عمق قراءات أحاد الصوم الكبير [4]
إعداد الراهب القس بطرس البراموسي
الجمعة الرابعة من الصوم الكبير
إرتباط فصول القراءات
الإيمان بالإنجيل
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو " الإيمان بالإنجيل " ، فالنبوة الأولى تتكلم عن وجوب الإيمان به كما أوصى الرب بنى إسرائيل بحفظ شريعته ، والثانية عن بركات الله للمؤمنين به كما وعد بذلك المساكين من بنى إسرائيل ، والثالثة عن إهلاكه لمحتقريه كما توعد بذلك الشرير فى يوم الدين ، والرابعة عن تمجد الله فى المؤمنين به كما تمجد فى دانيال حين وجد سالما فى جب الأسود .
ويتكلم إنجيل باكر عن قوة المؤمنين بالإنجيل فى طرد الشياطين من الناس كما إنتهر المخلص الشيطان من الرجل فى المجمع ، وإنجيل القداس عن إستجابة الله لصلواتهم كما إستجاب المخلص لصراخ المرأة الكنعانية وشفى إبنتها .
ويحثهم الرسول فى البولس على ضرورة الإعتراف به ، ويوصيهم يوحنا فى الكاثوليكون بضرورة الثبات فيه ، ويهيب بهم الإبركسيس أن ينادوا به بين الأمم .
النبوات تث 10 : 12 – 11 : 28
غنى عطايا الله لهم
لم يقف موسى النبى عند السلبيات مهاجما إتكال الشعب على برهم الذاتى ، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية . كان يليق بهم أن يتأملوا فى فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم . فإنه حتى بعد سقوطهم فى العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبى ، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم ، ويهبهم عطايا بلا حصر . يذكر منها أربع عطايا : إعادة كتابة لوحى الشريعة ، إبقاء الكهنوت اللاوى بعدما إرتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا ، إفراز سبط لاوى لخدمته ، قبوله شفاعة موسى عنهم .
الإصحاح الحادى عشر من سفر تثنية
أيامنا كأيام السماء
تحدث فى الإصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه ، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه ، غير مشير إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الإلتصاق به والإستماع لكلماته ، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفساً التى نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء فى الكثرة .
وفى هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهى أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [ 21 ] . هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه ، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا ، فنتمتع ببركات الطاعة ، أى التمتع بأيام السماء على الأرض ، عوض السقوط تحت لعنة العصيان ، أى الإنحدار إلى أيام الجحيم .
إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [ 1 – 7 ] ، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلى الصلاح والعطاء [ 8 – 25 ] ليختبر الحياة السماوية . الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [ 26 – 32 ] .
البولس من العبرانيين 13 : 7 – 16
محبة الرعاة:
"اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ، فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" [٧].
لنذكر الآباء الرعاة الذين يختفون وراء كلمة الله، فيشهدون لا بما لهم بل بالكلمة الإلهي المعلن في كرازتهم وفي سلوكهم. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أي نوع من الإقتداء هو هذا؟ بالحق نتمثل بما هو صالح فيهم. إذ يقول: "انظروا حياتهم، فتمثلوا بإيمانهم". فإن الإيمان إنما يعلن في الحياة النقية.]
الهروب من الهرطقات
"يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.
لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [٨-٩].
إذ أراد أن يوصيهم بعدم الإنسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه إبن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا إنحراف.
إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا، ولا يزال يعمل لحسابنا، ويبقى عاملاً إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.
إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.
هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي، وإنما كدنسٍ يلزم الإمتناع عنها كما يدنسون الزواج. فيقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [٩].
حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية، مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام.
التألم مع السيد المسيح
إنتقل بهم الرسول من عدم الإنسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الإنشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس!
لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [١٠-١١].
وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة ورتفع إلى السماوات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرموا من سرّ الإفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقيقية التي وهبها السيد لمؤمنيه.
هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه، ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم. "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [١٢-١٣].
فإن كان هؤلاء العبرانيون قد طردهم مجلس السنهدرين كمرتدين، لا يخجلوا، فقد سبق أن طُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه، ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.
وعن ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا.] بخروجه كمذنبٍ صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا، نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.
ويستكمل لسان العطر بولس كلامه فيذكر ضرورة فعل الخير قائلاً :
"وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [١٦].
كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي.
إنجيل القداس من متى 15 : 21 – 31
21 ثم خرج يسوع من هناك و انصرف الى نواحي صور و صيدا
22 و اذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا
23 فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه و طلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا
24 فاجاب و قال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة
25 فأتت و سجدت له قائلة يا سيد أعني
26 فأجاب و قال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين و يطرح للكلاب
27 فقالت نعم يا سيد و الكلاب أيضاً تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها
28 حينئذ أجاب يسوع و قال لها يا إمراة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت إبنتها من تلك الساعة
29 ثم انتقل يسوع من هناك و جاء الى جانب بحر الجليل و صعد الى الجبل و جلس هناك
30 فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج و عمي و خرس و شل و اخرون كثيرون و طرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم
31 حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون و الشل يصحون و العرج يمشون و العمي يبصرون و مجدوا إله إسرائيل
لقاء مع الكنعانيّة
إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس - الكتبة والفرّيسيّون - بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.
بينما إنهمك اليهود - في أشخاص قادتهم - في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه إحتياجها.
"وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة: ارحمني يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا" [22].
لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ إبنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!
حقًا إذ إنطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا إبنتي وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.
يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23]... لماذا؟
أولاً: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد إمتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.
ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.
ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. ولذلك نجد القدّيس أغسطينوس يقول: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.]
كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).]
"فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا.
فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].
والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو : كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟
يجيب القدّيس أغسطينوس علي هذا التساؤل قائلاً : [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!]
كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلاً: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]
لقد أكمل السيّد حديثه، قائلاً: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27].
وهنا يقول القدّيس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا... فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!... إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان"... لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالاً أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.
لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.
انجذاب البسطاء إليه
مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس الخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالإحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.
فليعطنا الرب إيمان المرأة الكنعانيه لكي نسمع من فمه الطاهر عظيم هو إيمانك ولإلهنا المجد الدائم إلي الأبد أمين.