رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تساؤلات هادئة حول الفكر الإلحادي: خواطر أوليّة -1
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي يتحدّث الكثيرون الآن حول فكرة الإلحاد؛ منهم من طالهم هذا الفكر، ومنهم من يحوم حولهم هذا الفكر، ومنهم من يرصدونه من بعيد! ولعلّ الحديث عن الإلحاد قد يكون غريبًا عن آذاننا الشرق - أوسطيّة وعن ذهنيتنا المصريّة؛ فمن المشاع عن المصريين أنّهم يميلون للإيمان بالفطرة! إلاّ أنّ المستجدات الكثيرة من حولنا خلّقت أجيالاً جديدة لها تساؤلات مشروعة، وهي لا تخاف من طرحها والجهر بها في وسط مجتمع لم يعد يقبل بالمسلّمات غير القابلة للفحص الدقيق. والإلحاد ظاهرة قد استشرت في أوروبا عقب الثورة الصناعيّة هذا من جهة الرصد الزمني إلاّ أنّ جذوره كانت كامنة ومتراكمة نتيجة عبث رجال الدين بالإيمان وتطبيقاته وتحويله إلى صولجان حكم مدني وتحكّم في مصائر الناس وضمائرهم بشكل غير مسبوق لا سابقًا ولا لاحقًا في إطار تلك المجتمعات عينها. هناك بالطبع نماذج أشد وطأة في استغلال النفوذ الديني في أماكن أخرى، ولكنّها لم تكن في دائرة الحضارة كما بدت أوروبا الناهضة من منتصف القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. على كلّ الأحوال يمكن رؤية الأمر من منظور آخر وهو أنّه يُحسب لتلك المجتمعات أنّها لم تقبل العبث الديني بضمائرهم، إلاّ أنّ ردّة الفعل كانت عنيفة للغاية وباتت تتعلّق بوجود هذا الإله الذي تعكسه تلك القيادات وقتها. وهذا أشبه بالانتقال من الحكم الاستبدادي الديني إلى الاستبداد العقلي، والحقيقة تائهة بين الفريقين!! والإلحاد لا يجب أن ننظر إليه بتوتّر، بقدر ما يجب أن نكون على استعداد لفتح حوار حقيقي مخلص حول ماهيّة الله الحقّ. لا يجب أن نعاديه لئلا يتغوّل ويصير كتلة معاندة، ولكن علينا التقاؤه في صميم ألمه ووجعه؛ فالإلحاد هو صرخة ألم وجوديّة من هول الحياة ومآسيها، كما أنّه صرخة نداء لأسئلة لم تجاوب بعد. المشكلة الحقيقيّة تكمن حينما يبدأ الفكر يطرح قضايا ماورائيّة تتعلّق بوجود الله مطالبًا ببراهين موضوعيّة وليست شخصيّة؛ براهين مُشاهَدة وقابلة للتحقُّق! هذه الإشكاليّة تجعلنا نتسائل: هل عرفنا السبب أو العلّة في وجود كلّ شيء في الكون؟ هنا ستكون الإجابة لا، ولكن العلم يكتشف هذه الأمور يومًا بعد يوم. إلاّ أنّ السؤال هنا يتحدّث عن العلّة (السبب / المسبب) لا تفسير الظاهرة، يتحدّث عن “لماذا؟” وليس “كيف؟”. فمثلاً نحن اكتشفنا دائريّة الأرض؛ تلك هي الظاهرة وجاء تفسير الظاهرة ليشرح أهميّة دائريّة الأرض في سياق الحركة في المجموعة الشمسيّة والتي تحافظ على مسارات محدّدة تضمن بقاءها في نقطة الاتزان والذي يؤهلها لسكنى البشر من جهة الجاذبيّة ودرجة الحرارة.. إلخ. إلاّ أنّ السؤال هو لماذا من الأساس وُجدت الأرض؟؟ يبقى بلا جواب، إلاّ من نظريّة الصدّفة الانفجاريّة! وهنا نتسائل كيف للمصادفة أن تصنع القوانين؟ وكيف للمصادفة أن تحافظ على استمراريّة القانون عبر العصور؟! ونعود إلى سؤال آخر عن المادّة التي وجدت في داخلها تلك الطاقة التي انفجرت في لحظة ما ونشأ عنها، صدفةً، هذا الكون بتلك القوانين الدقيقة؟ سنجد أنفسنا نعود إلى الخلف إلى نقطة كيف وجدت المادّة الأولى؟؟ هنا سيتلاشى الجواب الموضوعي تمامًا. بل ستكون الإجابة في إطار الوجود الذاتي، في شكل ما أوّلي، وهو ما لا يستوعبه العقل! بل ويضاد طبيعة المادّة نفسها التي تحمل قوانين فناءها بداخلها وهو ما يشير إلى محدوديّتها ولا أزلّيتها. إذًا فقد قبل العلم بقدر من المنطلقات التي لا يستوعبها العقل ولا توجد في مخطّطات العلم الحديث حتى يمكن أن نبني عليها النظريات التاليّة أو البناء العلمي بأكمله. فلماذا حينما يكون التساؤل حول وجود الله مخيبًا لرجاء العقل العلمي -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- يرفضه لأنه لا يستوعبه؟! فإن كان العقل العلمي لا يستوعب الوجود الذاتي للمادّة، فلما يرفض الخلق الإلهي؟؟ هنا ازدواجيّة في المعيار القياسي للأمور.. وإنْ دخلنا في إطار نظريّة التطوُّر والتي تأتي مشفوعة بكم من الحفريات التي لكائنات من أزمنة سحيقة لتشير إلى ترجيح تلك النظريّة. وهنا أتسائل هل الشكل المورفولوجي الخارجي هو جوهر نظريّة التطوّر أم الوعي الإنساني بمعناه الإبداعي الخلاّق هو جوهر نظريّة التطوُّر؟؟؟ أو بمعنى آخر، هل تقوم النظريّة على تحوّل القردة العليا (في المرحلة النهائيّ) إلى إنسانٍ، مورفولجيًّا (البناء الجسدي الخارجي) أم هذه النقلة في الوعي والذكاء والإدراك الخلاّق؟؟ إن كانت النظريّة تتحدّث عن الشكل الخارجي، فلا بأس، فليس في ذلك أيّة إشكاليّة، ولكن إن كانت تلك النقلّة النوعيّة في وعي الكائن، فما البرهان العلمي على ذلك، وهل اكتشاف مجموعة حفريات لها ملامح مورفولوجيّة خارجيّة معيّنة هي تعبير عن نقلة نوعيّة في الوعي بين القردة العليا والإنسان؟؟؟ كيف يبرهن العلم عن النقلة النوعيّة في الوعي الخلاّق، هذا هو السؤال؟؟ الأمر الآخر، هل يمكن توصيف الإنسان أنّه مجموعة مجرّدة من الجينات؟؟ فما الفارق بين الإنسان الحي والإنسان الميّت فكلاهما يحمل نفس الجينات؟؟ فلماذا يتوقّف الأخير عن الحياة؟ وإن كان الجواب بسبب تلف في أحد الأعضاء التي تؤثّر على المخ، يكون التساؤل لماذا لا ننقل عضو سليم ومخ آخر من كائن ما في جدول التطوّر الأقرب للإنسان لنعيد الحياة للإنسان، في سياق نفس المجموع الجينيّ لهذا الإنسان عينه، حتى يحيا الإنسان مجدّدًا؟!! وهل ينتهي الكائن بانتهاء صلاحيّته الجينيّة أو العضويّة إن جاز القول؟؟ ويمكن أن نتساءل حول مشاعر الإنسان لماذا يفرح؟؟ وإن كانت الإجابة في سياق الحديث عن حركة هرمونات فإنّ مثل تلك الإجابة تتحدّث عن آليّة الشعور بالفرح وليس السبب في حركة الهرمونات تلك أو إعطاء الإشارة من العقل إلى الخلايا العصبيّة.. إلخ. ويمكن أن نتسائل حول سبب الحزن والغضب والألم.. ولماذا نتألّم على فقدان شخصٍ ما، إن كانت الحقيقة المجرّدة هي فقط عقليّة وهي تستوعب وجود الموت كمكوّن أساسي في دورة حياة الإنسان؟! وإن كانت الإجابة بأنّها ناتجة عن التعوّد والذي يؤثّر في هرمونات بعينها أيضًا، نعود للسؤال الأصلي ولماذا تكوين الإنسان هكذا؟؟ ففي معظم الكائنات اعتياد الموت شيء طبيعي؛ فمثلا لا نسمع عن مناحة موت في عالم النمل أو عالم السلاحف أو عالم الأسماك أو عالم الطيور.. إلخ. وقد يقول قائل ولكن في عالم الحيوان نرصد بعض ملامح الألم على فقدان شخص مثل الكلاب على سبيل المثال، وهنا يكون التساؤل هل هذه قاعدة أم استثناء في حياة الكائن؟؟؟ وفي المقابل هذه هي القاعدة في حياة الإنسان.. كما أنّ التطوّر هل يتحدّث عن تطُّور من الكلب إلى الإنسان مباشرة أم أنّ الحلقة الأخيرة ما قبل الإنسان هي القردة العليا؟ فلماذا إن كانت أكثر تطورًّا من الكلب فهي أقل منه في تلك المشاعر؟؟ هل هو تطوّر سلبي ثم فجأة يتحوّل لتطوّر إيجابي؟؟؟!! تساؤلات لا أكثر.. وأيضًا يمكن أن نتسائل حول كيفيّة تفسير الكثير من مظاهر الحياة التي تشير إلى وجود مكوّن آخر في الإنسان أبعد من جسده وعقله؟؟ هذا المكوّن الذي نسمّيه الروح أين يقع من الإنسان؟؟ وكيف يمكن رصده علميًّا؟؟ فإن كنّا لا نستطيع أن نرصد علميًّا الروح الإنسانيّة، فهل يمكننا أنة نرصد الروح الخالقة الكليّة؟!! مجرّد تساؤل.. وإن كان تعريفنا للإنسان أنّه بلا روح، أي أنّه مُجرّد جسد وعقل، فكيف يمكن تفسير الاختلاف الكبير في طباع البشر بالرغم من كونهم يحملون نفس الخصائص العقليّة التشريحيّة تقريبًا. فمثلاً لا نجد فروقات كبيرة عند الكائنات الأخرى في إطار النوع الواحد، إلاّ أنّ الفروقات بين البشر رهيبة جدًّا.. من أقصى الخير إلى أقصى الشرّ.. من أقصى العلم إلى أقصى الجهل.. من أقصى الحبّ والإيثار إلى أقصى الذاتيّة والأنانيّة.. من أقصى القدرة على العمل إلى أقصى درجات الكسل.. من أقصى درجات ضبط النفس إلى أقصى درجات الانفلات الأخلاقي.. إلخ.. وقد يجيب البعض أنّ هذا يرجع لتباينات التكوينات الجينيّة عند الإنسان، وهنا يمكن أن نسأل ولماذا لا يوجد تباينات جينيّة في أي كائن آخر (وسيط) يدلِّل على مرحلة الانتقال من الكائنات غير الواعيّة إلى الواعية؟! كيف يفسّر لنا التشريح المورفولوجي العقلي مثل هذا التباين؟! وإن كان التفسير من منطلق البيئة والتربيّة والأسرة.. إلخ، فكيف يمكن تفسير هذا التباين الذي يحدث في إطار الأسرة الواحدة بل وفي إطار التوائم أنفسهم وذلك في البدايات قبل أن يخرجوا للعالم فيؤثّر عليهم؟؟ مجرد تساؤلات.. إنّ العلم كلّه ما هو إلاّ اكتشاف ما هو كائن في الكون، ونادرًا ما يعطينا أجوبة حول السبب في ذلك؟ أي أنّ العلم اكتشف قانون الجاذبيّة، ولكنّه لم يعطينا تصوّر لمن صانع هذا القانون؟ وأقول من وليس ما، لأنّ العلم ذاته يطلق كلّ فعل خلاّق من الإنسان وليس من الأشياء؛ فالإنسان هو صانع مركبات الفضاء وطائرات الجو وغواصات المياه والحاسبات الآليّة.. إلخ. لم نقرأ أو نسمع عن أي كائن قام بفعل خلاّق بعيدًا عن فطرته التي تتشابه من جيل إلى جيل، إلاّ أنّ الفعل الخلاّق في الإنسان ليس هو الاستثناء ولكنّه هو القاعدة فلا يوجد نسخ كربونيّة بين البشر على الإطلاق في طريقة التفكير... لذا فهناك “من” في الكون يجب أن نبحث عنه لا بأدلّة الحقيقة الحسيّة التي يمكن رصدها في المعامل ولكن بآليات أخرى ولكنّها من نسيج مكونات الإنسان في تعرّفه على الحقيقة.. أولى تلك الآليّات هي رؤيّة الإنسان ككلٍّ لا ينفصل إلى حسّي وروحي؛ الحسي منه في دائرة اليقين والروحي منه في دائرة الشّك.. ومن هذا المنطلق تبدأ رحلة البحث في الحياة لا من حيث تفسير الظواهر لكن من خلال علّة الظواهر وأسبابها.. وفي هذا يرفع الإنسان نظره إلى العلّو في إخلاص وصبر وتهيّؤ لفهم الحقّ القابع وراء كلّ الظواهر.. وهنا علينا بالصلاة المثابرة؛ فالقضيّة تستحق عناء البحث لأنّها قضيّة وجود الإنسان التي تفقد معناها إن فقدنا الله. وإن لم يكن هناك إله، فإنّ الإنسان يتحوّل إلى مَرْتَع للدود في نهاية الأمر!! |
|