (الكبير)

* (عن إمكانيّة التحوّل إلى تربة صالحة)
اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، أزيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها.
احترزوا من أن تحتفظوا بذلك القلب القاسي الذي سرعان ما تعبر عنه كلمة الرب ويفقدها.
احذروا من أن تكون لكم تربة خفيفة فلا تتمكن جذور المحبّة من التعمق فيها.
احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.
كونوا الأرض الجيّدة، وليأتِ الواحد بمائة والآخر بستين وآخر ثلاثين(561).
القديس أغسطينوس
ماذا يقصد بقوله: "من له أذنان للسمع فليسمع"؟ يُعلّق القديس جيروم على هذه العبارة هكذا: [يقول إشعياء "أعطاني الرب أذنًا" (إش 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه. وذلك كما نصرخ نحن أيضًا في قلوبنا قائلين: أيها الأب أبّا، وهي صرخة صامتة، لكن الرب يسمع الصمت هكذا بنفس الكيفية يحدّث الرب قلوبنا التي تصرخ: "أيها الأب أبّا".]

أولًا: الطريق

"وفيما هو يزرع، سقط بعض على الطريق، فجاءت الطيور وأكلته" [4]. هذا الطريق هو القلب المتعجرف الذي على مستوى مرتفع عن الأراضي الزراعيّة، إنه مطمع للطيور المرتفعة، أي لشيّاطين الكبرياء التي تعوق تلاقينا الحقيقي مع الله الكلمة! والطريق دائمًا مفتوح، ليس له سور يحفظه من المارة، كالإنسان صاحب الحواس المفتوحة لكل غريب، ليس من رقيب يحفظها! ما أحوج هذا الإنسان إلى الصراخ لله مع المرتّل، قائلًا: "ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيَّ"، فينعم بالروح القدس نفسه كسورٍ ناريٍ يحيط به، لا يقدر الشرّ أن يقترب إليه.
يتحدّث القديس كيرلس الكبيرعن الطريق، قائلًا: [الطريق دائمًا صلب، تَطَأه أقدام كل العابرين على الدوام، لهذا لا تبذر فيه بذار. هكذا من كانت لهم الأفكار العنيفة وغير الخاضعة، لا تَدخل الكلمة الإلهيّة المقدّسة فيهم، ولا تسندهم، لكي يتمتّعوا بثمر الفضيلة المفرح. مثل هؤلاء يكونون كالطريق الذي تطأه الأرواح الدنسة ويدوسه الشيطان نفسه، فلا يأتون بثمرٍ مقدّسٍ بسبب قلوبهم المجدبة العقيمة.]

ثانيًا: الأماكن المحجرة

"وسقط آخر على الأماكن المحجرة،
حيث لم تكن له تربة كثيرة.
فنبت حالًا، إذ لم يكن له عمق أرض،
ولكن لما أشرّقت الشمس اِحترق،

وإذ لم يكن له أصل جف" [5-6].
هذه المنطقة الحجريّة المغطّاة بطبقة خفيفة من التربة إنّما تمثّل القلب المرائي الذي يخفي طبيعته الحجريّة وراء مظاهر برّاقة. فيتقبّل الكلمة سريعًا لتنبت ويفرح الكل به، لكن الرياء الخفي كفيل بقتل كل حيويّة فيه. إنه لا يحتمل إشراق الشمس فيحترق، لأن ليس فيه أصل فيجف. يودّ أن يبقى رياؤه مخفيًا، لكن الضيقة تفضحه وتكشف أعماقه، إذ يقول البابا كيرلّس الكبير: [يوجد آخرون يحملون الإيمان بغير اِكتراث في داخلهم، إنه مجرّد كلمات عندهم! تديُّنِهم بلا جذور، يدخلون الكنيسة فيبتهجون برؤيتهم أعدادًا كبيرة مجتمعة هناك وقد تهيّأوا للشركة في الأسرار المقدّسة، لكنهم لا يفعلون ذلك بهدف جاد وسموّ للإرادة. وعندما يخرجون من الكنائس فإنهم في الحال ينسون التعاليم المقدّسة. متى كان المسيحيّون في سلام يحتفظون بالإيمان، لكنّه متى ثارت الاضطهادات يفكّرون في الهروب طالبين الأمان. يتحدّث إرميا لمثل هؤلاء، قائلًا: "أعدّوا المجن والترس، وتقدّموا للحرب" (إر 46: 30). لأن يد الرب المدافع عنكم لا يمكنها أن تنهزم، وكما يقول بولس غزير العلم: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كو10: 13)(562).]

ثالثًا: الأرض المملوءة أشواكًا

"وسقط آخر على الشوك،
فطلع الشوك وخنقه" [7].
إنهاتمثِّل النفس التي تخنقها أشواك اهتمامات العالم، فإنه لا يمكن للكلمة الإلهيّة أن تبقى عاملة في قلب متمسِّك باهتمامات العالم، أو ما دعاه السيّد: "همّ هذا العالم وغرور الغنى" [22]. ويلاحظ هنا أنه لم يقل "العالم والغنى" بل "همّ العالم وغرور الغنى" وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا لا نلُم الأشياء في ذاتها، وإنما نلوم الذهن الفاسد، فإنه يمكنك أن تكون غنيًا، لكن بلا غرور الغنى، وأن تكون في العالم دون أن يخنقك باهتماماته(563).] يوضّح القدّيس إكليمنضس السكندري(564) بأنهلا يجب أن نلوم المال، بل سوء استعماله، كذلك ليس فضل أن يكون الإنسان فقيرًا، ولكن الفضل أن نمارس مسكنة الروح، أي عدم التعلُّق بالأموال.
يتحدّث الأب غريغوريوس (الكبير)عن غرور الغنى، قائلًا: [من يصدّقني إن فسَّرت الأشواك بأنها الغنى، خاصة وأن الأشواك تؤلمنا، بينما الغنى يبهجنا؟ ومع ذلك فهي أشواك تجرح النفس بوخزات الأفكار التي تثيرها فينا، وبتحريضنا على الخطيّة، إنها تلطِّخنا بفسادها كالدم الخارج من الجرح... الغنى يخدعنا إذ لا يمكن أن يبقى معنا إلى الأبد، ولا أن يُشبع احتياجات قلبنا. الغنى الحقيقي وحده هو ذاك الذي يجعلنا أغنياء في الفضائل، لهذا أيها الإخوة، إن أردتم أن تكونوا أغنياء أحبّوا الغنى الحقيقي، إن أردتم الكرامات العُليا اطلبوا ملكوت السماوات. إن كنتم تحبّون التمتّع بالمجد بدرجة عالية، فأسرعوا لكي تُحصى أسماؤكم بين طغمة الملائكة الممجّدة(565).]

ويُعلّق القديس كيرلس الكبيرعلى الشوك بكونه هموم الحياة وغناها ولذّاتها، قائلًا: [يزرع الفادي البذور، فتصادف قلوبًا تظهر قويّة مثمرة، ولكن بعد قليل تخنقها متاعب الحياة وهمومها، فتجف البذور وتَبلى، أو كما يقول هوشع النبي: "إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة، زرع ليس له غلة لا يصنع دقيقًا، وإن صنع فالغرباء تبتلعه" (هو 8: 7). لنكن زارعين ماهرين، فلا نزرع البذور إلا بعد تطهير الأرض من أشواكها، حتى نقول مع المرنم: "الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملًا مِبذَر الزرع، مجيئًا يجيء بالترنم حاملًا حزمه" (مز 126: 6). كل من رمى البذر على أرض تنبت شوكًا وحسكًا يتعرّض لخسارتين: البذر الذي يفنى، والتعب المضني. لنعلم أنه لا يمكن أن تزهر البذور الإلهيّة إلا إذ نزعْنا من عقولنا الهموم العالميّة وجردّْنا أنفسنا عن زهو الغنى الباطل، "لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء"(1 تي 6: 7). لأنه ما الفائدة من اِمتلاكنا للأشياء الزائلة الفانية؟ "الرب لا يُجيع نفس الصديق ولكن يدفع هوى الأشرار" (أم 10: 3). ألم تلاحظ أن الشرور الفاسدة من نهم وطمع وشره وجشع وسكر وعبث ولهو وكبرياء تخنقنا، أو كما يقول رسول المخلّص:"كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظّم المعيشة، ليس من الأب بل من العالم، والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد" (1 يو 2: 16).]

رابعًا: الأرض الجيّدة

"وسقط آخر على الأرض الجيّدة،
فأعطى ثمرًا بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين.
من له أذنان للسمع فليسمع" [8-9].
إنهاالأرض المنخفضّة التي خضعت للحرث، فتعرَّضت تربتها خلال الحرث للشمس، وتنساب المياه إليها. هذه هي النفس المتواضعة التي تتقبّل التجارب كمحراث يقلب تربتها، فتتعرّض تربتها الداخليّة أي الإنسان الداخلي لإشراقات شمس البرّ نفسه أي المسيح، وتتقبّل انسياب مياه الروح القدس عاملًا فيها. مثل هذه النفس تأتي بثمر مائة وستين وثلاثين.
* إنها أرض غنيّة ومثمرة تنتج مائة ضعف!
صالحة ومثمرة هي النفوس التي تتقبّل الكلمة بعمق وتحتفظ بها، وتهتم بها.

يُقال عن مثل هذه النفوس ما قاله الرب على فم أحد الأنبياء: "ويطوِّبكم كل الأمم لأنكم تكونون أرض مسرَّة، قال رب الجنود" (مل 3: 12). فإنه عندما تسقط الكلمة الإلهيّة على نفس طاهرة من الأمور المحزنة، تخرج جذورًا عميقة، وتأتي بسنابل حنطة تحمل ثمرًا متزايدًا(566).
القديس كيرلس الكبير
الأرض الجيّدة هي هبة الله لنا بروحه القدّوس الذي يعطينا في المعموديّة الطبيعة الجديدة التي على صورة السيّد المسيح، القادرة أن تثبت في المسيح، وتأتي بثمر الروح المتكاثر. كنّا قبلًا بالخطيّة طريقًا صعبًا تدوسه الأقدام وتلتقط الطيور منه البذار. ومن أجلنا صار السيّد المسيح الطريق الذي لن يقدر عدوّ الخير أن يقترب منه، ولا تتجاسر الطيور أن تختطف منه شيئًا. إنه الطريق الآمن الذي لا يعرف القسوة أو العنف، إنّما هو طريق الحق الذي يدخل بنا إلى حضن الأب. أما كوننا أرضًا محجرة، فهذا ليس بالأمر الغريب فقد قبلت البشريّة آلهة من الحجارة عِوض الله الحيّ، وتعبّدت للأوثان زمانًا هذا مقداره، فجاء السيّد المسيح كحجر الزاوية الذي يربط البناء كله، ليس حجرًا جامدًا يقتل الزرع، إنّما حجر حيّ قادر أن يُقيم فينا فردوسًا سماويًا يفرح الآب! أمّا الأشواك والحسك الخانقة للنفس فقد حملها السيّد على رأسه، دافعًا ثمن خطايانا لنتبرّر أمام الآب، ونُوجد في عينيّه بلا لوم، ليس فينا شوك ولا حسك بل ثمر الروح المُفْرِح!
لنرفع قلوبنا بالشكر للذي نزع عنّا ما كان لنا بسبب عصياننا من طريق قاسي وأرض محجرة وأشواك وحسك، واهبًا إيّانا الطبيعة الجديدة الغنيّة فيه ليقيمنا فردوسًا سماويًا يأتي بثمار كثيرة.

درجات الثمر

قدّمالسيّد بذاره لأربعة أنواع من الأراضي، لكن لم تتجاوب كل الأراضي معها، وحتى التي تجاوبت إنّما بدرجات متفاوتة، فالبعض أنتج مائة ضعف وآخر ستين وثالث ثلاثين. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [اخبرني إذن كيف فُقد الجزء الأكبر من البذار؟ إنها لم تفقد بسبب الباذِر، إنّما بسبب الأراضي التي لم تقبلها، أي النفوس التي لم تنصت لها.]
يرى بعض الآباء مثل القديس جيرومأن هذا الثمر مع اختلاف كميّته لكنّه يصدر عن أرضٍ واحدةٍ وحقلٍ واحدٍ، لكن شخصًا يثمر ثلاثين وهو المتزوّج الذي حفظ المضجع غير دنّس ويحمل علاقة حب طاهرة بين الزوج وزوجته، وآخر يأتي بالستّين وهو الأرمل أو الأرملة الذي يحتمل ضيق الترمل والتعب بفرح، وأما الذي يثمر المائة فهو البتول.


2. الحاجة إلى الأمثال

"فتقدّم التلاميذ وقالوا له: لماذا تكلّمهم بأمثال؟
فأجاب، وقال لهم: لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات،
وأما لأولئك فلم يُعط.
فإن من له سيعطي ويُزاد،
وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه.
من أجل هذا أكلّمهم بأمثال" [10-13].
يقول الله على لسان المرتّل: "اَفتح بمثل فمي، أُذيع ألغازًا منذ القدّم" (مز 78: 2). هكذا يتكلّم السيّد بأمثالٍ، لا لكي يحرم أحدًا من أسراره، إذ "يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1 تي 2: 4)، إنّما أراد أن يجتذب المشتاقين لمعرفة الحق إليه. فقد اعتاد البشر أن ينجذبوا نحو الأحاديث الغامضة، فيدخلوا معه في علاقة سرّيّة خلالها يقدّم لهم مقدّساته التي لا ينطق بها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذه الأمثال كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حملت توبيخات غير مباشرة للسامعين، إذ لم يرد أن يوبّخهم بعنف (مباشرة) حتى لا يسقطوا في اليأس(567).] هذا وبحديثه خلال الأمثال لا يلقي السيّد بمقدّساته للجميع لئلا يحتقرها غير راغبي الحق ويدوسونها بأقدامهم.
يقول السيّد: "من له سيعطَي ويزداد، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منه" [12]. فبقدر ما يكون الإنسان أمينًا على المقدّسات الإلهيّة يفيض الله عليه أمجاد معرفة حقيقية من يوم إلى يوم. فيتذوّق أمثال السيّد، ليدخل خلالها إلى بيته، يسمع أسراره بعبوره إلى المجد وجهًا لوجه. أمّا غير الأمين فحتى ما يسمعه من أمثال يُنزع منه، ويصير سماعه علّة إدانته عِوض أن يكون سرّ مجد له. لقد أوضح السيّد المسيح ذلك بمثَل الوزنات، فإن صاحب الوزنات الخمسة إذ تاجر فيها وربح أُعطى له خمس مدن. أمّا الذي له وزنة واحدة وقد أخفاها في الطين، ولم يتاجر بها، فحتى هذه الوزنة سُحبت منه لتُعطى لمن تاجر وربح! حياتنا مع السيّد المسيح هي انطلاقة مستمرّة من مجدٍ إلى مجدٍ، وتفاعل دائم مع روح الله القدّوس الذي لا يكف عن أن يُعلن لنا الحق، ويذكرنا بكل ما قاله لنا السيّد؛ يأخذ ممّا للمسيح ويعطينا! إنها حياة ديناميكيّة لا تتوقف قط. أمّا الإنسان السلبي المكتفي بما لديه من معرفة وخبرات، حاسبًا في نفسه أنه غني وقد استغنى، فإن ما لديه يؤخذ منه، ليهوى من ضعفٍ إلى ضعفٍ، ومن حرمانٍ إلى حرمانٍ، ليهبط إلى الجهالة التي تُظلم ذهنه وتُحجِّر قلبه. وكما يقول الرب لملاك كنيسة اللاودكيّين: "لأنك تقول إني أنا غني، وقد اِستغنيت ولا حاجة لي إلى شيء ولستَ تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ 3: 17).

هذا ما حدث مع الشعب اليهودي الذي عاش في سلبيّة مكتفيًا بالاتكال على أنهم أهل الختان، ومن نسل إبراهيم، وأنهم أصحاب المواعيد، ومنهم الآباء والأنبياء. خلال هذه السلبيّة جاءهم المسيّا المخلِّص، فرأوه بالجسد دون الروح، ولمسوه حسب الظاهر دون إدراك حقيقته. لهذا يقول السيّد عنهم: "لأنهم مبصرين لا يُبصرون، وسامعين لا يسمعون ولا يفهمون. قد تمَّت فيهم نبوّة إشعياء القائلة: تسمعون سمعًا ولا تفهمون، ومُبصرين تُبصرون ولا تنظرون. لأن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد ثقل سماعها، وغمَّضوا عيونهم لئلا يبصروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويرجعوا فأُشفيهم [13-15]. لقد سمعوا السيّد وأبصروه، لكنهم بقسوة قلبهم لم يسمع إنسانهم الداخلي، ولا عاينت بصيرتهم الداخليّة، فصار صوته ورؤيته ليس سرّ خلاص لهم، بل علّة ازدياد قلبهم في الغلاظة. فازدادت قسوتهم قسوة وعماهم عمى وشرِّهم شرًا. وكما يقول الرسول بولس: "لأننا رائحة المسيح الذكيّة لله في الذين يخلُصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16).
مجيء السيّد المسيح وتصرفاته أضافت إلى قسوة الأشرار قسوة بسبب حبّهم للشرّ وكبريائهم، بينما فتحت بصيرة البسطاء الروحيّة لإدراك أسراره الفائقة والتمتّع بما اشتهى الأنبياء معاينته، إذ يقول السيّد المسيح لتلاميذه: "ولكن طوبى لعيونكم لأنها تبصر، لآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم أن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا" [16-17].
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ما معنى القول: يبصرون ولا يبصرون[13]؟ إنهم يبصرون كيف يخرج الشيّاطين، ويقولون فيه شيطان؛ يُبصرون القائمين من الأموات ولا يسجدون له، بل يفكِّرون في قتله.]
كانوا مبصرين إذ لديهم النبوّات واضحة عن المسيّا المخلّص، بل وقام بعضهم بإرشاد هيرودس والمجوس إلى موضع ميلاد السيّد، لكنهم بقوا غير مبصرين داخليًا. فلم يلتقوا معه على صعيد خلاص نفوسهم وتمتّعهم بالحياة الجديدة. لقد رأوا من تحدّث عنه الأنبياء واشتهوا أن يروه ويسمعوا صوته وينعموا بعمله فيهم، لكن للأسف لم يتمتّعوا به في حياتهم بل قاوموه.
ما أكثر النعم التي صارت لنا في المسيح يسوع ربّنا، إذ صار لنا ما تشتهي الملائكة معاينته والتمتّع به، لكننا هل نحيا بها ونعيشها؟

رد مع اقتباس
 


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم الأصحاح السادس عشر تفسير سفر اللاويين
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم الأصحاح الثالث عشر تفسير سفر اللاويين
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم الأصحاح الحادى عشر تفسير سفر اللاويين
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم الاصحاح العاشر تفسير سفر اللاويين


الساعة الآن 05:38 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024