البابا شنوده الثالث
أنواع كثيرة من الراحة
راحة الجسد، وراحة النفس، وراحة الفكر، وراحة الضمير، وراحة الروح.. والراحة من المشاكل وهناك راحة حقيقية، وراحة زائفة، أو خاطئة..
وقد يوجد إنسان، راحته في هواية معينة، في لون من الرياضة مثلًا، أو في أحد الفنون كالرسم أو الموسيقى أو الشعر، أو يجد راحته في القراءة، أوفى تسلية ما محل الألغاز.. وليس في هذا كله شيء خاطئ، مادامت وسيلة سليمة. ولكنه مع ذلك ليس هو الراحة الحقيقية.
والبعض قد يجد راحته في المتعة مع الأصدقاء والصحاب والمعارف، بروح الأسرة الواحدة، بأسلوب اجتماعي، يتسامرون ويتسلون، أو يتعاونون معًا في العمل عام. وهذا لون سليم من الراحة، مادام لا خطأ فيه. ولكنه مستوى معين من الراحة، يوجد ما هو أعلى منه.
وهناك راحة زائفة، وراحة خاطئة.
لقد استراح آخاب الملك حينما استطاع أن يدبر مؤامرة ظالمة استولى بها على حقل نابوت اليزرعيلي، وساعدته في ذلك زوجته إيزابل، إذ أرادت أن تحقق له رغبته، ولو بجملة من الخطايا ولم يسترح الاثنان، إذ أرسل الله إيليا النبي إلى آخاب ليقول له "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت اليزرعيلى، تلحس الكلاب دمك أنت أيضًا" (1مل 21: 19). وهكذا حدث لزوجته أيضًا (2مل 9: 36).
صورة في موقع الأنبا تكلا: الملك آخاب زوج إيزابل يطلب من نابوت اليزرعيلي أن يعطيه الكرم
وقد يظن إنسان أنه يريح نفسه بالتدخين أو الخمر:
أو بتعاطي بعض المخدرات. وقد يصل الأمر به في كل ذلك إلى الإدمان. وهو لا يدرى أن السجاير أو الخمر لا تحل له مشكلة، بل هي مشكلة أخرى تضاف إلى مشاكله. والمخدرات إنما تتيهه عن نفسه فينسى مشاكله إلى حين. ولكن هذه المشاكل تظل باقية بلا حل، تضاف إليها مشكلة أخطر وهى تعاطي المخدرات..
وإنسان آخر قد يرى راحته في تحقيق شهوة معينة:
كأن ينتقم لنفسه ممن أهانه أو أساء غليه، ويرد الكلمة بكلمتين، وعندئذ يستريح!! كذلك إن استطاع أن يهزم منافسه.. وكلها راحة زائفة وخاطئة..
ذلك قد يشعر براحة داخلية، من يحقق لنفسه شهوة في العظمة، أو القنية والامتلاك، أو شهوة جسدية، أو قضاء الوقت في اللهو وعبث..!! أو ممارسة باقي عاداته الخاطئة.. ويكون في كل ذلك قد أهلك نفسه..
مادام الأمر هكذا، فلنبحث عن الراحة الحقيقية وكيف تكون:
أول ذكر للراحة في الكتاب المقدس هو الآية التي تقول: "فاستراح الله في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك الله اليوم السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من كل عمله الذي عمل الله خالقًا" (تك 2: 2، 3).. وهنا نجد راحة مصحوبة بالبركة والتقديس، وتقدم لنا مبدأ هاما وهو: الراحة المقدسة في إتمام عمل صالح:
لأن الله نظر إلى نظر إلى كل ما عمله، فإذا هو حسن جدًا (تك 1: 21)، فاستراح لذلك.. وبنفس الوضع نجد راحة أخرى في إتمام عمل الفداء، حينما قال وهو على الصليب "قد أكمل" (يو 19: 30). وأيضًا وجد راحته في قوله للآب:
"العمل الذي أعطيتني لأعمل، قد أكملته" (يو 17: 4).
والإنسان الروحي يستريح في أعماقه من الداخل، حينما يمكنه أن يكمل كل عمل صالح يعهد به إليه، وحينما يكمل خدمته. مثلما قال القديس بولس الرسول: "إني الآن أُسْكَب سكيبًا، ووقت انحلالي قد حضر. جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان. وأخيرا قد وضع لي أكيل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الديان العادل" (2تى 4: 6 – 8).
لقد استراح السيد المسيح، حينما أكمل عمل الفداء، وأصعد من الجحيم الراقدين على رجاء، وفتح لهم باب الفردوس. ثم هزم الموت بقيامته في فجر الأحد.
لهذا نقدس يوم الأحد، ونعتبره يوم الرب، يوم الراحة الحقيقية.
لأن فيه أراح الرب البشرية من عقوبة الخطية، ومن الموت. وأصبح بقيامته باكورة الراقدين (1كو 15: 20، 23).. وهناك نستريح في يوم الأحد.. كان يوم السبت هو اليوم الذي استراح فيه الله خالقًا. ويوم الأحد هو الذي استراح فيه فاديًا ومخلصًا..
والراحة فيه ليست مجرد راحة الجسد، إنما راحة الروح أيضًا.
فالإنسان الروحي يجد راحته في هذا اليوم، في بيت الله، في القداس الإلهي بألحانه وبركاته، وفي الاستماع إلى القراءات المقدسة والعظة، وفي التناول من الأسرار الإلهية. ويجد راحته فيما يقوم به من خدمة في يوم الرب هذا. وبهذا كله ترتاح روحه، ولا يشعر بتعب فيما يبذله من مجهود ويذكر ما قاله القديس يوحنا الرسول في مقدمة سفر الرؤيا:
"كنت في الروح في يوم الرب" (رؤ 1: 10).
لاشك أنه حينما كان في الروح، كان يجد راحة قلبية، تنسيه الضيقة، والنفي في جزيرة بطمس، وترشحه لتلك الرؤيا الإلهية العجيبة التي رآها..
الراحة في يوم الرب، ليس معناها الكسل أو الخمول، وليس معناها أن الإنسان لا يعمل أي عمل على الإطلاق، كما كان بفهم الفريسيون من وصية الرب (تث 5: 13، 14). فوصية الرب كانت خاصة بالامتناع عن العمل العالمي، وليس عن العمل الروحي.. إذن كان يحل عمل الخير في السبوت (مت 12: 12).
أرواحنا تستريح في الله. والله يستريح في أرواحنا.
كما قال في المزمور "ههنا موضع راحتي إلى أبد الآبد. ههنا أسكن لأني اشتهيته" (مز 132: 14). الله حقا يستريح في القلب الطاهر. يستريح في قديسيه، وأيضًا يتمجد فيهم (2تس 1: 10). والإنسان الروحي كما يرتاح الله فيه، كذلك:
الإنسان الروحي يجد راحته في إراحة الآخرين:
إنه يشعر بلذة وراحة، كلما أراح غيره. يستريح قلبه وتستريح روحه في كل عمل محبة يقوم به نحو الآخرين. يجد راحة قلبية، حينما ينقذ مسكينًا، أو يحسن إلى فقير، أو يعطف على يتيم، أو يحل مشكلة إنسان في ضيقة، أو يعزى حزينًا.. ويجد راحة في الخدمة الروحية التي يقوم بها، مهما كلفته من مجهود..
راحة الروح تجعله لا يشعر بتعب الجسد.
عامل الإطفاء مثلا يخاطر بإلقاء نفسه وسط النار والدخان، ويشعر براحة كبيرة كلما أنقذ إنسان من الحريق. وكذلك من يتعب لينقذ شخصًا من الغرق. كذلك من يبذل كل جهده، ليرد خاطئًا عن طريق ضلاله، فينقذ نفسا من الموت، ويستر كثرة من خطايا" (يع 5: 20). كل تعبه في الافتقاد، وفي الحوار والإقناع، وفي احتمال هذا الخاطئ، كل هذا التعب لا يشعر به، بل بالحري يجد فيه لذة إن أمكنه أن يخلص نفسه. وبهذا يشعر براحة كبيرة.
لاشك أن أكبر راحة شعر بها المسيح، كانت على الصليب.
وسط آلام الصلب المبرحة، كان يشعر براحة لا يعبر عنها، في تخليص البشرية من حكم الموت، وفي إرضاء العدل الإلهي، وفي بذل نفسه كمحرقة وذبيحة خطية لفداء البشر جميعًا.. راحة مؤسسة على الألم، الذي احتمله بسبب الحب..