منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 11 - 03 - 2014, 04:40 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,274,056

نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه

آلام المسيح

الآن نحن أمام أهم إصحاح في سفر إشعياء؛ الذي حمل نبوات كثيرة عن آلام السيد المسيح، وذبيحته الكفارية على الصليب، وموته، وقيامته، والخلاص الذي دبّره الآب السماوي بذبيحة ابنه الوحيد الجنس، وهو الإصحاح الثالث والخمسين الذي يرتبط بنهاية الإصحاح الثاني والخمسين (52: 12-15).
يقول النبي: "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53:2، 3).
العجيب أن النبي قد أشار إلى ميلاد السيد المسيح العذراوي، أي بدون زرع بشر من العذراء القديسة مريم. ثم انتقل سريعًا ومباشرةً إلى مرحلة الآلام حينما امتلأ جسد المسيح بالجراحات من الجلد وإكليل الشوك بصورة تقشعر لها الأبدان.
وبالرغم من أن المزمور قد ذكر عن السيد المسيح إنه "أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ" (مز44: 2) ؛ إلا أن النبي إشعياء قال عن حالته في مرحلة الآلام: "لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ". فالمزمور تكلّم عن المسيح "الملك" (مز44: 1)، وقال: "قامتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ" (مز44: 9) مشيرًا إلى جماله الروحي وإلى مجده العظيم في ملكوته في الدهر الآتى. أما إشعياء فقد نقلنا سريعًا إلى آلام السيد والإهانات التي لحقت به من جراء خطايانا.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ

يقول إشعياء النبي عن السيد المسيح: "مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ. وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53: 3).
نظرًا لأن كلام النبي كان يشير إلى مرحلة آلام السيد المسيح؛ لذلك فقد ركّز على الوضع الذي صار أثناء هذه المرحلة بالذات، وليس على جميع مراحل خدمته بعد عماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان.
فعبارة "مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ" تشير إلى السخرية والاستهزاء الذي عومِلَ به السيد المسيح أثناء محاكمته أمام مجمع اليهود، ثم بواسطة الجند الرومان الذين كانوا يلطمونه ويقولون له: "تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟" (لو22: 64). كذلك يشير إلى البصق في وجهه الوديع بواسطة الأشرار. ووصل الأمر إلى تمزيق جسده المبارك بواسطة السياط الرومانية المصنوعة من عصب البقر وفي آخرها قطع من العظام أو المعدن الذي يغرس في اللحم وعند جذب الكرباج ينزع أجزاء من جلد الظهر أو الصدر إلى جوار تمزيق الشرايين الداخلية المحيطة بالقفص الصدري مما يؤدى إلى النزف الداخلي الذي يملأ تجويف الصدر بالدماء المكونة من الهيموجلوبين الأحمر والبلازما الشفافة البيضاء.
وعند طعن السيد المسيح بالحربة في جنبه جرى منه دم وماء. لأن الهيموجلوبين يرسب إلى أسفل والبلازما تعلوه لوجود فرق في الكثافة.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ

تشير هذه العبارة إلى أن السيد المسيح قد اتخذ ناسوتًا حقيقيًا قابلًا للألم والحزن والموت.
وإلى جوار ذلك فإنها ترد على ادعاءات اليهود ضد ذبيحة الصليب أن الله لا يقبل ذبيحة بشرية.
فعلًا الله لا يقبل كل ذبيحة بشرية بدليل أنه قد افتدى إسحق بخروف على جبل المريّا. ولكن ذبيحة الصليب كانت لها قيمة خاصة في نظر الآب السماوي لأنها ذبيحة الفداء. ولأن المسيح سوف يقهر الموت ويدوس الموت بالموت ويقوم منتصرًا من الأموات.
كما أن ذبيحة الصليب تتميز بأن السيد المسيح كان هو الكاهن والذبيحة في آنٍ واحد. أي أنه هو الذي قدّم نفسه: مثلما ذكر معلمنا بولس الرسول: "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ للهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب9: 14).
فالذبيحة البشرية الوحيدة التي قبلها الآب السماوي هي ذبيحة ابنه الوحيد الجنس الذي أكمل الفداء بذبيحة نفسه. ولذلك قال إشعياء النبي عن المسيح المصلوب: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 10).
فعبارة "كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ" (إش53: 7) هي على سبيل التشبيه، ولا تعنى أن الذبيحة هي ذبيحة خروف من الحيوانات، بل ذبيحة الابن المتجسد الذي صار إنسانًا (أى رجلًا) من أجل خلاصنا. لذلك قال: "رَجُلُ أَوْجَاعٍ".
أما عبارة "َمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ" فإن السيد المسيح في ليلة صلبه قال لتلاميذه: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 38)، (مر14: 34).
فالمسيح لم يتألم فقط ليوفى دين خطايانا، بل حزن أيضًا على هذه الخطايا. لأن المفروض أن نحزن نحن على خطايانا إلى الأبد. وهذا يعنى أن نذهب إلى الهلاك الأبدى. ولكن أحزان السيد المسيح تقوم في مقام حمل أحزان كل البشر على جميع الخطايا في جميع الأجيال.
وقد أكد إشعياء النبي ذلك أيضًا بقوله: "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا" (إش53: 4). إذن فأوجاع السيد المسيح لم تكن جسدية فقط، بل شاركت نفسه في هذه الأوجاع بالأحزان الساحقة التي حملها. وقد سُر الرب بأن يسحقه بالحزن.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ

حينما يرى الإنسان منظرًا مؤلمًا بشعًا مثل من دهسه الترام أو الأوتوبيس، فإنه يستر وجهه بيديه لكي لا يُبصر هذا المنظر المريع.

نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
هكذا كل من ينظر إلى السيد المسيح مُعلقًا على الصليب، وجسده مملوءًا بالجراحات، ورأسه مكللًا بالأشواك، والدماء تغطى وجهه، والمسامير في يديه ورجليه بجراحات غائرة، فإنه يستر وجهه عنه لأنه لا يحتمل النظر إليه.
وما أجمل كلمات قداسة البابا شنوده الثالث -أطال الرب حياة قداسته- عن مشهد الصليب في تقدير آلام المخلص وجراحاته:
كلّما طافت بك العين انزوت نفسي الخجلى يغطيها بكاها
فلماذا أنت مصلوب هنا وأنا الخاطئ حُرٌ أتباهى
أما عن موقف اليهود فقد تكلم إشعياء النبي بلسانهم قائلًا: "مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53: 3) أي أن البشر غير المؤمنين في وقت الصلب لم يدركوا عظمة المصلوب ولا بهاء مجده.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا

أكمل القديس إشعياء النبي نبواته عن آلام المسيح فقال: "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).
الخطية تستوجب الحزن على ارتكابها. حزنًا يمتد إلى الأبد لأن عقوبة الخطية هي الموت الأبدي.
فكان ينبغي أن السيد المسيح يحمل أحزان كل الخطايا لجميع البشر في جميع العصور. وفي حمله لها يكون قد أوفى دين الخطية الذي علينا. لأنه بالرغم من أنه قد أخذ إنسانية حقيقية وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، إلا أنه في الوقت نفسه هو الله الكلمة المتجسد، والذي وحّد ناسوته مع لاهوته. فأحزانه هو وحده تساوى أحزان الجميع وموته هو وحده يساوى موت الجميع. لأنه لم يكن إنسانًا عاديًا بل هو نفسه الله الكلمة وكل ما يُنسَب إلى جسم بشريته الخاص ينسب إليه.
أحزان السيد المسيح قد عوّضت كل ما هو مطلوب من البشرية من أحزان أبدية. ويتبقى أن نشاركه فقط في أحزانه وآلامه كعلامة على تقديرنا لبذله وآلامه ومحبته. وبمعنى أوضح أن نحزن على ما سببناه له من أحزان. نتحد به في شبه موته، ونتحد به في شبه قيامته في المعمودية (انظر رو6: 5). ونتشبه بموته، ولكن لا يمكننا أن نساويه في موته وأحزانه وطاعته في حمل الآلام لأجلنا، تلك التي أرضت قلب الآب السماوي، وصالحته مع البشرية التي سبق أن تأسف في قلبه أنه خلقها (انظر تك6: 6).
الحزن من أجل الخطية قيل عنه في الكتاب "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ" (2كو7: 10).
وقيل عن السيد المسيح في هذا المجال "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ" (إش53: 10).
كُتب عن السيد المسيح وهو مقبل على إتمام الفداء كحامل لخطايا العالم "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 37، 38).
إن آدم الأول قد عصى الله حتى الموت، وآدم الأخير أي السيد المسيح قد أطاع الله الآب حتى الموت.
إذ أنه حينما تجسّد "وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فى2: 8).
ونلاحظ أن عبارة "حَتَّى الْمَوْتَ" قد تكررت في قول الكتاب عن حزن السيد المسيح "حَتَّى الْمَوْتَ" (مت26: 38)، وعن طاعة المسيح "حَتَّى الْمَوْتَ" (فى2: 8).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
أَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا

نلاحظ أن النبي إشعياء قد ميّز في نبوته بين الحزن والألم بقوله: "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا" (إش53: 4) مميزًا في كلامه بين "أَحْزَانَنَا" و"أَوْجَاعَنَا".
فالسيد المسيح كما أنه أوفى الدين في الحزن على الخطية، كذلك أوفى الدين في احتمال الآلام المستوجبة على الخطية وأهم هذه الآلام العذاب الأبدي.
الحزن مسألة تخص النفس، أما الألم فيخص الجسد. ومن جانب ثالث فإن الموت يخص الروح في مفارقتها للجسد. وهذا الجانب الثالث أيضًا قد ذكره القديس إشعياء النبي في كلامه عن آلام السيد المسيح وموته "وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (إش53: 8، 9).
وأشار القديس بولس الرسول إلى ألم الموت بالنسبة للسيد المسيح بقوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ" (عب2: 9).
وسوف نتكلم عن قضية الموت بالتفصيل بمشيئة الرب فيما بعد.
ونعود إلى الحديث عن الأوجاع التي تحمّلها السيد المسيح من أجل خلاصنا، فنجد أن القديس بولس يقول: "لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إلى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ" (عب2: 10).
كذلك يقول معلمنا بطرس الرسول في نفس المجال: "فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ" (1بط4: 1).
ويقول: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا.. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 21، 24).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
نَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ

فى قوله: "وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا.." (إش53: 4) يتكلم بلسان الأمة اليهودية ليوضّح كيف انحرف اليهود في فهمهم لصليب السيد المسيح.
المسألة ترجع أساسًا إلى ما ورد في سفر التثنية عن المصلوب أو المعلق على خشبة:
"وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ. فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا" (تث21: 22، 23).
لقد أصّر رؤساء الكهنة وقيادات اليهود على أن يتم قتل السيد المسيح صلبًا.
وعندما قال لهم بيلاطس الوالي الروماني: "خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ". قال له اليهود: "لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا" وعلّق إنجيل يوحنا على هذه المناقشة "لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيرًا إلى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ" (يو18: 31، 32).
لقد رفض اليهود أن ينفّذوا حكم الموت في السيد المسيح، لأنهم كانوا يرجمون المحكوم عليه بالموت مثلما فعلوا مع القديس إستفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء (انظر أع 7: 59).
وكانوا كاذبين في كلامهم مع بيلاطس عندما قالوا: "لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا" لأنهم قتلوا إستفانوس بحكم من مجمعهم وليس بحكم من السلطة الرومانية بعد ذلك بسنوات قليلة.
ولكن كان غرضهم هو أن يموت السيد المسيح مصلوبًا ليثبتوا عليه اللعنة حسبما ورد في سفر التثنية أن "المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ" (تث 21: 23).
وبناءً على ذلك كانوا يعيّرون السيد المسيح وهو معلّق على الصليب ويسخرون منه "وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ" (لو23: 35).
تحققت كلمات إشعياء النبي "وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).
وفى الحقيقة إن السيد المسيح قد حمل لعنة خطايانا، لذلك قال معلمنا بولس الرسول عن الآب السماوي: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2كو5: 21).
لقد محا السيد المسيح لعنة الخطية كقول الكتاب "إذ محا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ" (كو2: 14)،"وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثنيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثنيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ" (أف2: 16). ويتضح الأمر تمامًا في قوله: "الْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل3: 13).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
بين الصليب والحية في البرية

لماذا رفع موسى الحية في البرية كرمز للصليب؛ مع أن الحية ترمز إلى الشيطان..؟!
المسألة أن السيد المسيح قد حمل خطايانا في جسده، وارتفع إلى الصليب، وسمّر الخطية هناك ونزل عن الصليب وتركها مسمّرة.
وبعد قيامته ظهر في البستان لمريم المجدلية. ليكون البستان هو بمثابة الفردوس الجديد بدون الحية القديمة التي سمّرت على الصليب.
بمعنى أن تعليم إبليس لا وجود له داخل كنيسة المسيح، والسيد المسيح هو المعلّم الوحيد. لذلك قالت له مريم المجدلية: "رَبُّونِي الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ" (يو20: 16).
كيف أزال الآب السماوي شُبهة اللعنة عن ابنه المحبوب؟
لقد "أقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ" (أع2: 24)، وقال بطرس الرسول لليهود: "إِنَّ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ إِلَهَ آبَائِنَا مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذَلِكَ" (أع 3: 13-15).
إذن حينما مات السيد المسيح فإنه مات لأجل خطايانا، وحينما قام من الأموات في اليوم الثالث فإنه قام لسبب بره الشخصي، ولكي يعلن الآب أن اللعنة لم تكن لعنته الشخصية بل لعنتنا نحن التي حملها نيابة عنا ومحاها بالصليب. وقد مجّد الآب ابنه بالقيامة من الأموات. وركّز الآباء الرسل على عمل الآب في إقامة الابن المتجسد مع أن الابن قد قام بسلطان لاهوته. ولكن نظرًا لأن قدرة واحدة هي للآب والابن والروح القدس. لذلك أمكن أن يقال أن الآب أقامه، أو أن الروح القدس أقامه، كما أنه هو أقام نفسه كقوله لليهود: "انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ" (يو2: 19-21).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
حَسِبْنَاهُ.. َمَذْلُولًا

"وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).. لنتأمل في المذّلة ومعانيها. وهو الذي قيل عنه في نفس الإصحاح من سفر إشعياء "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
يلزمنا أن نقطع رحلة مع كلمة "المذّلة" لندرك أبعاد وأعماق ما عاناه السيد المسيح من المذّلة وما ذلل هو به نفسه من أجلنا ومن أجل خلاصنا.
فعندما أذل فرعون شعب إسرائيل في العبودية في أرض مصر قال الرب لموسى النبى: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ" (خر3: 7، 8).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
المزامير وكلمة "المذلة"

وردت كلمة "المذّلة" في صلوات المزامير كثيرًا لتعبّر عن مشاعر الإنسان الذي يطلب المعونة والخلاص من الله، كما أنها تحمل أحيانًا العديد من النبوات عن السيد المسيح الذي احتمل المذّلة ومن أمثلة ذلك:
* "اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. انْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ الْمَوْتِ. لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابنةِ صِهْيَوْنَ مُبْتَهِجًا بِخَلاَصِكَ" (مز 9: 13، 14).
* "أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إلى مَذَلَّتِي وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي" (مز31: 7).
* "أَمَّا أَنَا فَفِي مَرَضِهِمْ كَانَ لِبَاسِي مِسْحًا. أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي. وَصَلاَتِي إلى حِضْنِي تَرْجِعُ" (مز35: 13).
* "لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ الأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعًا لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدًّا" (مز79: 8).
* "فَرِّحْنَا كَالأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا كَالسِّنِينِ الَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرًّا" (مز90: 15).
* "الرَّبُّ حَافِظُ الْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي" (مز115: 6).
* "آمَنْتُ لِذَلِكَ تَكَلَّمْتُ. أَنَا تَذَلَّلْتُ (اتضعت) جِدًّا" (مز116: 10).
* "هَذا الذي عَزّاني فِي مَذَلَّتِي لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي" (مز118: 50).
* "خَيْرٌ لِي أنك أذللتنى حتى أَتَعَلَّمَ حقوقك" (مز118: 71).
* "قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ وَبِحَقِّ أَذْلَلْتَنِي" (مز118: 75).
* "تَذَلَّلْتُ جدًا إلى الْغَايَةِ. يَا رَبُّ أَحْيِنِي كقولك" (مز118: 107).
* "أنصت إلى طلبتي، فإني قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا" (مز141: 6).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
مراثى أرميا وكلمة "المذلة"

وفى سفر مراثى أرميا وردت كلمة المذّلة كثيرًا. ويُقرأ جزء كبير من هذا السفر في بداية الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة. ونورد أمثلة لما ورد في هذا السفر:
* "قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ" (مرا 1: 3).
* "أمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ" (مرا 1: 12).
* "أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ" (مرا 3: 1).
* "ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي أَفْسَنْتِينٌ وَعَلْقَمٌ" (مرا 3: 19).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وصايا الرب وكلمة "المذلة"

ووردت في وصايا الرب في ناموس موسى مثل يوم الكفارة العظيم:
* "أَمَّا الْعَاشِرُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ السَّابِعِ فَهُوَ يَوْمُ الْكَفَّارَةِ. مَحْفَلًا مُقَدَّسًا يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ" (لا23: 27).
* "إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَتَذَلَّلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ تُقْطَعُ مِنْ شَعْبِهَا" (لا23: 29).
ونادي عزرا الكاتب بالتذلل أمام الرب لسبب السبي وما تبعه من أحداث فقال:
* "وَنَادَيْتُ هُنَاكَ بِصَوْمٍ عَلَى نَهْرِ أَهْوَا لِنَتَذَلَّلَ أَمَامَ إِلَهِنَا لِنَطْلُبَ مِنْهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمَةً لَنَا وَلأَطْفَالِنَا وَلِكُلِّ مَالِنَا" (عز8: 21).
* وقال أيضًا: "وَعِنْدَ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ قُمْتُ مِنْ تَذَلُّلِي وَفِي ثِيَابِي وَرِدَائِي الْمُمَزَّقَةِ جَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَبَسَطْتُ يَدَيَّ إلى الرَّبِّ إِلَهِي" (عز9: 5).
أما باروخ الكاتب فقد أشار إلى الخلاص والقيامة في أورشليم بقوله الرائع:
* "اخلعي يا أورشليم لباس النوح والمذلة والبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد" (با 5: 1).
لقد احتمل السيد المسيح مذلة بني البشر، وتذلل في آلامه وما وقع عليه من تعييرات كنائب عن البشرية لكي يحمل مذلتنا ويوفى دين المذلة الأبدي الذي جلبناه على أنفسنا وذلك لكي يرفع عن شعبه حلة النوح والمذّلة ويلبس كنيسته بهاء المجد من عند الله إلى الأبد.
إن مذّلتك يا ربي يسوع المسيح هي التي أعدت لي حلة المجد الأبدي، فاجعلني أهلًا لهذه المواعيد الثمينة والعظمى بنعمتك القادرة.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا

يقول النبي بوحي من الروح القدس عن آلام المخلّص: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5).
لا ينطبق هذا الكلام إلاّ على السيد المسيح، لأنه هو الذي بلا خطية وحده بين جميع البشر والذي يمكنه أن يشفى بجراحه خطايا غيره. وقد عبّر بنفس الأسلوب أيضًا اللص اليمين حينما وبّخ زميله اللص الشمال على تعييره للسيد المسيح بقوله: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟. أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ" (لو23: 40، 41).
إن تعبير "مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا" لا يُعبّر فقط عن أن السيد المسيح قد تألّم عوضًا عن الخطاة ليوفى دين خطاياهم، بل إنه يعبّر عن جراح المحبّة.. كيف تألّم السيد المسيح، لأن الخطية تفسد حياة الإنسان.. إنها مشاعر الراعي الذي يتألّم حينما يرى الذئب وهو يفترس إحدى خرافه المحبوبة. بل هي مشاعر الأب الذي يرى أحد أولاده وهو يلقى بنفسه من برج عال ليسقط مهشمًا. كما أن العصيان يجرح قلب الأب العطوف، والتمرد يجرح مشاعره الرقيقة.
قد يقول قائل ما الذي يخسره الله لسبب خطاياي؟ مضيفًا أن الله غير محتاج إلينا. ولكن السيد المسيح بتجسده قد جسّد مشاعر قلب الله. ووصل تجسيد الموقف في الحوار المذكور في سفر زكريا النبي "فَيَقول لَهُ: مَا هَذِهِ الْجُرُوحُ فِي يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هِيَ الَّتِي جُرِحْتُ بِهَا فِي بَيْتِ أَحِبَّائِي!" (زك13: 6).
إننا نقف في ذهول أمام جراحات الصليب. أهذا كلّه من أجل الحب؟! أو "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ الجنس!" (يو3: 16).
وفى الوقت نفسه نشاهد قداسة الله وكراهيته للخطية -وليس للخاطئ- إذ أنه حينما نقل خطايانا على ابنه الوحيد صار الابن "يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤ19: 15). لكي تنال الخطية قصاصًا عادلًا ويُعلن صلاح الله وقداسته..
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
أمينة هي جراح المحب

ورد في سفر الأمثال أنها "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" (أم27: 6)، أي أن المحب الذي يحرص على مصلحة من يحبه قد يسبب له جراحًا عند توبيخه، أو تأديبه، أو مقاومة بعض رغباته التي قد تضره. أما قبلات العدو فهي تتظاهر بالمحبة، بينما لا تنبّه الشخص إلى المخاطر المحيطة به، وتشعره بالأمان إلى أن يضيع. أو هي تحمل الخيانة مثل قبلة يهوذا الإسخريوطى للسيد المسيح، والتي كانت العلامة لتسليمه للذين قبضوا عليه، فكانت قبلة غاشة.
فإن كان من يجرح حبيبه لأجل خيره وصالحه يُحسب أمينًا، فكم يكون من ينجرح هو نفسه لأجل من يحب؟! وكم يكون من يحمل ذنوب غيره ويحمل عقوبتها؟! كم يكون من يحمل الجراحات لكي يبين لأحبائه بشاعة الخطية وعواقبها؟! كم يكون لو أن القاضي أخذ مكان المتهم لكي يوفى ما عليه من ديون؟! وكم يكون من يتحمل القبلة الغاشة من أحد تلاميذه وأصدقائه الذي يقول هو عنه في المزمور "إِنْسَانٌ عَدِيلِي إِلْفِي وَصَدِيقِي. الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ" (مز55: 13، 14)؟! لقد مضى يهوذا وشنق نفسه؛ ربما لأنه لم يحتمل الرقة التي عامله بها السيد المسيح في مقابل خيانته الرديئة وعدم محبته. ولم يمنعه من تقبيله، بل قال له: "يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟" (مت26: 50) ثم أردف قائلًا: "يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابن الإِنْسَانِ؟!" (لو22: 48). لقد قيل عن يهوذا في المزمور: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ.. فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ" (مز109: 17، 18). لقد أسلم يهوذا قلبه للشيطان الذي قاده من الندم إلى اليأس والهلاك.
إن الإنسان يقف مبهورًا أمام هذا الحب الكبير الذي لم يجرح أحدًا، بل احتمل الجراحات "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا". بل وصل به الأمر أن يلتمس المغفرة معطيًا عذرًا لصالبيه بقوله للآب: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو23: 34). وقال معلمنا بولس الرسول عن عظماء هذا الدهر: "لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (1كو2: 8).
ولكن القديس بطرس وقف في يوم الخمسين ليوبّخ اليهود وقال لهم عن السيد المسيح: "بِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ.. تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. لأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ ولأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا" (أع2: 23، 38، 39). واعتمد في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس لأن الآب طبعًا قد قبل ما طلبه السيد المسيح لمن صلبوه ثم تابوا "لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو23: 34).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا

"هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5).
الجراحات تخص اللحم أما السحق فيخص العظام. وكأن الرب يريد أن يوضح لنا أن السيد المسيح قد تألم بكل ما فيه من لحم وعظام سواء من الناحية الجسدية أو من الناحية النفسية. فهناك موقف يجرح مشاعر الإنسان وموقف آخر يسحقه سحقًا. لذلك ورد في نفس الإصحاح "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ" (إش53: 10). وورد على لسان أيوب في جداله مع زملائه الثلاثة "حَتَّى مَتَى تُعَذِّبُونَ نَفْسِي وَتَسْحَقُونَنِي بِالْكَلاَمِ" (أى19: 2).
السيد المسيح حينما حمل خطايانا أخذ كل ما تستوجبه الخطية من مشاعر الحزن والانسحاق عند التوبة. أي أنه قد حزن بما يكفى لخلاصنا من الحزن الأبدي، وانسحق بما يوازى انسحاق كل الخطاة التائبين إلى أبد الدهور.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ

"هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5)، السيد المسيح هو صانع السلام. وكان ينبغي أن يصالح الله مع الإنسان، والسمائيين مع الأرضيين، والروح مع الجسد، واليهود مع الأمم.
لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ" (2كو 5: 18، 19).

نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وقال أيضًا مخاطبًا أهل أفسس: "الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثنيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثنيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثنيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ" (أف2: 13-16).
كان صنع السلام مرتبطًا بالمصالحة، والمصالحة بُنيت على الصليب. فصار تأديب سلامنا على السيد المسيح. أي أنه أوفى الدين الذي علينا وحمل عقوبة خطايانا وصالحنا مع أبيه السماوى، وأدان الخطية بالصليب معلنًا قداسة الله كرافض للشر، ومعلنًا محبة الله كمعتنى ومخلّص من الهلاك الأبدي. كان السلام يحتاج إلى تأديب الإنسان الذي عصى وتمرد. فجاء آدم الجديد وقدّم طاعة كاملة أرضت قلب الآب وأعادت إلى الإنسان علاقته المفقودة مع الله.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا

كانت جراحات السيد المسيح هي شفاء للبشرية الخاطئة. وقد وقف القديس بطرس الرسول مبهورًا أمام حقيقة جلد السيد المسيح الذي التهب جسده القدوس بالسياط المحرقة ومزقه تمزيقًا فقال عن السيد المسيح: "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 24).
كانت جراحات الجلد الروماني هي السبب المباشر لموت السيد المسيح السريع على الصليب. لأن ضربات الكرابيج المصنوعة من عصب البقر والتي في نهاية كل سير منها قطعتين من العظم أو من المعدن الصلب، كانت قد مزقت الشرايين المحيطة بالقفص الصدري وسببت نزيفًا حادًا حتى ملأت الدماء التجويف الصدرى للسيد المسيح.
ما أعجب هذا الارتباط بين نبوة إشعياء "وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" وكلام بطرس الرسول "بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ".
إن آلامك يا رب تشفى محبتنا للذة الخطية. نحن نتلذذ وأنت جسدك يحترق بالآلام!
فكيف نطيق الخطية مهما كانت لذتها الوقتية؟! جلداتُك.. حُبُرك.. جراحاتُك، تشفينا.. تنادينا.. تأسرنا؛ لأنك اقتحمت قلوبنا بمحبتك.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا

يكمل إشعياء النبي نبوءته بقوله: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (إش53: 6).
بمهارة فائقة ربط الوحي على فم إشعياء النبي بين وضع السيد المسيح باعتباره هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم، ووضعه كراعي الخراف العظيم: فهو الحمل والراعي.
فحينما يشبّه إشعياء النبي البشر بالغنم: يضع الله في موقف الراعي. وفي نفس الوقت يشير إلى نيابة السيد المسيح عن البشرية، إذ أنه هو الذبيحة الحقيقية التي أشارت إليها ذبائح الأغنام الكثيرة في العهد القديم بما في ذلك ذبيحة أبينا إبراهيم.
من أهم اختصاصات راعى الأغنام أن يبحث عن الخراف الضالة، وأن يحميها من الذئاب الخاطفة ثم أن يقودها إلى المراعى الخضراء ومياه الراحة.
ومن عادة الخراف أنها تنطلق في المسير بلا وعى ولا تدرك أبعاد الطريق الذي رسمه لها الراعي.
لذلك يقول: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ". أن يضل أحد الخراف أو بعضها فهذا أمر طبيعي، ولكن أن يضل جميع الخراف فهذا أمر صعب ومؤسف وخطير.
ولكن هذا ما حدث بالفعل إذ يقول معلمنا بولس الرسول: "منْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو5: 12).
وصار الجميع في احتياج إلى الخلاص. ولم يوجد بين البشر من يستطيع أن يصنع الخلاص..
وهذا ما عبّر عنه إشعياء النبي بالروح عن نظرة الرب للأوضاع فقال: "فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ. فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ" (إش59: 16، 17).
كان تجسُّد الابن الوحيد الجنس ضروريًا لخلاص البشرية. وهكذا تجسَّد الله الكلمة بنفسه، وصار إنسانًا لأنه لم يوجد بين البشر ولا الملائكة من يمكنه إتمام الفداء.
لقد مال البشر جميعًا كل واحد إلى طريقه. ولكن قد جاء من هو نفسه "الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو14: 6). وقدّم نيابة عن البشرية طاعة كاملة لله أبيه وهو موضوع سروره منذ الأزل وإلى الأبد.
لم يكن السيد المسيح في طاعته لأبيه السماوي بلا خطية فقط، بل ارتضى أن يحمل خطايا غيره وأن يوفى ديونها بالكامل. وبذلك وصل بالطاعة إلى ذروتها.
"رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رو5: 7، 8).
إن الطاعة الكاملة التي يقدمها أي ابن لأبيه هو ألا يخالف وصيته؛ مثلما قال الابن الأكبر لأبيه في مَثل الابن الضال: "وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابنكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ" (لو15: 29، 30).
لم يحتمل الابن الأكبر محبة أبيه لأخيه الذي "كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ" (لو15: 32)، وبالأكثر لم يحتمل أن يأخذ هذا الأخ تكريمًا اعتبره هو أنه يليق به وليس بأخيه. ولكن هل كان يقبل أن يحمل خطايا أخيه ويوفى ديونها..؟! طبعًا الذي احتمل هو الأب.. احتمل تعيير ابنه في قبوله للابن الآخر. ولم يقل الابن الأكبر "لما جاء أخي" ولكنه قال: "لَمَّا جَاءَ ابنكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي". والعجيب أن الأب حينما علم أن الابن الأكبر قد غضب ولم يرد أن يدخل إلى الحفل "خَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ" (لو15: 28).
لقد تمرّد اليهود على الله، وتمرّد الأمم على الله "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو3: 23). وحينما بدأ الرب يقبل الأمم في الإيمان بعد إتمام الفداء بدأ اليهود يتعبون. ولكن الكنيسة قاومت تيار التهوّد في المسيحية لجهود بولس الرسول وانتهى الأمر بقرار من مجمع الرسل في أورشليم بحسم هذه المسألة.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
الموت النيابي

إن عبارة "الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (إش53: 6) تحسم الجدل الذي يدور بين البعض حول مسألة "الموت النيابي". فمن الواضح أن السيد المسيح حسب تعليم الكتاب المقدس وحسب تعاليم الآباء القديسين مثل القديس أثناسيوس الكبيروالقديس كيرلس عامود الدين، قد دفع ثمن خطايا البشرية وهو برئ،ولكنه ارتضى ذلك وكرّمه الآب بقيامته المجيدة من الأمواتفقد شرح القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن "تجسد الكلمة" أهمية التجسد الإلهي في خلاص البشرية؛ فقال في الفصل التاسع:
[إن كلمة الله إذ لم يكن من الممكن أن يموت (بحسب لاهوته) أخذ جسدًا قابلًا للموت. لكي باتحاده بالكلمة الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا بأن يموت نيابةً عن الكل].
وبذلك شرح القديس أثناسيوس فكرة الموت النيابي. فالسيد المسيح إذ حمل خطايا العالم، قد مات نيابة عن الكثيرين. وكما قال القديس كيرلس الكبير عامود الدين: [كان موته هو وحده مساويًا لحياة الكثيرين] (الرسالة إلى فاليريان أسقف أيقونية - الفقرة 13).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ

يستكمل إشعياء النبي نبواته عن آلام السيد المسيح بمنتهى الدقة فيقول: "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
أشار معلمنا بطرس الرسول إلى مسألة الظلم بقوله: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالًا لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ. الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 21-24).
ويتضح من كلام معلمنا بطرس الرسول أن الظُلم الذي وقع على السيد المسيح كان من الناس الأشرار الذين تآمروا عليه، والذين شتموه، والذين عذّبوه، إذ ضربوه ولطموه وجلدوه وسمروه على الصليب.
اشترك في تعذيب السيد المسيح قيادات اليهود والعسكر الرومان. واشترك أيضًا الحاكم الروماني بونتيوس بيلاطس، الذي أمر بجلده، ثم أمر بصلبه خضوعًا للضغط الشعبى وخوفًا على منصبه.
بالطبع لم يقع الظُلم على السيد المسيح من قِبَل الآب السماوي وإن كان قد سمح بذلك لتكميل عمل الفداء وإدانة الشر والخطية. والدليل على أن الظلم لم يقع من جهة الآب السماوي هو قول الكتاب عن السيد المسيح: "وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ" (1بط2: 23)، بمعنى أن السيد المسيح قد اعتبر الآب قاضيًا عادلًا فكان يُسلّم له الحكم "يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ".
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
لماذا سَمح الرب أن يُظلم؟

يتساءل البعض: هل من العدل أن يموت البار عوضًا عن الخطاة؟ ولماذا يسمح الآب بأن يقع الظلم على ابنه الوحيد المتجسد؟!
ونجيب على ذلك بالأسباب التالية:
أولًا: إن الفادي قد تطوّع لخلاص البشرية. فهو لم يكن مجبرًا على قبول الآلام والموت جسديًا.
ثانيًا: إن الآب قد أقامه من الأموات سريعًا ولم يستطع الموت أن يمسكه. وبذلك فقد تم التعويض عن الموت.
ثالثًا: إنه قام بجسد ممجد لا يقوى عليه الموت.
رابعًا: إنه قد تمجّد بقيامته وبصعوده إلى السماء جسديًا وبانتصاره على الموت وعلى الجحيم وعلى مملكة الظلمة الروحية. واحتفل السمائيون بهذا الدخول الانتصاري لملك المجد ورفعوا الأبواب الدهرية ليدخل الرب العزيز القاهر في الحروب. وبهذا يكون قد أحيط ناسوتيًا بأمجاد هي أضعاف ما أحاط به من إهانات في جسم بشريته. وبهذا يكون الآب قد أكرمه في مقابل ظلم الأشرار.
خامسًا: إن الشر قد افتضح وأُدين كما قال الكتاب: "إِذْ أَرْسَلَ ابنهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رو8: 3).
لذلك فإن الرسول بطرس حينما تكلم عن الإهانات التي لحقت بالسيد المسيح وإنه إذ تألم كان يُسلّم لمن يقضى بعدل أي لمن سيحكم له في مقابل الظلم الذي وقع عليه، إلا أن الرسول بطرس قد ربط ذلك بالسبب الرئيسي فقال: "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ" (1بط2: 24)، أي أن آلام المسيح كانت عوضًا عن آلامنا الأبدية. وموته كان عوضًا عن موتنا الأبدي. إنها قصة حب فائق من قِبَل الله؛ جعلت القاضي يأخذ مكان المتهم، ويوفى عنه الدين.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ

لماذا تذلل السيد المسيح؟
* لقد تذلل عوضًا عن الخطاة؛ لكي ينوب عن البشرية في ممارسة الاتضاع ونبذ الكبرياء.
* وتذلل لكي يحتمل ظلم الأشرار؛ كما ورد في القداس الغريغورى {احتملت ظُلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط، وخدّيك أهملتهما للّطم. لأجلى يا سيدي، لم ترد وجهك عن خزي البصاق}.
* وتذلل لكي يعلّمنا كيف نواجه المواقف الصعبة.. كيف نواجه الإهانات.. كيف نواجه الظلم.. كيف نواجه الآلام.. هل نواجهها بروح الكبرياء أو التذمر، أم بروح الاتضاع والطاعة والتسليم لإرادة الله؟ لهذا قال معلمنا بطرس الرسول: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالًا لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ" (1بط2: 21) أي لكي نسلك باتضاع.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ

· صمت السيد المسيح؛ لأنه إذ حمل خطايا البشرية لم يرغب في الدفاع عن نفسه.
· وصمت؛ لأن صمته في مواجهة الشر كان أقوى من الكلام. وكان قد علّم كثيرًا في الهيكل وانبهر الجميع من كلمات النعمة على شفتيه. ولأن للصمت وقت وللكلام وقت.
· وصمت؛ لكي يتمم النبوات التي قيلت عنه: "تَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7)، "كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
· وصمت؛ لكي يترك الآب يدافع عنه إذ أقامه من الأموات بمجدٍ عظيم.
· وصمت؛ لكي يعلّمنا أن نحتمل ونصمت ونترك الله يعمل مثل قول موسى للشعب عند البحر الأحمر: "قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ.. الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ" (خر14: 13، 14).
ليتنا نتعلم من صمت مسيحنا في وقت يكثر فيه الكلام وكتابة الأقلام.
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ

جانب أساسي أراد الوحي أن يبرزه في عبارة "كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) وهو وداعة السيد المسيح في طريقه إلى الجلجثة.
أي أنه كان لا يقاوم الذين اقتادوه إلى الصليب، بل كان حملًا وديعًا يفعل الناس به ما يريدون. وكأنه مثل الحمل لا يعرف أنه يساق إلى الذبح. أو حتى لو عرف الحمل فإنه لا يقاوم.
كان بإمكان السيد المسيح بإشارة منه، أو حتى بمجرد الإرادة الباطنية أن يبدد كل الذين ساقوه إلى الذبح. ولكنه لم يفعل لأنه قد جاء لخلاص العالم.
كان الأسد الخارج من سبط يهوذا يتصرف كشاة!! الأسد الوديع.. الأسد الذي استهزأوا به.. الأسد الذي لطموه.. الأسد الذي جلدوه.. الأسد الذي استاقوه وهو يحمل الصليب.. الأسد الذي سمروه.. الأسد الذي طعنوه بعدما سلّم الروح.
هذا الأسد قد سلّم نفسه إلى أيدي الأشرار واحتمل ظلمهم، قد فعل ذلك حُبًا لنا لأنه لم يكن ممكنًا أن يتم الخلاص إلا به هو، وبتضحيته هو، وبقوته هو، إذ غلب الجحيم والموت وقام منتصرًا من الأموات.
لذلك ففي المشهد السماوي رآه يوحنا الرسول في وسط العرش كحمل قائم كأنه مذبوح (انظر رؤ5: 6). ولكن قيل ليوحنا: "لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ" (رؤ5: 5).
فهل هو شاة أم أسد؟ يا للعجب!! هو أسد في صورة حمل.. وهو حمل وفي قدرته أسد.. وكيف لا: ألم يتخذ اللاهوت القوى ناسوتًا من العذراء مريم وجعله واحدًا مع لاهوته؟ فمن حيث لاهوته هو أسد ومن حيث ناسوته هو حمل. وكان ينبغي أن يصير الأسد حملًا ليخلّص باقي الحملان. لذلك فإن الله الكلمة "صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو1: 14).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ

"كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) من المعروف أن النعجة تقف في هدوء أثناء جز الصوف من على جسمها، لينتفع به أصحابها، وهكذا لم يقاوم السيد المسيح مَن خلعوا عنه ثيابه عند الجلد وعند الصلب.
وقد تكررت عبارة "لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) في هذه الآية، مع عبارة "الصمت" ولذلك نعود إلى نفس السؤال في شيءٍ من التفصيل:
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
لماذا صمت السيد المسيح؟

قد يتساءل البعض: لماذا صمت السيد المسيح؟.. لماذا لم يدافع عن نفسه أمام مجمع اليهود، وأمام بيلاطس البنطي؟.. ولماذا لم يظهر أمام الوالي الروماني بيلاطس كذب رؤساء كهنة اليهود ورياءهم في قولهم: "لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ" (يو19: 15) في الوقت الذي كانوا فيه يجهزون العدّة للثورة ضد قيصر باعتباره المستعمر الروماني الوثني؟ لقد حاولوا أن يظهروا السيد المسيح كمقاوم لقيصر، بينما سبق أن قال رؤساء الكهنة والفريسيين في مجمع اليهود عن السيد المسيح: "إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا" (يو11: 48)، وقال لهم قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة: "خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا" (يو11: 50). وكانوا يقصدون أن تعاليم السيد المسيح عن السلام ومحبة الأعداء تتعارض مع رغبتهم في محاربة الرومان. أي محاربة قيصر.
وكان هذا هو المنطلق الذي اعتمد عليه المجمع اليهودي في إصدار حكم المجمع المسبّق بقتل السيد المسيح قبل القبض عليه.
ولماذا لم يحتج السيد المسيح على إطلاق باراباس المجرم المُدان في مقابل الحكم عليه بالصلب وهو برئ؟ إذ لم يكن هناك وجهًا للمقارنة بينهما، ولم يكن من حق الوالي أن يطلب من اليهود أن يختاروا مَن يطلق لهم؛ يسوع أم باراباس! لأن الاختيار لا يكون بين بارٍ ومجرمٍ أو بين برئٍ ومُدانٍ.
ولماذا لم يشرح السيد المسيحلبيلاطس رسالته الخلاصية، وحقيقة لاهوته، وولادته الأزلية من الآب، والهدف من تجسده وصلبه وقيامته؟ مع أن بيلاطس سأله: "مَا هُوَ الْحَقُّ؟" (يو18: 38)، ولم يجبه السيد المسيح على سؤاله.
ونجيب على هذه التساؤلات كما يلى:
أولًا: إن السيد المسيح لم يدافع عن نفسه لأنه كان مزمعًا أن يقدّم نفسه ذبيحة إثم، أي أن يحتمل موت الصليب كحامل لخطايا العالم وذلك عوضًا عن البشر ليوفى العدل الإلهي حقه. ولكنه في نفس الوقت نفى ما يمكن أن يمس تعاليمه لئلا يُساء فهم المسيحية؛ وذلك مثل قوله لبيلاطس: "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ" (يو18: 36) في إجابته على سؤال بيلاطس إن كان هو ملك اليهود.
ثانيًا: لم يحتج السيد المسيح على إطلاق باراباس والحكم عليه بالموت صلبًا، لأنه أراد أن يقدّم صورة واضحة للمبادلة التي حدثت بين الإنسان الخاطئ والبار القدوس؛ كلمة الله الذي تجسد وتأنس ليأخذ محل الخطاة.
ثالثًا: لم يشرح السيد المسيح لبيلاطس "ما هو الحق؟" لأن بيلاطس كان مطالبًا بقبول الحق الأصغر قبل أن يُعلن له الحق الأكبر أو الحق الكامل. وقد رسب بيلاطس في الامتحان لأنه لم يحكم بالحق إذ حكم على البريء بالموت صلبًا بالرغم من قوله المشهور: "إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ" (مت27: 24)، ولم ينفعه بالطبع إنه غسل يديه بالماء لأنه اشترك مع اليهود في مسئولية صلب السيد المسيح. فالاغتسال بالماء يفيد إذا كان مقترنًا بالتوبة والسلوك في الحق وهذا ما فعله يوحنا المعمدان عند ممارسته لمعمودية التوبة بالماء؛ إذ كان ينذر الجميع لإصلاح طرقهم والاعتراف بخطاياهم (انظر مر1: 5)، ويصرخ في الجموع الذين أقبلوا إلى معموديته: "اصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ.. وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (مت3: 8، 10).
ومن جانب آخر كان الرب قد حرّك قلب زوجة بيلاطس في حلم وأرسلت إلى زوجها تحذيرًا قبل محاكمته للسيد المسيح مباشرة بقولها "إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ" (مت27: 19). ولكن بيلاطس لم يحكم بالحق خوفًا من ثورة اليهود ومن سلطان القيصر الروماني. وبذلك لم يكن من حقه أن يؤتمن على معرفة مَن هو المسيح، لأن السيد المسيح قال في مَثل وكيل الظلم: "إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟" (لو16: 11). إن الروح القدس يعمل في جميع البشر ولكنه لا يعلن لهم ألوهية السيد المسيح ويدعوهم إلى معمودية الخلاص إلا إذا شعر أنهم يبحثون عن الحق بإخلاص. ولذلك يقول الكتاب "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كو12: 3).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ

وأكمل إشعياء النبي نبواته وقال: "مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ" (إش53: 8)، لماذا كان عرق السيد المسيح يتساقط كقطرات الدم أثناء جهاده في الصلاة في البستان (انظر لو22: 44)؟!
لاشك أن ضغط الدم كان مرتفعًا جدًا بصورة محسوسة لأننا لا يمكننا أن نفصل المعنوية عن العوامل الطبيعية في الجسد.
وكان السيد المسيح قد "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ" (مت26: 37)، ويقول لتلاميذه: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 38).
كان الآب قد بدأ ينقل خطايا العالم على فادينا الذي قال عنه يوحنا المعمدان: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو1: 29).
كانت الساعة قد جاءت التي يبدأ فيها إيفاء العدل الإلهي حقه من خلال جسم بشريته حيث بدأ المخلص يجوز "مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤ19: 15).
وقد أشار السيد المسيح إلى مجيء هذه الساعة بعدة عبارات مثل قوله: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ" (يو12: 27)، وقوله لليهود: "هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ" (لو22: 53)، وقوله لتلاميذه: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يو12: 23)، وقول يوحنا الإنجيلي عنه: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إلى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إلى الْمُنْتَهَى" (يو13: 1)، وفي قول السيد المسيح في مناجاته مع الآب: "أيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يو17: 1).
كان الهدف في إيفاء العدل الإلهي حقه هو إظهار قداسة الله كرافض للشر والخطية في حياة البشر.. وإنه لا يمكن مغفرة خطايا البشرية دون أن تدان الخطية وتظهر بشاعتها لأن "اللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رو8: 3).
وقد تجلّت بشاعة الخطية فيما سببته للسيد المسيح البار حينما أوفى الدين الذي علينا، وهو الهلاك الأبدي، وكما قال القديس كيرلس الكبير: [كان موته هو وحده مساويًا لحياة الجميع] (الرسالة إلى فاليريان أسقف أيقونية).
إننا نرى بشاعة خطايانا حينما نرى حبيبنا ومخلصنا البار وهو يقاسى مرارة حملها، ويلتهب جسده المقدس بسياطها، بينما قد تلهّينا نحن بلذتها العابرة, معرّضين أبديتنا للضياع.
لذلك تتحرك قلوب المصلّين مع الأب الكاهن في قداس القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات وهو يقول: {أنت يا سيدي حوّلت لي العقوبة خلاصًا.. احتملت ظلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط وخدّيك أهملتهما للطم. لأجلى يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق}.
إذن نستطيع فهم عبارة "مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ" (إش53: 8)؛ بمعنى أن السيد المسيح قد وقع عليه ضغط شديد بسبب أنه حمل خطايا البشرية، وأوفى دينها، وصار في موقف الدينونة إذ أن الله الآب قد "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً - خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2كو5: 21).
لقد أُخذ السيد المسيح إلى الحزن حتى الموت، وأُخذ إلى مشاعر الكآبة التي ينبغي أن يشعر بها الخاطئ بعد ارتكابه للخطية، وأُخذ إلى أن يتذوق الموت بنعمة الله لأجل كل واحد (انظر عب2: 9).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
ألياقيم بن حلقيا

وردت نبوة عن السيد المسيح في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر إشعياء كما يلي:
"فَيَكُونُ أَبًا لِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ وَلِبَيْتِ يَهُوذَا. وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ. وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 21-24).
وقد قيلت هذه النبوة منسوبة إلى شخص يدعى "أَلِيَاقِيمَ بْنَ حَلْقِيَّا" (إش22: 20). ولكن لو تأملنا معنى هذا الاسم نجد أنه إشارة إلى السيد المسيح حيث إن:
"أَلِيَاقِيمَ" كلمة عبرية معناها "الله يقيم أو من يثبّته الله".
"حَلْقِيَّا" كلمة عبرية معناها "يهوه حماية، أو يهوه قسمتي، أو يهوه نصيبي" (مع ملاحظة أن يهوه هو الاسم الخاص لإله إبراهيم).
ولا يخفى بالطبع أن اسم "أَلِيَاقِيمَ" يشير إلى السيد المسيح الذي أقامه الله الآب وثبّته. واسم "حَلْقِيَّا" يشير إلى الآب السماوي؛ الذي يدعوه السيد المسيح (ابن الله المتجسّد والنائب عن البشرية) "يهوه حماية أو يهوه قسمتي أو يهوه نصيبي"؛ لأن السيد المسيح جعل في الآب حمايته وجعل الآب قسمته، ونصيبه إذ قدَّم نفسه لله بلا عيب وكنائب عن البشرية إذ "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ" (فى2: 7)، احتمى بالآب وأسلم روحه بين يديه.
ومما يؤكّد أن هذه النبوة تخص السيد المسيح هو ما ورد على لسان السيد المسيح نفسه عندما ظهر لتلميذه يوحنا الرسول الإنجيلي وتم تدوينه في سفر الرؤيا كما يلي:
"اكْتُبْ إلى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي فِيلاَدَلْفِيَا: هَذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ3: 7)، فهي نفس الكلمات التي وردت في سفر إشعياء على لسان الآب السماوي "وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ. وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ" (إش22: 22، 23).
نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه
الصليب ومفتاح داود

والآن يلزمنا أن نتأمل في معنى "مفتاح داود" الذي ورد في هذه النبوة وتأكد في كلام السيد المسيح في سفر الرؤيا.
نلاحظ أن ما ورد في سفر إشعياء قد جعل المفتاح على كتف السيد المسيح. ولا يخفى أن السيد المسيح قد حمل الصليب على كتفه وهو خارج ليصلب كما ورد في إنجيل يوحنا "فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إلى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ جُلْجُثَةُ" (يو19: 17).
ونفهم من ذلك أن مفتاح داود هو صليب السيد المسيح في أحد معانيه الأساسية والذي بواسطته قد تم الفداء والخلاص، واقتحام الجحيم وفك المأسورين، وفتح الفردوس وإدخال الذين رقدوا على رجاء الخلاص إليه، وكل ذلك بقوة الصليب "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (1كو1: 18).
والعجيب أن النبوة في إشعياء تشير إلى الصليب بوضوح فتقول عن مفتاح داود: "وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 23، 24).
ما أعجب هذا الصليب الذي دخل في حجارة الجلجثة وصار وتدًا ثابتًا إلى أبد الدهور وفيه الخلاص وفيه الأمان إذ هو قوة الله للخلاص. وصار عرشًا للملك المسيح "كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ" ملك به على قلوب المفديين الذين اشتراهم بدمه الثمين. وعليه تم تعليق كل مجد بيت الآب. فعلى الصليب تألقت المحبة في أجلى معانيها.
تتغنى الكنيسة بالصليب في يوم الجمعة العظيمة وتردد المزمور "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ الاسْتِقَامَةٍ هو قَضِيبُ مُلْكِكَ" (مز44: 6، عب1: 8). قيل هذا الكلام عن الابن الوحيد الجنس إنه هو الله الذي ملك على كرسيه وهو عرش الصليب.
وعن عبارة "وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 24)، ورد أيضًا في سفر إشعياء عن السيد المسيح "وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا" (إش11: 10). هذا هو مجد المحبة، ومجد الخلاص، ومجد أبوة الله للبشرية، ومجد الكنيسة. هذا هو مجد المصلوب المعلّق على الصليب الذي "َيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 24).
رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
على كلمات السيد المسيح لتلاميذه بخصوص آلامه وصلبه وقيامته
موت السيد المسيح وصلبه في القرآن
آلام المسيح وصلبه
آلام المسيح وصلبه وقيامته: جوهر البشارة
آلام السيد المسيح وصلبه - دراسة بين التاريخ والعلم والطب -


الساعة الآن 06:25 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024