ابونا الراهب كاراس المحرقى
العالم صديق خائن
&&*******************************&&
قد يكون العالم تعمّق داخلك ولذاته تملَّكت على قلبك، وقد ظهر لك بمظهر الصديق المُحب الذي يريد إسعادك، وأنت لا تدرى أن العالم عدو شرير يريد إهلاكك، وصديق خائن يسعى لإذلالك، وإن أردت أن تتحقق من هذا، فعليك أن تسأل الذين أحبّوا العالم وأفنوا حياتهم فى ملذاته، سلهم وهم على فراش الموت: أحقاً أخلص العالم لكم؟ هل أوفاكم بوعوده؟
ستجد إجابتهم مكتوبة على جبينهم بأحرف بارزة: العالم صديق خائن قضى على حياتنا! وأضاع أبديتنا! وأعتقد أنَّ هذا هو السبب فى أننا لا نري الخطاة يبكون على العالم عند موتهم، إذ كيف يبكون على من أذلهم واستعبدهم! قد يبكون على أنفسهم وجهلهم، ولكنهم لا يبكون على خائن قد غدر بهم!
يجب أن تعلم أنَّ العالم اخترع لنفسه ينابيع كثيرة، للهو والمسرات لكي يجذب الناس إليه، ولكنَّ الحقيقة إنَّ ينابيع العالم كلّها جافة، وأفضل تشبيه لها هو السراب الخادع، الذي يراه السائر فى الصحراء ماءً، وبعد أن يركض نحوه يتحقق أنَّ ما راءه إنَّما هو وهم وخيال!
هلم نتساءل: ما الذي يجذبك في عالم الشهوات؟! وما الذي يغريك في دنيا اللذات؟ ربَّما تكون شهوات الجسد! لكني أقول: إنَّ كل الذين سعوا وراء شهوة جسدية عادوا فارغين، ولم يجنوا سوى وجع القلب ومرارة النفس وأمراض الجسد.. هذا بالإضافة إلى ما يجنيه البنين من سمعه ردية نتيجة خطايا الوالدين وسلوكهم المنحرف!
فلا سعادة تجنيها من شهوات الجسد، سواء كانت نجاسة يرتمي الجسد في أقذارها، أو نشوة إدمان كاذبة، أو نظرة شهوانية يقود إليها ميل الجسد، وهذا هو اختبار الخطاة عقب كل مرّة ينساقون فيها وراء أحلام الشهوة، فجميعهم يعترفون بأنَّهم كانوا يركضون وراء سراب خادع، عادوا منه وهم يحملون مرارة الاختبار القائل: " باطل الأباطيل الكل باطل " .
وربّما يُغريك العالم بصنمه الذهبيّ، الذي سجد ولايزال حتى الآن يسجد له ويخر أمامه الكثيرون، الذين أصبحت الثروة هى نقطة ارتكاز آمالهم، ولأجل المال فعلوا الشرور، وضحّوا بسمعتهم وشرفهم ومبادئهم، ولهذا أسألك: ما هو الشبع الروحيّ الذي ستناله من جمع المال؟ وما هى السعادة التي تجنيها إذا اقتنيت ثروة؟
على هذا السؤال أجاب سليمان الحكيم قائلاً: " مَنْ يُحِبُّ الْفِضَّةَ لاَ يَشْبَعُ مِنَ الْفِضَّةِ وَمَنْ يُحِبُّ الثَّرْوَةَ لاَ يَشْبَعُ مِنْ دَخْلٍ " (جا10:5)، ولهذا لم يطلب سوى خبز فريضته " لاَ تُعْطِنِي فَقْراً وَلاَ غِنىً أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟ أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلَهِي بَاطِلاً " (أم8:30)، فالمال الذي تراه العين وتلمسه اليد لا يُسعد، لأنَّه عاجز عن أن يلمس القلب ، حيث مركز السلام الحقيقيّ والسعادة الصادقة.
هناك أيضاً التسالي والمسرات والأفراح العالمية، التي ينجذب إليها الناس، كمحاولة لإدخال السرور إلى قلوبهم، وهم لا يدرون أنَّ مسرات العالم وأفراحه ما هى إلاَّ ينبوعاً جافاً ليس فيه ما يُسعد، سعى إليه سليمان من قبل، إذ بنى لنفسه بيوتاً وغرس كروماً وعمل جنّات وفراديس فيها أشجار من كل نوع.. في النهاية إذ أدرك الحقيقة قال: " فإذا فَإِذَا الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ الشَّمْسِ! " (جا11:2) .
إنَّ أفضل ما قيل عن شهوات العالم وملذاته أنَّها: " لا تشبع ولا تُشبع آلاماً تسبقها وآلاماً تلحقها " ! لأنَّ كل شهوة يطيعها الإنسان ويسعى إلى تحقيقها، تُلهب فيه شعوراً بالعطش إذ يطلب المزيد، كالماء المالح الذي لا يروى فقط، ولكنّه في نفس الوقت يُضاعف الشعور بالعطش! وفى هذا يقول السيد المسيح: " كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً " (يو4: 13).
حقاً إنَّ الإنسان عندما يمل فهو فى حاجة إلى قتل الوقت، ولهذا ابتدع البشر وسائل اللهو والتسلية، حتى يقضوا بها على الملل، ولكن سرعان ما تحقق لهم أنَّ التسلية نفسها تُوّلّد الملل!
ونحن لا نُنكر أنَّ الإنسان وهو فى لحظات اللهو والنشوة لا يشعر بالزمن، ولكنَّ المشكلة الكبرى أنَّ لحظات اللهو ستنتهي، ويبقى الملل كالشبح يُثقّل كاهل الإنسان!
لا أظن أنَّ من أحب العالم وتمرّغ في شهواته، قضى فى وقت ما لذة لم يصحبها ألم، أو راحة لم يتخللها تعب، أو تمتّع بصحة جيدة دون أن يضعفها مرض، أو فرح لم يعقبه حزن.. هذه طبيعة الدنيا:
تعد براحة وسرور وتُعطي كداً وتعباً، تعد بأفراح وتُعطى أحزاناً وبلايا، تعد بالشرف والكرامة وتُعطي الذل والإهانة، وهذا ليس واضحاً من خلال معاملات العالم القاسية مع كافة البشر، فقد يُعطيك مالاً وثروة وعندما تتركه لا تستطيع أن تأخذ منه مليماً..
وأنت في العالم قد تلبس الحرير والأرجوان وتتزين بالذهب وعند موتك تخرج منه عارياً، وربَّما يكون لك أملاك كثيرة، ولكن عند موتك لا تستطيع أن تأخذ من ممتلكاتك سوى القبر الذي تُدفن فيه.
ولهذا السبب قال أحد الفلاسفة عند موت إسكندر الأكبر: " هذا الذي كان بالأمس يدوس الأرض بقدميه، الآن داسته الأرض بقدميها، بالأمس لم تكن الأرض كافية لتحقيق رغباته والآن يكفيه ثلاثة أشبار ليُدفن فيها "، وقد أشار فيلسوف آخر إلى التابوت الذهبيّ الذي وضع فيه قائلاً: " بالأمس كان إسكندر يكنز الذهب والآن قد صار مكنوزاً في الذهب "، فالمجد زال، والمُلك بطُل، والذهب قد صار له تابوتاً.
نعترف بأننا نُولد لا لكي نلهو ونتمتع.. ولكننا نولد لنموت! ولَعَلَّ هذا ما دفع البعض إلى القول بأنَّ الحياة هى الموت نفسه، لأنَّ الإنسان يُشرع في الموت بمجرد أن يولد! وهذه الفترة المحدودة التي يحياها الإنسان على الأرض، إنَّما هى المدة التي تسـتغرقها عملية وفاته.
مَن مِن الناس لم تمتد يد الدنيا إليه بالأذى، ومن لم يحيا فيها قلقاً من غدرها وخيانتها، فكثيراً ما قدمت لمحبيها طعاماً لذيذاً فى الغذاء، وفى العشاء كان المر طعامهم والعلقم شرابهم، وفى الوقت الذي نجد فيه أهل العالم يعيشون فى سلام تفاجئهم البراكين والحوادث فيهلكون وتنتهي حياتهم...
هذا هو العالم وهذه هى حقيقته المرّة، والحكيم هو من يحيا في العالم دون أن يحيا العالم فيه، فيصير مثل السفينة، لا يغرقها وجودها فى الماء، وإنَّما يغرقها دخول الماء فيها.
نستطيع أن نقول: إنَّ العالم سفينتنا وليس مسكننا، والحكيم هو من يجعل من العالم وسيلة وليس غاية، يستطيع من خلالها أن يصل إلى الأبدية، لأننا أردنا أو لم نُرد سوف نموت، تاركين ممتلكاتنا وأموالنا..
والآن ماذا تُريد؟ أن تتمسّك بعالم فانٍ وتحدّق في تراب زائل؟! أم ترفع عينيك إلى فوق وتتأمّل مجد الله وما أعده لك في السماء؟