عزاء في العبادة الخاصة
كلما تطلع المرتل إلي المتكبرين المصرّين على عدم التوبة يمتلئ قلبه حزنًا وكآبة، ليس خوفًا منهم بل عليهم. إنه يشتاق أن يتمتعوا معه بالمجد الداخلي وتعزيات كلمة الله وعذوبتها. وسط هذه الآلام التي تجتاز نفسه الخادمة لكل إنسان، والمشتاقة إلي خلاص الكل. يدرك المرتل أن الدخول إلي أعماق الوصية يرد له فرحه وتهليله وسط شعوره بالغربة. يجد الوصية تتحول إلي تسبحة حب تقوده إلي الفرح الداخلي مع تهليلات القلب وتسابيح الفم.
ربما يقصد بالمزامير هنا رثاءً مملوء رجاءً، كما يقول في المزمور 39: "لا تسكت عن دموعي، لأني أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائي" مز12:39. على أي الأحوال لم يشعر داود الملك أنه في قصر ملوكي فخم، بل في موضع غربته يترقب رحيله من هذا العالم. هذا الشعور يحول آلامه إلي مزامير.
"حقوقك كانت لي مزامير في موضع غربتي" [54].
* يُدعى هذا العالم موضع غربة بالنسبة للصديقين، لأنهم يعيشون فيه كغرباء يهتمون برجوعهم إلي الوطن الحقيقي في الآخرة حيث يرتلون حقوق الله.
أنثيموس أسقف أورشليم
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة ينطق بها المؤمن وهو في أرض الغربة حيث رحل من الفردوس ومن أورشليم العلىا ونزل إلي أريحا فسطا عليه اللصوص وجرحوه. لكن مسيحنا "السامري الصالح" عبر به وقدم له الوصايا الإلهية تسبحة مراحم إلهية تفرح قلبه وهو في بيت غربته. فمع حزنه على الذين يتركون ناموس الله لكن نفسه تتهلل وتترقب يوم المكافأة، حيث تُفصل الحنطة عن الزوان.
يفرح الأشرار بأذية الغير ويتهللون إلي حين، لكن فرحهم يتحول إلي مرارةٍ. أما القديسون فيحزنون لهلاك الأشرار ويترنمون لعمل الله معهم وتحويل الضيق إلي أمجاد.
إن كانت حياتنا الزمنية إن قورنت بالحياة الأبدية تُحسب ليلًا مظلمًا، بسبب ما نعانيه من ضيقات وضعفات وعدم تلاقينا مع الرب - شمس البر - وجهًا لوجه، فإن تذكّرنا لوصية الله ووعوده وأحكامه يبعث فينا البهجة الداخلية، حيث ننعم ببرّ المسيح.
"ذكرت في الليل اسمك يا رب،
وحفظت شريعتك.
هذه كانت مسرة لي،
لأني لحقوقك ابتغيت" [55،56].
بينما كان الكل نائمين بالليل اعتاد داود النبي أن يسهر متذكرًا اسم الرب كسندٍ له وموضوع بهجته.
إن كان العالم الشرير قد حوَّل حياة داود إلي ليلٍ مظلمٍ خلال الألم لكنه عرف كيف يجتاز هذا الليل بسلام بتمسكه باسم الرب.
بينما ينشغل الأشرار بوضع خطط ومكائد في الظلام، يهتم داود النبي باسم الرب المخلص من كل تجربة.
* في الواقع نحتاج أن نتذكر تعاليم الله في كل وقت، خاصة عندما تكون الظلمة حولنا والحوائط تسترنا (ابن سيراخ26:23)؛ أي عندما تدخل شهوة دنسة إلي نفوسنا، وتفقدنا صوابنا، عندئذ يلزمنا أن نتذكر تعاليم الله الخاصة بضبط النفس.
من جهة أخرى يلزمنا تقديم تفسير رمزي لما سبق، فنحسب الأوقات المناسبة (أوقات الفرح) نهارًا والضيق ظلمة.
العلامة أوريجينوس
* الليل هو حالة انحطاط حيث متاعب الفساد. الليل بالنسبة للمتكبرين هو ممارسة الشر بمبالغة. الليل هو الخوف على الأشرار الذين يتركون شريعة الرب. أخيرًا الليل هو بيت الغربة، حتى يأتي الرب وينير خفايا الظلام ويعلن مشورات القلوب ويكون لكل إنسان مدحه من الله. لذلك ففي هذا الليل يليق بالإنسان أن يذكر اسم الرب حتى من يفتخر فليفتخر بالرب.
القديس أغسطينوس
* لا يكفي لمنفعتكم الروحية أن تنصتوا إلي الدروس الإلهية في الكنيسة بل أيضًا وسط جماعتكم في البيت تشتركون في القراءات المقدسة، لعدة ساعات ليلًا حيث النهار مقصر، حتى أنكم في مخازن قلوبكم تقدرون أن تجمعوا الحنطة الروحية، وتخزنوا جواهر الكتاب المقدس في كنوز نفوسكم. وحينما نأتي أمام المحكمة التي يعقدها الديان الأبدي في اليوم الأخير كما يقول الرسول: "نوجد لابسين لا عراة!"
الأب قيصريوس أسقف آرل
تعزيات كلمة الله
1. لا تقوم على استحقاقاتنا الذاتية بل على وعود الله وكلمته الواهبة الحياة [49،50]، قائلين مع الرسول: "لأنني عالم بمن آمنت" 2تي12:1، واثقين في قول المخلص: "لا أترككم يتامى" يو18:14.
2. لا نرتبك بمقاومة الأشرار المتكبرين بل في إيجابية نهتم ألا نميل عن أحكام الله يمينًا (بالبر الذاتي) أو يسارًا (بالسقوط في الخطايا)، بل نفكر في تعزيات الله المفرحة [51].
3. لا نحزن على هزء المتكبرين الأشرار بنا، إنما نحزن لإدراكنا مصيرهم وهلاكهم [53]. أما من جهة أنفسنا فنحن ندرك أن سخريتهم تتحول لمجدنا، لهذا تصير أحكامه بالنسبة لنا تسابيح مفرحة، تسندنا في أيام غربتنا [54].
4. إذ صار العالم كليلٍ مظلمٍ بسبب الظلم الذي يبثه الأشرار، فإنه يليق بنا أن نستيقظ ولا ننام كالآخرين، نذكر اسم الرب ونحفظ شريعته [55]. بينما يلهو الأشرار في حفلات صاخبة طوال الليل، يتعزى القديسون بالسهر الروحي والشركة مع الله وحياة التسبيح المستمر.