رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مذكّرات ميلادية من رحلة المجوس وكان الوقت مساءً عندما قرّرنا المضيَّ في رحلةٍ إلى بلادِ الآياتِ والأنبياءْ .. كان مساءٌ غريب .. بردٌ وجليدْ، لا قمرَ في سماء مدينتنا ولا نجمة .. إلا كوكباً منذ ُ صباحِ الأمسِ يرافُقنا .. وقد هيّئنا أنفسنا، وعلى دوابِ الرحلةِ مضينا .. وكانَ مساءٌ غريب،،، هزئ كلُّ رفاقِ مدينتنا برحلتنا .. وحاولَ المعلّمون ثنينا عليها، لكنْ كنّا قد قرّرنا وانتهى . وكانَ الكوكبُ يضيءُ لنا طريقَ وجهتِنا .. كان مساءٌ غريب،،، لمْ نأخذْ معنا لا زادَ ولا ماء، لا أمتعةً ولا رداء, فحبُّ المعرفةِ أشغفنا والفضولُ لكشفِ السرّ أثقلَ هاجسَنا وعقولنا، وصارَ الكوكبُ بدايةَ الطريقِ وبابَ المعرفة الكبير . وكان مساءٌ غريب،،، مضينا بخطى العارفِ للدرب، وكوكبٌ منذُ ذلكَ الصباح صارَ الصديقَ والأنيس، ولمّا يتركنا ليلاً أو نهار .. مررْنا عبرَ الوديان وقطعنا كلّ الجبال .. مشقاتٍ وصعوبات .. داعَبَنا الربيعُ مراتٍ ومراتْ، وأحرقتْنا حرارةُ الصحراءِ في شهر آب، وكان البرْد والبرَد قوياً جبّاراً، كالشيطان . رياحٌ خنقتْنا وضبابٌ أعمى بصيرتنا، ووحوشُ الليل كم من مرةٍ هاجمتنا ! زمانٌ ونحن نمضي، لكنْ كوكبُ الصبحِ لمْ يغادر شرفةَ رحلتنا، أما نحنُ، فتعبنا وضاقَ الحال بنا وصار اليأسْ يداهم بعضاً منّا .. وفي إحدى الأيام قررْتُ الرجوع، وانتهتْ رحلتي عندَ منتصفِ الطريق، وعُدْتُ مدينتي ولمْ تنفعْ محاولاتي مع رفقتي .. فمضُوا في طريقهم للنهاية عازمين، وكوكبُ الصبحِ لم ينكرهُم كما فعلتُ أنا . ها الشتاءُ أضحى قريباً لمّا وصلت باب مدينتي .. استقبلني كلّ الأهلِ والشيوخِ والمعلّمين والجاهلين وشكروا وسبّحوا أّني عدْتُ من رحلةِ المجهول والجنون . هائماً بقيتُ فوقَ ذلكَ الدربِ الطويل ولمْ تفارقني ذكرى السرِّ العجيب وحكايةِ الملك القدير . وما هي سنواتٌ، إلّا وصلتني رسالةً من رفاقي المسافرين .. وقد اعتقدْتُ أنّهم ماتوا .. كتبوا حينها قائلين : ( يا رفيقَ الدربِ الطويل، كمْ أحببنا أن تكون معنا ؟ لتعاين شمس العدل، وملك الكل .. أدهشنا ما حدث ! يا رفيقنا ماذا نقول وماذا نخبر ؟ أكوكباً نزل حتى سقف المغارة وصار نهار ؟ أبتولاً ولدت ضابط الكل ؟ أملائكةً تسبّحُ وتباركْ ؟ أسيّدَ الكلِّ في المذود، ينظرُ ساعةَ يعطي الخلاص للكل ؟ يا صديقي كلّ ما قرأناه في كتبِ الأنبياء رأيناه ؟ فماذا نحدّث ؟ نسِينا كلَّ علومنا وأبحاثنا ! لقد رأينا النورَ منَ النور . وسجدْنا له مكرِّمين ؟ أهدينا ما جئنا به إليه .. اللبان والذهب وأنواع البخور العتيق . إنه ملكٌ يا رفيقنا .. مختلفٌ عن كلِّ ملوك مدينتنا . فماذا نخبّر ؟ .. سُدَّت أفواهُ حكمتنا .. وصارت قلوبنا مهداً للطفلِ المولود .. إنَّه خلقَ فينا عالماً جديد ) . أمّا أنا فقرأتها، والندم يعصر قلبي، والحزن يخنق أنسجة فؤادي ؟ أأبكي حظّي العاثر ؟ أم أجلدُ فكري العاطل ؟ أأندبُ وأقول : تركوني ومضوا ؟ أمْ أصرخُ في كبريائي : هيه يا نفس ألا فانظري لأية حالٍ أنت تندبين ! . وهكذابقيت في ندمي وشوقي .. حزني وأحلامي .. يومي وأمسي .. وكوكبٌ لم يكن في سمائي .. مرّت سنين كثيرة، وقرّرت أن أعودَ إلى المكان حيث كان المسير ذاك الزمان . مازالت ذاكرتي تحفظُ الطريقَ إلى هناك .. فمضيتُ دون ترددٍ في الاختيار .. صارت عندي الخبرةُ في سلكِ الطرقِ الوعرة والخبيثة .. إنّ اسمه معي الآن .. هو السيّد الذي حدّثني رفاقي عنه، سمعتُه يقول : ( طوبى للذي آمن ولم يرى ) وأنا آمنتُ، وذاهبٌ لكي أرى، هذه المرّة ليستْ كمحاولاتي السابقة .. لأنّي اتّخذْتُ معونَته سلاحاً غيرَ مقهور .. ليسَ شغفي وعقلي من يطلبُ رؤية المولود .. بل قلبي، وأنا قرأتُ مرّةً أنّه قال : ( يا بنيّ أعطني قلبك ) . وبعدَ السفرِ الطويلِ وما فيه من تجارب مريرة وصلْتُ إلى مدينة فلسطين، سألتُ : هل هنا يولدُ الناصريّ من القدّيسة العذراء ؟ فقالوا : هيه يا صاحِ : أنت في القدس، وهناك بعد تلك التلال جنوباً تقع ضيعتك المنشودة . فعبرتُ التلالَ والشوقُ في حلقي كالعسلِ حلاوة .. وصلتُ جنين و طوبال .. واسترحت في طولكرم ونابلس وأريحا .. ودخلْتُ الخليل فقالوا : أنت في الضفة الغربية .. امضي إلى الجنوب فتصل بيت لحم عند الغروب . كنت مندهشاً طول الطريق : لم أرى بساتينَ الزيتون ولا حقولَ الكروم ؟ ولم أشاهدْ سلاماً وأمناً ! كانَ المشهدُ مفزعاً .. دماً ودماء .. جثثاً وأشلاء .. أسلحةً ومعابر وهويّاتٍ مشكّلةُ الألوان .. وأنا كنتُ جاهلٌ لغة الألوان ؟ فلم أشأ الأسئلةَ لأنّي أطلب المولود ولا شيء سواه . أحسسْتُ بمن يريدُ خطفي أو اغتيالي وصارَ البعضُ يسألوني عن انتمائي : هيه قلْتُ لهم أنا حاجٌّ بسيطٌ فردّوا عليَّ السَّلام . وعندما كانَ الغروبُكما حدّثني أهلُ تلكَ البلاد، وصلْتُ قريةً هادئةً، سكينةَ الحزن و موشّحةً بالسواد .. ظننْتُ أنّي لمخطئٌ الطريق أو ربّما أخطئْتُ تقديرَ الزمن بفارق التوقيت الكبير . فسألْتُ صبيّةً تلعب : هل هنا يولدُ المسيح ؟ أجابتني : أجلْ سيدي امضي إلى آخر الزقاق البعيد . وقلْت : لماذا أنت وحيدةٌ طفلتي وتلعبين بلا رفيق ؟ أجابتْ بصدقٍ عجيبْ : هيرودس الجديد قتل كلّ رفاقي وأخوتي ولم ينجُ منهم إلّا القليل .. يا إلهي، ما أنا في حلمٍ أكيد، إنّه مثلُ الطريقِ الّذي رسَمتْه أحلامي وذاك هيرودس الشرّير يزأرْ بحماقةٍ طالباً قتل المسيح من جديد . وكان مساءٌ غريب،،، وصلْتُ عندما سقط الليل هناك، وشاهدْتُ من بعيد ما اشتهيت روحي طول الحياة .. رأيْتُ المغارة تطلُّ من بعيد، وكوكبٌ كان في تلك السما صارَ نهاراً على سطحِ المغارةِ بشكلٍ عجيب، وكان البرد شديد .. جثوت على الأرضِ ولم أعرف إنْ كنْتُ مستأهلٌ هذا الحدث الرهيب .. إنّي عند ربِّي وإلهي .. فما أنا فاعلٌ الآن ؟ . بكيتُ طويلاً وبفرحٍ وتوبةٍ تقدّمْتُ، رأيْتُ الرعاةَ ورفقتي المجوس واقفين سألتهم : أين الجموع وأهل المدينة ؟ قالوا : لم يعرفوا بعد بميلاد المسيح، اتركْهم فإنهم دوماً متأخرين . ودفعوني قائلين ادخلْ إلى هناك واسجد له فإنّه السيّد والمخلّص والقدير : دخلْتُ بلهفةٍ وطمأنينة وزال خوفي واضطرابي وماتت كلُّ همومُ حياتي وتلاشت أحزاني ومرارةُ غربتي عن توبتي .. اقتربْتُ منه وسجدْتُ له حتى لامستْ جبهتي الأرض، حينها رفعتُ عينيَّ إليك يا ساكنَ السّماء "ألا اضطلّع ربّي وانظر سيدي إليَّ أنا عبدك، وأنرني بلمعان قدسك، وبيمينك باركني وانعم عليّ فكراً صالحاً وقلباً طاهراً ونجّني من كلِّ الشرور والسيّئات، وأهلّني لملكوتك علّني أرث معك كما وعدت" |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
إن كنا نرى في رحلة المجوس حياة الإيمان |
رحلة المجوس من الشرق (مت2)، ورحلة ملكة سبا (2أي9) |
ليتنا المجوس الرابع (تأملات ميلادية) |
المجوس - نجم المجوس | نجم المشرق |
صور ميلادية |