آ21. وابتدأ يسوعُ يُخبرُ تلاميذَه أنَّه، إتمامًا لوصيَّة الآب عليه بافتداء العالم، عتيدٌ أن يمضيَ إلى أورشليم ويتألَّمَ كثيرًا، بل آلامًا فائقة الوصف، لا من عامَّة الشعب فقط، بل من المشايخ، أي أصحاب الحكم في الديوان، ومن عظماء الكهنة والكتبة ويُقتَلُ ثمَّ يقومُ في اليوم الثالث. وتخبير المخلِّص تلامذته بذلك، قصد به وقايتهم من الريب بلاهوته إذ رأوا وسمعوا بموته. وأن يبيِّن أنَّ ذلك يليق بالآب تكميلاً لإرادته ووفاء لعدله، وبالمسيح إذ يجب أن يدخل مجده بآلامه، كما قال لوقا، وأنَّه ضروريّ لافتداء البشر.
آ22. فأخذه الصفا. وقرأت العربيَّة القديمة: فأقبل بطرس. ومعنى "أخذه" انفرد به ناحية، لأنَّه لم يجسر أن يصدَّه أمام الآخرين، وابتدأ يصدُّه، لا بسلطة موبِّخ معنِّف، بل بانعطاف محبّ شفوق، غير عالم بالأسرار الإلهيَّة، قائلاً: حاشا لك يا سيِّدُ أن يكونَ لك هذا، أي أن تتألَّم وتموت. فمن يحتمل أنَّ ابن الله يُصلَب ويموت؟
آ23. فالتفت يسوع وقال للصفا: اذهبْ ورائي يا شيطان. قد صرت لي شكًّا. إنَّ القدّيس إيلاريوس* ينسب قوله: اذهبْ ورائي يا بطرس (ومعناه عنده "اتبعني"، أي أن يتبع بطرس مثال آلامه) وينسب قوله: "يا شيطان قد صرت لي شكًّا"، إلى إبليس، خزاه الله، الذي كان لقَّن بطرس ليقول: حاشا لك يا سيِّد. إلاَّ أنَّ سائر الآباء يقرنون قوله: اذهب ورائي، مع قوله: يا شيطان إلخ مرتابين أنَّ كلَّ ذلك موجَّه إلى بطرس. فإذًا معنى قوله: اذهب ورائي، ابتعد عنّي، أو اغرب من وجهي، كما قرأت النسخة اليونانيَّة. ويا شيطان تأويله يا مقاوم، أو يا مضادّ، لأنَّك بغيرتك المضادَّة الخير تصدُّني عن الآلام وفداء الجنس البشريّ، كما يحتال الشيطان الذي تأويل اسمه بالعبرانيَّة المقاوم والمضادّ. فقد صرت لي شكًّا أي عثرة ومانعًا عن افتداء البشر بقدر إمكانك، وإن كنت غير عالم بذلك، لأنَّك لا تفكِّر في ما لله، أي في ما يرضيه ويُسرُّه تعالى، بل في ما للناس. أي تريد الاهتمام بحياتي وجسدي، وبالتالي بمرضاتك وأميالك البشريَّة، خلافًا لما رسمه الله بأن أموت عن الناس. فيعترض كلفينوس* وتبّاعه الأراطقة قائلين: فإذًا لم يُرِد المسيح أن يدعو بطرس قبلاً صخرة، أي أساسًا متينًا وثابتًا للكنيسة، إذ دعاه هنا شيطانًا. فأجيب ناكرًا لنتيجتهم: فإنَّ بطرس كان يمكن أن يغلط في سيرته وأعماله، وإن لم يستطيع أن يغلط في قضايا الإيمان التي تحدَّد من الكاتدرا، كما علَّم مار أغوسطينوس* وكثير من اللاهوتيّين. ثمَّ إنَّ هذه الصخرة لم تكن وُضعت بعد في الأساس، بل كان وضعها عتيدًا بعد قيامة المسيح، وبالتالي كانت تستطيع بعد أن تقاوم المسيح، كما قال مار إيرونيموس*.
آ24. حينئذٍ قالَ يسوعُ لتلاميذِه: مَن أرادَ أن يَتبعَني، يعني يقتدي بي ويقتفي آثاري ويصير تلميذًا وتابعًا لي ومن أهل ملكوت السماء، وهذا مطلق لكلِّ أحد، ولذلك تبرهن الآية الاختيار المعتوق، لكنَّه يلزم من أراد خلاصه أيًّا كان من الأكابر أو العامَّة، معلِّمًا كان أم ساذجًا، أن يتبع المسيح ومن اتَّبعه. فليكفِرْ بنفسِه، أي يعتبر نفسه بمنزلة من لا يعرف شيئًا (بحكم العالم ذي الغباوة)، أي لا يحبُّ نفسه أو كما روى لوقا، فليبغض نفسه أي حكمه وإرادته، إذا لم يطابقا الإرادة الإلهيَّة، وشهواته ورغباته المنحرفة. وأمّا قوله: ويحملْ صليبَه ويتبعْني، وقوله:
آ25. ومَن أرادَ أن يُحييَ نفسَه يهلكُها ومن يُهلكْ نفسَه من أجلي يجدْها. فقد مرَّ تفسيره في 10: 38 فراجعه. وقال المخلِّص ذلك هنا، مقابلاً الكفر بالنفس، وحمل الصليب لمحبَّة الذات التي أبداها بطرس بصدِّه المخلِّص عن الآلام كما تقدَّم في آ22. ولذا قال ذلك لا لبطرس وحده، بل دعا إليه باقي الرسل، بل الجموع أيضًا وأنذرهم به، كما روى مر 8: 24.
آ26. ماذا يفيدُ الإنسانَ إنْ ربحَ العالمَ كلَّه وخسرَ نفسَه؟ يعني مهما ربح الإنسان في هذه الحياة ولو كلّ العالم ثمَّ خسر نفسه، فلا يستفيد شيئًا. فلو خاصم إنسان على مُلك فدُفع إليه، ثمّ قُضي*** عليه بالموت، فما الفائدة من المُلك؟ فيا لَجنون الناس الذين يحبّون الأشياء الزائلة حتّى يخسروا نفوسهم، ويكسبون عذاب النار الخالدة! ويا لهم من حمقى يبتاعون بلعة من اللذة أو قيراطًا بعقوبات مؤبَّدة. فسوف يندمون كلَّ الندم ولا يُفيدهم الندم. أو ماذا يُعطي الإنسانُ فداءً نفسه؟ إذا سُجنت في دركات الجحيم، فالنفس تعلو كلَّ فداء وثمن، لأنَّها مشتراة بدم المسيح الكريم، ولهذا ليس العالم كلُّه ثمنًا كافيًا لنفس إنسان واحد، كما قال أوتيموس* في مز 49.
آ27. إنَّ ابنَ الإنسان لعتيدٌ أن يأتيَ بمجدِ أبيه مع ملائكتِه القدّيسين، وحينئذٍ يجازي إنسانًا فإنسانًا حسبَ أعمالِه. لا بحسب ما فهمه أو آمن به، بل بحسب ما عمله، وهذا ضدُّ*** المحدثين الذين يزعمون أنَّ بالإيمان وحده الكفاية للخلاص. والمعنى أنّي وإن علَّقني اليهود على الصليب، فسوف آتي لأدين العالم كلَّه، ويكون إتياني بذلك المجد وتلك العزَّة المتَّصف بهما الآب، وأجازي حينئذٍ كلاًّ حسب أعماله، ثوابًا أو عقابًا، وهذا مهماز حادّ يحرّك إلى حمل الصليب والكفر بالذات وإهلاك النفس لوجدانها.
آ28. الحقّ أقول لكم إنَّ ههنا قومًا من القيام لا يذوقون الموت حتّى يعاينوا ابنَ البشرِ آتيًا في ملكوته. لمّا وعد المسيح بالثواب السماويّ بقوله السابق، أردفه بهذا القول، لئلاّ يتوهَّم أحدٌ أنَّ ذلك الثواب يتأخَّر كثيرًا. وقوله "يذوقون الموت" استعارة مأخوذة من شرب كأس السمِّ التي تعطى للمحكوم عليهم بالموت. وقوله "آتيًا في ملكوته" يعني بنوع من مُلكه. ويُراد بذلك على الصحيح تجلِّيه على طابور. ولهذا السبب يورد قصَّته الإنجيليّون حالاً بعد هذا الوعد. ويراد بالذين لا يذوقون الموت حتّى يعاينه، بطرس ويعقوب ويوحنّا الذين رأَوه متجلِّيًا. كذا فسَّر إيرونيموس* وأمبروسيوس* وفم الذهب* وغيرهم. وذهب بعضهم إلى أنَّه يراد بملكوته هنا ظهوره المتواتر بعد قيامته وصعودة إلى السماء. وارتأى القدّيس غريغوريوس* في ميمر 23 في الإنجيل، وبيدا*، أنَّه يراد بملكوته، الكنيسة وانتشارها عند كلِّ الأمم. وهذا رآه بل فعله الرسل. وارتأى بعضهم أنَّ المراد بالإتيان بملكوته، مجيئه إلى الدينونة العامَّة؛ وبالذين لا يذوقون الموت حتّى يعاينوه، يوحنّا الإنجيليّ الذي يظنّونه لم يمتْ، مع أنَّه يظهر أنَّ يوحنّا نفسه يفنِّد ظنَّهم هذا في الفصل الأخير من بشارته. فطالع ما سوف نقوله هناك.