كتاب البتولية في فكر الآباء
القمص أثناسيوس فهمي جورج
البتولية - مقدمة
تحدَّث الآباء عن ”البتولية“ كنذر إنجيلي عاشوه واختبروه، لذلك أتت كتاباتِهِم لتفصح عن جمال عظمتها ومجدها، مع الاهتمام بالكشف عن طبيعتها كحياة كنسية إنجيلية أصيلة.
والحقيقة أنَّ عِلْم الباترولوچي يكشِف لنا إنجيلية الحياة البتولية من حيث فِكرتها واتجاهاتها وغايتها وطريقة عيشها، على اعتبار أنها فائقة للطبيعة: سِرْ الحياة السمائية والتشبُّه بالسمائيين.
وأفاضت كِتابات الآباء في وصف ومدح البتولية وفي شرح مفهومها كحياة ملائكية مُفرحة لها مُقوماتها وطريقها ليس كغاية في ذاتها إنما طريقة دخول في المَعِيَّة الإلهية.
إلاَّ أنَّ مُعظم ما كُتِبْ عن البتولية إنما يقترِن بالحياة النُّسْكية التي تُؤكِد الوثائِق الأولى على تعريفها بأنها شَرِكَة آلام المسيح، وبأنها أيقونة حيَّة للحُب الحق ودخول إلى الحياة الفِردوسية، وبأنها إمتداد لحركة الاشتياق للاستشهاد مع المسيح ومن أجله.
وفي واقع عِلْم الباترولوچي نفهم حياة النُّسْك بصفة عامة ونذر البتولية بصفة خاصَّة كحياة إنجيلية فِصْحية مجيئية وسَرَائِرِية، تلتقي فيها النَّفْس مع عريسها الإلهي وتدخُل لتجد نفسها في حِجال المسيح الملك فتعيش حياة الفرح المخفي.
لقد قدَّمت لنا كِتابات الآباء شهادة حيَّة تحوي الكثير عن البتولية كحياة، إمَّا في كِتابات مُباشرة، أو بالحديث العَرَضِي في عِظة أو مقال روحي أو تفسير كِتابي... وجاءت أيضًا بعض الكِتابات ضِمن أقوال وسِيَرْ الآباء النُّسَاك.
وهناك آباء اهتموا بالكِتابة عن البتولية اهتمامًا خاصًا فأفردوا لها كُتُبًا ذات فِكْر كَنَسي شامِل مُعطين إيَّاها نوعًا من الاستقلال، فجاءت دَسِمَة مُتنوعة مُشبَّعة بالجانب النُّسْكي والعقيدي والدِفاعي بأبعاده السِرِية والرمزية والروحية.
إنَّ هذه الدراسة التي نُقدِّمها ضِمن سلسلة أخثوس ΙΧΘΥΣ تُلبي حاجة في صفوف المُهتمين بأقوال الآباء وبالحياة التكريسية... إذ أنَّ الرجوع إلى هذه الينابيع الروحية يُوسَّع أُفقنا الروحي ويُعمِّق فِهمِنا، فالحقيقة أننا بأمَسْ الحاجة إلى السلوك بحسب فِكْر ومنهج الآباء، الأمر الذي يقوده ويشجعه في جيلنا المُعاصِر خليفة الآباء البابا المُكرَّم الأنبا شنوده الثَّالِث أطال الله حياته.
ذلك أنَّ الكِتاب الذي بين أيدينا يحمِل مسيرة حلوة سعى إليها آباء الكنيسة سعيًا حثيثًا لا يتعب ولا يفتُر بل في مجّانية الاشتياق و”الشوق إلى الله“ في معناه المُضاعف المُعاش والمُختبر، كلِّمونا بخبرة حقيقية لا تتوقف عن المسير أبدًا، مُريدين أن يعلِّمونا الطريقة التي نسلُك فيها.
ويتضمن هذا الكِتاب أقوالًا وكلِمات ذات جمال أدبي في طليعة الأدب الصوفي العالمي – فهو كِتاب كلاسيكي في الأدب النُّسْكي الأرثُوذُكسي – إلاَّ أننا نُقدِّمها في نور الروح القدس لتبلُغ بنا إلى الله، نُقدِّمها لتكون أعمق من الكلام المكتوب، طعامًا روحيًا يُغذينا ويُحيينا، نُقدِّمها نموذجًا وقياسًا للسَّالكين في دروب التكريس لتقديم مُثُلْ السيرة البتولية، نُقدِّمها إلى الأحياء الذين تكرَّسوا للعريس الخَتَنْ الحقيقي من رُهبان وعذارى ومُكرسين.
ولا يسعني إلاَّ أن أسجُد للثَّالوث القدوس المُبارك من أجل هذا العمل المُبارك الذي تبلورت فِكرته في زيارتي الخَلَوِية لدير مارجرجس الحرف الفِردوس الأرض بلُبنان، وهناك تأثرت كثيرًا بما شاهدت ورأيت ولمست، فلا عجب أن يكون ذلك كذلك وهم الذين قدَّموا لنا كِنوز ودُرَرْ الآباء: أُصول الحياة الروحية – السُّلَمْ إلى الله – أقوال الآباء الشيوخ، وغيرها من الكِتابات الآبائية الدَسِمة، التي صارت ”جسرًا ناقِلًا“ وشاهدًا قويًا في هذا العصر للأُرثوذُكسية الشاملة الجامعية. .
شُكرًا لهم على ما قدَّموه وما يُقدموه من عمل ذِهني وعلى تأسيسهم لـ”منشورات التُراث الآبائي“ من أجل التمتُّع باللاهوت الكَنَسِي الأُرثُوذُكسي.
إنني أهدي هذا العمل المُتواضع إلى روح الوحدة المسكونية، إلى الأب الجزيل الاحترام الأرشمندريت ألياس مرقس رئيس دير مارجرجس الحرف بجبل لُبنان، وإلى الأرشمندريت أفرآم كرياكوس بدير مارِميخايِل – بسكنتا – لُبنان – راجيًا لهما عُمرًا مديدًا.
إنه الوقت المُناسِب الآن لوحدة الكنيسة الأُرثوذُكسية، لتستعيد مكانتها ودورها اللاهوتي والخلاصي والاجتماعي، من أجل حِفْظ التقوى وحِفْظ حضور كنائِس الشرق على المُستوى العالمي الكَنَسِي، ذلك الحِلم الذي يُحققه الآن قداسة البابا المُعظّم الأنبا شنوده الثَّالِث لا كحقيقة نظرية بل كواقِع مُعاش، جاعلًا من روح وفِكْر ونُسْك وحياة الآباء نمط عمل... فليحفظه الرب في كلّ حين في كنيسته المُقدسة إلى مُنتهى الأعوام وإلى يوم المجيء.
وللثَّالوث القدوس المُبارك كلّ المجد والكرامة،،،
من الآن وإلى الأبد.
13 فبراير 1996م
القمص أثناسيوس فهمي جورج (أنطون فهمي چورچ سابقًا)
تِذكار نياحة القديس يوحنَّا الحبيب البتول