برتراند راسل (1872-1970م.)
س36: ما الذي دفع راسل لفقدان إيمانه، وانتقاده للسيد المسيح، ودعوته للإلحاد؟
ج: وُلِد " برتراند راسل " سنة 1872م من عائلة أرستقراطية في إنجلترا، ومنذ عام 1896م كان يصدر كتابًا كل عام وأحيانًا كتابين، بالإضافة إلى مقالاته العديدة بالمجلات، وظل نشيطًا مُنتجًا حتى وفاته سنة 1970م، ولقيت مؤلفاته إقبالًا منقطع النظير، وقد تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية، فحتى عام 1953م كان قد تُرجم له سبعة عشر كتابًا للغة الألمانية، ففي عام 1910م أصدر كتابه "مبادئ الرياضة" وهو يعمل أستاذًا بجامعة كامبريدج ثم أتبع بثلاثة أجزاء أخرى، وقالوا عنه أنه كان فيلسوفًا وضع كُتب عديدة عن دور العقل في الفلسفة مثل "مُجمل الفلسفة" و"تحليل العقل" و"المدخل إلى الفلسفة الرياضية" و"المنطق والمعرفة" و"المعرفة الإنسانية" و"مشاكل الفلسفة" و"تاريخ الفلسفة الغربية".
وكان " برتراند راسل " مُفكرًا اجتماعيًا ومُصلحًا سياسيًا، فكان " راسل " عضوًا في مجلس اللوردات، فهو سليل اللوردات النبلاء، وفي الحرب العالمية الأولى دافع عن شاب مسيحي مُجند رفض أن يحمل السلاح لأن عقيدته المسيحية تدعو للسلام، ونشر دفاعه هذا فقامت المحكمة بتغريمه مائة جنيهًا، وبعد ستة أشهر عندما استخدمت الدولة قوات الجيش بدلًا من قوات الشرطة لقمع إضراب العمال أحتج على هذا فحوكم وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر، وفي الحرب العالمية الأولى أيضًا نادى بالسلم، لأن الحرب لن تحل مشاكل ألمانيا مع الدول الأخرى، فجُرد من لقبه كلورد، وعُزل من وظيفته كأستاذ بجامعة كامبردج.
وفي الحرب العالمية الثانية قاد "راسل" المظاهرات وأخذ يندد باستخدام السلاح الذري، وفي 9 يوليو 1955م عقد مؤتمرًا صحفيًا، وعرض فيه نداءًا وقَّعه معه أعظم علماء العالم ومنهم صديقه البرت أينشتاين الذي سلم للبشرية مفاتيح الطاقة النووية، وهذا نص البيان " نظرًا لأن الأسلحة النووية ستستخدم لا محالة في أية حرب قادمة. ونظرًا لأن هذه الأسلحة تهدد بقاء الجنس البشري، فنحن نهيب بحكومات العالم أن تدرك، وأن تصرح علنًا، أن مراميها لا يمكن أن تخدمها حرب عالمية، ونحن نهيب بها، بناء على ذلك، أن تجد الوسائل السلمية لتسوية كل ما بينها من أسباب الخلاف" (1). ودافع " راسل " عن السلام العالمي، ورأى أنه يستحق أي ثمن يُدفع لأجله، وفي كتابه " المجتمع الإنساني بين الأخلاق والسياسة " ألقى باللوم على الزعماء السياسيين الذي يقنعون شعوبهم بأن دوافعهم خيرية، وهم يعزفون على وتر الانفعال، تحت تأثير الموسيقى النحاسية، وخطابة الرعاع، وشنق الخصوم بلا مُحاكمة، وخداع الجماهير، وإلغاء دور العقل في حل المشكلات.
وأدان " راسل " الصراع البروتستانتيالكاثوليكي الذي شوَّه واجهة أوربا، فجعلها قارة الاضطهاد قائلًا: "طالما كان البروتستانت والكاثوليك يأملون في إبادة بعضهم بعضًا، وصحيفة الأوربيين في هذا الصدد أشد سوادًا من صحيفة المسلمين والهنود والصينيين.." (2) وفي سنة 1950م نال " برتراند راسل " جائزة نوبل كصاحب فضل على الإنسانية، وهذا دور مشكور قام به راسل وتحمَّل من أجله السجن، والنفي إلى نيويورك.
وعندما كان " راسل" في سنة الثامنة عشر كان مؤمنًا بوجود الله، ولكن عندما قرأ سيرة حياة " جون ستيوارت مل " الذي تساءل: إن كان لكل سبب مُسبّب، ولكل فعل فاعل، ولكل حركة مُحرّك، فمن الذي أوجد المُسبّب الأول والفاعل الأول والمُحرّك الأول، لم يجد " راسل " جوابًا لتساؤل ستيوارت، وقال في كتابه " لماذا لستُ مسيحيًا" أنه عندما كنتُ طفلًا كانوا يقدمون لي " الله " باعتباره إجابة على كل الأسئلة التي تُثار عن الوجود، ولكن عندما لم أجد إجابة عمن خلق الله انهار إيماني جملة، ولم يقبل " راسل " أن الله هو الكائن الوحيد الأزلي غير المخلوق، مكوّن الأكوان، وهو علة وسبب كل شيء، فهو الكائن بذاته، وعلة جميع الموجودات.
إن ما أضاع "برتراند راسل" هو إعلاؤه للعقل لدرجة العبادة والتأليه، فجعل العقل هو مقياس كل شيء من أخلاق وقيم ومعتقدات وتقاليد وغرائز وسلوك وعواطف ومصالح.. إلخ، وهذا ما حدا براسل إلى رفض الإيمان لأنه فوق مستوى العقل، وفي 6 مارس 1927م ألقى " راسل " محاضرة بعنوان " لماذا لستُ مسيحيًا " في قاعة بلدية باترسي بانجلترا، وركز حديثه على عدم إيمانه بالله الخالق، وأنه لا يعترف بأن السيد المسيح أفضل الشخصيات وأكثرهم حكمة. وكتب أيضًا " مقالات شكَّاك " بقصد التشكيك في الإيمان المسيحي أيضًا، وكتب " الزواج والأخلاق " الذي نسف فيه مقدَّسات الحياة الزوجية.
وقال " راسل " أن هناك سببين للإيمان بالله، أولهما: أن الأطفال يرضعون هذا الإيمان من أمهاتهم، وثانيهما: خوف الإنسان من المجهول، وسعيه لقوة أعظم تحميه من المخاطر التي قد يتعرض لها، وأن الخوف يوُلد القسوة، ولذلك فإن القسوة تسير جنبًا إلى جنب مع الدين، فيرى " راسل " أن الدين مرض وليد الخوف، ويقول "أن الإنسان أستمد فكرة الإيمان بالله من نظم الطغيان والجبروت السائدة في الشرق، فعلاقة الإنسان بالله أشبه ما تكون بعلاقة العبد الذليل بالحاكم المستبد، وهي ذلة تأباها كل نفس تشعر بالمعزة والكرامة" (3).
وقال " راسل " أيضًا أن الدين مبني على ثلاث دوافع وهي الخوف والكراهية والغرور، وأتهم " راسل " الدين بأنه وراء التحيز والتعصب، ونشوب الحروب، ومحاكم التفتيش، وإحراق الساحرات، وقتل اللذة الجنسية، كما هاجم عدم الطلاق في الكنيسة الكاثوليكية، وبينما هاجم " راسل " الدين بشدة فأنه أعترف أن الدين هو الذي يعصم البشر من الرذيلة والذلل.
وأسَّس برتراندراسل " جامعة الرسل " التي دعت للإلحاد، وضم معه أثنين آخرين، وهما "جورج مور" و"جون الفيس ماك"، وكان "جورج مور" (1852-1933م) لا أدريًّا، فهو لا يدري إن كان الله موجودًا أو غير موجود، ويقول: "أنني كافر يعتقد أن الله غير موجود.. وبقدر ما أعتقد أنه لا يوجد دليل على وجوده، فإني أعتقد كذلك أنه لا يوجد دليل على عدم وجوده. ومن ثمَ فإني لستُ مُلحدًا بمعنى ما. إنني لا أنكر أن الله موجود، فالمحاجات التي أسوقها هي لمجرد حث الناس على أنه لا يوجد ثمة أسباب للاعتقاد بوجوده.. إني لا أؤمن أن الله موجود ولكن في الوقت نفسه لا أؤمن بعدم وجوده. ليس هناك ذرة واحدة من دليل ينم عن أدنى احتمال لوجود الله أو لعدم وجوده" (4).
وهاجَم "برتراند راسل" السيد المسيح تبارك اسمه، فقال كما أن له فضائل فهو له نقائص أيضًا، وأن مقوله المسيح "من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر أيضًا" سبق وقالها بوذا من قبله، وأنه لا يوجد أي دليل تاريخي على أن المسيح كان موجودًا بالفعل (وهذا يثبت مدى جهل راسل بالتاريخ، ولو نظر لتاريخ اليوم الذي يعيشه لأدرك أن هذا التاريخ الذي يستخدمه العالم كله، إنما هو تأريخ لميلاد السيد المسيح) وأوقع "راسل" اللوم على السيد المسيح لأنه أنذر الخطاة بنار الجحيم، وقال: أنه لو كان شفوقًا ما كان يذهب إلى هذه القسوة البالغة، وقارن "راسل" بين أسلوب سقراط الدمث مع معارضيه وأسلوب المسيح الذي يدفع بالخطاة إلى النار، وقال: أن تكرار تهديد المسيح للخطاة بسعير جهنم، ينم عن تلذذه بمنظرهم وهم يكتوون بلظاها (ولم يستطع " راسل " أن يرى في إنذارات السيد المسيح صوت المحبة الأبوية التي تحذر الأبناء عاقبة العصيان) كما أنتقد السيد المسيح لأنه لعن شجرة التين التي لم تثمر. في وقت لم يكن فيه إثمار (ولم يعرف راسل أن الله حرُ في خلائقه، ويستخدمها من أجل تعليم الإنسان كما في هذه الشجرة، وأيضًا في قصة هلاك الخنازير).
وفي سنة 1925م وهو في سنة الثالثة والخمسين كان يعتقد أن الموت قريب منه (رغم أن الله منحه عمرًا طويلًا إذ عاش ثمانية وتسعون سنة) فكتب تحت عنوان " ما أؤمن به " يقول "أؤمن بأنني عندما سأموت فأنني سأتعفن، ولن يبقى شيء مني. لست شابًا، ولا أزال أحب الحياة، ولكن علىَّ أن أزدري الارتجاف برعب من فكرة الزوال. السعادة بذاتها هي سعادة حقيقية لأنها ستصل لنهايتها. لا يفقد الحب والفكرة قيمتهما بسبب أنهما غير دائمين، الكثيرون من الرجال مضوا محمولين على السقالة بفخرٍ، وبالتأكيد فإن الفخر ذاته يجب أن يعلمنا أن نفكر بمكانة الإنسان في العالم" (5).. قارن يا صديقي بين مشاعر الإنسان اللاأدري هذا، وبين اليقين المسيحي تجاه الموت والملكوت الآتي " لي اشتهاء أنت أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).