شجاعة الخوف
الأب سامي حلاق
مقدمة
الإنسان حيوان مهموم، ولهذا فهو عظيم. منذ ظهور الوعي لديه، نما معه خوفٌ مبهم ازدادت حدّته كلّما كان يواجه خطراً على حياته. فسعى إلى تهدئة هذا الخوف بالاختراع. وأدّى هذا السعي إلى تطوّره. لقد خاض معارك كثيرة ضدّ الخوف وربحها، لكنّه لم يحرز بعدُ النصر النهائيّ، وربّما لن يحرزه أبداً. فالخوف قدرٌ مكتوب على كلّ كائنٍ بشريّ، وعليه أن يعيش معه، أن يستأنسه كما استأنس كثيراً من الحيوانات. أن يروّضه ويهيمن عليه كما يروّض لاعب السيرك الوحوش.
تتطلّب منّا أصول منهجيّة البحث أن نعرّف الخوف. على أيّ خوفٍ نتكلّم؟ على خوف الإنسان طبعاً. لكنّنا ما إن نبدأ بتحديد الخوف حتّى يتبعثر في اتّجاهاتٍ شتّى. فكلمة "خوف" تثير لدينا صوراً متعدّدة ومتنوّعة، لا يربط بينها إلاّ خيطٌ واحدٌ اسمه الخوف. إنّه الاسم العام الّذي يولّد سائر التسميات: الرعدة، الرهبة، الريبة، الغمّ، الهمّ، القلق، الاضطراب، البلبلة ...
ينبع الخوف من شعورٍ مبدئيّ لا اسم له، تثيره أمور كثيرة لا نستطيع حصرها: الهلاك، الخطر، التهديد، المخاطرة، المحن، الحوادث، الألم ... ولا يربط بينها هي أيضاً سوى خيطٌ اسمه الخسارة. كلّ خوفٍ يبدأ حين يعي الإنسان أنّه يمتلك، وينمو حين يتعلّق الإنسان بما يمتلكه، فيكتشف أنّه يتعلّق بما هو مرحليّ، فانٍ، مؤقّت، وسيزول ذات يوم، سيخسره، فيخاف. التعلّق يولّد الخوف من الخسارة.
جولة في عالم الخوف
الخوف كالوباء المُعدي. خوف الفرد ينتقل إلى الجماعة، وخوف الجماعة ينتقل إلى الفرد. لذلك، كلّ شخصٍ هو صانع لخوف الجماعة وضحيّة له. والخوف يتغيّر من عصرٍ إلى عصر. فمَن كان يخاف من الطاعون في الماضي، لم يكن يخاف من حوادث السيّارات. والخوف يتبدّل أيضاً مع تقدّم العمر وتغيّر الظروف. فما يخشاه الطفل يختلف عمّا يخشاه البالغ، وما تخافه الفتاة المخطوبة غير ما تخافه المرأة الحامل. خوف يزول ليفسح مكاناً لخوفٍ آخر يبدو وكأنّه أشدّ قسوة من سابقه، وعلى الإنسان أن يواجهه في غالب الأحيان وحده.
إذا كان الخوف يتولّد من التعلّق، فإنّ تربته الخصبة هي التخيّل القلق. ومعاناة الإنسان من تخيّل خسارة ما يتعلّق به هي أشدّ من الخسارة نفسها حين تحدث. لو لم يكن لدينا التخيّل القلق لكانت الأمور أسهل. فبسببه، يصعب علينا إيجاد الحدود الفاصلة بين الخسارة الحقيقيّة والخسارة المتوقّعة والخسارة التخيّليّة. وبسببه أيضاً، تمتلئ أحلامنا بالكوابيس. ومع ذلك، "طوبى للخائفين، فإنّهم يبنون الحياة". لأنّ الإنسان القادر على الخوف يخترع ليحتاط وليستبق الأحداث، فيعطي مغامرة الحياة الّتي يعيشها معنى. فالخوف جزء مؤسِّس لحياة الإنسان طالما أنّه يتحمّل وِزر كرامته البشريّة.
منذ أيّام فرويد، بدأنا نميّز بين الخوف والغم أو القلق Anguish. فالغمّ يتميّز بغياب الموضوع. صاحب الغمّ لا يعرف لماذا يستولي عليه هذا الشعور. أمّا الخوف، فهو غمّ وجد موضوعه. إنّه ردّ فعلٍ على خطرٍ حقيقيّ، أو على خسارةٍ لها هويّتها. لا شكّ أنّ الحيوان يخاف. لكنّه يعرف موضوع خوفه. أمّا الغم، فهو للإنسان فقط. الإنسان حيوانٌ صاحب غم. والغمّ الكامن فيه يتحرّر حين يتحوّل إلى سلسلة من المخاوف. فالخوف هو غمّ وجد موضوعه، أصبحت له صورة، وصار له مضمون. أمّا مصدر الغم، فبعضهم يقول إنّه ينبع من التهديد الأساسيّ: "الإنسان كائن فانٍ". من هنا ينبع غمّه. ومنهم مَن يقول إنّ الغمّ ينبع من السؤال: "لماذا أعيش؟ ولماذا عليَّ أن أعيش؟"
العيش يعني الدخول في إطار الزمن. والدخول في إطار الزمن يعني أنّ حياة الإنسان أصبحت سلسلة من اللحظات المتتابعة: عشتُ (ماضٍ) وأعيش (حاضر) وسأعيش (مستقبل). هذا هو إطار الوجود. وطالما أنّ الإنسان يعيش في هذا الإطار، لا يستطيع أن يقول: "أنا هو"، وإنّما: "أنا موجود". الله وحده يستطيع أن يقول: "أنا هو"، لأنّه خارج إطار الزمن، لا ماضٍ لديه ولا حاضر ولا مستقبل. أمّا الإنسان، فيقول: "نا موجود!". ووجوده مشدود بين قطبين: لم أعد كذلك، ولستُ بعدُ. فكلّ لحظةٍ من حياة الإنسان تحمل طعم الموت والقيامة. اللحظة الماضية تموت (لم تعد موجودة)، واللحظة القادمة ترى الحياة. على هذا الأساس، يمكننا تعريف الوجود على أنّه مستقبل سيتحقّق. الوجود صيرورة. وجودي هو تحقيق مستمر لذاتي. وهذه الذات تنبع من الله، وتحمل في طيّاتها صورته، وهي مدعوّة إلى أن تعكس هذه الصورة تدريجيّاً، من خلال أفراح الحياة وأحزانها، نجاحاتها وإخفاقاتها، وستبلغ كمالها حين تتّحد بالذات الإلهيّة. حينها تستقرّ وتسعد ويزول كلّ خوفٍ عنها. "خلقتني لك يا رب، وقلبي لن يرتاح إلاّ فيكَ" (القدّيس أوغسطينوس). فالمستقبل علامة على أنّ طبيعتي تدفعني دوماً نحو الأمام. ومعنى حياتي يكمن في هذا الانجذاب نحو الأمام، نحو ما لم يتحقّق بعدُ من كياني. فأنا مشروع تكوين إنسانٍ، وهذا المشروع في صدد التنفيذ. في كلّ يومٍ تُنجَزُ منه أقسام؛ ببطءٍ تارةً وبسرعةٍ في تارةٍ أخرى. كلّ كائنٍ بشريٍّ يرغب في أن يكون إنساناً، أن يكون حرّاً، أن يحب وأن يُحَب. وهذه الرغبة تحثّه على العمل، على الخروج من الذات، على المغامرة. إنّها تدفعه نحو ما لم يتحقّق فيه بعدُ، نحو ما سيأتي، وفي هذا يكمن كلّ جنون البشريّة.
جنونٌ لأنّ المستقبل مجهول. فالإنسان يستطيع أن يكدّس الثروات، وأن يتّخذ جميع الاحتياطات، وأن يباشر بتحقيق مشاريع مضمونة النتائج، لكنّه لا يستطيع أن يعرف كيف سيكون في المستقبل، فهناك جزء مجهول في الحياة قد يقلب الأمور رأساً على عقب، ولا يستطيع أحد أن يعرفه.
جنونٌ لأنّ الرهان على المستقبل يشبه مَن يضع رجله على أرضٍ لا يراها ليخطو خطوةً نحو الأمام. وماذا لو لم تكن هناك أرضٌ، وقدمه ستدوس في الفراغ؟ لا شكّ أنّ خبرة الماضي وعادة الممارسة تبعثان بعض الطمأنينة في النفس. فالمثل يقول: "ما ضاقت إلاّ وفُرِجَت." والحماس يقول: "هل أخاف الليل والفجر قريب؟" ولكن صوتاً مجهول المصدر يهمس في قلب الإنسان ويقول: مَن يضمن أنّ معجزة الفرج ستحدث لكَ أنتَ بالذات؟ وماذا لو أدّت مساعيكَ إلى التراجع في إنسانيّتكَ بدل التقدّم؟ كيف تنمو في إنسانيّتكَ لو انقطع الخيط الّذي يشدّكَ نحو الأمام، لو انطفأ حماس الرغبة، لسببٍ أو لآخر؟ لوحدثت هذه الأمور ... هناك احتمال أن تحدث ... بل لا بدّ لها أن تحدث ... سينهار كلّ شيء.
من هنا ينبع غمّ الإنسان غير المُعلَن. إنّه يخاف أن ينهار كلّ شيء: هو وجسده وعقله ومشاريعه وحياته ... وهو لا يعلم متى يحدث هذا. ربّما غداً، وربّما بعد سنواتٍ كثيرة، لكنّه سيحدث في المستقبل، في هذا المجهول الّذي تدفعه رغبته إلى السير نحوه ... الّذي تجبره رغبته على السير نحوه. لذلك يخاف. فما هو الحل؟
دعوة الله الخالق
إنّ الخوف اللامنظور لا يزول إلاّ بطمأنينةٍ غير منظورة. وشعور العجز أمام إيقاف الخسارة المتوقّعة لا يزول إلاّ بقوّةٍ تتوقّع ما يحدث، ولها سلطةٌ عليه. انطلاقاً من هذا، أوكلت الأديان إلى الله مهمّة إثارة الخوف لدى الإنسان أو إزالته. الأمر يتعلّق بصورة الله في أذهاننا.
في غالب الأحيان، نتصوّر الله كما تصوّره شعب الخزّافين. إنّه يجبل الإنسان من التراب ويصنعه. وقلّما نتصوّره كما يتصوّره المتصوّفون، أي أنّ الله خلق الإنسان بالانسحاب كما يخلق البحر اليابسة. في البداية، تكون هذه اليابسة مقفرة "خالية خاوية"، لا تمايز فيها ولا نظام. فيدعو الله ويستجيب الخواء. وتبدأ الأرض أوّلاً بالتنوّع. صخور ومعادن من مختلف الأشكال والألوان. ومن هذه البنى البسيطة تظهر البنى المعقّدة للنباتات، ثمّ الكائنات المتحرّرة من الارتباط المكانيّ وهي الحيوانات. وفي ذروة مسيرة استجابة الخليقة لنداء خالقها، يظهر الإنسان؛ ذروة الخلق وغايتها. وتتكرّر في حياة الإنسان دعوة الله الأولى. إنّه مدعوّ إلى الارتقاء، إلى الخروج من عبثيّة الأقدار، من خواء الوليد إلى تحرّر البالغ.
في المستقبل المجهول الّذي يخيفني، هناك مَن يدعوني. صوته يطمئنني كما يطمئن صوت الأمّ ابنها حين لا تراها عيناه. ما من أحدٍ يستطيع أن يتغلّب على غمّه إذا لم يكن هناك مَن يدعوه وينتظره. حين ندرك دعوة الله لنا، حين نسمعها، نخرج من ظلمة قبر الخوف، ونتحرّر من أربطة الغمّ الّتي تقيّدنا. وسيستغرق هذا وقتاً لا أحد يعرف مدّته.
إنّ استجابة الإنسان لدعوة الله الخلاّقة هي "الشجاعة في أن نكون". فنحن أمام خيارين: الخوف أو الإيمان. وقد عبّر يسوع عن هذا مرّاتٍ عديدة. "آمن ولا تخف." قال هذه العبارة ليائيروس رئيس المجمع حين علم بموت ابنته (مر 5/36). وللتلاميذ المذعورين في أثناء العاصفة (مر 6/50). وحين رأوه يمشي على المياه، خافوا، فقال لهم: "لا تخافوا، أنا هو" (مر 6/50). "أنا هو". هكذا عرّف الله عن نفسه لموسى. ففي الليل وعواصف الحياة ومحنها، إنّه هو، حاضر يدعو ويقول: "لا تخافوا".
من الناحية النظريّة، الإيمان يحصّن المؤمن من الخوف. ولكن، مَن يستطيع أن يقول: "أنا أومن إيماناً راسخاً لا يتزعزع إلى الأبد؟" الله وحده يستطيع أن يقول هذا. أمّا الإنسان، فإيمانه مسيرة. في كلّ محنة، يختبر أنّ إيمانه قد اهتزّ، تراجع، سقط. وأنّ عليه أن ينتقل بإيمانه على الدوام من مرحلةٍ إلى أخرى، أن يتعمّق به دوماً، ليواجه أزمات الحياة الّتي تزداد شدّةً.
في هذا المجال، أكثر من المجالات الأخرى، لا يكون الإنسان وحيداً. وفكرة أنّ يد الله الّتي تسنده قد تنسحب، وأنّ الصوت الّذي يدعوه قد يصمت، هي تجربة من الشرّير. إذا سقط في هذه التجربة، يستولي عليه الذعر في الوقوع في الفراغ.
إنّ المجرّب يحاول تشويه كلمة الله الّتي تدعونا إلى أن نكون. إنّه يحاول تغطيتها بالغموض، ويزرع الشكّ في نفوسنا. فيتحوّل الإله الّذي لا يريد إلاّ الحياة، بل يريد أن يشاركنا بحياته، إلى إله تهديد. إله يتخطّى تهديده حدود الموت ليصل إلى العقاب الأبديّ. إله مستبدّ لا يمكننا توقّع أفعاله المزاجيّة. إله يتسلّى بخليقته ويستمتع بتدميرها.
حين يعاني الإنسان هذا النوع من الخوف، يفضّل ألاّ يقيم علاقة مع هذا الإله المزاجيّ، ويلجأ إلى مختلف أنواع التسلية والترفيه ليهدّئ روعه وينسى مخاوفه. لكنّ الغمّ حاضر في داخله، وما من شيءٍ يحميه منه. غمٌّ يحطّم جميع الحواجز الّتي يقيمها الإنسان أمامه، ويدكّ الحصن الّذي يحتمي فيه. حين يغيب وجه الإله الخالق المحب، يحلّ محلّه وجه سيّد الغمّ المهدِّد.
إذا كان إيماننا لا يقوى على إزالة الغمّ من نفس المؤمن بشكلٍ نهائيّ، لأنّه إيمان بشريّ يشوبه كثير من الضعف، فهو على الأقلّ ينير بصيرته ليرى بوضوحٍ غزو الشرّ لنفسه. إنّه يجعله يميّز بين التفاؤل، الّذي لا يرى الشر، والرجاء. كما يجعله ينتقل من التشاؤم إلى المواجهة. فروح الشرّ لا يرينا إلاّ الشر. إنّه يجعلنا نرى ماضينا وكأنّه سلسلة من المِحَن والفشل، وحاضرنا كتلةً من الضعف والعجز، ومستقبلنا مسدود وكارثيّ. حينها، تتولّد فينا الاضطرابات الداخليّة والقلق، فنفقد الثقة بأنفسنا، ونصبح ملعباً للشر. وينتصر الشرّير حين يجعلنا نعتقد أنّ حيويّتنا خطأ، وأنّ علينا الانسحاب، وأنّ في السلبيّة تحرّر كامل ونهاية للوهم. إنّه ينتصر حين يُفقِدُنا شجاعة تلبية دعوة الله.
الشجاعة
ما من شجاعةٍ بدون خوف. قد تدهشنا هذه العبارة لأنّنا تعوّدنا على قصص الفرسان أو النسّاك، الّذين لا يهزّهم شيء. ولكنّها عبارة واقعيّة. مَن يسير في الحياة ولا يرى الخطر، أو يرفض أن يراه، هو إنسان متهوّر، طائش. وبما أنّه غير مبالٍ، لا نستطيع أن نقول عنه إنّه قويّ، ولا إنّه ضعيف. أمّا الشجاع، فهو الّذي يسيطر على ضعفٍ كاد يستولي عليه. ففي الأزمة، يندلع الخوف من الداخل، فيرتعد، وتبدأ أفكاره تتسارع في عقله. وهذه علامة على أنّه لم يعد يسيطر على نفسه. قد يدوم هذا لحظات، وقد يطول. وفجأةً، يسيطر على نفسه، ويتغلّب على هذه المشاعر. هذه هي الشجاعة. إنّها رباطة جأشٍ أمام المخاوف، لا عدم اكتراثٍ لها كأبطال الأفلام.
إنّ شجاعة يسوع تظهر خصوصاً في بستان الزيتون. فهناك خاف "وجعل يستشعر رهبةً وكآبة" (مر 14/34)، "وأخذه الجهد، فأمعن في الصلاة، وأخذ عرقه يتساقط كقطرات دم" (لو 22/44). وبعد حين، استعاد رباطة جأشه، ونهض وقال لتلاميذه: "قوموا ننطلق، فقد اقترب الّذي يسلمني" (مر 14/42).
الشجاعة في نظر يسوع هي قبول العبور من الموت إلى القيامة. وقد أشار إلى هذا في كثيرٍ من أمثاله: مثل ملكوت الله كمثل أزمةٍ سبّبت ألماً، وحين ووجهَت بشجاعة انهزمت. زارع يخفق في حبّاتٍ كثيرة حاول أن يزرعها ويستمرّ في رمي البذار، فلاّحون يفكّرون بزؤانٍ أفسد زرعهم فيضبطون أعصابهم ويتريّثون، صيّادون يصطادون سمكاً فيه رديء وفيه صالح، حبّة قمح عليها أن تموت لتأتي بثمر، حبّة خردل لا تيأس لكونها أصغر الحبوب بل تنمو، امرأة تعاني آلام المخاض ... في هذه الأمثال، يدعونا يسوع إلى طريقةٍ خاصّة ننظر بها إلى حيواتنا. أن نتذكّر مَن مرّت عليه محنٌ وعبرها، مَن اجتاز أزمات، مَن تغلّب على صعوبات. فمثل ملكوت السموات كمثل إنسانيّةٍ تغامر وتخاطر وتبقى على قيد الحياة بشجاعةٍ تنبع من ظلّ الموت. إنّه يدعونا إلى أن نندهش اندهاشاً إيجابيّاً من شجاعتنا. إنّه يدعونا إلى التفاؤل. "لا تخف أيّها القطيع الصغير"، "أنتم أغلى من زنبق الحقل وطيور السماء". وهو يدعونا أيضاً إلى مواجهة مخاوفنا. فالخوف في نظره ينمو في الفرد والجماعة طرداً مع رغبتنا في استبعاده. فكيف يكون هذا؟
"وقعد يسوع قبالة الخزانة ينظر كيف يلقي الجمع في الخزانة نقوداً من نحاس. فألقى كثير من الأغنياء شيئاً كثيراً. ثمّ جاءت أرملة فقيرة فألقت ... كلّ ما تملكه" (مر 12/41-44). لقد قامت الأرملة بفعلٍ شجاع. وضعت بين يديّ الله كلّ ما تملكه. تخلّت راضيةً عمّا يخشى الناس أن يخسروه، ويخافون دوماً أن يخسروه. تخلٍّ يشبه تعرّي يسوع على الصليب، وهو بداية مسيرة القيامة. كان بإمكانها أن تخشى العوز، وأن تتحصّن بالحصن الضعيف الّذي يحميها منه، لكنّها لم تفعل ذلك.
"تبارك الربّ الّذي لم يجعلنا فريسةً لأسنانهم.
"نجت نفوسنا مثل العصفور من فخّ الصيّادين" (مز 124/6-7).
أمّا الأغنياء، فلديهم مال كثير، ولا يخافون العوز. فلماذا قدّموا من المال الفائض عنهم لله؟ يمكننا أن نرى في هذا الحدث الطريقة السليمة والطريقة السيئة في استعمال الدين للتغلّب على الغمّ. فالديانات كانت على الدوام وسيلةً للتغلّب على الخوف وعلى عجز الإنسان أمام الغم. وهي تمدّ يد العون من خلال طقوسها ومعابدها ورجالاتها وكتاباتها الّتي تربط الإنسان بقوى تفوقه، وتشدّ عزيمته باستدعائها. ومن خلال هذا الاستدعاء، تولّد لدى الإنسان شعور بأنّه يستطيع التعامل مع الله على المستوى نفسه. إنّه اختراع جريء ومبهم. جريء لأنّه يولّد شعوراً بالانتماء إلى فصيلة الآلهة. ومبهم لأنّ كلّ واحد يستطيع أن يستعمل الدين ليمنح نفسه أماناً شديداً لا ليثق ثقةً عمياء بالضابط الكل. الأرملة استعملت الصندوق لتؤمن بالله، والأغنياء استعملوه ليؤمنوا بأنفسهم. في الحالة الأولى، تصبح الديانة وسيلةً للقيامة طوال الأيّام، وفي الحالة الثانية تصبح وهماً. ويلفت يسوع انتباهنا إلى هذا، لا ليميّز بين الأغنياء والفقراء، فمن بين فقراء اليوم مَن يتصرّفون مثل أغنياء هذه القصّة، بل ليشير إلى حقيقةٍ هامّة: كيف يصبح الدين أفيوناً للأغنياء.
يقول الإنجيل إنّ الأغنياء أعطوا "من الفاضل عن حاجاتهم". الغنيّ هو مَن لا يشعر بالخوف في مجالٍ أو في آخر من حياته. ولمّا كان الخوف هو ترجمة للغمّ الكامن في الإنسان كما قلنا، أي الخوف غمّ وجد موضوعه، فإنّ الغنيّ يقع فريسة الغمّ المميّز للحياة الهانئة. فالمسألة الّتي أراد يسوع أن يشير إليها ترتبط بما يفضل عن الحاجة لا بالأغنياء. هوذا الأمر الّذي يحرّرنا إذا تجنّبناه. فمن لا يخاف شيئاً محدّداً، يواجه الغمّ. وإذ تعوّد على أن يكفي نفسه بنفسه، لا يلجأ إلى الضابط الكل، على الرغم من علمه بالحاجة إليه، فينتقم الخوف منه لأنّ الخوف ينتقم ممّن لا يفسح له مجالاً في حياته.
يسوع والخوف
قد نتفاجأ من هذه الطريقة لشرح نصّ الأرملة الفقيرة. لكنّ نظرة يسوع إلى الخوف أكيدة. ففي الأناجيل، يدعو يسوع الناس أكثر من عشرين مرّةٍ إلى عدم الخوف، بينما لا يدعو أكثر من ثلاث مرّاتٍ إلى عدم ارتكاب الخطيئة. هذا يعني أنّ يسوع كان يرى في العمق ما يقضّ مضاجع البشر. وقد أتى ليحرّرنا من الخوف المستولي على الجنس البشريّ. الغريب في الأمر هو قلّة عدد المؤمنين الّذين لاحظوا ذلك. ما الّذي كان يقصده من كلمة "لا تخف" أو "لا تخافوا"؟ وكيف يساعدنا يسوع لنتغلّب على مخاوفنا؟ هناك نقطتان تجدر الإشارة إليهما:
أوّلاً: استعمل يسوع أسلوباً تربويّاً خاصّاً ليجعل تلاميذه شجعاناً. إنّه أسلوب مدهش. في البداية، يجعل الخوف يظهر. ينقله من ضبابيّة الغمّ إلى وضوح الخوف. وحين يصل الخوف إلى ذروته، يقول كلمته الّتي تجعل الإنسان يتخطّى خوفه. لقد فعل هذا مراراً، وكأنّ كلمته لا مفعول لها إلاّ بعد ظهور كلّ ما يرعِدُ ويخيف: خوف معيّن، غمّ، اكتئاب، اضطراب ... لا يهم. على هذه المخاوف أن تصل الذروة كي يتدخّل. لماذا، ليقتلع الخوف من جذوره. لولا ذلك، لعاد ونما كما ينمو العشب الضارّ إن لم يُقتلع من الجذر. فلنفكّر بأزمة التلاميذ أمام الجموع الجائعة "أعطوهم أنتم ليأكلوا". ولنفكّر في المركب وسط العاصفة، ويسوع نائمٌ على وسادة. "أما تبالي أنّنا نهلك؟" ولنفكّر بأمّه المرتبكة لنفاد الخمر في عرس قانا الجليل: "لم يعد لديهم خمر ... ما لي ولكِ أيّتها المرأة، لم تحِن ساعتي بعدُ".
ولعلّ أشهر قصّةٍ تعكس هذا الأسلوب هي حين مشى على الماء ليلاً ليلحق بتلاميذه في المركب (متّى 14/22-33). كان التلاميذ حينها في قمّة الحماس، خصوصاً بعد تخطّيهم أزمة (خوف) إطعام الآلاف من البشر. وأراد يسوع أن يعيدهم إلى الخوف، كي لا يصبحوا مثل أغنياء الهيكل، الّذين يفضل لديهم مال، أرسلهم إلى البحر الهائج. كانوا في نشوة الانتصار، فعميت عيونهم عن رؤية الواقع وما يحمله من خوف: المسيح ليس معهم، واحتمال الغرق في البحيرة وارد. وعندما هبّت الأمواج، استفاقوا من غفوتهم وخافوا. وبلغ خوفهم ذروته حين رأوا خيالاً أبيض يقترب منهم ماشياً على الماء. "واستولى عليهم الخوف وصرخوا". إنّه ذعر يندلع من الخواء. وحاول بطرس أن يتغلّب على خوفه بزيادة المغامرة، ورضي يسوع بدون تردّد. إنّه لم يقل له: "ألا تصدّقني أنّي أنا هو؟ يا لك من شكوك!" بل دعاه إلى أن يمضي بشجاعته حتّى حدودها، حتّى زوالها، حتّى الشك، البذرة الّتي تعطي الخوف.
من المهم أن نعرف هذا الأمر كي نحسن التصرّف في الليالي الحالكة، والأيّام السوداء. فحين نعيش أيّاماً صعبة، لا تكون بالضرورة كذلك لأنّ العدوّ يغزونا، بل هي على كلّ حال علامات على اقتراب موعد قدوم الكلمة الأزليّ إلينا. هذا ما اختبره الآباء الروحيّون في حيواتهم. فالربّ في وسط الإعصار.
ثانياً: العناية الإلهيّة. ففي العشاء الأخير، ظنّ التلاميذ أنّهم فهموا كلّ شيء. "الآن تؤمنون؟ ها هي ذي الساعة آتية، وإنّها قد أتت، تتفرّقون فيها، فيذهب كلّ واحدٍ في سبيله وتتركوني وحدي" (يو 16/32). فلنحاول الإحساس بثقل كلمة "وحدي". الشعور بالعزلة القاسية. عزلة يسوع في بستان الزيتون، حيث لم تجدِه توسّلاته لتلاميذه كي يبقوا معه ساعة. ويتابع يسوع كلامه ويقول: كلاّ، لستُ وحدي، إنّ الآب معي." فقوّتنا في تجاوز الخوف هي من الآب. هذا هو سرّ شجاعة الشهداء المدهشة. كانوا ينالون من ذكر الله واسم يسوع قوّةً عجيبة. "قلتُ لكم هذه الأشياء ليكون لكم بي السلام. ستعانون الشدّة في العالم، فاصبروا لها، لقد غلبتُ العالم" (يو 16/33).
لقد استمدّ يسوع شجاعته من الآب، ونحن نريد أن نستمدّها من ذواتنا. أليس هذا أمراً عجيباً؟ فالمجرّب يخدعنا حين يوحي لنا بصور البطولة الفرديّة: "بإمكانكَ أن تكون قويّاً وحدكَ ... شخصيّتكَ قويّة ... لديك خبرة، إمكانيّات ..." وقد اختبرت القدّيسة تريزا الطفل يسوع هذا فكتبت في يوميّاتها: "أظنّ أنّني قمتُ بأفعال إيمانٍ في أثناء هذه السنة أكثر ممّا قمتُ به طوال حياتي. ففي كلّ صراع، حين يهدّدني العدو، أسلك سلوك الشجعان. ولمّا عرفتُ أنّ الصراع بين اثنين جبن، أدير ظهري لعدوّي وأركض نحو يسوع".
استراتيجيّة مدهشة لا تقوم على الاختيار بين المواجهة أو الانسحاب، بل على التحالف. علينا ألاّ نخطئ في اختيار الحليف. فالمسألة ليست تفضيل الإيمان على البطولة أو العكس، بل الشجاعة في الالتجاء إلى يسوع. هذا هو الإيمان الّذي يغلب العالم. إنّه ثقة في الذات، تأتيني من آخر، لأعيش وأموت وأعود إلى الحياة. فكلّ استمرارٍ في الوجود هو هبة من القائم من بين الأموات