نرى قصة عخان من الزوايا التالية:
كانت مدينة أريحا باكورة المدن التي سقطت دون حرب بين يدي شعب الله، وكأي باكورة في الأرض، لابد أن تعطي لله، وقد كانت المدينة جميلة وغنية وممتلئة بالخيرات والثروات والذهب والفضة والملابس، وكان على الإسرائيليين جميعاً أن يعلموا أن المدينة محرمة، وأن ما فيها ليس لبشري أن يأخذ منها قلامة ظفر، بل الكل لله، ولبيت الله،.. وقد أعلن يشوع هذه الحقيقة واضحة صريحة أمام جميع الشعب دون لبس أو إبهام، فالحرام أساساً هنا ليس مجرد أسلاب حربية يجوز للجنود أن يأخذوها ويغتصبوها، بل هي حق الله، إذا اعتدى أحد عليه، فهو سارق وسالب لله نفسه. وكان على عخان بن كرمى - وهو يقتحم حاجز البيت الذي سرق منه السلب- أن يدرك أنه يقتحم حاجزاً أعظم وأقوى، حاجز الله الذي تخطاه تحت وطأة التجربة وقسوتها!!.. ومن الواضح أن التجربة حدثت في الظلام، وأن عخان استطاع أن يحصل على غنيمته دون أن يلاحظ أحد، هل أخذها في الليل، ودفنها في الظلام في خيمته؟!!.. أو أنه في اقتحام المنازل شاغل غيره من المقتحمين حتى لا يتنبه أحد إليها، وقد لمع في عينيه لسان الذهب، والرداء الشنعاري النفيس والمائتي الشاقل من الفضة؟!!.. إنه على أي حال استطاع الانفراد بالغنيمة، وحفر حفرة عميقة في خيمته، ودفنها هناك، وخرج خارج الخيمة يغبط نفسه، لأن أحداً لم يره أو يتنبه إلى ما فعل.. هل استراح في تلك الليلة وأمكنه أن ينام فوق غنيمته المدفونة؟!! هل ثار عليه الضمير، وحاول أن يسكنه ويهدئه بأنه لم يفعل إثماً أو حراماً، لأن الغنيمة لا شيء بالنسبة للأسلاب الكثيرة المقدمة لله؟.. أو أن الله لا يجوز أن يضيق الأمر فيأخذ كل شيء لبيته وخزانته، دون أن يترك لهم شيئاً؟.. قد تكون هذه ثورة الضمير -أو ما أشبه- في تلك الليلة السوداء في تاريخ حياته، وقد يكون قد أغلق على نفسه تحت وخز الضمير، وأخذ يعمق الحفرة، وهو يظن أنه بالعمق البعيد يستطيع أن يدفن في أعماقه هو، في العقل الباطن خطيته النكراء!!.. لسنا نعلم، ولكننا نستطيع أن نؤكد أنه لم يغمض له جفن أو يعرف الراحة على الإطلاق، وقد طار النوم من عيني قايين قبله، وهو يصيح في حضرة الله، ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض وعن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني".. وطار من عيني "مكبث" بعده كما جاء في نظم شكسبير الشعري
أنصت لقد سمعت صوتاً يصرخ: لا نوم بعد الآن
مكبث.. هل ينام القاتل؟!! إن البريء ينام!!..
ومع ذلك فالصرخة تدوي: مكبث هل ينام القاتل؟!!
عندما صور فيكتور هوجو قايين هارباً في الأرض لا يستطيع الراحة والاستقرار والنوم، كان يصوره فزعاً من عين رهيبة تحدث عليه وتفزعه في الجو، وهو يصرخ ويحاول أن يغمض عينيه عن رؤياها، وأطلق عليها هوجو "الضمير"، وفي الحقيقة هي عين الله التي رأت قايين، ورأت عخان، ورأت -وماتزال ترى- خطاة الأرض وتفزعهم وترهبهم في كل مكان وزمان،.. إن المشكلة الحقيقية في تجربة عخان بن كرمي كانت في عينه هو، ولو أن هذه العين كانت بسيطة، وأدت رسالتها وواجبها كما يؤدي الجندي واجبه دون الانحراف هنا أو هناك، لما وصل الرجل إلى الضياع والدمار الذي انتهى إليه!!..: "ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً".. وقد أبدع توما القمبيزي، وهو يصور المراحلة المختلفة للتجربة، فهي نظرة شهية تدغدغ الإحساس، وهي خيال غامض، لا يلبث أن يأخذ صورة في الذهن واضحة، مصحوبة بقطرات مسكرة ندية لا تلبث أن تسقط على القلب لتتحول قيوداً وسلاسل جبارة تغله وتقيده وقد شدد السيد المسيح لذلك على العين ونظرتها، فتحدث عن النظرة المشتهية للمرأة والتي هي الزنا بعينه،.. وطلب معاملة العين بكل شدة وعنف إذا ما قادت صاحبها إلى العثرة!!..: "إن أعثرتك عينك فاقلعها وألقها عنك خير لك أن تدخل الحياة أعور من أن تلقى في جهنم النار ولك عينان".. وهو لا يقصد -ولا شك- العين المادية لأن الأعور يستطيع أن ينظر بالعين الأخرى، ما كان يراه بالعين المقلوعة!!.. إنه يقصد بالأحرى الحرمان الاختياري من الأشياء المحبوبة التي تجرب الإنسان، وفي ذلك تقول روستي وهي تخاطب الفتيات الشابات بما يصلح أن يكون نصيحة للجميع: "واجبنا أن نسقط كل ما تتعلق به نفوسنا، مما يضعف حياتنا الروحية،.. وماذا إذن؟!! إن الكتب التي نمتنع عن قراءتها الآن سوف نستبدلها في الأبدية بكنوز الحكمة والمعرفة!!.. والموسيقى التي نرفض أن نسمعها سنجد تعويضاً عنها في فرح المفديين،.. والصور التي نغمض العين عنها ستنتهي بنا إلى الرؤيا السماوية المطوبة العجيبة، والمصاحبة البشرية التي نتباعد عنها، سوف يكون البديل عنها مصاحبة الملائكة والقديسين، وما نرفض من ملاهي ومسرات سوف نجد أسمى منه في أفراح اليوبيل الأبدي في السماء"..
أجل ومن يحفظ نظره بنعمة الله مستقيماً كريماً، نبيلاً سماوياً، سيجد السعادة الحقيقة في الحياة الحاضرة، والعتيدة أيضاً!!..
وأية هزيمة هذه التي لم تصب عخان وحده، بل امتدت إلى يشوع، وإلى الشعب، وإلى ستة وثلاثين رجلاً قتلوا في المنحدر في طريق الهروب، فقد كانت الهزيمة الأدبية والروحية بالغة، فهو يخرج إلى الناس بعينين زائغتين، منخفضتين لا تعرفان الهدوء والاستقرار، وهو يشعر أنه حقير، حتى ولو تصور نفسه يلبس الرداء الشنعاري النفيس،.. وهو يرى لسان الذهب، وكأنما يتكلم إليه بأحط الكلمات وأقساها، وهو يرى المائتي شاقل، وقد أضحت لمستها كمن يلمس فضة، تخرج من النار لتشوي أصابعه شيا، وهو يسمع أصواتاً تصم أذنيه، وتقول له كلمة واحدة: حقير حقير حقير!!..
وهو يرى طوله وقد تناقص، ورأسه وقد سقط في خزي، وكل يد تمد إليه البنان، وكأنما تقول: انظروا هذا هو الخائن هذا هو اللص!!.. وهو لا يجرؤ أن يرفع عينيه نحو السماء، فقد دمر علاقته مع الله، وهو يسير مثقلاً بالذنب، مربوطاً بالهم، وقد بعد الله بوجهه عنه، وهو يرى الجحيم قبل أن يصل إليه، والهاوية قبل أن يتردى فيها!!. مسكين عخان هل دوى في أذنيه ذلك الصوت البعيد الآتي بعد أجيال متعددة: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي فداء عن نفسه؟!! كم يساوي الرداء الشنعاري، ولسان الذهب، وشواقل الفضة تجاه نفسه التي لا تقدر بثمن أو تقوم بذهب الأرض كلها أو فضتها، وليس بذهب أريحا ومالها المسروق؟!! مسكين وإلى الأبد مسكين أيها التعس عخان بن كرمي.. ولحقت الهزيمة يشوع والشعب، وويل للناس من الجنود الغزاة عندما يقضون وهم أشبه بالوحوش على الأسلاب والغنائم، وإن كان "الكسندر هوايت" يكذرنا بأن يشوع مغبوط هنا، لأن الجيش بأكمله سلم من التجربة، ولم يسقط فيها سوى فرد واحد، بالمقارنة مع آلاف السارقين من الغزاة الذين لا يتورعون عن أخذ كل شهي، وهم يدوسون بأقدامهم المدن المهزومة، على أن كلمة الله واضحة، فإن ذبابة واحدة تنتن قارورة العطار، وأن شخصاً واحداً يتردى ويتباعد عن الحق، هو أشبه بالخميرة التي تخمر العجين كله، وأن إنساناً واحداً في شعب الله، أو الكنيسة إذا دخله الميكروب، فإنه سينتقل بكل تأكيد عدواه القاتلة للجميع،.. ومن الملاحظ أن الله وهو يتحدث عن الخطية هنا لم يذكر عخان بشخصه، بل ذكر إسرائيل بأكمله: "قد أخطأ إسرائيل بل تعدوا عهدي الذي أمرتهم به بل أخذوا من الحرام بل سرقوا بل أنكروا بل وضعوا في أمتعتهم فلم يتمكن بنو إسرائيل للثبوت أمام أعدائهم يديرون قفاهم أمام أعدائهم لأنهم محرومون ولا أعود أكون معهم إن لم تبيدوا الحرام من وسطكم".. إن يشوع وشيوخ إسرائيل الممزقى الثياب والتراب على رؤوسهم، والشعب الذي ذاب قلبه كالماء، يكشفون عن الرابطة بين الفرد والجماعة، وعن الهزيمة التي تتجاوز مسببها لتلحق بالآخرين،.. إذا ضلت فتاة في بيت، فإن عارها لا يقف عندها وحدها، بل يمتد إلى كل فرد فيه، وإذا تجرع فتى ساقط من كأس خطيته جرعات من المرارة، فإن أهل البيت جميعاً لابد أن يمصمصوا شفاهم المريرة مما لابد أن يشربوه من هذه الكأس بالذات،.. إن الخطية ترعى كآكلة، وقلبي يتمزق على الستة والثلاثين رجلاً الذين سقطوا كما يصفهم الكتاب عند المنحدر، أجل وكان لابد يدرون أو لا يدرون أن يسقطوا وتسقط معهم أمة بأكملها عند منحدر الخطية والإثم والشر والفساد!!.. أليس معظم النار من مستصغر الشرر؟!!..
كان لابد للخطية التي تمت في الظلام أن تكشف، ومن الملاحظ أنها لم تعرف إلا بالثياب الممزقة، والتراب والمهال على الرؤوس والصرخة الباكية، كان هناك سر محير. لا يعرفه يشوع، ولابد أن يظهر ويبين، ولم يعرفه الرجل إلا عندما سقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب إلى المساء، ولن تنكشف الخطية إلا بالتذلل والاتضاع والصوم في حضرة الله بكل ألم وخشوع،.. ولعله ملاحظة الكسندر مكلارن الدقيقة في هذا الصدد، أن العمل على استئصال الخطية أهم عند الله من الصلاة: "فقال الرب ليشوع لماذا أنت ساقط على وجهك قد أخطأ إسرائيل".. "قم قدس الشعب وقل تقدسوا للغد،.. هل يستطيع المؤمنون إدراك هذه الحقيقة وممارستها على هذا الوجه العملي العظيم، إنهم مرات كثيرة يعكسون الآية، فهم دائمو الركوع أمام الله من أجل الشر والفساد دون أن يمدوا أيديهم لاستئصاله والقضاء عليه،.. إن الصلاة العملية، هي أن تقدس الشعب للغد، وأن تطهره للمستقبل وأن توجد سليماً بريئاً بعد دفن الخطية والتوبة عنها، والتطهير من جراثيمها وميكروباتها القاتلة!!..
اعترف عخان بن كرمي بخطيته، فهل كان اعترافه كاملاً وصحيحاً؟ إن نقطة القصور الواضحة في هذا الاعتراف، إنه لم يأت من نبع قلب صاحبه، بل جاء وليد الإكراه، فهو لم يأت من تلقاء نفسه قبل أن تجتمع الأسباط سبطاً سبطاً، ويؤخذ سبط يهوذا بعشائره، والعشائر ببيوتها، حتى يكشف الله الخاطيء ويفضحه أمام الجميع، ويكره هو على الاعتراف الذي لابد منه،.. لو اعترف عخان بن كرمي قبل ذلك، ولو جاء اعترافه، قبل أن يعرف أحد ما فعله، ولو جاء صارخاً أمام يشوع باكياً منتحباً، قائلاً ما قاله داود بعد ذلك لله: “إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت” لربما قبل الله توبته، ولربما كان له مصير آخر غير الذي وصل إليه”!!.. لكن عخان بن كرمي اعترف كما اعترف فرعون أكثر من مرة تحت ثقل الضربات، وليس عن شعور بالتوبة، أو كما اعترف شاول بن قيس عندما قال لصموئيل: “أخطأت، وعندما صاح أمام داود “انحمقت جداً” دون أن يكون هناك شعور بالتوبة، أو إقلاع عن الإثم،.. إن الاعتراف الصحيح هو العودة إلى الله، والإقرار بالذنب، لا بسبب الخسارة المادية التي قد تلحق بصاحبها، بل بالأحرى للخسارة الروحية التي تفقد العبد علاقته بالسيد، والابن علاقته بأبيه السماوي!!.. ليس ما نفقد بل من نفقد، هذا هو الركن الصحيح في الاعتراف السليم أمام الله!!..
لم يلبس عخان الرداء الشنعاري، ولو لمرة واحدة في حياته، أغلب الظن أنه كان مستعجلاً وهو يخفيه، أو أنه لبسه دقائق معدودة ليرى كم هو جميل على جسده، ولم يدر عخان أن الرداء سيكون كفناً له، وسيدفن معه وربما فيه،.. ولم يستمتع عخان بلسان الذهب لأن هذا اللسان قد شهد ضده وحكم عليه أقسى حكم يحكم به على إنسان،.. ولم يبع عخان أو يشتر بالمائتي شاقل التي اختلسها من حق الله المحرم عليه،.. إن الجريمة لا تفيد صاحبها كما يقولون، ولا يمكن أن تعطيه رجاء في أي شيء،.. إن الخطية تصنع دائماً لصاحبها قبراً أو حفرة واسعة، لأنها تنتهي به في العادة -إن لم يتب- إلى الهوة الأبدية التي لا قرار لها!!.. ذهب آخاب إلى كرم نابوت اليزرعيلي ليرثه، ولم يدر أنه: "في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت، تلحس الكلاب دمك أنت أيضاً".. أخذ جيحزي من عطية نعمان السرياني، وسار في الطريق يحلم بالفضة، والثياب، والزيتون والكروم، والغنم والبقر، والعبيد والجواري،.. ولم يحلم بالبرص الذي سيلصق به وبنسله إلى الأبد!!.. أخذ يهوذا الثلاثين من الفضة، وتحولت ناراً في يده فطرحها في الهيكل، واشترى بها اليهود مقبرة الغرباء لأنه حقل دم،.. وكان هو الغريب عن تلاميذ المسيح، وقد غاص به الإثم إلى مقبرته الرهيبة المظلمة الأبدية!!..
هل قرأت الكلمة الدقيقة "أخذ عخان"؟ والشرير دائماً يؤخذ بحبل آثامه وخطاياه، ولا مهرب أو مفلت، لم يستطع الليل أو الظلام أن يحميه من الأخذ، لأنه: "أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت إن أخذت جناحي الصبح، وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضاً تهديني يدك وتمسكني يمينك فقلت إنما الظلمة تغشاني فالليل يضيء حولي الظلمة أيضاً لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء كالظلمة هكذا النور"..
أخذ عخان من بين الشعب والأسباط والعشائر والبيوت، وكأنما يوم الدينونة العظيمة قد جاء، وكل واحد لابد أن يعطي حساباً عما فعل خيراً كان أم شراً، ولا يستطيع أحد أن يتبادل الموقع مع آخر، أو يختفي في وسط الجمهور الكثير العدد أو الزحام الذي يتلاصق فيه الناس حتى يكادوا أن يصبحوا كتلة واحدة، أخذ عخان كما قال سيد الصادقين: "يكون اثنان على فراش يؤخذ الواحد ويترك الآخر، تكون اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتترك الأخرى".. وقد تخطيء العدالة الأرضية، فتضع المظلوم مكان الظالم، أو تقتص من البريء، وتترك المجرم، لكن عدالة السماء هيهات أن تخدع أو تغش، وهيهات أن تترك الخاطيء بدون عقاب أو قصاص.. فعل عخان فعلته في الظلام، وأخذ أمام الناس في وضح النهار،.. إنه يذكرنا بقول الله لداود "أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس"..
ثمة أمر آخر ينبغي أن نلتفت إليه، وهو أن عخان لم يذهب وحده، بل ذهب بيته أيضاً معه، وأن الحرام لم يؤخذ وحده، بل ضم إليه كل ماله أيضاً من بقر وحمير، وغنم وخيمة، وصعد الإسرائيليون جميعاً ليرجموا الرجل وبيته في وادي عخور، وقد حاول الكثيرون أن يبعدوا بين الرجل وأولاده وبنيه، إلى الدرجة أن بعضهم قال إن أولاده ذهبوا ليروا رجمه، وأنه رجم مع ما كان يملك، وأنه لا يجوز أن يؤخذ الأولاد بجريدة أبيهم، وأن الآباء إذا أكلوا الحصرم، فلا يجوز لأسنان الأولاد أن تضرس، .. ووجدالغير ممن قال إن اعتراف عخان كان كاملاً وصحيحاً، وأنه إذا كان قد عوقب هو أو بيته، فإنه عقاب الجسد الرادع للآخرين، أما الروح فتخلص بهلاك الجسد في يوم الرب يسوع،.. ووجد من ذكر أن النص الكتابي واضح ولا يحتمل اللبس، وأن الرجل قضي عليه مع بيته، وأن العلاقة بين رب البيت وأهل بيته علاقة نيابية دائمة، وكما يرث المرء الغنم عن والديه، فإنه قمين به أن يرث الغرم أيضاً، وأنه في كل الحالات ستفعل النعمة الإلهية فعلها، فإذا جاز لأحكام الوراثة أن تفعل فعلها من حيث الميراث الجسدية أو البدنية، فإنه تقصر عن الوصول إلى المصير الأبدي، لأن النفس التي تخطيء هي تموت، فإذا ذهب قورح بشره وتمرده فإن بني قورح لم تبتلعهم الأرض حتى يغنوا مزامير الرحمة والإحسان الإلهي على مسمع الناس في كل الدهور!!.
إن الأقرب إلى التصور، والأبسط في التفسير، أن البيت كان على شاكلة الرجل، وأنه إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص، وأنه كما كانت سفيرة على علم بما فعل حنانيا، فإن بيت عخان كان على علم بما فعل، وأن الأسرة قبلت ما فعل، أو رضيت أو تسترت عليه، أو لم تشأ أن تفضحه، وكان السكوت على أي حال نوعاً من التضامن والرضا،.. وذهب البيت مع الرجل، وذهب الحلال مع الحرام، وتحول الكل إلى رجمة مرتفعة محترقة، تشهد بصدق الله وعدالته وغضبه وكراهيته الأبدية للخطية!!
ولكن السؤال مع ذلك يأتي: أين رحمة الله في هذه كلها؟ لقد صرخ حبقوق أمام السيد قائلاً: "في الغضب أذكر الرحمة" وها نحن نرى هذه الرحمة عندما نستمع إلى هوشع: "لكن ها أنذا أقمتها وأذهب بها إلى البرية وألاطفها وأعطيها كرومها من هناك ووادي عخور باباً للرجاء".. وهنا نتحول من "يشوع" إلى "يسوع" ونتحول من المحارب القديم إلى رئيس السلام والرحمة،.. وعندما دفنت الخطية في وادي عخور (والكلمة "عخور" تعني "اضطراب") جاء يسوع ليصنع من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، جاء ليحول الاضطراب والألم والحزن والضيق، إلى لغة التوبة، ويفتح من هناك باباً للرجاء في رحمة الله وإحسانه وحبه وحنوه ولطفه وغفرانه!!..
ألا ما أعظمه من سيد وأروعه من محب! وما أبعد الفرق بين "يشوع" وهو يصب جام غضبه على عخان في قوله: "كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم فرجمه جميع إسرائيل بالحجارة، وبين "يسوع" وقد جاءوا إليه بالمرأة التي أمسكت في زنا ولما أقاموها في الوسط قالوا له: "يا معلم هذه المرأة أمسكت وهي تزني في ذات الفعل وموسى أوصانا أن مثل هذه ترجم، فماذا تقول أنت؟.. ولما استمروا يسألونه انتصب وقال لهم من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر، وإذ كانت ضمائرهم تبكتهم خرجوا واحداً فواحداً مبتدئين من الشيوخ إلى الآخرين، وبقى يسوع وحده والمرأة واقفة في الوسط فلما انتصب يسوع ولم ينظر أحداً سوى المرأة قال لها يا امرأة أين هم أولئك المشتكون عليك أما دانك أحد فقالت لا أحد يا سيد فقالت لها يسوع: ولا أنا أدينك اذهبي ولا تخطئي أيضاً"..!!
وربما لا نجد في الختام كلمات أروع مما كتب الكسندر هوايت وهو يقول ما ملخصه: "كان للقاء الرب لعخان بن كرمي في ذلك اليوم في وادي عخور، وادي الاضطراب، لقاء الدينونة!!.. على أنه يلتقي بي وبك، في وادي الاضطراب، لقاء الحنان والحب والرحمة، فإذا حدث أن فتحت بابك ذات مساء لألتقي بك منبطحاً على وجهك في ألم واضطراب أمام الله،.. فسأصفق لك في ذلك سعيداً مبتهجاً،.. لقد قادك الاضطراب إلى الله، وسأركع إلى جوارك، لأشاركك هذا الاضطراب، وستركع معي لتشاركني اضطرابي وسوف نخرج من الاضطراب سعداء بوادي عخور، حيث دفنا الخطية هناك إلى الأبد، وحيث صحنا أمام السيد: "لما سكت بليت عظامي من زفيري اليوم كله لأن يدك ثقلت على نهاراً وليلاً تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ، أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي لهذا يصلي لك كل تقي في وقت يجدك فيه عند غمارة المياه الكثيرة إياه لا تصيب أنت ستر لي من الضيق تحفظني بترنم النجاة تكتنفني"..