30 - 01 - 2013, 09:51 AM | رقم المشاركة : ( 11 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
الميلاد العذراوي في الفصول الأولى من الإنجيل بحسب متى ولوقا ترد بيانات مفصّلة عن ولادة يسوع المسيح من العذراء مريم. وهي توضح لنا كيف أن الإله الرحيم المحب يتدخَّل لأجل خلاص شعبه تحقيقاً لمواعيده وتتميماً لنبوّات وحيه الطاهر. أما التدخل الإلهي الخلاصي فقد حمل طابعاً معجزياً. ولم يكن حدوث المعجزات التي ارتبطت بمجيء المسيح إلى عالم البشر (بما فيها ميلاده العذراوي) لمجرد سدّ حاجات فردية مختلفة ومتشعّبة، ولم يكن مجرد أحداث متفرِّقة، بل كانت المعجزات كلها مرتبطة معاً ضمن نطاق تتميم المخطط الإلهي للفداء، والسيد المسيح هو مركزه. لم تكن المعجزات المدوَّنة في الوحي الإلهي - سواء كانت في العهد القديم أو الجديد من الكتاب المقدس (خاصة تلك التي تختص بتجسّد المسيح وقيامته من الموت) - لم تكن من صنع ظروف تاريخية أو اجتماعية عارضة، لأننا لو وضعنا نصب أعيننا أن المسيح شخصية غير اعتيادية، فإنه يسهل علينا إدراك ضرورة ارتباط تاريخية دخوله وخروجه من عالم البشر بمظاهر تاريخية معجزية غير اعتيادية. لذلك، ونحن نتعرّض لموضوع ولادته المعجزية من عذراء، لا بد لنا أن نضع في اعتبارنا الظروف الإجتماعية والتاريخية التي رافقت عملية مجيئه إلى عالم البشر. في لوقا 1: 26 - 38، يسجل لنا الوحي الإلهي أن يوسف خطيب مريم كان نجاراً ذا وضع اجتماعي متواضع. واختار اللّه أن يكون حبل مريم بالمخلّص معجزياً بواسطة الروح القدس، وأعلنت بشارة الملاك لمريم أن المسيا المولود منها سيكون له عرش داود بالذات. سمع يوسف عن الأمر وقرر حل خطبته من مريم بهدوء، دون أن يسيء إلى سمعتها. لكن ملاك الرب منعه حتى من تنفيذ الأمر بمثل هذا اللطف، وعرّفه ببراءة مريم وبضرورة عدم تخليه عنها، وأن المولود منها سيكون من الجهة القانونية ابناً له، مع أنّه لم يكن له به أي علاقة جسدية. تقبل يوسف مشيئة اللّه بإيمان، وحلّت الطمأنينة في قلبه، وزال الإنزعاج. وهكذا تأمَّن مولد المسيا من عذراء، في الوقت الذي كانت له عبر يوسف تغطية أبوية قانونية، مثل باقي أقرانه. ينسجم سجلّ ولادة المسيح هذا مع مكانته العظيمة ورسالته العظيمة ورسالته السامية بين البشر. لقد كان مولده ضمن العائلة الروحية والجسدية لشعب اللّه، وخاصة في المحيط الذي تمسّك بتعاليم التوراة والأنبياء. جاء متواضعاً، ومن نسل داود الذي كان مثال العظمة الدينية والروحية والملكية بين اليهود. لكن أسلوب مجيئه المعجزي هذا يعكس أمراً هاماً للغاية. فمن جهة كان يجب أن يكون إلهاً حقّاً، وهذا تمّ عبر أسلوب حبل أمّه به. ومن جهة أخرى كان من المفروض أن يتمتع بطبيعة بشرية حقيقية، وهذا تمّ بولادته من امرأة كما هو الحال مع باقي البشر. لعل تلك الحقيقة المزدوجة هي جوهر ولبّ عملية التجسّد نفسها. فلو أنّ المسيح جاء بدون أحد هذين العنصرين، الإلهي والإِنساني، لما انطبقت عليه أوصاف المسيا المنتظر، ولما تمّت النبوّات التي أشارت إلى مجيئه من عذراء (راجع نبوة إشعياء 7: 14) كما أشارت إلى وجوده الأزلي السابق، وإلى كونه الرب الآتي للبشر بالذات (راجع نبوة إشعياء 9: 6 - 7 ونبوة ميخا 5: 1 - 4). ثم أنه لو لم يتوفر فيه هذان العنصران، الإلهي والبشري، لما كان صالحاً لأن يكون فادي البشر والوسيط بينهم وبين اللّه. أما وأن ملامح كل من ألوهيته وبشريته قد تجلّت في ولادته العذراوية، واستمرت في الوضوح عبر حياته الأرضية وحتى قيامته من الأموات بعد صَلْبه، فإنه لم يعُدْ هناك مجال للشك في كونه هو ابن العذراء، الإله المتجسد، الذي توقَّعت قدومه أجيال المؤمنين. لكن أهمّ جوانب ولادة المسيح العذراوية هو الجانب التاريخي لها. لم تكن الولادة العذراوية مجرد ادّعاء تمسكت به مريم أو أقاربها للتأكُّد من تطبيق نبوّات الأنبياء عن الوليد المنتظر، أو لستر فضيحة صدمت العائلة. صحيح أن مريم كانت أول من عرف بالأمر، لكن معرفتها جاءت قبل إتمامه. لقد أخبرها الملاك بمشيئة اللّه الطاهرة لها قبل أن يتم شيء. ثم أن اللّه كشف عن تلك الحقيقة ليوسف خطيبها، وللرعاة في البرية، وحكماء المشرق الذين ساروا وراء النجم غير المعتاد الذي دلّهم على مكان ولادة الصبي. أمّا أليصابات أمّ يوحنا المعمدان فقد أوحى لها اللّه بتلك الحقيقة وهي في شهرها السادس من الحمل، ولم يتبقَّ على ولادة ابنها سوى ثلاثة أشهر، إذ أنه بمجرد لقاء مريم شعرت بتحرُّك غير طبيعي للجنين الذي تحمله، وقد تفهّمت فوراً، بإرشاد إلهي، أن مريم هي العذراء الموعودة التي كانت ستحمل الملك المنتظر الذي يأتي ابنها ليجهّز الطريق لمجيئه. (راجع الإنجيل حسب لوقا 1: 23 - 55). لا يخفى على بال أحد أن ولادة يوحنا المعمدان نفسه وحبل أمّه به لم تكن خالية من عنصر تدخُّل المشيئة الإلهية المعجزي، لكن مع أن حبل أليصابات بابنها يوحنا جاء في مثل هذا العمر المتأخر، بتدخُّل إلهي لإصلاح عقمها هي وزوجها، فقد كان مولد يوحنا طبيعياً واعتيادياً، وليس بطريقة معجزية غير معتادة، كما هو الحال مع المسيح. (راجع لوقا 1: 5 - 23) أمّا عنصر عدم التشابه الجوهري بين مولد يوحنا المعمدان ومولد المسيح، فقد ارتكز في ولادة المسيح العذراوية. فمع تدخّل الإرادة والقوة البشرية في عملية مجيء يوحنا المعمدان إلى العالم، بقي مجيئه إلى عالم الأحياء نتيجة حبل طبيعي، اشترك فيه زكريا وأليصابات. أما ولادة يسوع فجاءت نتيجة لحبل معجزي من عمل اللّه المباشر لم يكن لرجل أي دور فيه على الإطلاق. فيما عدا ذلك الأمر فإن المسيح، كيوحنا وغيره من البشر، حملته أمه في بطنها تسعة أشهر، كما وأن عملية خروجه من بطن أمّه جاءت على نحو طبيعي معتاد. من هنا جاء تركيز المشيئة الإلهية في توضيح فرادة مجيء المسيح إلى عالم البشر على ولادته العذراوية بالذات، وذلك تشديداً، ليس على انفراده بالدور الخلاصي الذي جاء لتنفيذه فحسب، بل أيضاً لتمتُّعه بطبيعتيه الإلهية والبشرية. صحيح أنه كان في استطاعة اللّه أن يأتي إلى عالم البشر بأسلوب مختلف، لو كانت تلك مشيئته. لكن اختياره لوسيلة الولادة من عذراء حقق ما أراده هو بأسلوب واضح وملفت لانتباه البشر. وقد دلَّ ميلاد المسيح من العذراء مريم على أمرين هامين بالنسبة لهويته. أولاً: إن طبيعته الإلهية لم يكن لها أم، وثانياً: إن طبيعته البشرية لم يكن لها أب. ابن الإِنسان لم يكن ابن أي إنسان. ثم أن هذين الأمرين فصلا المسيح عن الطبيعة الساقطة الموروثة عن آدم التي أصابت باقي البشر. فلولا ميلاده العذراوي لما صَلُح لتنفيذ عملية الخلاص كإنسان، لأنه بدون ذلك يكون قد وُلد في الخطية كباقي البشر. ولولا ميلاده العذراوي ما كان قد حمل تلك الهوية والطبيعة الإلهية غير المحدودة، التي هي وحدها تخوّله حمْل خطايا عدد لا يُحصى من البشر الهالكين. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:52 AM | رقم المشاركة : ( 12 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
تواضع المسيح يخبرنا الرسول بولس في رسالته إلى فيلبي 2: 8 أن المسيح «وضع نفسه» عند إنجازه لعملية الفداء. وقد عبّر كتاب أصول الإِيمان عن هذا الموضوع بقوله: «كان اتضاع المسيح بولادته، وذلك في حالة متدنّية، وبجعله تحت الشريعة، وبتحمُّله مشقات هذه الحياة وغضب اللّه والموت اللعين على الصليب، وبدفنه ومكوثه تحت سلطان الموت إلى حين». بحسب هذا البيان فإن المرحلة الأولى في اتضاع المسيح كانت في ولادته. إنه رئيس المجد الذي يشترك في بهاء وجلال اللّه الآب، لكنه تنازل لكي يتخذ (في وحدة شخصية ومستمرة مع ذاته) طبيعة هي أدنى حداً من طبيعته الأصلية. حتى لو أنه دخل العالم كملك متسربل بالأرجوان ومتوّج بالذهب لكان ذلك تنازلاً كبيراً. أمّا أن يكون قد وُلد كطفل عاجز يتكل تماماً على أمّه، وأن يكون فقيراً لدرجة أنه لم يكن له موضع ليسند رأسه، وكانت حياته معرَّضة للخطر بسبب اضطهاد هيرودس لدرجة أن والديه فرّا هاربين إلى مصر. هذه الأمور تكشف بجلاء عن تنازله الكلي واتضاعه المطلق، لصالحنا. وهذا ما يصعب على عقولنا إدراكه. فمع أنه كان مصدر الشريعة نفسها فقد اعتاد في نموّه على محدودية كيانه البشري، وأخضع نفسه لمتطلبات الختان. وهكذا أخذ مكانه تحت الشريعة كما لو كان يهودياً عادياً. وسكن المسيح في بيت حقير في قرية وضيعة ومحتقرة هي الناصرة، وسط جيران خشنين، وفي محيط ضيق ومنكمش، يهمله دوماً أصحاب الشأن. ومع أنه ربّ الجميع فإنه كان خاضعاً ليوسف ومريم كطفل بشري عادي. كما عمل كادحاً في حانوت النجار، وأخضع نفسه لمشقات المساكين والمتضعين. لقد دفعته خدمته الجهارية للاتصال بكل صنف ولون من البشر، ابتداءً بالضعفاء والخطاة، ونزولاً بالسفلاء والمنحطين، فلم يتردد عن التعامل معهم جميعاً. ومع أنه كان إلهاً قدّوساً طاهراً، فقد عاشر هؤلاء يوماً بعد يوم، وكأنه واحد منهم. وكان يأكل مع العشارين المحتقرين ومع الفريسيين المتكبرين. لقد تعرّض للجوع والعطش وشعر بهما مرّات كثيرة. لم يكن له موضع ليسند رأسه، حتى أنه لم يكن لديه ما في جعبة أدنى الأنبياء في مجتمعه. فقد قاسى عداوة مرّة واضطهاداً من زعماء اليهود. ومع أن اتضاع المسيح استمر بشكل أو بآخر عبر كافة مراحل حياته الأرضية، فقد ازدادت وطأة آلامه لدى اقتراب خدمته الخلاصية من نهايتها. لقد تعرّض في المرحلة الأخيرة من حياته على الأرض لاختبار أعمق وأقسى، هو اختبار الذل والبغض من أعدائه. وصلت المذلة إلى ذروتها عندما جرّه أعداؤه محتقراً ومذلولاً وسط صيحات اللامبالاة القاسية وعواطف الشعب الهائجة ضدّه، والمنادية بجهل وغباء: «اصلبه! اصلبه!». فبدأ يحمل الدينونة الهائلة التي كان قد سبق رآها آتية على الأمّة اليهودية، عبئاً عليه. وكان تألمه وموته على الصليب أشدّ أنواع الموت وأكثرها رهبة وعذاباً. لم تكن الآلام الجسدية كل ما كان عليه أن يتحمّله على الصليب، فبما أنه كان يقوم بعمله الخلاصي عن شعبه، أي بذل نفسه فدية، فإنه عومل كما لو كان هو بالذات قد أخطأ واستحقّ العذاب. حتى أن حضور الآب الذي كان يلازمه في كل لحظة من لحظات حياته حجب عنه في تلك اللحظات تماماً كما يحجب الظلام نور الشمس. أمّا نفسه الحسّاسة فقد تُركت لتتألم وحدها، في خصام عنيف مع قوى الشر الغاشمة التي سعت باستماتة يصعب وصفها في هذا الظرف الأخير، آملة في تفشيل عمله الفدائي. أما صراخ عذابه: «إلهي إلهي، لماذا تركتني؟» فهو دليل على شدّة تألمه. أمّا نحن فلا يمكننا أن نتفهّم ولو جزئياً مشقة ما تحمّله وهو معلّق على خشبة الصليب. ولكننا نعلم أنه لم يعمل أية خطية، ولم يكن للموت أي حق فيه. لقد أخذ مكاننا باختياره، وتحمّل العقاب الذي استحققناه نحن. وهكذا صار لنا كفارة عن خطيتنا. لذلك لا يمكننا مجرّد طرح مسؤولية صلبه على يهود ورومان ذلك العصر وحدهم، بل ما يمكننا فعله هو أننا بالتوبة والاتضاع نعترف بمظهر الجريمة الأوسع - فخطيتنا نحن، وخطيتهم هم، هي التي جلبت عليه تلك الآلام المبرحة. لقد تألم بصورة خاصة لأجل المعذبين أفراداً وجماعات، بغضّ النظر عن العصر الذي يعيشون فيه، لأنه حمل عنهم ذلك الحمل. ثمّ أنّ اتضاع المسيح تُوِّج بدفنه في مقبرة أُعدّت لبشر لم يكن موتهم متوقَّعاً فحسب، بل كان أمراً محتوماً، ففي دفنه اشترك مع كل البشر الذين يموتون ويُدفنون، والذين تنحل أجسادهم وتزول. ولكن جسده لم ينحل، بل قام من الأموات أمجد قيامة بعد ثلاثة أيام. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:52 AM | رقم المشاركة : ( 13 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
مجد المسيح جواباً على السؤال: «على أي أساس يقوم ارتفاع السيد المسيح؟» يقول كتاب أصول الإِيمان: «إن مجد السيد المسيح يقوم على أساس قيامته من الأموات في اليوم الثالث، وصعوده إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللّه الآب، وعودته لدينونة العالم في اليوم الأخير». لا يتعلّق ارتفاع السيد المسيح بطبيعته الإِلهية، التي هي الآن، والتي كانت دائماً مباركة وممجدة، بل أن التمجيد يتعلّق بطبيعته البشرية، لأن طبيعته الإِلهية لا تتغير، ولذلك فهي غير قابلة للزيادة أو النقصان. إن اتضاعه كان مؤقتاً، وقد ابتدأ بولادته وتمّ بدفنه، ولا يمكن تكرار هذا على الإطلاق. أمّا إرتفاع السيد المسيح فإنه مستمر، وقد ابتدأ بقيامته وصعوده، وما زال قائماً حتى الآن، وهو جالس عن يمين اللّه الآب، ويدير أمور ملكوته بصورة مستمرة. إنّ هذا سيكشف عنه بصورة كاملة عند نهاية العالم حين يأتي بمجد أبيه، مع الملائكة القديسين ليدين الأمم ويعيّن لكل فرد مصيره الأبدي. لم تكن قيامة السيد المسيح مجرد خطوة أولية لتمجيده، بل إنها أيضاً واحدة من أعظم حقائق الإنجيل. بهذا العمل انتصر السيد المسيح على الموت، وخرج حيّاً من القبر. هذا هو البرهان على أنّ عمله الفدائي كان ناجحاً تماماً، وكان انتصارهُ انتصاراً تاماً على الموت. وقد أظهرت أيضاً أنّ عمله هذا قد أنجز جميع مطاليب الشريعة الإِلهية التي سنّها اللّه عند الخليقة الأصلية: بأن النفس التي تخطئ يجب أن تموت. لذلك فإن الموت لم يعُدْ له أي حكم عليه، ولا على أيٍ من الذين مات عنهم وافتداهم. لقد برهنت القيامة أيضاً على أنه كان كما قال تماماً، أي ابن اللّه، مساوٍ للّه الآب، اللّه الذي ظهر في الجسد. وبما أنه تألم ومات ليس بسبب خطية ارتكبها، بل كالقائد الذي ينوب عن شعبه، فإن قيامته هي الضمان على أنه في الوقت المعيّن سيقيم أيضاً شعبه المنتسب إليه انتساباً حيّاً في قيامة مجيدة. ذلك يعني أنّ الإنجيل هو حق، وأنّ الشيطان قد دُحر نهائياً. انتصرت الحياة على الموت والحق على الباطل والخير على الشر والسعادة على البؤس. كل تلك الانتصارات هي أبدية دائمة كما أبرز الرسول بولس أهمّيتها الحقيقية القصوى: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ.... وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي خَطَايَاكُمْ! إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً هَلَكُوا! إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ. لأنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. (المسيح هو الباكورة، ثم يتبعه الذين له، والذين سيقيمهم عند مجيئه الثاني)» (1 كورنثوس 15: 14 - 23). النتيجة الأولى والأكثر تأثيراً للقيامة ظهرت في التغيير التام الذي حدث في عقول التلاميذ وقلوبهم. فمع أنهم بعد الصلب كانوا مثَبطَّي العزم تماماً، ومع أنهم أوشكوا على فقدان الإِيمان بالمسيح كالمسيّا الحقيقي المنتظر، فإنهم على ضوء القيامة أصبحوا مقتنعين اقتناعاً كاملاً أن مسيحهم الذي قام من الأموات هو ابن اللّه، المسيّا الموعود به، مخلّص العالم. ومنذ ذلك الحين لم يزحزحهم شيء عن اعتقادهم هذا، فخرجوا يبشرون في كل مكان، وأظهروا أنهم مستعدون لأن يتألموا وحتى أن يموتوا إذا دعت الضرورة لأجل الإنجيل. ونحن نعلم أن بعضهم استشهدوا في سبيل خدمتهم له، والتاريخ يخبرنا أن أكثر تلاميذ السيد المسيح انتهت حياتهم الأرضية بالاستشهاد لأجل مسيحهم. والنتيجة الثانية لارتفاع السيد المسيح كانت صعوده. يذكر البشير مرقس بشكل موجز أنه بعد أن تكلّم المسيح مع التلاميذ «ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ» (مرقس 16: 19)، ويمين اللّه هو بالطبع مركز الإكرام والتأثير والقوة والجلال. يقول البشير لوقا إن المسيح أَخْرَجَ التلاميذ «إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (24: 50، 51). أمّا سرد حادثة الارتفاع سرداً وافياً فقد قام به لوقا في سفر الأعمال. فبعد تدوين كلمات يسوع الأخيرة للتلاميذ يصف الوحي الإِلهي: «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا ٱرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالا: أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاء» (أعمال الرسل 1: 9 - 11). بهذا الخصوص قال أحد مشاهير اللاهوتيين: كان صعود المسيح بكل أقنومه، كالإله المتجسد. ابن اللّه المتسربل بطبيعتنا ذات الجسد الحقيقي والنفس الناطقة، هو الذي صعد. كان صعود المسيح منظوراً. فالتلاميذ شاهدوا كل هذه العملية، ورأوا المسيح يرتفع تدريجياً عن الأرض و«يصعد» حتى حجبته سحابة عن مرآهم. كان الصعود انتقالاً محلياً لشخصه من مكان إلى آخر، من الأرض إلى السماء، فالسماء هي إذن «مكان». أمّا مكان وجود السماء بالنسبة للأرض فلم يكشف عنه الوحي الإلهي، ولكن حسب عقيدة الكتاب المقدس، السماء هي مكان محدد أو معيّن من الوجود، حيث يظهر حضور اللّه بطريقة خاصة، وهو محاط بملائكته الأبرار.. وبأرواح قدّيسيه الأبرار الذين ماتوا على رجاء قيامته. السماء هي موطن السيد المسيح، وهي عرشه وهيكله. فالصعود أو الارتفاع شكَّلا الوجه المقابل لنزوله إلى الأرض. في فصل سابق كنا قد بحثنا في موضوع وجوده السابق ورأينا أنه قد «أتى» أو «أُرسل» في مهمة خاصة للفداء. وإذ أتمّ ذلك العمل بنجاح تام، عاد إلى موطنه السماوي لاسترداد مكانته الأصلية العليا. هذا وعالمنا الحاضر بما فيه من معالم الشرّ ليس المكان الملائم لوجود الفادي في حالة مجده الكامل، ولا يمكن أن يصلح عالمنا لإِقامة المسيح الدائمة إلاّ بعد أن يكون قد تعرّض لعملية تطهير وإعادة خلق تجعل من العالم الحاضر هذا سماء جديدة وأرضاً جديدة. ثم بما أنّ السيد المسيح قد جهّز كفّارة فعلية، وأوفى كل المتطلبات القانونية المترتبة على شعبه، فإنه كان من الضروري أن يضع حياته في من خصّتهم تلك الكفّارة، وذلك بواسطة عمل الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يجدد نفوس البشر، ويعدّهم إعداداً كاملاً للوطن السماوي. ولكي ينجز ذلك فإنه يقوم بإنارة ألبابهم الروحية، وحثّهم وتوجيههم إلى الإِيمان والتوبة، ومِنْ ثمَّ يدفع بهم في مسيرة مطَّردة نحو التقديس. هذا وإنه بدون قوة الروح القدس المجددة والخلاّقة يبقى البشر تحت عبء خطاياهم دون انتفاع بعمل المسيح الخلاصي. ولكن مباشرة الروح القدس لعمله الجليل هذا تفترض أن تسبقها عودة المسيح المخلّص لمجده الأصلي مع الآب. لقد قال المسيح لتلاميذه: «خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا يَأْتِيكُمُ ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يوحنا 16: 7). فالبركة العظيمة الخاصة التي تنبأ عنها الأنبياء وقالوا إنها من ميزات عصر المسيّا، هي بركة الروح القدس. أما منح الكنيسة تلك البركة فكان مرتبطاً بصعود الفادي. لقد تمجّد لكي يمنح التوبة ومغفرة الخطايا، ولكي يجمع شعبه من كل الأمم وفي كل العصور ليصبح عمله الخلاصي فخراً في حياة المؤمنين. وكان عرشه السماوي أنسب مكان للكشف عن كمال عمله الكفّاري. ومعاملات اللّه مع البشر في هذا العالم تشتمل على ثلاثة أشكال متميزة، لكل أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس صلة خاصة بأحدها. في تدبير اللّه الأبدي كان يوجد ما يمكننا أن ندعوه تقسيم العمل بين أقانيم اللاهوت، واتِّباع ترتيب معيّن للحوادث. كان عمل الآب في الخلق والعناية الضابطة لكل شيء. وقد امتدّ عبر حقبة العهد القديم وحتى ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. أما عمل الابن فقد اختصَّ بعملية الفداء وقد ابتدأ بولادته في بيت لحم واستمر حتى يوم الخمسين. ففي أثناء ذلك الوقت قام بتجهيز كفارة عملية، وأنجز كل المطاليب الشرعية عن شعبه، بحيث يمكن أن يُنقلوا من حالتهم في الخطية والشقاء إلى حالة الخلاص. إنّ عمل الروح القدس يختص بتطبيق عملية الخلاص الكفارية التي حضّرها الابن، وترسيخها في حياة المؤمنين، وقد بدأ عمل الروح القدس هذا بشكله الكامل والواضح في يوم الخمسين عندما تأسست كنيسة العهد الجديد. ويمتد هذا العمل الخاص للروح القدس حتى النهاية وحتى اكتمال عملية الخلاص وتجميع الكنيسة. والنتيجة الثالثة لارتفاع المسيح هي جلوسه عن يمين اللّه. من هناك يوجّه أمور ملكوته ويحافظ على نظامه الكامل. ولكي يكون حُكم وساطته ناجحاً تماماً، كان من الضروري أن يُعطَى حكماً مطلقاً حيث قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18). هذا ما قاله عندما عهد إلى تلاميذه بتبشير العالم أجمع، ولقد سجّل الوحي الإلهي على لسان بولس قوله: «لأنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». ثم قال: «آخِرُ عَدُّوٍ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ» (كورنثوس الأولى 15: 25، 26). وقد أمر المسيح تلاميذه أن يذهبوا «وَيُتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ» (متى 28: 19). ويؤكد انتماء تلك الشعوب للإله الحقيقي بواسطة المعمودية «وَعَمِّدُوهُمْ بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»، والرسالة التي يجب أن يتضمنها ذلك التبشير العام هي بالطبع اللّب الحيوي للإنجيل «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 20). هذا وسنبحث في الموضوع مليّاً عندما ندرس موضوع «المسيح كملك». والنتيجة الرابعة والأخيرة لرتفاع المسيح ستكون مجيئه الثاني بقوة ومجد عظيم، ليكون الديّان للعالم أجمع. فسيظهر حينئذ في جسد قيامته محاطاً بالملائكة، وسيجلس على عرش مجده. (متى 25: 31). «سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ» (سفر الرؤيا 1: 7). هذا هو يسوع ذاته الذي حينما كان على الأرض رفضه شعبه، وحوكم كمجرم أمام محكمة بيلاطس، ودين بظلم وجلس مع الأثمة. وسينال الناس من شفتي السيد خبر ثوابهم أو عقابهم النهائي. وحينئذ، إذ يكون عهد وساطته قد تم، وتُوّج بالنجاح الكامل، فإنه يسلّم الملكوت للآب، ويستعيد علاقته الأصلية بأقنومي الثالوث الآخرين. ويشترك تماماً بالمجد الذي كان له مع الآب قبل إنشاء العالم. وسيملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد على المفديين، «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلابْنُ نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (1 كونثوس 15: 28). هذا إذن ما نعنيه بارتفاع المسيح، ويجب أن نعيد إلى ذاكرتنا أنه لم تكن طبيعة يسوع الإلهية هي التي ارتفعت بل طبيعته البشرية هي التي ارتفعت، أي أن الإِنسان يسوع المسيح هو الذي أخذ جسد القيامة وصعد إلى السماء، والذي يشترك في حكم الوساطة، والذي ستراه كل الشعوب حينما يأتي ثانية إلى العالم في اليوم الأخير. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:53 AM | رقم المشاركة : ( 14 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
عصمة المسيح التعرض لأمر عصمة المسيح وعدم ارتكابه لأي خطأ أو شرّ، وتوافر كافة مزايا الكمال والطهارة والقداسة في حياته، هو أمر في غاية الحيوية بالنسبة للعقيدة المسيحية عن المسيح بمجملها. وعصمة المسيح هي العمود الفقري لصموده النهائي وثبات مؤهلاته لأن يكون وسيطاً حقيقياً بين اللّه والناس. فلو أنه أخفق ولو في زلّة واحدة خلال حياته على الأرض لتهدّم كل البناء الذي جاء لإقامته. عصمة المسيح قبل كل شيء هي المحك الأساسي لكون المسيح ذا طبيعة إلهية. ثم أنها الدليل على أنه كان الإِنسان الصالح الوحيد الذي بمقدرته، المبنيَّة على الطهارة والكمال، تمكّن من حمل عقاب الآخرين. إضافة إلى ذلك فإن قيامة المسيح من الموت ما كانت ممكنة إطلاقاً لو لم يتمتع المسيح بتلك العصمة المطلقة عن الخطأ. لعل تلك الحقائق هي من أكثر إعلانات الإنجيل نصاعة وجلاء. ومن المناسب أن نبدأ في عرض موضوعنا هذا بالنظر إلى أوصاف المسيّا التي قدَّمتها نبوّات أنبياء وأسفار العهد القديم. فقد كان من المفروض فيه أن يكون تقيَّ اللّه الذي لم ير فساداً (مزمور 16: 10) وأن يكون عمانوئيل وليد العذراء الذي يعرف «عبد اللّه الذي يعقل الخير» (إشعياء 7: 15، 16)، و«عبد اللّه الذي يَعْقِلُ، يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدّاً... َبِحُبُرِهِ شُفِينَا... وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْماً، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ... ٱلْبَارُّ...» (إشعياء 53). من هنا كان يجب على الملاك الذي بشرّ مريم أن يُعرّفها أن المولود منها هو « ٱلْقُدُّوسُ... ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (لوقا 1: 35). ولم تكن الشهادة لعصمة المسيح في الوحي الإلهي مجرد تصريحات، بل أنها كانت مدعمة بحقائق ملموسة وظاهرة للعيان، وموضوعية لدرجة أذهلت من عاصروا المسيح، ولفتت انتباههم. هذا مهم للغاية، لأن الكثيرين أُخذوا بمعجزات المسيح لدرجة أنهم اعتقدوا أن ذلك هو السبب الجوهري الوحيد الذي سحر الجموع التي تبعته وآمنت به. صحيح أنّ الأغلبية الساحقة بين الذين تبعوا المسيح في مطلع خدمته اجتذبتهم القوة الخارقة التي سيطر فيها على العوامل الطبيعية، لكن الواقع أن ذلك لم يكن العامل الوحيد لاجتذاب أي من أتباعه ورسله الذين التصقوا به وكرّسوا حياتهم لخدمته. لقد كان لأخلاقه لمعان وطهارة، وكان لأسلوب ودوافع حياته أعظم الأثر وأعمق الوَقْع على هؤلاء، بل لعلّ ذلك هو العامل وراء حياة الطهارة والقداسة التي مارسها ملايين من المسيحيين عبر الأجيال. ولم تأت الشهادة لعصمة المسيح من ملائكة اللّه والمؤمنين فحسب، بل أيضاً من بعض أعدائه. مثال ذلك ما ورد على لسان الخائن يهوذا الذي أسلمه للموت مقابل حفنة نقود. فهو إذ شعر بالندم على عمله المرذول هذا، ألقى بتلك النقود على الأرض أمام الذين أعطوها له وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئ» (متى 27: 4). ثم أن زوجة الحاكم بيلاطس التي أزعجها منامها، خبر القبض على يسوع وتسليمه لسلطان زوجها للمحاكمة، قالت لزوجها: «إِيَّاكَ وَذٰلِكَ ٱلْبَارَّ» (متى 27: 19)، وبيلاطس نفسه، إذ أدرك سمو المسيح وطهارته، وبعد أن منعه جُبْنه وخوفه من اليهود على مركزه من إطلاق سراح المسيح قال لهم: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هٰذَا ٱلْبَارِّ» (متى 27: 24)، أما ذلك المذنب الذي كان أحد الاثنين اللذين صُلبا معه، إذ أدرك براءة وطهارة المسيح، قال: «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ، لأنَّنَا نَنَالُ ٱسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا، وَأَمَّا هٰذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ» (لوقا 23: 41). كما أنّ القائد الروماني للمجموعة العسكرية التي أشرفت على صلبه، إذ صعقته حقيقة السمو الأخلاقي والأدبي للمسيح المصلوب، قال: «حَقّاً كَانَ هٰذَا ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (متى 27: 54). لكن شهادة المؤمنين والرسل لعصمة المسيح لا تقلّ أهمية عن تصريحات هؤلاء، خاصة وهم مجموعة الناس الذين تقرّبوا إليه وتعرّفوا على ما قد نسميه بحياته الخاصة. وهم بالطبع أول من تقع عليه مسؤولية الردّ على ادعاءات المعارضين، ولذلك كان لزاماً عليهم أن يكونوا الأكثر حرصاً على عدم التورُّط في تصريحات أو أقوال يستعملها أعداؤهم لمحاولة إثبات ضلالهم. ومع ذلك نجد أن التردد لم يطرأ على بالهم وهم يؤكدون عصمة سيدهم عن الخطأ، فقال الرسول بطرس عنه: «أَنْتَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ ٱلْحَي» (يوحنا 6: 69). و«لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلا وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ» (1بطرس 2: 22)، وقال الرسول يوحنا عنه: «لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1 يوحنا 3: 5). أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقال: «مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا (ولكن) بِلا خَطِيَّةٍ» (4: 15)، وقال: «بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلا عَيْبٍ» (9: 14). ثم يأتي دور الرسول بولس، مضطهد أتباع المسيح، الذي اهتدى بعد ذلك وقال عن المسيح: «لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً» (2كورنثوس 5: 21). ويسجّل لنا الوحي الإِلهي كيف وضع المسيح نصب عينيه منذ البداية الطاعة الكاملة والمطلقة لشريعة اللّه، وكيف أنه لم يتزحزح عن إصراره هذا حتى قاده ذلك إلى الموت (فيلبي 2: 8). وتدل تصريحات المسيح نفسها على وعيه الدائم بضرورة القيام دوماً بما يُرضي اللّه (يوحنا 9: 4). كان يسوع في صراع مستمر ضد مغريات إبليس الهادفة لإسقاطه وتفشيل مهمته الخلاصية، والواقع أنّ مواجهته المباشرة مع عدو الخير كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية التحضير لخدمته الجهارية، بل إنها كانت مفتاح تلك الخدمة، لأنها كانت تمثّل الحاجز الرئيسي الذي كان يجب عبوره قبل البدء في تلك الخدمة. عندما نقرأ ما دوّنه الوحي الإِلهي بهذا الخصوص نرى أن محاولات إغراء إبليس ليسوع في البرية كانت مبنيَّة على نفس عناصر الإغراء التي تعرّض لها أبوانا آدم وحواء (قارن تكوين 3: 1 - 7 مع لوقا 4: 1 - 13). تلك العناصر تركزت على شهوة الجسد (الأكل) وشهوة العيون (المنظر الخارجي المغري للأشياء) وشهوة العظمة الاجتماعية (أي تحسين وضع الفرد ومركزه الاجتماعي). وبينما الرغبة في أكل ثمرة الشجرة المحرّمة والتمتع بمظهرها الجميل، والسعي للوصول إلى مركز الإله الخالق (الذي وعدت الحية حواء به) كانت قد أضعفت صمود حواء وآدم وأسقطتهما في العصيان، فإن المسيح استطاع، ورغم شدة جوعه بعد أربعين يوماً من الصوم والضعف الجسدي، أن يردّ إبليس ويقهره بعد كل هجوم. لم يثبت آدم وحواء في كلمة اللّه ومواعيده، وصدّقا تشكيك الشيطان في صدقها. أما يسوع فكان متسلحاً بكلمة الحق الموحى بها من اللّه، التي بواسطتها صدّ كل تيارات الهجوم الشيطانية. عندما عاود إبليس الكرَّة الهجومية محاولاً إغراء يسوع عن تكميل مهمته الخلاصية، كان يسوع واعياً لذلك، ووقف له بالمرصاد. وقد أخبر يسوع تلاميذه بذلك قائلاً: «... رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ (أي الشيطان) يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يوحنا 14: 30). ولعل أبرز وأعظم ما ورد في الوحي الإِلهي من أدلّة على عصمة يسوع عن الخطأ، ما قاله هو في مواجهته للقيادات اليهودية الدينية التي بنَتْ حياتها على تقوى خارجية زائفة مفعمة بالرياء. فبعد أن قال لهم إنهم ينتسبون إلى إبليس الكذَّاب والقتّال، وإنهم ينفذون شهواته الشريرة، نراه يتحداهم مشيراً لعصمته، وإلى تلك الهُوَّة الأخلاقية والروحية الساحقة التي تفصله عنهم، فيقول: «مَنْ مِنْكُمْ (يستطيع أن) يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يوحنا 8: 46). والمسيح هنا لم يكن يقصد التمييز بين كماله وعصمته، وبين شرّ وفساد ورياء هؤلاء القادة فحسب، بل أنه طرح وبدون تردد حقيقة تميُّزه عن كافة الجنس البشري، بذلك الكمال وتلك العصمة. صحيح أن يسوع في تجسُّده خضع لكافة مغريات وتجارب السقوط في العصيان التي يتعرض لها البشر، لكنه هو وحده لم يسقط، وهو وحده لم يكن من الممكن أن يفشل. لقد كان من المستحيل أن يرتكب خطية، لأنه وهو في طبيعة بشرية محدودة كان لا يزال يتمتع بطبيعة إلهية. والله لا يمكن أن يرتكب خطأ. هذا أمر جوهري للغاية بالنسبة لتأهله لأن يأخذ على عاتقه تلك المهمة الخلاصية الهامة التي حملها. من هنا كان لعصمته وكماله حق تحمُّل نتيجة خطية عدد لا يُحصى من بني البشر. من هنا أيضاً مثَّل انتصاره على الموت، الانتصار على الخطية التي تقودهم إلى الموت وبالتالي تأمين الحياة الأدبية الأكيدة لهم، وليس مجرد الوفاء بمتطلبات العدالة الإلهية بالنيابة عنهم. (راجع 1 كورنثوس 15: 51 - 58). |
|||
30 - 01 - 2013, 09:54 AM | رقم المشاركة : ( 15 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
ابن الله وابن الإنسان أولاً: المسيح ابن الله: لقب «ابن الله» من أهم الألقاب المنسوبة للمسيح، فهو اسم يسترعي الكثير من الانتباه، لكرامة المسيح، وخاصة من جهة ألوهيته التي تدل على أنه مؤهل تماماً للتحدُّث عن أمور الله. إنه ذلك الجانب من طبيعته الذي حاز إعجاب نثنائيل عِندما أدرك مندهشاً أن المسيح يعرف ماضيه المستور، فهتف: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا 1: 49). أمّا المعارضة لطبيعة المسيح الإلهية والاشمئزاز منها فقد اتضحت جلياً في محاولة التشكيك التي أجراها إبليس عندما تحدّى المسيح قائلاً: «إن كنت ابن الله، فقُلْ أن تصير هذه الحجارة خبز» و«إِنْ كُنْتَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ فَٱطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ» (أي من جناح الهيكل العلوي) (متى 4: 3، 6). هذا حدث أيضاً عند إخراج المسيح للشياطين الذين صرخوا عند خروجهم: «مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ ٱلْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟» (متى 8: 29). أما تعليق المسيح على القصد من موت لعازر وإقامته له من الموت فكان: «لأَجْلِ مَجْدِ ٱللّٰهِ، لِيَتَمَجَّدَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ بِهِ» (يوحنا 11: 4). أمّا اعتراف التلميذ بطرس عن المسيح في قوله له: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (متى 16: 16) فكان نتيجة لإدراكه لإلوهية المسيح. وصرّح البشير يوحنا أيضاً أن القصد من كتابة بشارته هو «لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّٰهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 20: 31). يجب أن نفهم هذين التعبيرين «الآب» و«الابن» على أساس وجهة نظر المفهوم العبري في الكتاب المقدس أن «الآب» و«الابن» هما نظيران متطابقان ومتساويان في الطبيعة والكيان. ففي كل مرة يدعو فيها الكتاب المقدس المسيح بلقب «ابن الله» يقصد أن يشدّد على حقيقة وأصالة ألوهيته. فهو ذو الطبيعة نفسها التي للآب تماماً. وكما أن أي ابن بشري تكون طبيعته بشرية مطابقة لطبيعة أبيه، هكذا المسيح ابن الله هو مثل أبيه في جوهر طبيعته الإلهية، تلك الطبيعة التي لا يشارك فيها الله أي مخلوق. الآب والابن والروح القدس هم واحد، معاً في جوهرهم وطبيعتهم وأزليتهم، وهم متساوون في القدرة والمجد، كانوا ولا زالوا موجودين في أقانيمهم الثلاثة المميزة. وعلينا أن نتذكر أن الاسمين «الآب» و«الابن» ليسا بالضرورة كافيين للتعبير الكامل والتام عن العلاقة التي تربط الأقنومين الأول والثاني في الثالوث، ومع ذلك يبقى هذان الإسمان أفضل ما لدينا، نحن البشر، للتعبير عن هذه العلاقة. وعلاوة على ذلك فإنهما يعبّران لنا في الكتاب المقدس ليس فقط عن وحدتهما في الجوهر والطبيعة، بل أيضاً عن علاقة الودّ والمحبة المتبادلة بينهما. المسيح يسوع هو ابن اللّه الازلي، أمّا نحن فنصير أولاد الله المتبنّين بالنعمة. المسيح هو ابن الله بحقه الأزلي الخاص، أمّا نحن فنصبح أولاداً لله بالتبني عندما نُولد من جديد وتصبح الحياة الجديدة في المسيح من نصيبنا، أي عندما يُحسَب لنا برّه وطهارته. وصيرورتنا أولاداً للّه لا تعني أن تكون لنا الألوهية التي للمسيح، لكنها تعني أننا قد عدنا إلى مشابهة أخلاقية وروحية أكمل من تلك التي كانت لنا عند الخليقة، والتي تشوهت وتحطّمت ونُقضت معالمها بواسطة الخطية. اللّه هو أب الرب يسوع المسيح بمعنى خاص يختلف كل الاختلاف عن كونه أب المؤمنين به. صحيح أن يسوع تحدّث لتلاميذه عن اللّه كأبيهم الذي في السموات، لكنه في الوقت نفسه أظهر أن أُبوَّة اللّه لهم هي بمعنى محدود وليس بالمعنى غير المحدود الذي يرتبط هو فيه بأُبوَّة الآب. فبنوّتهم للّه هي نتيجة ارتباطهم بالمسيح الذي هو الابن الحقيقي الكامل لله. وأوضح المسيح ذلك في قوله لتلاميذه: «ٱلآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لأنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ ٱللّٰهِ خَرَجْتُ» (يوحنا 16: 27). هذا ما عبّر عنه البشير يوحنا بجمال باهر حين قال: «أَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلادَ ٱللّٰهِ، أَيِ ٱلْمُؤْمِنُونَ بِٱسْمِهِ» (يوحنا 1: 12). لا يتفق الكتاب المقدس مع النظرية الشائعة بين الذين تشرّبوا الفلسفة الدهرية صاحبة النظرية التي تدعي أن الجميع أخوة. فالكتاب المقدس يعلمنا أن البنوَّة لا تُبنى على العلاقة التي نتجت عن كون اللّه هو خالق البشر أجمعين، إنما هي مبنية على العلاقة الروحية التي يحصل بواسطتها البشر على الخليقة الجديدة في المسيح. وكخليقة جديدة يصبح المؤمنون أولاداً للّه، بإيمانهم بالمسيح. إنّ الله هو أب الجميع بمعنى أنه مصدر حياتهم، لكن أولاده الحقيقيين بين البشر هم الذين «وُلدوا من جديد» (يوحنا 3: 3). «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2 كورنثوس 5: 17). «لأنَّ كُلَّ ٱلَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ ٱللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ» (رومية 8: 14). كل المسيحيين الحقيقيين هم «أَبْنَاءُ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (غلاطية 3: 26). «فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ ٱلْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ» (غلاطية 3: 29). فمعنى كلمة «أب» - خارج دائرة التبني بواسطة المسيح - معنى سطحي جداً، لأنه في المسيح وحده نقدر أن نعرف الله بالحقيقة: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلابْنَ إِلا ٱلآبُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متى 11: 27). أمّا أولئك الذين يبقون في خطيتهم وسقوطهم، دون تجديد روح الله فهُمْ ليسوا أولاداً للّه، بل هم أولاد إبليس لأنهم كإبليس وشركاء له في طبيعته الشريرة، لأنهم «بِٱلطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ ٱلْغَضَبِ» (أفسس 2: 3). قال يسوع لمقاوميه: «أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُو» (يوحنا 8: 44)، «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي، وَأَنْتُمْ تَعْمَلُونَ مَا رَأَيْتُمْ عِنْدَ أَبِيكُمْ... لَوْ كَانَ ٱللّٰهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ وَأَتَيْتُ» (يوحنا 8: 38 - 42). هذا ما علّمه أيضاً الرسول بولس، عندما قال للساحر: «أَيُّهَا ٱلْمُمْتَلِئُ كُلَّ غِشٍّ وَكُلَّ خُبْثٍ! يَا ٱبْنَ إِبْلِيسَ! يَا عَدُوَّ كُلِّ بِرٍّ! أَلا تَزَالُ تُفْسِدُ سُبُلَ ٱللّٰهِ ٱلْمُسْتَقِيمَةَ» (أعمال الرسل 13: 10). وعندما نؤمن بالمسيح نصير أولاداً للّه لأنه «سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ» (أفسس 1: 5)، أما المسيح فهو ابن الله بنوة أصيلة، إذ أنه قال عن نفسه: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30). و«اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا 14: 9) و«مَنْ لا يُكْرِمُ ٱلابْنَ لا يُكْرِمُ ٱلآبَ» (يوحنا 5: 23)، وقال بولس عنه: «صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُورِ» (كولوسي 1: 15) وإن «ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ» (2كورنثوس 5: 19) و«فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاهُوتِ جَسَدِيّ» (كولوسي 2: 9) أما كاتب الرسالة إلى العبرانيين فقد قال إن المسيح « بَهَاءُ مَجْدِهِ (مجد اللّه)، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ» (عبرانيين 1: 3). وإضافة إلى كل ذلك فإن عظات السيد المسيح التي نجدها في العهد الجديد تدل على إحساسه ووعيه الدائم بألوهيته، لأنه كان يدرك النوعية الخاصة لعلاقته باللّه الآب، وكذلك كان اللّه الآب مدركاً كل الإدراك لبنوّة المسيح يسوع الفريدة. ومساواة المسيح للّه ووحدته معه واضحان في اللقبين «الآب» و«الابن». ويبدو جلياً من جواب اليهود للمسيح عندما شفى مريضاً في يوم السبت، قال: «أبِي يَعْمَلُ حَتَّى ٱلآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» ونتيجةً لكلامه: «كَانَ ٱلْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ ٱلسَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ ٱللّٰهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِٱللّٰهِ» (يوحنا 5: 17، 18). بعد ذلك حاولوا قتله رجماً بالحجارة قائلين له: «لَسْنَا نَرْجُمُكَ لأجْلِ عَمَلٍ حَسَنٍ، بَلْ لأجْلِ تَجْدِيفٍ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ إِنْسَانٌ تَجْعَلُ نَفْسَكَ إِلٰه» (يوحنا 10: 33). والقول إن المسيح هو ابن اللّه، كان محور تهمة رئيس الكهنة له، التي أدّت لإصدار مجلس السبعين (السنهدريم) الحكم بالموت على المسيح (متى 26: 63 - 66)، وقتئذ قال اليهود لزعمائهم: «لَنَا نَامُوسٌ، وَحَسَبَ نَامُوسِنَا يَجِبُ أَنْ يَمُوتَ، لأنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ ٱبْنَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 19: 7). أما يسوع فلم ينكر تلك التهمة قط، بل على العكس اعترف علانية بصحة قولهم. وقد علّق على موضوعنا هذا أحد كبار علماء تفسير اللاهوت قائلاً: «كما أن المسيح أخذ عن أبيه السماوي الطبيعة الإِلهية، وهو أمر متميز ومختلف عن ناسوته. يشير الكتاب المقدس إلى المسيح باسمين فيدعوه أحياناً ب ابن اللّه». وأحياناً أخرى ب «ابن الإِنسان». أما عبارة «ابن الإِنسان» فلا يمكن فهمها إلا على أساس أنها نموذج لما يجب أن يكون الإِنسان عليه. هذا هو معنى الأصل العبري ل «ابن الإِنسان» والذي يشير على أنه ذرية آدم. كذلك فإن تسمية المسيح ب «ابن اللّه» تشير إلى ألوهيته وكيانه الأزليين. فمن البديهي أن يشير كونه «ابن الإِنسان» إلى طبيعته البشرية. (مبادئ الديانة المسيحية - الفصل الأول ص 442). يتضح لنا إذن أن لقب «ابن اللّه» كان المقصود منه إبراز المسيح في طبيعته الجوهرية كإله، فالذي وُلد من نسل داود بحسب الجسد هو أيضاً نفسه الذي تبيّن بقوة أنه ابن اللّه (رومية 1: 3، 4)، وذاك الذي، حسب الجسد، أتى من نسل عبراني قد تعيَّن أيضاً «عَلَى ٱلْكُلِّ إِلٰهاً مُبَارَكاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (رومية 9: 5). فعلينا أن نؤمن بالابن كما نؤمن بالآب، وأن نكرم الواحد كما نكرم الآخر. ثانياً: المسيح ابن الإِنسان: استعمل يسوع لقب «ابن الإِنسان» مراراً كثيرة عندما أشار إلى نفسه، ويبدو أن هذا اللقب كان مفضّلاً لديه. وكانت عبارة «ابن الإِنسان» موضوع الكثير من الدراسات والنقاش عبر التاريخ المسيحي. والمعنى الحقيقي والرئيسي الذي ينطوي عليه لقب «ابن الإِنسان» هو أنّ يسوع كان إنساناً بكل معنى الكلمة. إنه الإِنسان المثالي الكامل. نرى في المسيح البشرية في كمالها، دون تشويه ولا تلوُّث، وهو المثال الذي بواسطته ينسَّق البشر حياتهم. وبما أن للمسيح طبيعة بشرية، فهو ذو علاقة حيوية بجميع أعضاء الجنس البشري، وبناء على تدبير اللّه، له الحق في تمثيلهم جميعاً أمام الحضرة الإِلهية.يستعمل المزمور الثامن هذا اللقب إشارة إلى البشر عامة فيقول: «مَنْ هُوَ ٱلإِنْسَانُ حَتَّى تَذْكُرَهُ وَٱبْنُ آدَمَ حَتَّى تَفْتَقِدَهُ؟» (مزمور 8: 4). لكن العهد الجديد إذ ينسبه للمسيح فإنه يعطي الاصطلاح مدلولات تفوق البشر، فيقول سفر دانيال، من ضمن نبوة عن عودة المسيح إلى السماء: «وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لا يَنْقَرِضُ» (دانيال 7: 13، 14). هذا فهمه اليهودي بدون تردد على أنه إشارة لهويّة المسيّا المنتظر. وأشار المسيح إلى تلك النبوة وهو على يقين تام من انطباقها عليه فقال: «وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلامَةُ ٱبْنِ ٱلإِنْسَانِ فِي ٱلسَّمَاءِ. وَ... جَمِيعُ قَبَائِلِ ٱلأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ آتِياً عَلَى سَحَابِ ٱلسَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. فَيُرْسِلُ مَلائِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ ٱلصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ ٱلأَرْبَعِ ٱلرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ ٱلسَّمَاوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَ» (متى 24: 30، 31 - راجع أيضاً لوقا 21: 27). تُنتقى الأسماء عادة بقصد إبراز ملامح فريدة معينة، كإطلاق لقب على إنسان ما بقصد إظهار خلاصة شخصيته. فيُقال مثلاً عن فلان «الطيب القلب» وعن آخر «النبيل». واللقب هنا يدل على شخصية صاحبه ويعطي فكرة عن نوعيته. فالناس لا يُسمُّون تبعاً لملامح مشتركة مع غيرهم، بل تبعاً لتلك الملامح الخاصة التي تميّزهم عن أندادهم من البشر. أما المسيح فقد تميّز منذ الأزل بالألوهية التي شارك فيها الآب والروح القدس. فهو شريك لكل من أقنومي اللاهوت الآخرَيْن في ميزات حضورهما في كل مكان، وأزليتهما، وعلمهما بمطلق كل شيء. أما موضوع التجسُّد فكان مختصاً بالمسيح وحده. تلك هي ميزته الخاصة في نطاق اللاهوت. من هنا لم يكن مدهشاً أن يكون «ابن الإِنسان» هو لقب المسيح الزائر المتوقع للأرض ولساكنيها. ولا بد من ملاحظة أن المسيح استعمل لقب «ابن الإِنسان» عندما تحدث عن مجيئه (الإنجيل بحسب متى 24: 44 و25: 31 و26: 24): «... لأنَّهُ فِي سَاعَةٍ لا تَظُنُّونَ يَأْتِي ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ». «وَمَتَى جَاءَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ ٱلْمَلائِكَةِ ٱلْقِدِّيسِينَ مَعَهُ». «إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ». كما جاء في الإنجيل بحسب لوقا 19: 10 «ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ». «فَإِنْ رَأَيْتُمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَّوَل» (يوحنا 6: 62). لقد دُعي لقب «ابن الإِنسان» على نحو ملائم جداً لقباً «انتقالي» ليس فقط لما يعنيه ذلك من تكاتف المسيح مع الجنس البشري تكاتفاً تاماً عند تجسده، بل أيضاً لما في ذلك من إشارة لأصله الأسمى قبل التجسُّد. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:54 AM | رقم المشاركة : ( 16 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
إنسجام الطبيعتين لعل أهم وأخطر الانحرافات العقائدية في تاريخ المسيحية هو ما يتعلَّق منها بتشويش العلاقة القائمة ما بين طبيعتي المسيح الإِلهية والبشرية. والواقع أنّ تلك الانحرافات تركزت بصورة خاصة في الإخلال بالتوازن القائم ما بين هاتين الطبيعتين، وذلك بتفضيل إحداهما على الأخرى، أو إعطاء الواحدة مكانة تُفْقِد الطبيعة الأخرى نصيبها أو دورها في اتزان البناء القائم في شخصية يسوع المسيح. لكن تلك الانحرافات كثيراً ما ارتكزت على إساءة فهم فقرة أو أخرى من الوحي الإِلهي. وإساءة الفهم هذه طالما وجدت مسبباتها في استخلاص تعابير واردة في الكتاب المقدس وتفريغهامن قرائنها النصية الواردة فيها، وتجاهل مواقعها ضمن مجمل ما ورد في سجلات الوحي الإلهي المعينة التي حوتها، خصوصاً وأنّ سجلات الوحي الإلهي تشتمل على تعبيرات فيها تشديد على طبيعة المسيح الإلهية، وأخرى فيها تشديد على طبيعته البشرية، إلى جانب تلك التي تجمع ما بين خواص الطبيعتين. من هنا كانت إمكانيات إساءة الفهم، لأن البعض بنوا استنتاجاتهم على أساس الافتراض أن المسيح كان إلهاً فقط، وفتّشوا على ما يؤكد مزاعمهم هذه في الوحي الإلهي. وأكد البعض على أنه مجرد إنسان وسعوا إلى إثبات ذلك من خلال نصوص الوحي الإلهي في تلك التعبيرات التي تركز على جانب الطبيعة البشرية فيه. وهكذا ظهرت البدعة تلو الأخرى، وكلها تشير إلى خطأ فادح أساسي، هو عدم التمسُّك بالهيكل الكامل للحقيقة. يشهد الواقع التاريخي ليسوع المسيح الإِله والإِنسان. فيسوع تمتَّع بقدرات فاقت جداً معطيات الطبيعة البشرية، لكن من جهة أخرى فإن طبيعته البشرية طابقت تماماً تلك التي تمتَّع بها معاصروه من البشر. ومع أنه يصعب علينا، بل ولا يجوز لنا أن نحاول الفصل بين العناصر الطبيعية وفوق الطبيعية في شخص المسيح، فإنَّ دلائل التمييز بين الطبيعتين البشرية والإِلهية الكامنة في السيد المسيح هي اثنان: العهد الجديد، والمعتقدات العلنية الراسخة عند المؤمنين الأوائل الذين عاصروه. كان أمراً بديهياً للذين اهتدوا للإنجيل وآمنوا بالمسيح أنّه اللّه المتجسد. فهذا الأمر لم يكن في حاجة إلى إثبات، بالرغم من تنوّع الدلائل التي تشير إلى ذلك بانسجام مطلق. وهذه الدلائل لم تترك لأحد مجالاً للشك في صدقها واستقامتها. فهل كان ممكناً ليسوع المسيح أن يتمتع بطبيعتيه بانسجام كامل؟ تلك لم تكن القضية، بل كان ذلك أمراً مفروغاً منه، إذ لم يكن من داع للبحث عن دلائل عليه، فالذين عاصروه وعايشوه بالذات هم الذين استخدمهم اللّه في تدوين ما أوحى به عن هذا الأمر لأجيال المؤمنين اللاحقة من بني البشر، إذا سجّلوا شهاداتهم عنه: «ٱلَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا... قَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ... وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هٰذَا...» (1 يوحنا 1: 1 - 4). أضاف الرب في التجسّد إلى طبيعته الإِلهية نوعية أخرى هي الطبيعة البشرية (الأمر الذي من شأنه تكوين شخصية مزدوجة). لم تكن الإضافة بمعنى وجود شخصية إضافية، بل بمعنى إضافة نوعية بشريّة إلى الطبيعة اللاهوتية. ففي الوقت الذي لم يتخلّ فيه عن طبيعته الإِلهية لم يتَّخذ لنفسه شخصية جديدة، بل أخذ لنفسه جميع الجوانب البشرية الاعتيادية التي يتمتَّع بها البشر، أي أنه أصبح إلى جانب كونه إلهاً، إنساناً أيضاً. هذا كان في طبيعتين متميِّزتين، ولكنه كما كان منذ الأزل، بقي هو ذاته شخصاً واحداً. من المؤكد أن هذا الأمر يتضمَّن ما يمكن تسميته لغزاً لا يمكن استيعابه بشكل كامل، لكن طبيعة هذا اللغز ليست غريبة على اختبارنا نحن البشر، فذلك اللغز بالذات كامن في طبيعتنا البشرية نحن أيضاً. إن الإِنسان يحتوي على جوهرين مختلفين في الأساس. فهو من جهة روح أو نفس غير مادية، خاضعة لتأثيرات فكرية وروحية.. ومن الجهة الأخرى هو جسد مادّي، خاضع لكل العوامل والقوى الفيزيائية والكيمائية والكهربائية التي تعمل في العالم من حوله. هذان الجانبان في الطبيعة البشرية لم يُصهرا ولم يَختلطا، ولم تكن نتيجتهما هيكلاً ثالثاً دُعي بالإِنسان، بل أنّ هذين الجانبين بقيا قائمين أحدهما إلى جانب الآخر في انسجام كامل، كما بقيت خواص كل منهما متميّزة في الإِنسان ذاته. وظلّ كل منهما خاضعاً لشرائع دائرته بكل دقّة كما لو أنه كان منفصلاً انفصالاً كاملاً عن الآخر. ومع ذلك، عند الإِشارة إلى أي من هذه الخواص الإِنسانية إنما تكون الإِشارة إلى شخصه بالذات. فلا نقول جسد فلان عمل كذا أو نفس فلان قالت أو فكّرت كذا، بل نقول فلان عمل وفكّر وقال كذا وكذا. هكذا الأمر بالنسبة لطبيعتي المسيح، فمع أنهما متميّزتان إحداهما عن الأخرى فإن ما يُنسب لإِحداهما إنما ينسب لشخص المسيح ككل. من هنا كانت ضرورة الحذر من السقوط أي إساءة فهم تلك التعابير الإنجيلية التي تبدو وكأنها متناقضة في وصفها للمسيح. فمنها ما يشير إلى أن المسيح شخص غير محدود، وهي تشير إلى طبيعته الإِلهية، ومنها ما يشير إلى محدوديته، وهي تلك التي ترد في قرينة الحديث عن طبيعته البشرية. فهو إذن محدود كإنسان ولكنه غير محدود كاللّه، وهو ذو بداية كإنسان عند ولادته في بيت لحم، ولكنه أيضاً هو اللّه الموجود أزلاً. وهو كان على علم بكل شيء، وفي نفس الوقت كانت طبيعته البشرية محدودة المعرفة. فهو من جهة تركيب طبيعته «مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ» كما يقول الكتاب المقدس، لكن الكتاب المقدس يقول أيضاً إنه «تَعَيَّنَ (أي تبرهن) ٱبْنَ ٱللّٰهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ» (رومية 1: 3، 4). خلاصة الأمر هي أنّ الكتاب المقدس يقدمه على أساس أنه «ابن داود»، وفي نفس الوقت هو «الأزلي قديم الأيام»، ابن مريم هو، وفي نفس الوقت «إله فوق الجميع، مبارك إلى الأبد». هو الشخص الذي شعر بالإرهاق أثناء رحلاته الصعبة مشياً على الأقدام، وهو في نفس الوقت من يقول عنه الوحي الإِلهي «حامل كل الأشياء بكلمة قدرته». وهو الذي «جاع أخير» بعد أربعين يوماً من الصوم، وفي نفس الوقت هو نفس الشخص الذي أشبع الآلاف وقال عن نفسه: «أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ... ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ...» (يوحنا 6: 48 - 51) هو الذي قال إنه لا يقدر أن يعمل شيئاً بدون الآب، وفي نفس الوقت هو الذي بدونه «لم يكن شيء مما كان». إنه «عظم من عظامنا ولحم من لحمن»، ومع ذلك تمتَّع بمساواة مطلقة مع اللّه. هو الذي أخذ على نفسه «صورة عبد» تمتَّع بكونه «صورة اللّه». قال الوحي الإِلهي عنه إنه «ينمو في القامة» كما قال عنه إنه «هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد»، «يتقدم في الحكمة» ومع ذلك فقد عرف كل شيء. قيل عنه «مولود تحت الناموس (الشريعة)» لكنه قال عن نفسه إنه «ربّ السبت وأعظم من الهيكل»، نفسه حزنت واضطربت وهو «رئيس (أو مصدر) السلام». هو الذي سار إلى الموت تحت إمرة الحاكم الروماني، كما أنه هو الذي دُعي «ملك الملوك وربّ الأرباب»، وهو الذي قال عن ذلك الموت: «أَضَعُ نَفْسِي... لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي (أي يقتلني) بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْض» (يوحنا 10: 17، 18). لقد صعد إلى السماء وغاب عن تلاميذه وكنيسته، لكنه نفس الشخص الذي قال: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم» وقال لتلاميذه قبل الصعود إنه سيكون معهم «إلى انقضاء الدهر». إذن الوحي الإِلهي يقدّم المسيح لنا أحياناً كإله وأحياناً كإنسان، لكي نفهمه ونعرفه ونؤمن به كشخص واحد في طبيعتين، كإله كامل وكإنسان كامل، وليس لكي يعطينا الخيار ما بين واحدة من طبيعتيه هاتين. إنه اللّه المتجسّد الذي كانت حياته الأرضية تعبيراً عن أنّ اللّه جاء إلى عالم البشر، وكشف عن نفسه، ووضع الأساليب التي يمكن للبشر استيعابها، بصيرورته إنساناً مثلهم. وهكذا فإن طبيعتي المسيح الإلهية والبشرية اتّحدتا بحيث أنّ الصفات أو الخواص المنسوبة لأي منهما نُسبت إلى شخصية الواحد ككل، فسواء دَعَوْناه يسوع أو المسيح، ابن اللّه أو ابن الإِنسان، فإننا نقصد الإِشارة إلى نفس الشخص. عندما نقول إن يسوع عطش، فإننا نعني أنه كشخص كامل في ألوهيته وناسوته قد عطش وليس جسده فقط. وعندما نقول إنه تألمّ نقصد بتألّمه كشخص وليس كمجرد جسد، وهو إذ أخذ مكان الإِنسان على الصليب ومات عنه، فإنه لم يعمل ذلك كإنسان فقط، بل إننا نعني أيضاً أن اللّه في المسيح أخذ مكان الإِنسان على الصليب ومات لأجلنا نحن البشر. كل ذلك يعبّر عن الحقيقة، لكن وجب علينا بالطبع أن نُبقي نصب أعيننا حقيقة فرادة شخصه، التي مكّنته من إنجاز ذلك العمل الخلاصي المجيد. لعل أهم ما يواجهنا به الوحي الإِلهي من تعبيرات في شأن انسجام طبيعتي المسيح هو ما نُسب فيه إليه من أعمال وقُوى وصفات تنطبق على الطبيعتين في إشارة جليّة إلى المسيح الواحد. هذه التعبيرات التي تنطبق على طبيعته لا يمكن فهمها أو تفسيرها إلاّ إذا أدركنا أن هاتين الطبيعتين متّحدتان عضوياً بشكل غير قابل للفصم أو الانحلال، في شخص واحد هو الإله الإِنسان. فالوحي الإِلهي الطاهر يقول عن أعداء المسيح: «صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1 كورنثوس 2: 8) ويشير إلى «...كَنِيسَةَ ٱللّٰهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ» (أعمال الرسل 20: 28)، ويقول: «يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُي» (1 تيموثاوس 2: 5). إنّ العبارة «مريم والدة الإِله» التي يستعملها بعض المسيحيين تحمل فقط بعض الحقيقة، إذ أن المولود منها كان ابن اللّه. لكننا في نفس الوقت يجب أن نتذكر أن مريم كانت والدة يسوع المسيح من جهة طبيعته البشرية فقط. لقد كان من الضروري لفادي البشر أن يكون إلهاً وإنساناً معاً، لذلك صار إنساناً ليأخذ محل الإِنسان فيتألّم ويموت لأجله. فلو كان إلهاً فقط لما أمكنه عمل ذلك. وضرورة كونه إلهاً هي لإعطاء القيمة والمدى غير المحدودين المطلوبَيْن في الذبيحة الصالحة للتكفير عن خطايا البشر. من ناحية ثانية لو كان المسيح مجرد إنسان لما كان بإمكانه الموت حتى عن شخص واحد. خلاصة الأمر إذن أن طبيعته البشرية جعلت ألمه وموته ممكنَيْن، بينما طبيعته الإِلهية جعلت لهذين العنصرين: الألم والموت، القيمة والمدى غير المحدودين والصالحين لتمثيل عدد لا يُحصَى من الخطاة. هذا ما طرحه بوضوح بالغ يوحنا كالفن عندما قال: «لكي يمكن للإِنسان أن يتصالح مع اللّه، كان لزاماً عليه وهو الذي دمّر نفسه بمعصيته أن ينفذ مطاليب العدالة الإِلهية بتحمُّل عقاب خطيته. وأدرك اللّه في رحمته استحالة ذلك على الإِنسان، فكشف عن نفسه في المسيح كإنسان حقيقي، وأخذ لنفسه صفة آدم الثاني ممثلاً بنفسه بني البشر، وجاعلاً من نفسه بديلاً عنهم في طاعة شريعة اللّه، واضعاً جسده ثمناً للوفاء بمطاليب العدالة الإِلهية، وهكذا تحمّل بنفسه القصاص المتوجِّب على عصياننا جميعاً في طبيعة إنسانية معادلة لطبيعتنا التي فيها ارتكبنا ذنب العصيان. لأنه بما أنه كان من غير الممكن للطبيعة الإِلهية الروحية الموت، فإنه أضاف إلى طبيعته الإِلهية طبيعة بشرية صالحة لذلك». المسيح إذن في تجسُّده وحّد مع نفسه طبيعة بشرية، وبقيت شخصيته واحدة متّحدة متجانسة ومتناسقة دون تشويش أو اختلال. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:56 AM | رقم المشاركة : ( 17 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
وظائف المسيح الثلاث إنّ الانسجام الكامل في طبيعتي المسيح الإِلهية والبشرية الذي تعرضنا له في الفصل السابق له موقع مركزي وحيوي خصَّ تحقيق جميع المقاصد الإِلهية المتعلقة بعالم البشر، وليس فيما خصَّ عملية الخلاص وحدها. لكن تنفيذ عملية الخلاص هو جزء لا يتجزأ من مجمل تلك المقاصد. صحيح أنّ فداء بني البشر هو المحور الأساسي الذي ترتكز عليه مجموعة مخططات اللّه. وهذا طبيعي، لأن سقوط البشر بسبب عصيانهم لشريعة اللّه هو المحك الذي أوجب ليس فقط عملية التجسد والخلاص، بل أيضاً جميع التأثيرات الفرعية التي لزم أن يخطط اللّه لاستئصالها أو إصلاحها أو إعادة بنائها. أمّا تحقيق المسيح لجميع هذه المقاصد الأزلية، وعلى رأسها فداء البشر، فقد جرى ضمن نطاق وظائف أو أدوار رسمية ثلاث، إذ توجّب عليه أن يكون نبياً وكاهناً وملكاً. أولاً: المسيح النبي كانت وظيفة المسيح النبوية ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبأت عنه أسفار العهد القديم. والواقع أن النبوة الواردة بهذا الشأن كانت إحدى النبوات الواردة في الوحي الإِلهي عن مجيء المسيح، وقد جاءت على لسان النبي موسى: «يُقِيمُ لَكَ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ» (التثنية 18: 15)، أمّا في العهد الجديد فقد أشار الرسول بطرس ضمن إحدى مواعظه العامة مشيراً إلى هذه النُبوّة، ومطبّقاً إياها على المسيح: «مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيّاً مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ ٱلرَّبُّ إِلٰهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ. لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ» (أعمال الرسل 3: 22). وتختصّ وظيفة النُبوّة في الكتاب المقدّس بأولئك الذين تكلّموا للبشر بالنيابة عن اللّه. من الطبيعي أن يكون المسيح ذا مكانة خاصة ضمن دائرة أنبياء اللّه. والواقع أن هذا أمر حيوي بالنسبة لمهمة المسيح التي جاء إلى عالم البشر لتنفيذها. كان العديد من الأنبياء الحقيقيين قد سبقوا مجيء المسيح، وجميعهم تكلّموا بكلام اللّه للشعب، لكن ما أوحى اللّه لهم به كان ذا طبيعة تمهيدية وغير مكتملة. لقد كانوا جميعاً يرمزون للمسيح النبي الأعظم، الذي كانوا قد أتوا من أجل التمهيد لمجيئه. يعتقد البعض أن اللّه أرسل مزيداً من الأنبياء الواحد تلو الآخر، لعدم نجاح الأنبياء السابقين في إتمام مهماتهم، أو لسبب حاجة الناس لمن يذكّرهم بما سبق وأوحى به للأنبياء الذين أتوا في أجيال سابقة. لكن ذلك ليس مفهوم الكتاب المقدس. إنّ أنبياء اللّه لم يفشلوا، ولا واحد منهم، في تحقيق ما أراد اللّه تحقيقه عن طريقهم. أمّا سبب تعدّد الأنبياء، وتوالي قدومهم من عند اللّه في حقبة العهد القديم، فمرجعه أنّ لكل منهم دوره في التمهيد لمجيء المسيح. من المهم للغاية أن ندرك هذه الحقيقة، لأنها ترينا أن الوحي الإِلهي بواسطة أنبيائه لا يعتريه تناقض أو نقصان، حتى أن اللّه يسعى لإصلاح ما تهدّم بإرسال مزيد من الأنبياء، فاللّه لا يسمح بأي فشل في تأدية أنبيائه لمهمتهم، ولا بأي تشويش يؤثر على ما ينقلونه منه للبشر الآخرين. لذلك لا يجوز لنا الإعتقاد بأي شيء من هذا القبيل، إلاّ إذا كنا نعتقد أن اللّه غير جدّي فيما يعمل، أو أنه غير قادر على إنجاز ما يريد عمله، وهو بالطبع تفكير خاطئ وغير صحيح عنه. فاللّه وهو كلّي السيادة، أعطى عصمة خاصة لأنبيائه حين دوَّنوا الوحي كاملاً بدون خطأ. وهو في نفس الوقت، بحكمته وسلطانه، عمل على حماية ما دوَّنوه من التحريف أو الفقدان، عبر الأجيال. لقد أدّى كل نبي دوره بكل أمانة وجدارة، مدعوماً بقوة اللّه، في التحضير التدريجي لمجيء المسيح. فلو أنّ اللّه كشف عن كل شيء دفعة واحدة لما كان من الممكن لبني البشر استيعابه. من هنا كانت ضرورة الطبيعة التدريجية والتقدُّمية للوحي الإِلهي. كما أن ذلك هو السرّ الحقيقي وراء ذلك الترابط والتكامل بين أدوار الأنبياء الظاهر في أسفار الكتاب المقدس. إن المرء الذي يتأمّل بالتدقيق في مسرة هؤلاء الأنبياء لا بد يرى أن الوحي الإلهي قد أخذ شكل هرم متدرّج الأطوار، بنى فيه كل نبي على ما سبق وبناه أقرانه من قبله. أمّا قمة الهرم فيقف عليها المسيح مكمّل الوحي وخاتمه. ليست هذه صورة خيالية أو تخميناً بشرياً، بل نجده مدوناً ضمن ما أوحى به اللّه نفسه، إذ قال عن مؤمنيه على لسان الرسول بولس: «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ ٱلرُّسُلِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ ٱلّزَاوِيَةِ، ٱلَّذِي فِيهِ كُلُّ ٱلْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي ٱلرَّبِّ» (أفسس 2: 20، 21). بيد أنّ هناك اختلافاً جوهرياً آخر بين دور المسيح كنبي وأدوار أنبياء اللّه. لقد تكلم الأنبياء كبشر مسوقين من عند اللّه وليس من عندياتهم، بينما تكلّم المسيح كاللّه. كانوا دائماً يصحبون رسالتهم بتعبيرات مثل: «هكذا يقول الرب» ولم تكن لديهم السلطة ولا القدرة على قول أي شيء بالنيابة عن اللّه، إلاّ ما كان قد أَوحى به اللّه إليهم. أمّا يسوع فقد كان يؤكد في رسالته على الدوام أنه يقول ما يقوله بسلطته هو. عندما أشار لأقوال الأنبياء قال: «قيل لكم»، لكن عندما أشار إلى ما يقوله هو قال: «أمّا أنا فأقول» أو «الحقّ الحقّ أقول لكم». تحدث الأنبياء بالنيابة عن اللّه، أمّا المسيح فتحدث بالإِصالة عن نفسه وانطلاقاً من سلطته الشخصية، فأدهش معاصريه الذين لاحظوا أنه يختلف عن الأنبياءورجال الدين، «لأنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَٱلْكَتَبَةِ» (متى 7: 29 ومرقس 1: 22)، «لأنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى ٱلأَرْوَاحَ ٱلنَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ» (مرقس 1: 27 ولوقا 4: 36). وقد صرّح يسوع أكثر من مرة بأن له سلطاناً يفوق ما هو لأي بشر (متى 9: 6 ومرقس 2: 10 ولوقا 5: 24)، ثم أنه أعطى رسله الذين أوحى لهم بكتابة الإنجيل بواسطة الروح القدس، أعطاهم السلطان في مهماتهم النبوية. (متى 10: 1 ومرقس 6: 7 ولوقا 9: 1). إذن فهو في مهمته النبوية عبّر عن سلطة لم تكن للأنبياء البشر، بالإضافة إلى الحق الذي عبّر عنه في إعطاء السلطة للأنبياء البشر. بالرغم من أن يسوع أشار إلى نفسه كنبي، لديه رسالة خاصة من اللّه الآب (راجع لوقا 13: 33 ويوحنا 8: 26 - 28، 12: 49و 50، 14: 10 و24)، إلاّ أن أعماله النبوية الخاصة لم تكن في حاجة إلى تأكيد شفوي على مركزه النبوي، فقد تنبّأ عن المستقبل (متى 24: 3 - 35، لوقا 19: 41 - 44). ثم أنّ تعاليم المسيح كانت ذات طبيعة نبوية في صبغتها الغالبة. كان من الطبيعي إذن أن يشير إليه الناس كنبي (متى 21: 11 و46، لوقا 7: 16، 24: 19، يوحنا 6: 14، 7: 40 و9: 17). وبالرغم من أن مواصفات النُبوَّة الشائعة في حقبة العهد القديم انطبقت عليه من جهة علاقة تصريحاته بالماضي والحاضر والمستقبل (راجع خروج 7: 1، تثنية 18: 18، عدد 12: 6 - 8، إشعياء 6، إرميا 1: 4 - 10، حزقيال 3: 1 - 4 و17)، إلاّ أن المسيرة النبوية الجوهرية التي طغَت على خدمته كمَنَت في مقدرته الدائمة على تفسير الشريعة الإلهية وتطبيقها على الحياة اليومية المعاصرة. أما تفسيره للشريعة الإِلهية فقد كان مدعوماً دائماً بحياته الطاهرة، وسلوكه الذي لم تكن به شائبة أخلاقية. في هذا لم تنطبق عليه مواصفات في مفهوم الوحي الإِلهي ليست مجرّد إدعاء بالحصول على وحي أو رسالة من اللّه، لكنها مصحوبة بقوة معجزية خارقة تدل على أن اللّه هو مصدرها، ثم أنها أيضاً مصحوبة بحياة نقية طاهرة يتحلّى بها النبي، دلالة قاطعة على أن تكريسه للنبوة هو من اللّه. هذا بالطبع مغاير لادِّعاءات الكثيرين من الأنبياء المزيفين، فهؤلاء اتَّسمت ادِعاءاتهم بخلّوها من القيمة المعجزية الإِلهية. ومع أنهم ادَّعوا المقدرة على القيام بالمعجزات، فإن سجلاتهم تشهد أن المعجزات التي ادَّعوها كانت من نسج خيالهم، ولم تكن من مصادر موثوق بها، لأن المعجزات الحقيقية التي مصدرها قوة اللّه لا تحصل في الخفاء بل في العلن، وإلاّ لما كان لحصولها أي معنى. بيد أن الحياة الأخلاقية للأنبياء الكذبة عبر التاريخ تتَّسم بفساد جنسي ورغبة قوية في التسلُّط على الآخرين، بالإضافة إلى الخوف الدائم من المعارضين والسعي للبطش بهم. أمّا الأنبياء الحقيقيون والذين كان يسوع مثالهم الأسمى فإن تقواهم الحقيقية لم تكن تخفى على أحد. ثمّ أنهم عبّروا عن ثقة دائمة في اللّه، وعن رغبة دائمة في طاعة شريعته وأوامره الخاصة، حتى وإن قادهم ذلك إلى الموت. أما ثقتهم في اللّه فقد دلّت عليها حياة التضحية التي مارسوها كل يوم، لأنه لم يكن يهمّهم إرضاء البشر على الإطلاق بل إرضاء اللّه في كل ما يقولونه ويعملونه ويفكرون فيه. أما المعجزات التي صحبت خدمتهم فلم يستعملوها لنيل ربح شخصي، بل على العكس نراهم يقشعرون عندما يحاول أحد أن يعطيهم سلطة إلهية، أو عندما يعتقد البعض أن معجزاتهم تلك ناتجة عن مقدرة كامنة فيهم. من هنا وجب علينا أن نتذكر أن يسوع لم يكن مجرد نبي عادي، فإن تفوّقه المعجزي والأخلاقي لم يكن الفارق الجوهري الوحيد، لأنه بعكس باقي أنبياء الوحي الإِلهي تمتع بمركزه وخدمته النبويتين من قبل مجيئه إلى عالم البشر. إن «روح المسيح» هو الذي دلَّ الأنبياء وقادهم وأوحى إليهم من قَبْل مجيئه (1 بطرس 1: 10 - 12). كما أن مهمة المسيح النبوية امتدّت إلى المستقبل، حتى بعد عودته إلى يمين العظمة في السماء، لأنها كانت ذات فعالية قبل وأثناء تجسّده. فهو إذ صعد إلى السماء واصل خدمته النبوية عبر رسله الأطهار (راجع أعمال الرسل 1: 1). ثم أنه لا يزال يقوم بمهمته النبوية تلك بواسطة الروح القدس المعزِّي الذي أرسله إلى كنيسته لينعشها ويقويها ويطبق في حياتها مطالب كلمته الطاهرة (يوحنا 14: 26، 16: 12 - 14). ثانياً: المسيح الكاهن كانت وظيفة المسيح الكهنوتية أيضاً ضمن الخواص المميزة للمسيّا الذي تنبأت عنه أسفار العهد القديم، فقد قيل عنه: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (مزمور 110: 4). كما قالت النبوة إنه: «يَبْنِي هَيْكَلَ ٱلرَّبِّ، وَهُوَ يَحْمِلُ ٱلْجَلالَ وَيَجْلِسُ وَيَتَسَلَّطُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَيَكُونُ كَاهِناً عَلَى كُرْسِيِّهِ» (نبوة زكريا 6: 13). أما الوصف الكامل لمركزه وخدمته الكهنوتية فقد ورد قبل مجيئه إلى عالم البشر بنحو سبعمائة سنة، وذلك على لسان النبي إشعياء في الفصل الثالث والخمسين من نبوّته التي تُعتبر من أجمل سجلات الوحي الإِلهي. وتُعتبر وظيفة الكهنوت في الكتاب المقدس موازية لوظيفة النبّوة. فبينما يقوم النبي بنقل رسالة من اللّه إلى البشر، أو بالتكلُّم للبشر بالنيابة عنه، فإن الكاهن هو الشخص الذي يقوم بتمثيل البشر أمام اللّه، وذلك إما بتقديم ذبائحهم للّه بالنيابة عنهم، وإما بنقل صلواتهم وطلباتهم إلى اللّه. إن ذلك بالطبع يعود لفقدان البشر المقدرة على الوقوف أمام اللّه بأنفسهم بسبب فسادهم وخطيتهم. لأجل هذا السبب رتّب اللّه وجود الكهنة من بين البشر الذين أهّلهم وأعدّهم للقيام بتلك المهمة الكهنوتية. فلم يكن الشخص العادي يقدر أن يقترب من قدس الأقداس داخل الهيكل حيث تُقدَّم الذبائح والصلوات الشفاعية الخاصة، لأن الإِنسان في حالته الساقطة مفصول أخلاقياً وروحياً عن اللّه، وهو ذو طبيعة مغايرة لطبيعة اللّه الطاهرة، لذلك ليس باستطاعة الإنسان القدوم إلى محضر اللّه بنفسه. أما الكهنة الذين أقامهم اللّه عبر أجيال حقبة العهد القديم فقد أُعطوا الحق في تمثيل بني البشر أمام المحضر الإِلهي، فكان الكاهن يأخذ على نفسه مهمة إعادة تلك العلاقة الطبيعية التي كانت بين اللّه وبني البشر إلى ما كانت عليه قبل السقوط، ولو بشكل جزئي ومؤقّت. وهكذا أُوقعت على الكاهن مسؤولية الاعتراف العلني بخطية وعصيان من يمثّلهم أمام اللّه، كما أنه يقوم بتقديم الذبائح الرمزية التي تعبّر عن الرغبة في التوبة عن حالة التمرّد تلك والتكفير عنها. إذن تقع على عاتق الكاهن مهمتان: تمثيل بني البشر، والتشفُّع فيهم أمام اللّه. في العهد الجديد نرى أن كهنة العهد القديم لم تكن مهمّتهم رغم عظمتها وفعاليتها وجدّيتها سوى مهمّة رمزية، ترمز إلى الكاهن الأعظم الذي سعى هؤلاء الكهنة للتشبُّه به. إن المسيح هو المرموز إليه في الذبائح والصلوات التي قاموا بتقديمها. لعلّ أوضح ما ورد في الوحي الإِلهي عن هذا الأمر هو في المضمون الكلّي للرسالة إلى العبرانيين، التي أكدت تفَوُّق مركز المسيح الكهنوتي، وألوهيته، وتفَوُّق مركزه النبوي على كافة الأنبياء. فبينما أشارت كتب العهد الجديد الأخرى إلى عمل المسيح الكهنوتي (راجع مرقس 10: 45، يوحنا 1: 29، رومية 3: 24 و25، 1 كورنثوس 5: 7، غلاطية 1: 4، أفسس 5: 2، 1 يوحنا 2: 2، 1 بطرس 2: 24 و3: 18)، فإن دور الرسالة إلى العبرانيين الخاص هو في شرح ذلك العمل وتوضيح أهميته. كما أنها لا تدع مجالاً للشك في أحقّية المسيح للقبه الكهنوتي المجيد. في الرسالة إلى العبرانيين دُعي المسيح «رئيس كهنة اللّه» (3: 1) و«ورَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ» (4: 14) و«كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (5: 6) و«رَئِيسَ كَهَنَةٍ إِلَى ٱلأَبَدِ» (6: 20) و«رَئِيسُ كَهَنَةٍ... قُدُّوسٌ بِلا شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (7: 26) و«رَئِيسَ كَهَنَةٍ... قَدْ جَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ ٱلْعَظَمَةِ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ خَادِماً لِلأَقْدَاسِ وَٱلْمَسْكَنِ ٱلْحَقِيقِيِّ ٱلَّذِي نَصَبَهُ ٱلرَّبُّ لا إِنْسَانٌ» (8: 1، 2). ومثلما تميّز يسوع كنبي من بين جميع الأنبياء، تميّز أيضاً عن جميع الكهنة. هذا ما نراه في جانبي خدمته الكهنوتية بوضوح: أي في عمله الكفاري كفادي البشر والبديل الحقيقي عنهم أمام اللّه، وفي عمل وساطته وخدمته الشفاعية كالممثل الأوحد لكنيسته المفديَّة، أمام اللّه. ويطرح الوحي الإِلهي أمامنا حقيقة راسخة لا نزاع عليها بالنسبة إلى عمل المسيح الكفاري، وهي أنه هو وحده الذي كان مؤهَّلاً لأن يكون فادي البشر، والذي باستطاعته معالجة معضلة سقوطهم وخطيتهم. وما كانت ذبائح العهد القديم سوى رموز يتذكر بها البشر خطيتهم، ويتطلعون إلى قدوم ذلك المخلّص الذي يذبح قانونياً بالنيابة عنهم «لأنَّ أُولٰئِكَ بِدُونِ قَسَمٍ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً وَأَمَّا هٰذَا فَبِقَسَمٍ مِنَ ٱلْقَائِلِ لَهُ: أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ، أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى ٱلأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ. عَلَى قَدْرِ ذٰلِكَ قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِناً لِعَهْدٍ أَفْضَلَ. وَأُولٰئِكَ قَدْ صَارُوا كَهَنَةً كَثِيرِينَ لأنَّ ٱلْمَوْتَ مَنَعَهُمْ مِنَ ٱلْبَقَاءِ، وَأَمَّا هٰذَا فَلأنَّهُ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ، لَهُ كَهَنُوتٌ لا يَزُولُ. فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللّٰهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ. لأنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلا شَرٍّ وَلا دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ ٱضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَّوَلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ، لأنَّهُ فَعَلَ هٰذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ فَإِنَّ ٱلنَّامُوسَ (أي الشريعة) يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضُعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلْقَسَمِ ٱلَّتِي بَعْدَ ٱلنَّامُوسِ فَتُقِيمُ ٱبْناً مُكَمَّلاً إِلَى ٱلأَبَدِ» (عبرانيين 7: 21 - 28). إذن ذبيحة المسيح تختلف عن ذبائح الآخرين من عدة جوانب: أولاً: هي ذبيحة حقيقية. فالذبائح السابقة لم تكن لها سوى فائدة واحدة، وهي أنها كانت ترمز إليه «لأنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنَّ دَمَ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ يَرْفَعُ خَطَايَا... تِلْكَ ٱلذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، ٱلَّتِي لا تَسْتَطِيعُ ٱلْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ ٱلْخَطِيَّةَ» (عبرانيين 10: 4 - 11)، أما يسوع فكان إنساناً طاهراً، ولا يحل محل الإِنسان سوى إنسان، «لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَد» (عبرانيين 10: 5). ثانياً: إن ذبيحة المسيح هي ذات مدى غير محدود، فهو كالكاهن الإِلهي غير المحدود قدّم ذبيحة غير محدودة الفعالية، «لأنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأجْلِنَا. وَلا لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ» (عبرانيين 9: 24 - 25). ثالثاً: إن ذبيحة المسيح هي أبدية الأثر. «فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً... فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ ٱلْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى ٱلأَبَدِ عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ،... لأنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (عبرانيين 10: 10، 12، 14). إلى جانب الذبيحة العظمى التي قدّمها يسوع كفّارة عن خطايا الكثيرين، فإن وظيفته الكهنوتية لها جانب آخر هو شفاعته بالنيابة عن مفدييه. في هذا الصدد يقول الرسول يوحنا: «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ (أي من المؤمنين) فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ» (1 يوحنا 2: 1). والشفيع هو الشخص الذي يُعِين المذنبين ويدافع عنهم، وهو محامي الدفاع أمام محكمة العدالة الإِلهية. بالنسبة للمؤمنين «مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَ» (رومية 8: 34). «هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (عبرانيين 7: 25). إنه «... يَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ» لأجل المؤمنين (عبرانيين 9: 24). أمّا عظمة شفاعة المسيح فقاعدتها هي عظمة ذبيحته الكفارية. أمّا نتيجة تلك الشفاعة النهائية فهي في مجيئه الثاني، «هٰكَذَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضاً، بَعْدَمَا قُدِّمَ مَرَّةً لِكَيْ يَحْمِلَ خَطَايَا كَثِيرِينَ، سَيَظْهَرُ ثَانِيَةً بِلا خَطِيَّةٍ لِلْخَلاصِ لِلَّذِينَ يَنْتَظِرُونَهُ» (عبرانيين 9: 28). ثالثاً: المسيح الملك من الطبيعي جداً أن يكون للمسيح نصيبه الأزلي في التسلُّط على الكون، وهو الإِلهيّ الطبيعة. ذلك هو حقّه الإِلهي. لكن المسيح له مكانته الملكية الخاصة بصفته الوسيط بين اللّه والناس، مخلّص البشر الخطاة. إذن مَلَكية المسيح التي نحن بصددها الآن تتعلق به كابن اللّه المتجسّد فهو في طبيعته البشرية إنسان أعطي سلطة خاصة لتكميل ملكوته الروحي في الكنيسة، وذلك بحفظها وحمايتها وقيادتها نحو المجد الأبدي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن المسيح أيضاً بصفته الفادي والوسيط، لديه سلطة خاصة كملك على كل المخلوقات، بما في ذلك الأبالسة والبشر غير المؤمنين. هذا بالطبع يرجع إلى مَلَكيته الفريدة في النهاية عندما «يضع جميع أعدائه موطئاً لقدميه» (مزمور 110: 1)، وحين يكون قد أخضع الكل وصار الكل في الكل. (راجع رسالة كورنثوس الأولى 15: 24 - 28). إن الجانب الأول من ملكية المسيح إذن يرتبط بعلاقته بالمفديين. فهو ملكهم الروحي، وله سلطة على خلاص وفداء النفس. تلك المسؤولية كانت ضمن مواصفات المسيح المنتظر التي كان قد سبق للمشورة الإلهية وقضت بها: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ مَسَحْتُ مَلِكِي عَلَى صِهْيَوْنَ جَبَلِ قُدْسِي» (مزمور 2: 6). هذا هو الوعد المُعطَى للملك داود، الذي كان رمزاً للمسيح الملك الحقيقي. إن الوحي الإلهي يقول في هذا الصدد: «أَقْسَمَ ٱلرَّبُّ لِدَاوُدَ بِٱلْحَقِّ، لا يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ» (مزمور 132: 11). لأجل هذا السبب دُعي يسوع «ملك اليهود» و«ابن داود»، ولعل هذا هو السبب الرئيسي من وراء ما تضمنه الوحي الإلهي لتلك القوائم الطويلة عن أنساب المسيح، بسبب ضرورة إثبات صلة قرابته بالملك داود. وقد سبق الوحي الإلهي ووصف المسيح بأن «تكون الرياسة على كتفه.... لنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد...» (إشعياء 9: 6 - 7، راجع أيضاً ميخا 5: 2 وزكريا 6: 13). أمّا بشارة الملاك لمريم فقالت عن المسيح الموعود بقدومه: «هٰذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَٱبْنَ ٱلْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى ٱلأَبَدِ، وَلا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا 1: 32 - 33). هذا ما أقرّت به الجماهير الغفيرة عندما هتفت قائلة: «مُبَارَكٌ ٱلْمَلِكُ ٱلآتِي بِٱسْمِ ٱلرَّبِّ» (لوقا 19: 38)، أمّا يسوع فقد أشار إلى طبيعة مملكته تلك عندما دحض أقوال زعماء اليهود الذين اتّهموه بالتآمر على نظام الحكم الروماني، فقال: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلْعَالَمِ...» (يوحنا 18: 36). هذا الجانب الروحي لمَلكية المسيح هو في موضعه المَلكي على شعبه المؤمن. وهذه الملكية تتخذ إطاراً روحياً على قلوب وحياة المؤمنين، ولها بُعد روحي هو خلاص الخطاة. أمّا وسائط هذا الجانب من مُلكه فهي روحية أيضاً: فهو يحكم بواسطة كلمته وروحه. وهو يعبّر عن مُلكه هذا بواسطة تجميع وحكم وحماية وتكميل كنيسته. إن مُلك المسيح هذا يُسمّى في العهد الجديد «ملكوت الله» أو «ملكوت السموات». ومهما تكن التسمية فإن أعضاء الملكوت الروحي الذي يملك عليه المسيح هم المواطنون أعضاء كنيسته الحقيقية المفدية التي اقتناها بدمه الطاهر (راجع أعمال الرسل 20: 28). لكن للتأثير الروحي لمملكة المسيح، الذي هو ملكوت النور، بُعد أوسع من حياة المؤمنين. فحيثما وُجدت كنيسته وتزايد تأثيرها على المجتمع، يُلاحظ نمو غير عادي للوفاء والمحبة والعدالة وروح الطهارة والقداسة والجد والتضحية والسلام. هذا ما يعكسه مَثَلاَ الزارع والشبكة اللذان ضربهما المسيح نفسُه (متى 13: 24 - 30 و47 - 50). فالمسيح عندما يملك على قلب البشر ينقلهم من ملكوت الظلمة، حيث هم بالطبيعة مستعبَدين للشرّ، إلى ملكوت النور حيث كل جمال وحُسن وصلاح (متى 12: 28، لوقا 17: 21، رسالة كولوسي 1: 13)، وإذ يرى الناس الحياة متغيرة في هؤلاء والمخلوقة من جديد بواسطة روح المسيح، يمجدون الله، (متى 5: 16). من هنا كان امتداد تأثير ملكوت المسيح. لكن ملكوت المسيح المعطَى له بعد التجسد امتد بشكل أوسع إِثر قيامته، لذلك صرّح لتلاميذه قائلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18). كان هذا جزءاً لا يتجزأ من مقاصد الله الأزلية وعمله «ٱلَّذِي عَمِلَهُ فِي ٱلْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي ٱلسَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ ٱسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هٰذَا ٱلدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي ٱلْمُسْتَقْبَلِ أَيْضاً، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْساً فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، ٱلَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ ٱلَّذِي يَمْلَأُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (أفسس 1: 20 - 23). ومع أنه قبل تجسده كان يتمتع بمثل هذا السلطان على كل شيء، إلاّ أنه بعد قيامته رسّخ بشكل جديد مُلكه على الكل، وهو في ذلك يتحكّم في جميع ظروف مسار التاريخ البشري بأسره، لأجل تكميل عمله الكفّاري، ولأجل حماية كنيسته من كل خطر من شأنه عرقلة مسيرتها الروحية نحو الكمال الذي أراده لها. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:57 AM | رقم المشاركة : ( 18 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
المسيح مكمّل نبوات الوحي تحتوي أسفار العهد القديم على الكثير من المظاهر والإشارات والنبوَّات التي وجَّهت المؤمنين وجهَّزتهم لمجيء المسيح إلى عالمهم البشري. هذا واضح جدّاً لدرجة أن الوحي الإِلهي يبدو وكأنه قد رسم في تلك السجلاّت طريقاً إلى استراحة نهائية بديعة. إن ظهور المسيّا الآتي يتضح تدريجياً عبر صفحات العهد القديم كالغاية النهائية لكل شيء، حين يكشف الرب الإله عن نفسه في ألمع وأكثر الصور وضوحاً، فيصبح «عمانوئيل» أي أنّ اللّه حلّ بين البشر. لقد كان من الضروري أن يتخذ الأمر ذلك الشكل التدريجي في تاريخ البشر. فلو أن الوحي الإلهي كشف عن عملية التجسُّد الإِلهي بشكل مفاجئ، لما كان في وسع الناس فَهْم الأمر على الإطلاق. كان لا بد لتلك الخطوات التمهيدية أن تأخذ مجراها، لأن الأمر لم يقتصر على مجرّد تحضير الظروف التاريخية والإجتماعية والروحية الملائمة لمجيء المسيح، بل لأن البشر أنفسهم كانوا بحاجة إلى تحضير لكي يفهموا الظروف والأحداث، فيفهمون معنى التجسّد الإِلهي والقصد منه. من هنا كانت الطبيعة التدريجية لنبوات العهد القديم المختصّة بالمسيح. أما تحقيق السيد المسيح لمواصفات ومتطلّبات تلك النبوة فهو مذهل في دقّته وتفاصيله، لأنه يُعرِّف المرء أن المسيح هو وحده الذي يعطي مسار الوحي الإلهي في العهد القديم مغزاه وقصده وكماله. ولعلّ المدهش في هذا الأمر هو أن نبوات العهد القديم الخاصة بقدوم المخلّص كانت قد بدأت مع بداية سجلاّت الوحي الإِلهي نفسها، وسارت جنباً إلى جنب مع تطوُّرات الأحداث. فعندما حدث السقوط نتيجة عصيان اللّه والأكل من الثمار المحرّمة للشجرة التي في وسط الجنّة، وعد الرب آدم وحواء أنه من نسل حوّاء سيأتي من يسحق رأس الحية التي دبّرت المكيدة (تكوين 3: 15). إنّ لهذا علاقة خاصة بميلاد المسيح العذراوي من امرأة، والذي تعرّضنا له في الفصل الثالث من الجزء الثاني. من هنا طبَّق الوحي الإِلهي ذلك القول على أسلوب مجيء المسيح بالقول: «... لَمَا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ...» (غلاطية 4: 4). كان لا بدّ إذن للمسيح، نسل المرأة، أن يتصارع وجهاً لوجه مع الشيطان مدبّر السقوط، لأن المسيح هو المخلّص من هذا السقوط. لقد واجه المسيح إبليس في مرحلة تجاربه التحضيرية قبل شروعه في خدمته العلنية (لوقا 4: 1 - 14)، هناك دحره وأثبت تفوُّقه عليه. كما أنه صارع إبليس عندما أخرج أجناده من سُكناهم في عشرات البشر الذين كانوا قد سيطروا عليهم واستعبدوهم. لأجل ذلك دُعي محرّراً (مرقس 5: 1 - 20 ولوقا 4: 31 - 37). لقد سبق مجيء المسيح إلى عالمنا كثيرون ادّعوا أنهم هم «المخلّص المنتظر»، كما جاء بعده كثيرون ادّعوا الشيء نفسه. لكن سرعان ما سقطت إدّعاءاتهم وذهبت أدراج الرياح بمجرّد أن كشف الواقع كيف أن المسيح وحده هو الذي انطبقت عليه أوصاف وتوقعات نبوات الوحي الإِلهي. لعلّ هذا هو السبب الرئيسي من وراء وجود تلك التفاصيل الدقيقة في النبوات عن المخلّص المنشود. ويتساءل البعض عن أهميّة تلك اللوائح الطويلة لسلسلة أنساب المسيح التي أوردها الإنجيل. لكن تلك الأهمية كامنة في ضرورة التيقُّن المطلق من صحة هويته. فقد كان مفروضاً أن يأتي من نسل إبراهيم عبر ابنه إسحق وحفيده يعقوب بالذات، من سبط يهوذا ومن نسل داود بالذات أيضاً. كما كان من المفترض أن يُولد في بيت لحم، وأن يقضي بعضاً من طفولته في مصر، وتكون نشأته في الجليل. كل هذه كانت أدلّة وبراهين تاريخية توفّرت فيه. لكن نبوّات الوحي الإِلهي تطرّقت لمواصفات أخرى يجب توفّرها في المسيّا المنتظر، لها علاقة حيوية ومباشرة بمهمته الخلاصية كالإِنسان المعصوم من الخطأ، المؤهَّل لأَخْذ مكان البشر، وكاللّه المتجسِّد الذي بوسعه إكمال المهمّة المرسومة. من جهة طبيعته البشرية كان لا بدّ وأن يتمتع بعاطفة قوية ومحبة قلبية لبني البشر، تعبيراً عن استعداده للتألُّم والموت عنهم، كما كان من المفروض عليه أن يبرز كإنسان فوق العادة وفريد من نوعه (راجع إشعياء 11: 2 - 5 و42: 2 - 6: . أمّا من جهة طبيعته الإِلهية فقد كان من الضروري إدراك وجوده المسبق، وكونه قد «أتى» إلى عالم البشر من عالم آخر (راجع إشعياء 63: 1). كان من المفروض أيضاً أن تنطبق عليه أوصاف لا تنطبق إلاّ على اللّه، فيُدعى «عمانوئيل» (أي أن اللّه حلّ مع البشر). و«يسوع» (أي المخلّص) و«الإله القدير» و«الآب الأبدي» و«رئيس السلام» (إشعياء 7: 14 و9: 6). كان يجب أن يكون نور العالم الذي يقضي على الظلمة (قارن إشعياء 9: 2 مع يوحنا 8: 12). فلو أن بني البشر لم يكونوا على وعي بالظلمة الروحية حولهم لما كان لمجيء النور الروحي من معنى. والواقع أن أحداث وسجلات العهد القديم لم تقتصر إشارتها في التمهيد لمجيء المسيح على النبوّات الواضحة والمباشرة. لقد كان كل شيء يشير بصورة أو بأخرى لمجيء المخلّص ويمهّد له. وقد أجمع علماء الكتاب المقدّس على أن معاملات اللّه مع شعبه في العهد القديم أبرزت بوضوح إفلاس البشر الروحي وفشلهم الذريع في إرضاء اللّه بواسطة مجهوداتهم الدينية الخاصة، مما حتّم أن يكون الحل للمشكلة من خارج نطاق قدراتهم الشخصية. كان من الواضح إذن أنه إذا أمكن الوصول إلى حلّ لمعضلة فشل البشر في إرضاء عدالة وقداسة اللّه، فإن ذلك لا بدّ أن يأتي عبر مبادرة إلهية خاصة. لكن مع كل ذلك كان على البشر أن يدركوا حاجتهم إلى تقديم ذبائح رمزية للتكفير عن خطاياهم، كما كانوا في حاجة إلى إدراك مدى الهوة الروحية التي تفصلهم عن قداسة اللّه، مما تطلّب وجود الكهنة الوسطاء بينهم وبين اللّه. فلو أن المسيح جاء فجأة لتقديم نفسه كالكاهن والوسيط والذبيحة الحقيقية التي تحطّم الحاجز بين اللّه والناس، لما فهم البشر مهمته على الإِطلاق. لقد كان عليهم إدراك وجود ذلك الحاجز الروحي الذي أقامته الخطية بينهم وبين اللّه، ومِن ثمَّ حاجتهم إلى إزالة ذلك الحاجز. عندئذ فقط يأتي «ملء الزمان» أي يصبح كل شيء جاهزاً ومُعدّاً لعملية التجسُّد والخلاص. يشهد التاريخ بشكل قاطع لواقعة الصلب، كما أن النبوات كانت قد سبقت وتحدثت عنها بالتفصيل (راجع نبوّة إشعياء 53)، لكن الكتاب المقدس بعهديه يطرح الأمر على شكل ضرورة ملحّة ومحتومة لاسترجاع تلك العلاقة الروحية المفقودة بين اللّه الخالق وبني البشر المخلوقين. فمجيء الأنبياء ونزول الشرائع الإِلهية، وكافة متضمَّنات الوحي الإِلهي لهم، جميعها لها أدوارها الخاصة في التحضير لمجيء المسيح. إضافة إلى ذلك فإننا نجد أن مسار التاريخ البشري حول محيط شعب اللّه في العهد القديم، إبتداء من عبوديتهم في مصر وخروجهم منها، إلى تأسيس مملكتهم تحت قيادة الملك داود وابنه سليمان، وتطورها التدريجي وصولاً بتحطُّمها وسبي الأمّة بأسرها إلى بلدان نائية - كل هذا أشار باتزان وانسجام وترابط كامل إلى ضرورة تدخّل اللّه المباشر وإنجازه لعملية الخلاص. لكن دور النبوّات التي قدمت إشارات ومواصفات مباشرة عن المخلّص الآتي يبقى جوهرياً في العملية كلّها. لقد كان من الضروري أن يُعطَى البشر الأدلّة والعلامات التي تمكنّهم من التمييز بين من ادَّعوا كذباً أنهم المسيّا المنتظر، وبين صدق المسيّا الحقيقي. فلو أن الأمر تُرك لهم للتخمين لفقدت سجلات الوحي الإِلهي مقصدها وحيويتها وانسجامها، ولكان الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كل مدّعي بالنبوة أن يطبق على نفسه مواعيد اللّه بقدوم المخلّص. والأنبياء الذين أوحى لهم اللّه بتفاصيل قدوم المخلّص، اعتبروا أنفسهم أدوات طيّعة في التمهيد لذلك الحدَث الذي كان سيقع في «الأيام الأخيرة» أو في «ملء الزمان». لم يبدر على لسان أحدهم، ولا حتى تلميح واحد، على أنه هو أفضل الأنبياء. كل واحد منهم أدّى دوره في التمهيد لمجيء المسيح بدون تردد أو رغبة في تحسين مركزه الشخصي أو تجميع أتباع له. عندما تحدّث موسى عن مجيء المسيح قال للشعب: «له تسمعون» (تثنية 18: 15) وعندما تحدث داود، دعاه «ربّي» (مزمور 110: 1) حتى يوحنا المعمدان قال عن المسيح: «ٱلَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، ٱلَّذِي صَارَ قُدَّامِي، ٱلَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» (يوحنا 1: 27)، «هٰذَا هُوَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 1: 34)، «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29). وكان السيد المسيح نفسه قد أشار لأقوال كثيرين منهم مصرحاً: «إِنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي ٱلأَنْبِيَاءِ: وَيَكُونُ ٱلْجَمِيعُ مُتَعَلِّمِينَ مِنَ ٱللّٰهِ. فَكُلُّ مَنْ سَمِعَ مِنَ ٱلآبِ وَتَعَلَّمَ يُقْبِلُ إِلَيَّ. لَيْسَ أَنَّ أَحَداً رَأَى ٱلآبَ إِلا ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ. هٰذَا قَدْ رَأَى ٱلآبَ. اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. أَنَا هُوَ خُبْزُ ٱلْحَيَاةِ. آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا ٱلْمَنَّ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا. هٰذَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلنَّازِلُ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ ٱلإِنْسَانُ وَلا يَمُوتَ. أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 45 - 51). إذن السيد المسيح نفسه رأى أن دور كل الأنبياء وكل متضمَّنات الوحي الإِلهي كانت لأجل التحضير لمجيئه. عندما تذكّرت المرأة السامرية أقوال الأنبياء قالت للمسيح: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ». كان ردّ يسوع عليها: «أَنَا ٱلَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا 4: 25 - 26). وعندما قال له اليهود: «أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي مَاتَ. وَٱلأَنْبِيَاءُ مَاتُوا. مَنْ تَجْعَلُ نَفْسَكَ؟» لم يتردد يسوع في أن يكشف عن تفوُّقه وعظم مكانته فوق كل الأنبياء، فأجابهم: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ... قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِن»(يوحنا 8: 53 - 58). خلاصة القول إذن هي أن المسيح لم يحقق نبوات العهد القديم فحسب، بل أنه كان محور وقصد كل متضمنات الوحي الإلهي. |
|||
30 - 01 - 2013, 09:58 AM | رقم المشاركة : ( 19 ) | |||
سراج مضئ | الفرح المسيحى
|
رد: كتاب هل تجسد المسيح إبن الله
الخاتمة حياة يسوع المسيح تحقق المخطط الإلهي المرسوم عندما ندرس تعاليم المخلّص في الإنجيل المقدس، ندرك تواً أن السيد المسيح جاء إلى عالم البشر لإتمام رسالة خاصة، وأنه عاش حياته وحقق عمله الخلاصي تبعاً لمخطط إلهي رُسم مسبقاً. وكان ذلك المخطط واضحاً وجلياً أمام عينيه، كما يظهر لنا منذ بدء حياته العلنية. وبالرغم من أهمية كل لحظة في حياته فإنه لم تبْدُ عليه ملامح استعجال الأمور، إذ أنه كان يملك الوقت الكافي للقيام بجميع تفاصيل مهمته الخلاصية كذلك لم يكن مرة واحدة فريسة للظروف، بل كان دائماً سيدها وموجّهها. لم تبعده معارضة البشر عن هدفه المنشود، إذ أنه سار نحو تحقيق الرسالة التي أسندها اللّه إليه. لقد كانت حياة المسيح بأكملها تسير على ضرورة إنجاز ذلك المخطط الإِلهي. من هنا كان قوله في مستهل سيرته العلنية: «يَنْبَغِي لِي أَنْ أُبَشِّرَ ٱلْمُدُنَ ٱلأُخَرَ أَيْضاً بِمَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، لأنِّي لِهٰذَا قَدْ أُرْسِلْتُ» (لوقا 4: 43)، ثمّ «ٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31) وقد أخبر ملاك الرب بعض التلاميذ بقيامة سيدهم من الموت صبيحة ذلك الحدَث قائلاً: «لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا لٰكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي ٱلْجَلِيلِ قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا 24: 6 - 7). في بحثنا لموضوع وجوده الأزلي السابق لتجسُّده أشرنا إلى التعبيرات التي يستعملها الإنجيل للإشارة إلى ذلك، مثل «جاء» أو «أُرسل» لينجز مهمة معينة. أما بشأن إنهاء مهمته وتركه للعالم فإن ذلك كان ضرورة إلهية. والخطة الإِلهية للمسيح تضمَّنت أحداثاً مثل رحلة المسيح الأخيرة إلى القدس، ورفض زعماء الكهنة وشيوخ اليهود له، ثم خيانة يهوذا، فالقبض عليه، ومِنْ ثمَّ تألُّمه وموته على الصليب وقيامته في اليوم الثالث. لم تكن هذه الأمور متوقَّعة فقط، أو سبق وأخبرت بها نبوات الأنبياء فحسب، بل إن الإنجيل عرضها جميعاً كأمور حتمية في عملية إنجاز رسالة المسيح الخلاصية. فبعد قيامته من الموت قال المسيح لتلاميذه: «... هٰذَا هُوَ ٱلْكَلامُ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ، أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَٱلأَنْبِيَاءِ وَٱلْمَزَامِيرِ». حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا ٱلْكُتُبَ. وَقَالَ لَهُمْ: «هٰكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِٱسْمِهِ بِٱلتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا لِجَمِيعِ ٱلأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ» (لوقا 24: 44 - 47). إن قيام شخص يتمتّع بمثل هذه المكانة الإِلهية بمهمة كهذه، يتضمّن اتِّضاعاً في كل خطوة من خطوات تلك الرسالة. لم يتعرض المسيح للإهانة من الفقر والإرهاق والجوع فحسب، بل أنه اختبر مقاومة مريرة من معارضيه والسلطات الدينية المعاصرة له. واختبر المسيح ذروة الاتضاع في آلامه النهائية وموته ودفنه. وكما ذكرنا سابقاً، كان المسيح قد أظهر اتّضاعه بأخذه طبيعة بشرية، مولوداً كطفل ضعيف، ومعرَّضاً لكافة محدوديات وضعفات الطبيعة البشرية لثلاث وثلاثين سنة. ومع ذلك فإن رسالته تُوصف في الإنجيل على أساس كون كل عنصر فيها تمّ على أكمل وجه وبصورة عفوية لا يعتريها تكلُّف. فكل فكرة وردت للسيد المسيح للتهرُّب من تتميم رسالته باستخدام قوّته الفائقة الطبيعة وربح مجد البشر، نظر إليها كتجربة ابتدعها الشيطان. لقد جاء إلى عالمنا لإتمام رسالة واحدة وصريحة، وهي أن يكون كفارة عن الخطية بواسطة آلامه وموته. وكانت كل الأمور التي قادت إلى هذا العمل الأساسي قد رسمها اللّه بالذات، ولم يقدر أي بشري أن يغيّر من مجراها. يظهر لنا بكل جلاء أن آلام وموت المسيح كانت منجزات وانتصارات لا كوارث وفواجع. لقد حدد هو بنفسه، وليس أعداؤه، تاريخ وساعة الصلب. ومع أن عملية الصلب بدت غريبة ومذهلة لتلاميذه، إلاّ أنها لم تكن سوى تكملة لمهمة جاء للقيام بها، لفتح باب جديد وثابت لملكوت من العزّة والحياة. ويعكس سفر أعمال الرسل جمال السلطان والتوجيه الإلهيين في حياة يسوع المسيح. فعملية الصَلب مع كونها أبشع شرّ في تاريخ البشرية، أشار إليها سفر الأعمال على أنها من ترتيب إلهي مسبق. نقرأ مثلاً: «لأنَّهُ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ ٱلْقُدُّوسِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاطُسُ ٱلْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ إِسْرَائِيلَ، لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ» (أعمال الرسل 4: 27، 28). وقد وعظ بطرس الرسول أهل القدس قائلاً: «هٰذَا (أي يسوع) أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أعمال الرسل 2: 23). ثم لا يجب أن يفوتنا أن نلاحظ مدى السلطان العجيب الذي عبّر عنه يسوع المسيح في معرض أحاديثه. لقد لجأ العديد من الأنبياء الذين سبقوا مجيئه لبدء نبوّته بالقول: «هكذا يقول الرب». لكن المسيح لم يلجأ إلى نفس الأسلوب، ولم يشر إلى سلطة خارجة عنه، بل كان يضع نفسه في علاقة اللّه بشعبه، ولذلك تكلّم باسمه وبسلطته الشخصية النهائية. ففي الإنجيل حسب متى حيث وردت موعظة المسيح على الجبل، تكلّم بمكانة المشرّع المتسلّط. وقد ذكر المسيح أوامره مراراً وتكراراً على أساس أنها جزء من شريعة اللّه، وقال: «سمعتم أنه قيل.... وأما أنا فأقول....». اعتبر المسيح المضطهَدين لأجله معادلين للأنبياء الذين اضطُهدوا في سبيل اللّه (متى 5: 11، 12)، وكذلك أعطى نفسه حق المشرّع الأعلى الذي يسمح للبشر بالدخول في ملكوت السموات وقال: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلإِثْمِ» (متى 7: 21 - 23). وكشف البشير متى عن تفوُّق المسيح على سائر معاصريه من علماء إسرائيل قائلاً: «فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلّمهم كمَنْ له سلطان وليس كالكتبة». وقد نسب المسيح لنفسه سلطة تفوق سائر الفرائض والشرائع المقدسة التي أوحى بها اللّه لشعبه. فدعى نفسه «... أَعْظَمَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ!... ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ ٱلسَّبْتِ» (متى 12: 8) «والسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولانِ وَلٰكِنَّ كَلامِي لا يَزُولُ» (متى 24: 35). لا بد إذن أن المسيح عرّف عن نفسه، لا كمن هو في حاجة إلى خلاص، بل كمخلّص... وليس كعضو في جماعة الإِيمان (أي الكنيسة) بل كرأسها... ليس كمؤمن مثالي، بل كمن هو موضوع إيمان جميع المؤمنين. وهو لم يصلِّ فقط، بل هو من تُرفَع إليه الصلاة. ثم أخيراً قدّم نفسه ليس معلّماً للبشر فحسب، بل ربّاً وسيّداً لهم. |
|||
|