رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أختي ماكرينا _ غريغوريوس النيسي إختي ماكرينا بقلم غريغوريوس النيسي بعد موت الأسقف باسيليوس بتسعة أشهر انعقد مجمع محلي في إنطاكية وقد اشتركت فيه أنا غريغوريوس، وبعد انتهاء المجمع ورجوع كل من الأساقفة إلى أبرشيته أتى فكر إلى ذهني يقول لي بأن أذهب وأزور أختي مكرينا لأنه قد مضى زمن طويل لم أرَها فيه لأني كنت منشغلاً بالأحداث الناجمة عن مؤيدي الهرطقة الأريوسية، وإذ عددت الأيام وجدت أني لم أقم بزيارة لمكرينا لثماني سنوات. وباشرت في الإنطلاق أخيراً، ومشيت طريقاً طويلاً، إذ كنت بعيداً عن أختي مسافة يوم، رأيت حلماً أثار في نفسي أموراً محزنة بما يخص المستقبل. فإني قد شاهدت في حلمي أني ممسك بيدي بقايا شهداء، وكان يخرج منها لمعان شديد يشابه ذاك اللمعان الذي تعطيه مرآة نظيفة عندما توضع مقابل الشمس، لدرجة أن عيني قد بُهرتا لشدّته. وقد شاهدت هذا الحلم ثلاث مرات في الليلة ذاتها دون أن أستطيع تفسيره لكني لاحظت وجود حزن ما في نفسي وأخذت أترقب عاقبة هذا الحلم. وعندما وصلت إلى قرب منسك البارّة سألت أحد الأصدقاء الذين يمكثون هناك أولاً عن أخينا بطرس فأجابني: إن بطرس قد سلك طريقاً آخر غير طريقنا ولهذا لم يلتق بنا. ومن ثم سألته عن أحوال مكرينا الكبيرة فعلمت أنها واقعة في مرض فركضت مسرعاً في الطريق لأنه قد اجتاح نفسي حزن وخوف من المستقبل. عندما وصلت إلى منسك البارة وانتشر في الأخوية خبر قدومي، خرج النساك لاستقبالي لأنه كانت عندهم هذه العادة في استقبال الأصدقاء. أما مصفّ الناسكات فقد وقف في الكنيسة بكل احتشام ينتظر قدومي. وبعد أن دخلت إلى الكنيسة وأقمت الصلاة والبركة التي تقام في مثل هذه المناسبات خرجت الراهبات حانيات رؤوسهن. ولما رأيت بأن رئيستهن مكرينا لم تكن معهن فقد أخذت دليلاً وذهبت إلى قلايتها. أمّا هي فكانت بسبب المرض ممدّدة، ليس على سرير أو فراش إنما على الأرض فوق لوح خشبي وُضع عليه وشاحها. ولوح خشبي آخر يسند رأسها عوض الوسادة. عندما رأتني عند اقترابي من الباب نهضت واتكأت على مرفقي يديها لكنها لم تستطع المجيء نحوي لأنها كانت منهارة القوى بسبب الحمّى، فسندت يديها على الأرض قدر استطاعتها وأخذت تنظر إليّ. هذا كان ترحيبها واستقبالها لي. حينئذ ركضت فوراً ووضعت يدي تحت رأسها الذي كان منحنياً نحو الأرض وأنهضتها وأعدتها إلى الوضع الذي كانت عليه. أما هي فقد بسطت يديها نحو الله وقالت: "قد اتممت هذه النعمة لي، أيها الرب إلهي، فلم تحرمني من رغبتي إذ إنك دفعت عبدك لزيارة أمتك". وكي لا تسبب لي أي حزن أمسكت دموعها وحاولت أن تخفي عني تأوهاتها وصعوبة التنفس التي كانت تعاني منها. وأخذت تتكلم كلاماً عذباً على النفس وقد أفرحتني بأسئلتها. لكن عندما مررنا في الحديث على ذكر باسيليوس الكبير حزن قلبي فوراً وتهجّم وجهي، أما مكرينا المغبوطة فقد كانت بعيدة كل البعد عن أن تحزن مثلي لدرجة أنها جعلت ذكرى القديس فرصة ومناسبة لعِظم النفس وكِبرها، فأخذت تتكلم عن الطبيعة البشرية مظهرة التدبير الإلهي الخفي والكامن في الأحزان. ولقد تكلمت كثيراً عن الحياة الآتية وكأنها مستنيرة بالروح القدس لدرجة اني شعرت وكأن نفسي قد ارتفعت بأقوالها خارج النطاق البشري وأخذت مكانها في المقادس السماوية، وهي منقادة بحديثها. وكما سمعنا عن أيوب أن جسده كان مليئاً بالآلام لكن ذهنه لم يتوقف عن عمله الطبيعي ولم ينقطع فكره عن مشاهدة العلويات، هكذا شاهدت تلك المغبوطة، وإن كان المرض قد أنهك قواها وقربها من الموت، إلا أنها كانت تنعش جسدها كما بندى وكان ذهنها مأخوذاً في معاينة العلويات، دون أن يعيقه المرض بالكلية. وعندما انتهت من كلامها قالت لي: "حان الوقت يا أخي، كي تريح جسدك قليلاً فإنه مُنهك من مسيرتك وتعب الطريق". أمّا أنا وإن كنت أشعر براحة كبرى وحقيقية في رؤيتها وسماع كلامها العظيم، لكن رغبة مني بإرضائها وإطاعتها في كل الأمور فقد ذهبت مع دليل إلى بستان قريب حيث كان مسكن جميل مريح، واسترحت هناك على الأرض تحت ظل الأشجار. لكن لم يكن بإمكاني أن أشعر بتلك البهجة لأنه كان قد امتلك نفسي شعور بالألم من الأحزان، إذ أخذ يبدو لي أن الحلم الذي رأيته سابقاً قد بدأ يظهر من خلال الوقائع. لأن مشهد المغبوطة كان بالحقيقة كمثل بقايا قديس شهيد مائت للخطية لكن مستنيراً بالروح القدس الساكن فيه. ماكرينا لم تقبل المبلغ المعين لها في التوزيع المتساوي، بل أعطته كله للكاهن بموجب الوصية الإلهية. وكانت حياتها ببركة الله لدرجة أن يديها لم تتوقفا عن العمل في خدمة الله، ولم تكن تلبّي حاجيات وضروريات حياتها من تقدمات وإحسانات الناس. لم تصرف ولا مرة الإخوة الذين كانوا يطلبون الرحمة بل كانت تعطيهم دوماً. كما أنها لم تطلب المساعدة من المحبين للمسيح الذين كانوا يوزعون إحساناتهم لأن الله قد أكثر بشكل خفي – كالبذرة - العمل اليدوي البسيط الذي تقوم به وباركه فأعطى ثمراً كبيراً. وإذا أخذت أنا في سرد الأتعاب التي واجهتها، اولاً من خلال النفي من أجل الإيمان الذي أبعدني به الإمبراطور فالنس (الآريوسي)، ثم التشويش في الكنائس الذي تسبب في نزاع وجدال، عندئذ قالت لي مكرينا: "ألا تتوقف عن جحودك للخيرات التي أعطاك الله؟ أفلا تصلح جحودك هذا؟ قارن نصيبك بنصيب والديك، حقاً نحن فخورين بنشئتنا وعائلتنا الكريمة، والدنا في الماضي قد عُرف بكثرة العلم وكانت سمعته معروفة في المحاكم المحلية، وكان الأول بين الخطباء إلا أن شهرته لم تتجاوز اقليمنا، أمّا أنت فقد أصبحت معروفاً في المدن، بين الشعوب والقبائل، وكنائس الله تستدعيك كمعين ومدافع قوي، أفلا تقدِّر هذه النعمة؟ ألا تدرك سبب هذه البركات كلها؟! أعني صلوات والديك هي التي ترفعك لهذا العلو السامي، إذ أنك لا تملك من ذاتك أية قدرة للقيام بكل هذا". كانت أختي تقول هذه الأقوال أمّا أنا فقد رغبت أن يطول النهار أكثر كي لا تتوقف المغبوطة عن كلماتها العذبة الوقع على مسامعي، لكن أصوات المرتلين دعتنا إلى الغروب، فنهضت عندئذ وذهبت إلى الكنيسة. أمّا هي فقد اتجهت إلى ربها بالصلاة أيضاً. وهكذا عبر الليل وعندما أتى النهار، وكنت اعتقد مما رأيت بأن ذلك النهار هو الأخير في حياتها لأن الحمّى كانت قد أضنت كل قواها الجسدية، أخذت تخرجني من الآمي هذه لأنها عملت ضعف أفكاري وبددت بكلماتها حزن نفسي. عَبَر النهار كله تقريباً ومالت الشمس نحو الغروب. أمّا غيرة ماكرينا فلم تضعف بل كانت تطلب الوصول إلى المشوَّق إليه بحماس أقوى ناظرة إلى جمال عريسها بشكل أكثر وضوحاً. وإذ بها لم تعد تنظر إليّ بل اليه وبشكل ثابت لأن مضجعها كان موجهاً نحو الشرق، وتوقفت عن الكلام معي وأخذت تتكلم مع الله متضرعة إليه عبر صلاتها. أما أنا، لشدة الألم والحزن فقد انزعجت لأمرين: الجسد الموجود أمامي وبكاء العذارى. أمّا العذارى فقد تحملن الحزن لوقت قصير بصبر وهدوء وحاولنا أن يخنقن نوحهن في داخلهن خوفاً من رئيستهن، لأنهن وبالرغم من أن وجه الرئيسة كان صامتاً، كن يخفن التوبيخ بأن تخرج أصواتهن خلافاً لما تريد فيحزنّ بذلك معلمتهن وهي راقدة أمامهن. لكنهن لم يستطعن فيما بعد أن يحفظن الحزن بهدوء لأن الألم كان يحرق نفوسهن كالنار. فبكين بمرارة، حتى أنني لم أستطيع التحمل أكثر وأستسلمت للبكاء كلية – كما ولو من جدول ينساب بفيض - غافلاً عن المهام التي أمامي. ولقد انتحبت أكثر من الكل تلك الراهبات اللواتي كنّ يدعونها أماً ومغذية حياتهم، أي الراهبات اللواتي وجدتهن مكرينا في الطريق أثناء فترة المجاعة فأخذتهن وربتهن على حياة العذرية غير الفاسدة. لكن وإذ لاح لي بعد قليل بأن ذاك الوجه المقدس غير راضٍ عن هذا البكاء والنحيب والفوضى الناجمة عنهما رفعت فكري للحال وصرخت بصوت عالٍ نحو العذارى قائلاً: "انظرن إلى المعلمة وتذكرن توصياتها التي بها تعلمتن أن تحفظن النظام والترتيب في كل الأمور. فإن تلك النفس الإلهية قد علمتنا أن نبكي فقط في وقت واحد، أثناء صلاتنا إلى الله. إن هذا النحيب وحده مسموح به. ولهذا فلنحوِّل الآن نحيبنا إلى ترتيل المزامير". وكانت هناك راهبة تسمى لامباذيا وهي الأولى في مصف الراهبات وشماسة. هذه كانت تعرف بدقة ما أوصت به البارة بخصوص دفنها. ولهذا فقد سألتها بهذا الخصوص فأجابتني بدموع قائلة: "إن لباس البارة كان حياتها الفاضلة والطاهرة. هذه كانت زينتها وحي حيَّة. فلتكن الآن لباسها في موتها. فإنها لم تقبل مطلقاً في حياتها تلك الأمور التي تُعتبر زينة للجسد، كما أنها لم تحتفظ بها كي تكون جاهزة لمثل هذه الساعة أي لدفنها. وهكذا فإذا أردنا أن نصنع شيئاً أفضل لجسدها فإننا لن نستطيع لأننا غير متهيئين لذلك وليس لدينا من طريقة". فعدت وسألتها: "أليس لديكم شيئاً محفوظاً، يمكن أن يزّين جسدها؟"، فإجابتني: "ما هو الشيء الذي يمكن أن يكون محفوظاً لدينا؟ فها هو أمامك كل ما تملك. هذا هو لباسها. وهذا غطاؤها. وها هي أحذيتها. هذا هو غناها. هذه هي ثروتها. لا تملك شيئاً آخر عما تراه. لا في صندوق ولا في قلاية. فإنها قد عرفت مخزناً واحداً لغناها ألا وهو السماء. وهناك قد خزنت كل شيء ولم تترك شيئاً البتة على الأرض". عندما قلت لها: "إن أردت أنا أن أقدم شيئاً ما مما أحفظه لدفنها فهل سيكون هذا مرضياً لديها؟"، فأجابتني قائلة: "بالطبع، فإن القديسة لو كانت حيّة لقبلت هذه التقدمة ولما اعتبرت هدية أخيها أمراً غريباً، لرئاسة الكهنوت من ناحية وللأخوة الجسدية من ناحية أخرى، ولهذا فإنها أمرت أن يُدفن جسدها بيدك" |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|