رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
يسوع والتجربة كما رواها لوقا الإنجيلي
الأحد الأول من الصوم: يسوع والتجربة كما رواها لوقا الإنجيلي (لوقا 4: 1-13) النص الإنجيلي (لوقا 4: 1-13) 1 ورَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّة 2 أَربَعينَ يوماً، وإِبليسُ يُجَرِّبُه، ولَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام. فلَمَّا انقَضَت أَحَسَّ بِالجوع. 3 فقالَ له إِبليس: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً)). 4 فأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان)). 5 فصَعِدَ بِهِ إِبليس، وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن، 6 وقالَ له: ((أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء. 7 فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه)). 8 فَأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد)). 9 فمَضى بِه إِلى أُورَشَليم، وأَقامَه على شُرفَةِ الـهَيكلِ وقالَ له: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إِلى الأَسفَل، 10 لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ))، 11 ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ)). 12 فأَجابَه يسوع: ((لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ)). 13 فلَمَّا أَنْهى إِبليسُ جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إِلى أَن يَحينَ الوَقْت. مقدمة نحتفل اليوم بالأحد الأول من الزمن الأربعيني الذي يقودنا إلى الفصح. وفي هذا الأحد يقدِّم لنا لوقا الإنجيلي تجارب يسوع الثلاثة حول كل ما تطلبه رسالته في خلاص الإنسان رافضا المسيحانية الأرضية السياسية، إذ واجه يسوع هذه التجارب وانتصر عليها بقوة كلمة الله، ووهب النصرة لشعبه مقدمًا إليه قوَّة وخلاصًا. وهكذا انتصرت الطبيعة البشريَّة في يسوع المسيح، ونالت إكليل الظفر والغلبة، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل لوقا (لوقا 4: 1-13) 1 ورَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ، وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فكانَ يَقودُه الرُّوحُ في البرِّيَّة تشير عبارة " رَجَعَ يسوعُ مِنَ الأُردُنّ " إلى التجارب التي وقعت إثر معمودية يسوع (متى 4: 1-11، مرقس 1: 12-13). إذ لما عزم يسوع على الدخول علانية في فداء البشر من الخطيئة اقتضى أن يُجرَّب لتظهر غلبته عليها. أمَّا عبارة " يسوعُ " فتشير إلى اسم المسيح الإنساني، فهو جُرّب كإنسان. لذلك يوحنا البشير الذي تكلم عن لاهوت المسيح لم يُسجل هذه التجربة، لأنَّه لو دخل يسوع في التجربة بلاهوته لَمَا كان قد جُرِّب مثلنا. ولفظة يسوع هي الصيغة العربية للاسم العبري יֵשׁוּעַ (معناه الله مخلص). وقد سُمِّي "يسوع" حسب قول الملاك ليوسف (متى 1: 21)، ومريم (لوقا 1: 31). ووردت لفظة يسوع وحدها خاصة في الأناجيل. أمَّا عبارة "الأُردُنّ" فتشير إلى ارتباط المعمودية بالتجربة. في المعمودية أكمل يسوع البِرَّ، وفي التجربة كان بِرَّه تحت التجربة. أمَّا عبارة " وهو مُمتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُس " فتشير إلى حلول على المسيح هذا الروح وقت المعمودية " نَزَلَ الرُّوحُ القُدُسُ علَيه"(لوقا 3: 22). أمَّا عبارة "الرُّوحِ" فتشير إلى الروح القدس الذي ناله يسوع في المعمودية، للقيام برسالته (لوقا 4: 14) ولمواجهة إِبليس حيث بدأ أول عمله مُحطِّماً قوة إِبليس. فيسوع ليس وحيداً، بل يتوجَّه باستمرار إلى الآب بفضل الروح الذي يُقيم فيه؛ وهذا يعني أن التجربة تدخل في مخطط الله. أمَّا عبارة "فكانَ يَقودُه الرُّوحُ" فتشير إلى ذهاب يسوع إلى البرِّيَّة بفعل الروح القدس وليس من تلقاء نفسه لمحاربة الروح الشرير. أمَّا عبارة "البرِّيَّة" فتشير إلى برية أريحا، والبرِّيَّة رمزٌ إلى حيث يُقيم الشرير، فهي أمَّاكن خربة وقبور بحسب المفهوم اليهودي. وأضاف متى الإنجيلي أنَّ يسوع "َكانَ معَ الوُحوش"(مرقس 1: 13) والمسيح ذهب للشيطان في مقره لمحاربته. ويظهر يسوع هنا بمظهر إسرائيل الجديد الذي جُرّب في البرِّيَّة؛ وخلافا لِما جرى لإسرائيل، خرج يسوع من المعركة منتصرا، فإنه لم يدع إبليس يفصله عن الله. 2 أَربَعينَ يوماً، وإِبليس يُجَرِّبُه، ولَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام. فلَمَّا انقَضَت أَحَسَّ بِالجوع تشير عبارة "أَربَعينَ يوماً" إلى التجارب التي كانت تتوالى على المسيح كل تلك المدة، كما يتضح ذلك من نص مرقس الإنجيلي " أَقام فيها أربَعينَ يَوماً يُجَرِّبُهُ الشَّيطانُ"(مرقس 1: 13). أمَّا عبارة "أَربَعينَ" فتشير إلى فترة زمنية طويلة، وهي عمر جيل بكامله (التكوين 7: 4)، للدلالة على العبور، حيث أنَّ الرقم (40) هو زمن محنة ينتهي بلقاء مع الرب. ويرجح أنَّ هذه الفترة تشير إلى الوقت الذي قضاه موسى النبي على الجبل (خروج 34: 28) أو إلى الأربعين سنة التي قضاها بني إسرائيل في برية سيناء (عدد 14: 34) والتي تدل أيضا على مسيرة إيليا النبي أربعين يوما (1 ملوك 19: 8). هو رقم مُميَّز في الكتاب المقدس: دُعي موسى عندما كان لديه 40 سنه؛ وبقي 40 سنة في سيناء. حكم شاول وداود وسليمان أربعين عاماً؛ وعظ يونان أربعين يوماً من أجل اهتداء أهل نينوى؛ وصام يسوع 40 يوماً في البرِّيَّة؛ وجُرِّب كذلك 40 يوماً؛ ووعظ لمدة 40 شهراً؛ وبقي في القبر 40 ساعة وظهر لمدة 40 يوماً قبل صعوده إلى السماء. أمَّا عبارة "يوماً" فتشير إلى التجربة التي دامت أربعين يوما بعد إقامته في البرِّيَّة، في حين أنَّ إنجيل مرقس يشير أنَّ التجربة دامت طوال إقامة يسوع في البرِّيَّة. وأمَّا متى الإنجيلي فيتكلم عن ثلاث تجارب في نهاية الأربعين يوما، ومن هنا يبدو أنَّ لوقا جمع التقليدين معا. أمَّا عبارة "إِبليس" في الأصل اليوناني διάβολος (معناها المشتكي أو الفاسد) فتشير إلى العدو الذي يعارض الله ويعارض إقامة مُلكه ويُسمَّى أيضا الشيطان مرقس 1: 13) ، وفي الأصل اليوناني Σατανᾶς (معناه العدو) ، ويُدعى أيضا المُجرّب (متى 4: 3)، أو بعل زبول (مرقس3: 22) أو بليعال أو بليعار ( 2 قورنتس 6: 15). وقد أشار إليه المسيح في كلامه عن "النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبليس وَمَلَائِكَتِهِ" (متى 25:41). ومن هذا المنطلق، الشيطان ليس رمزاً أو فكرة، لكنه كائن له وجود حقيقي، ودائما ما يقاوم الله ويقاوم من يتبع ويطيع الله؛ أمَّا عبارة "يُجَرِّبُه" فتشير إلى تجربة إِبليس ليسوع، والتجربة من الشيطان، لأنها تقوم على الشر لأجل إغواء الإنسان وإبعاده عن الله، وإيقاعه في الخطيئة (تكوين 22: 1). ويُعلق القديس أوغسطينوس "يسوع قائدنا سمح لنفسه بالتجربة حتى يُعلِّم أولاده كيف يُحاربون". إنَّ إِبليس يُجرّب المؤمنين، وأمَّا الله فلا يجرِّب بل يمتحن شعبه. فالامتحان أو الاختبار من الله، والتجربة من الشيطان، وفي هذا قال الرسول " إِذا جُرِّبَ أَحَدٌ فلا يَقُلْ: ((إِنَّ اللهَ يُجَرِّبُني)). إِنَّ اللهَ لا يُجَرِّبُه الشَّرُّ ولا يُجَرِّبُ أَحَدًا" (يعقوب 1: 13). أمَّا عبارة "لَم يأكُلْ شَيئاً في تِلكَ الأَيَّام" فتشير إلى صوم يسوع. فكما صام موسى 40 يومًا ليتسلم شريعة العهد القديم، كذلك صام المسيح 40 يومًا قبل البدء في خدمة العهد الجديد. ويُعلق القديس أمبروسيوس " كان هدف ربَّنا يسوع المسيح في صومه وخلوته هو شفاؤنا من جاذبيَّة الشهوة، حيث قبل يسوع أن يُجُرَّب من إِبليس لأجلنا جميعا لنعرف كيف ننتصر نحن فيه". لا شك أن جسد يسوع حُفظ من الموت جوعا بقوة إلهية إذ لم يأكل شيئا. أمَّا عبارة "أَحَسَّ بِالجوع" فتشير إلى يسوع كونه إنسانا حقا مع كونه أيضا إلهاً حقاً، وقد تعب يسوع وعطش (يوحنا 4: 6-7)، ويُعلق القديس ايرونيموس " يخضع الجسد لتجربة الجوع لتُعطى فرصة لإِبليس كي يجُرِّبه". جاع لأنه قَبِلَ أن يكون مثلنا، كان لا بُد أن يتحمَّل ما يجب أن يتحمَّله إنسان بشري. وهكذا شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة كما جاء في رسالة صاحب العبرانيين "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة، ويُعلق القديس أمبروسيوس "جاع يسوع في البرِّيَّة ليُكفِّر بصومه عن سقوط آدم الأول الذي سبَّبه شهوة الطعام والتلذُّذ به، فشبع آدم من معرفة الخير والشر لضررنا، وجاع المسيح لفائدتنا". 3 فقالَ له إِبليس: إِن كُنتَ ابنَ الله، فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً تشير عبارة " إِن كُنتَ ابنَ الله" إلى تجربة الشيطان الأولى التي تنطلق من بنوّته للآب السماوي في محاولة نزع الارتباط بالآب الذي أرسل ابنه يسوع إلى العالم لخلاص العالم، وذلك ن خلال استعمال الشيطان كلام الله الوارد لدى عماد ابنه يسوع (متى 3: 22). يستغلَ إبليس هذه التجربة، ليُجرّد يسوع من مساواته بالله أبيه، بعد ما اكتشف فيه ذاك الّذي سيُقلِّص سلطته على العالم والبشر. أمَّا عبارة " إِن " في الأصل اليوناني Εἰ (بمعنى إذا، أو لو أو بما أنك) فتشير إلى شرط وهمي في الحياة والسعادة والمستقبل. يحاول إِبليس أن يبُثَّ الشك، مُبيِّناً كيف يمكنه تغيير الواقع. لكن في الحقيقة الواقع لا يتغير! يحاول إِبليس أن يقدِّم المستقبل ومخاوفه وشكوكه، للتخبط في الغم والهم حيث أنَّ المستقبل غير موجود بعد، بل انه موجود فقط في الحاضر. يحاول إِبليس أن يُري السراب. أمَّا عبارة "فَمُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً" فتشير إلى إغراء الجسد، إذ يكتشفُ إبليس أوّل نقطة ضعف في إرادة يسوع، فيتسلّط عليه وذلك بتحويل الحجارة إلى خبز، بهذا الأمر يرتفع شأنه بين الجماهير الجائعة الفقيرة، كما هو الحال بعد أعجوبة تكثير الخبز، فهم سينادون به ملكاً مستقلا. إنها تجربة ابتعاد يسوع عن آدم الأنسان الذي يأكل خبزه بعرق جبينه كما أمره الله "عَرَقِ جَبينِكَ تأكُلُ خُبزًا" (التكوين 3: 19) إذا ما حوّل يسوع الحجر إلى خبز. قبل يسوع على نفسه لإجراء عمل الفداء أن يكون إنسانا مفتقرا إلى الله كسائر الناس فجرّبه إبليس هنا لكي يرفض الاتكال على الله والخضوع له كإنسان ويستقل بلاهوته. لكن يسوع من خلال هذه التجربة يؤكد أنّه هو ابن الله الحبيب الذي رضي الله عنه ويؤكد أمَانته لله ويُظهر للملأ بنوته الحقيقية انه ابن الله الحقيقي! ويُعلن في الوقت نفسه عن أُبوَّة الشيطان المخادعة الذي يقدِّم حجرًا عوض الخبز ليأكله الإنسان بعكس الآب الحقيقي الذي لا يقدِّم حجرًا إن طلب منه ابنه خبزًا (لوقا 11: 11). 4 "فأَجابَه يسوع: مَكتوبٌ: لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان تشير عبارة "مَكتوبٌ" إلى إجابة يسوع ليس بصفته ابن الله بل بصفته إنسان، وهكذا يمكن لأي إنسان أن يقولها. يردّ يسوع على الشيطان، ليس بكلماته الخاصة، ولكن بالرجوع إلى الكتاب المقدس، كلمة الله الآب "لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان"(تثنية الاشتراع 8: 3). ويُعلق القديس أمبروسيوس "لم يستخدم الرب سلطانه كإله وإلا فإننا لم نكن نجني فائدة، إنما استخدم الإمكانيَّة العامة وهي استخدام كلام الله". أمَّا عبارة "لَيَس بِالخُبزِ وَحدَه يَحيا الإِنسان " فتشير إلى كلمات مقتبسة من سفر تثنية الاشتراع "فذلَّلَكَ وأَجاعَكَ وأَطعَمَكَ المَنَّ الَّذي لم تَعرِفْه أَنتَ ولا عَرَفَه آباؤكَ، لِكَي يُعْلِمَكَ أَنَّه لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان" (تثنية الاشتراع 8: 3). لا يردّ يسوع بكلماته، بل بالرجوع إلى الكتاب المقدس، كلمة الله الآب. جواب يسوع يُبرهن أنَّ الجوع الجسدي ليس بشيء، قدّام الجوع الرّوحي. إذ الحياة الحقيقيّة تحتاج أكثر من الخبز. الله قادر أن يمنح الإنسان الحياة وبإمكانه أن يمنحه أن يحيا بدون طعام؟ رفض يسوع السماع للشيطان رغم إمكانيَّته من تحويل الحجر إلى خبز، كما حوّل الماء إلى خمر في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-12) إنما قدّم "الخُبزَ النَّازِلَ مِنَ السَّماء هوَ الَّذي يأكُلُ مِنه الإِنسانُ ولا يَموت"(يوحنا 6: 50). رفض يسوع هذه التجربة، لأنه لا يريد استخدام قوى روحية لغاية دنيوية. واستخدم الكلمة المقدسة في مواجهة هجمات الشيطان، هكذا يُمكننا أن نستخدمها بكفاءة وفاعلية. علّنا نتمثل بيسوع ونرفض كل شهوة يقدمها لنا إِبليس. 5 فصَعِدَ بِهِ إِبليس، وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن، تشير عبارة "أَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ في لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن" إلى تجربة الصليب من خلال التملك، لا من خلال الصليب، ومن خلال الباب الرحب الواسع وهو "السجود لإِبليس نفسه"، لا من خلال الباب الضيق، باب التضحية والآلام والتخلي. في حين أنَّ المسيح ملكَ من خلال آلامه على الصليب لا من خلال الباب الرحب، وجعلنا نحن أيضًا نملك معه كما وصَّانا "أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون" (متى 7: 13). أراد إِبليس أن يُبعد يسوع عن مخطط الله بواسطة الغنى والنفوذ والسلطة. أراد إبليس أن يثني يسوع عن الملكوت الروحي إلى المُلك العالمي كما ابتغى الشعب اليهودي ليكون بمنزلة الملك داود قديمًا وبمنزلة قيصر وقتئذٍ خلاف ما قصد الله. أمَّا عبارة "جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ" فتشير إلى جزء من مملكة اليهودية، ولكنه أراه سائر الممالك تصورا وتخيلا بمجرد وصفه إيَّاها، وكان كل ذلك في لحظة من الزمن، وهذا لم يذكره إنجيل متى. أمَّا عبارة "لَحظَةٍ مِنَ الزَّمَن” في الأصل اليوناني ἐν στιγμῇ χρόνου (معناها طرفة عين) فتشير إلى صورة من الوعي لا حصر لها وهي سمة الرؤيا والنشوة، كما جاء في رسالة بولس الرسول "إِنَّنا لا نَموتُ جَميعًا، بل نَتَبدَّلُ جَميعًا، في لَحْظَةٍ وطَرْفةِ عَين، عِندَ النَّفْخِ في البُوقِ الأَخير" (1 قورنتس 15: 52). فالكلمة تدل على وميض مفاجئ من رؤية للحظة، وقال البعض أن هذه اللحظة كانت كالخداع البصري والوهم، فالشيطان يستعرض كذبه والوهم الخادع. 6 وقالَ له: ((أُوليكَ هذا السُّلطانَ كُلَّه ومَجدَ هذهِ الـمَمالِك، لِأَنَّه سُلِّمَ إِليَّ وأَنا أُولِيه مَن أَشاء. تشير عبارة "أُوليكَ هذا السُّلطانَ" إلى قول الشيطان الذي يفتخر أن له " السلطة على العالم (2 قورنتس 4: 4، أفسس 2: 2)، مُعرضا على يسوع أن يكون المسيح الدنيوي الذي ينتظره معاصروه. ولكن هذا سلطان كان مهدّداً كما صرّح يسوع لتلاميذه " كُنتُ أَرى الشَّيطانَ يَسقُطُ مِنَ السَّماءِ كالبَرْق"(لوقا 10: 18)، ومدة سلطانه قصيرة ومؤقت (لوقا 22: 53)، أمَّا سلطان يسوع الذي يناله من الآب فهو يدوم إلى الأبد (لوقا 10: 22)، ويستمدّه من أبيه السماوي كما صرّح يسوع: "قَد سَلَّمَني أَبي كُلَّ شَيء" (لوقا 10: 22). أمَّا عبارة "سُلِّمَ إِليَّ" فتشير إلى يسوع الذي لم ينكر ما ادعاه الشيطان بل أقرَّه. لكن يسوع سيتسلّط على العالم بطريقته، أي بانتصاره بالصليب والعذاب والموت، فيرفعه الآب إلى مجده الأبدي كما أراد الله. في هذا الصدد يؤكد يسوع ذلك قائلا "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه " (يوحنا 4: 34). 7 فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ ذلكَ كُلُّه تشير عبارة "سَجَدتَ لي" إلى شرط وحيد الذي يضعه إِبليس أمام يسوع. والسجود معناه الخضوع التام الذي لا يليق إلا بالله (متى 2: 2). فالسجود لغير الله هو عبادة الأصنام كما صنع شعب العهد القديم في الصحراء فسجدوا إلى العجل الذهبي (خروج 32: 1-8)؛ وان عبادة الأصنام هي في النهاية سجود للشياطين كما قال بولس الرسول (1قورنتس 10: 20-22). 8 فَأَجابَه يسوع: ((مَكتوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد)). تشير عبارة "لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد" إلى اقتباس يسوع من سفر تثنية الاشتراع " الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقي وإِيَّاه تعبُدُ" (تثنية الاشتراع 6: 13). وبهذا رفض يسوع السجود للشيطان من اجل سيادة العالم السياسية. ويُعلق العلامة أوريجانوس "لنفرح ولنبتهج نحن إذ نقدِّم لله السجود والعبادة والإكرام، ولنُصَلِ إليه ليقتل الخطيّئة التي ملَكت في أجسادنا (رومة 6: 6) فيملك وحده علينا". رفض يسوع مُلكًا ارضيًا، والمُلك الروحي لا يوجد دون حمل الصليب. فليتنا نتعلم أن نجد حلاوة التنازل عن بعض ضرورياتنا واحتياجاتنا من مال وجهد ووقت وصداقات من أجل الأمانة للرب. 9 فمَضى بِه إلى أُورَشَليم، وأَقامَه على شُرفَةِ الـهَيكلِ وقالَ له: ((إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل تشير عبارة "فمَضى بِه إلى أُورَشَليم" إلى مسيرة يسوع بكاملها في بشارة لوقا تجاه أورشليم حيث يعرف يسوع أنّ أمامه موعداً مع الألم والموت. أما عبارة "أُورَشَليم" فتشير إلى مدينة القدس أو المدينة المقدسة (أشعيا 48: 2 ومتى 4: 5)، أو القدس الشريف حاليا. واكتشف في القدس نقشان من هيكل هيرودس فيهما تحذير للأمم بالابتعاد عن ساحة العبرانيين (أفسس 2: 14)، وهي مكان التجربة الثالثة حيث انه حسب لوقا تنتهي التجارب في إنجيله في اورشليم حيث ستكون الآلام آخر تجربة للشيطان، وهي المعركة الأخيرة وانتصار يسوع النهائي فيها. إن مسيرة يسوع بكاملها، كما وردت في بشارة لوقا، ما هي إلاَّ السير تجاه اورشليم، حيث يعرف يسوع أنّ أمامه موعداً مع الألم والموت. لذلك وضع لوقا التجربة الأخيرة في اورشليم، لان هذه المدينة هي البداية والنهاية في إنجيله. أمَّا في إنجيل متى، فوضع تجربة اورشليم في التجربة الثانية " (متّى 4: 5)، لانَّ الجبل هو الأهم في إنجيله، لا سيما أنَّ موسى كان على الجبل حيث رأى أرض الميعاد ولم يدخل إليها. أمَّا عبارة "شُرفَةِ الـهَيكلِ" في الأصل اليوناني πτερύγιον (معناها جناح الهيكل) فتشير إلى البناء المرتفع الذي أقيم بجوار الهيكل، وأعلى نقطة في الهيكل وذلك عند سور الزاوية الناتئ من سفح التل مشرفا على أسفل وادي قدرون . ومن هذه النقطة كان ممكنا ليسوع أن يرى كل اورشليم. وقد طلب الشيطان من يسوع أن يُلقي بنفسه منها ليُظهر "مسيحيته" للجموع التي تحتشد عادة في ذلك المكان. أمَّا عبارة " الـهَيكلِ " فتشير إلى المركز الديني لكل الأُمَّة اليهودية، والمكان الذي كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح إليه (ملاخي 3: 1). وإن الهيكل مع أروقته أعيد بناؤه في عهد هيرودس الكبير. وامتد الرواق حوالي 200 متر مع أعمدة ضخمة وكان الناس يجتمعون هناك. أمَّا عبارة " فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل " فتشير إلى كلمات مقتبسة من الكتاب المقدَّس (مزمور 91: 11-21) لكن الشيطان شوَّه فهم هذه الآيات ليحوِّل عبادة الله إلى شكليَّات واستعراضات ورياء. يُعلن عن معرفته للتوراة، التي يوردها، ليخدع يسوع. إذ أراد إبليس أن يحمل يسوع على الطمع في عناية الله ومحبته لأنه ابنه، وذلك بان يعرِّض نفسه للخطر بلا داعٍ. إبليس ويعلق القديس ايرونيموس "هذه هي كلمات إِبليس دائمًا إذ يتمنَّى السقوط للجميع". فكان هذا العرض تحت ستار أنه يتمَّ لمجد الله. لكن محور التجربة الزَهْو حتى يُثبت يسوع أمام المِلأ لاهوته. وفي الواقع، إن هذه القفزة من جناح الهيكل إلى أسفل، هي ليست في برنامج الخلاص، بل القفزة الّتي قرّرها له الآب، هي من الأسفل إلى الأعلى، أي إلى الصليب. كما قال يسوع " الَيومَ دَينونَةُ هذا العالَم. اليَومَ يُطرَدُ سَيِّدُ هذا العالَمِ إِلى الخارِج. وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين" (يوحنا 12: 32). 10 لِأَنَّهُ مَكتوبٌ: يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ تشير عبارة "مَكتوبٌ" إلى ما ورد في الكتاب المقدس. وهنا يلجأ إِبليس إلى الكتاب المقدس لمحاربة يسوع بسلاحه. لم يخطئ الشيطان في اقتباس النص الكتابي، لكنه أساء تطبيقه وتفسيره. أمَّا عبارة " يُوصي مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ" فتشير إلى اقتباس إِبليس عبارة من الكتاب المقدس التي لا تناسب المسيح وتطبيقها عليه، إنما تناسب القدِّيسين بوجَّه عام. المسيح لا يحتاج لمعونة الملائكة، إذ هو أعظم منهم، ويرث اسمًا أعظم وأسمى: "لأنه لِمَن مِنَ المَلائِكَةِ قالَ اللهُ يَومًا: أَنتَ ابنِي وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ؟ " (مزامير 2: 7، عبرانيين 1: 5). 11 ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ)). تشير عبارة "ومكتوبٌ أَيضاً: ((على أَيديهِم يَحمِلونَكَ لِئَلاَّ تَصدِمَ بِحَجَرِ رِجلَكَ)) إلى اقتباس من الكتاب المقدس (مزمور 91: 11) الذي يتلوه المؤمن حين يحتاج عون الله. وهي تستهدف المسيح خاصة وكل إسرائيلي عامة الذي ينتظر العون من الله. ويستشهد الشيطان بالكتب المقدسة بحرفيتها، ويشوِّهها، لأنه يصمت عن تكملة المزمور وهي: "تطأ الأَسَدَ والأفعى تدوسُ الشبلَ والتنين" (مزمور 91: 13). والتكملة تُبيّن قوة يسوع والأبرار على القوة العدواني للشيطان التي تتمثل في الأسد والأفعى والشبل والتنين. ألم يقل السيد المسيح "وها قَد أولَيتُكم سُلطاناً تَدوسونَ بِه الحَيَّاتِ والعَقارِب وكُلَّ قُوَّةٍ لِلعَدُوّ، ولَن يَضُرَّكُم" (لوقا 10: 19). وهكذا يُجيب يسوع مستخلصا معنى الآية الجوهري. ومن هذا المنطلق، لا يطلب يسوع من الله أبيه السماوي أن ينقذه بطريقة سحرية عن طريق المعجزة. 12 فأَجابَه يسوع: لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ تشير عبارة "لقَد قيل: لا تُجَرِّبَنَّ الرَّبَّ إِلـهَكَ" إلى كلمات مقتبسة من سفر تثنية الاشتراع، إذ أمر الله النبي موسى أن يُعلم الشعب " لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم" (ثنية الاشتراع 6: 16).هنا يفهمنا يسوع أنَّ هذه الأمانة هي أثمن من الحياة الشخصيّة. أمَّا عبارة "لا تُجَرِّبَنَّ" فتشير إلى تجربة الشيطان أو الإنسان لله إمَّا لعصيانه لمعرفة مدى صبره كما كان الحال مع بني إسرائيل في الصحراء الذين جرّبوا الله من خلال مخاصمتهم موسى النبي" لِماذا تُخاصِموَنني ولماذا تُجَربونَ الرَّبّ؟ قائلين: هَلِ الرَّبُّ في وَسْطِنا أَم لا؟ " (خروج 17: 2-7)، وإمَّا استغلال رأفته تعالى لمنافع شخصية كما جاء في قول الله "إِنَّ جَميعَ الرِّجالِ الَّذينَ رَأَوا مَجْدي وآياتي الَّتي صَنَعتُها في مِصرَ وفي البرِّيَّة، وجرَبوني عَشْرَ مَرَّات. ولم يَسمَعوا لِقَولي" (عدد 14: 22). رفض المسيح أن يجرّب أبيه السماوي كما طلب منه إِبليس استنادا على وصية الكتاب المقدس " لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم، كما جَرَّبتُموه في مَسَّة" (تثنية الاشتراع 6: 16). إن الله لا يساعد من يجرؤ على تجربته. وفي الواقع، لم يُعط المسيح قط آية لمن جاءه بقصد تجربته، إذ ورد: فأَجابهم جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآية، ولَن يُعْطى سِوى آيةِ النَّبِيِّ يونان " (متى 12: 39).وأظهر يسوع فهمًا صحيحًا لوصايا الله، فليتنا نجتهد في الابتعاد عن الشكليات في العبادة، وعن كل رياء. وخلاصة القول يقول البابا فرنسيس "تجارب إِبليس ليسوع تشير إلى دروب العالم الخادعة التي علينا الإجابة عليها بالإيمان بالله والثقة في محبته". 13 فلَمَّا أَنْهى إِبليس جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إلى أَن يَحينَ الوَقْت تشير عبارة "جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة" إلى كل نوع من أنواع التجربة التي تعرَّضت لها طبيعة يسوع البشرية (عبرانيين 4: 15). ربما كانت هناك تجارب أخرى لم يكشف عنها المسيح فهي فوق إدراكنا، بل حتى القديسين حاربهم إِبليس بحربٍ فوق إدراكنا. ونشكر الله الذي لا يدعنا نُجَرَّب ما هو فوق طاقتنا كما اكَّد ذلك بولس الرسول "لم تُصِبْكُمْ تَجرِبَةٌ إِلاَّ وهي على مِقدارِ وُسْعِ الإِنسان إِنَّ اللهَ أَمينٌ فلَن يأذَنَ أَن تُجَرَّبوا بما يفوقُ طاقتَكم، بل يُؤتيكُم مع التَّجرِبَةِ وَسيلةَ الخُروجِ مِنها بِالقُدرةِ على تَحَمُّلِها " (1 قورنتس 10: 13). أمَّا عبارة "ي اِنصَرَفَ عَنه إلى أَن يَحينَ الوَقْت " فتشير إلى رجوع إبليس إلى تجربة يسوع بعد ذلك في نهاية حياته البشرية؛ فالتجربة الكبرى كانت في بستان الجسمانية (لوقا 22: 53) وعلى الجلجلة (لوقا 23: 33)، وعلى الصليب، ويشير يسوع إلى ذلك بقوله قبل نزاعه في جَتسَمانِيَّة وآلامه على الصليب " أَنَّ سيِّدَ هذا العالَمِ آتٍ ولَيسَ لَه يَدٌ علَيَّ" (يوحنا 14: 30). ويُروي لوقا الإنجيلي انتصارات عديدة ليسوع على الشياطين في معجزات الشفاء (4: 41 و6: 18 و7: 21)، أو في حوادث طرْده لهم (لوقا 8: 2)، وبذلك يشير إلى انتصاره في بدء أمره، وانتصاره النهائي في قيامته المجيدة. وربما أن البشير لوقا أراد أن ينوِّه عن هذا حيث أنه نقل التجربة الثانية، أي تجربة جناح الهيكل في أورشليم بحسب متى لتصبح في لوقا التجربة الثالثة، لأنه يريد أن يقول إن هزيمة إِبليس هنا الأخيرة في أورشليم كانت تمهيدًا لهزيمته النهائية على الصليب في أورشليم أيضًا. فالشيطان لا يكف عن حربه ضدنا، فإن لم نستجب لإغراءاته أشهر ضدنا اضطهادًا، وهذا ما فعله بالمسيح إذ أثار ضده الفريسيين وغيرهم، ثم انتهى بمؤامرة الصليب.لذلك علّمنا يسوع ضرورة الاستمرار في الجهاد قائلًا " فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعْمَدانِ إِلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه" (متى 11: 12). ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (لوقا 7: 1-10) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 7: 1-10) نستنتج انه يتمحور حول التجارب الثلاث وموقف يسوع منها. ومن هنا نسأل ما معنى التجارب، وما هو موقف يسوع منها؟ 1) ما معنى التجربة؟ قبل البحث في موقف يسوع من التجربة يجدر بنا أن نتناول معنى التجربة ومكانها وسلاحها وهدفها وموضوعها وعلاقتها مع معمودية يسوع. مفهوم التجربة باللغة اليونانية πειρασμός تعني الامتحان، وتعني أيضا التقييم. أي أنّ التجارب تجعلنا نجري تقييماً لذواتنا، لِما نحن عليه، لتصرفاتنا وحياتنا كلها، وتجعلنا نعي من نحن بالحقيقة. التجربة في المفهوم اللاهوتي هي محاولة الشيطان أن يُحبط مقاصد الله، وذلك من خلال دعوة الإنسان إلى الإصغاء لصوت آخر غير صوت الله. ودخلت التجربة في العالم، منذ بداية الخليقة مع الإنسان الأول آدم وحواء كإمكانية اختيار مختلفة عن المخطّط الأصلي لله (التكوين 3). ونجد هذه التجربة في إنجيل اليوم في حياة يسوع وفي حياتنا، وذلك عن طريق الإغراء من الخارج، والتأثير على الإرادة من الداخل لاتخاذ القرار قبولا أو رفضا. فهي صراع عاشه يسوع خلال إقامته في البرِّيَّة. وهي جزء من الخبرة البشرية. ولا تُصبح التجربة خطيئة إلا بقرار القبول. فإذا قبل الإنسان التجربة، كانت له التجربة موتا وهلاكا، وإذا رفضها كانت له سبب أجرٍ وثواب. أمَّا موضوع التجربة فهي الشكوك والتساؤلات التي يُثيرها الشيطان حول أقوال الله. فتبدأ التجربة في التشكيك في الله مما يُسهل على الشيطان أن يقنع الإنسان بعمل ما يريده. فالشك سلاح دو حدِّين قد يساعد الإنسان على ترك اعتقاداته أو تقوية إيمانه. أمَّا مكان التجربة فقد جرّب الشيطان حواء في جنة عدن، وأمَّا يسوع فجرَّبه الشيطان في البرِّيَّة. لم يجرّب الشيطان يسوع في الهيكل أو عند المعمودية، بل في البرِّيَّة، بعد أن امتلأ يسوع من الروح القدس وقت معموديته. فكانت تجارب الشيطان هجوما على موقف التسليم التام لله الذي اتخذه يسوع حينئذ لبدء رسالته العلنية بعد المعمودية. أمَّا ظروف التجربة فتكمن في اختيار الشيطان أحرج الظروف. يختار الشيطان الأوقات التي يُسدد فيها هجومه، خاصة في أوقات النصر (1ملوك 18-19) أو في أوقات الإحباط (متى 4: 1-10). جرّب يسوع هو متعب ووحيد وجائع. والشيطان كثيرا ما يُجرِّبنا ونحن أضعف ما نكون عندما نكون متعبين، وعندما نشعر بالوحدة والعزلة، وعندما نواجه قرارات خطيرة، أو يساورنا الشك. أمَّا سلاح التجربة فقد استخدم الشيطان اقتباسات من الكتاب المقدس واستشهد بها. إن التجربة تدعو الإنسان إلى الإصغاء لصوت آخر غير صوت الآب. ولا يمكن التغلب على هذه التجربة إلا بالإصغاء لصوت الآب والثقة به. إنه إصغاء يتم بتواضع وصبر. لم يخطئ الشيطان في استخدام آيات الكتاب المقدس لكنه أخطأ في تفسيرها وتأويلها. لذا فإن معرفة كلمة الله وطاعتها سلاح فعّال ضد التجربة، كما جاء في تعليم بولس الرسول "واتَّخِذوا لَكم خُوذَةَ الخَلاص وسَيفَ الرُّوح، أَي كَلِمَةَ الله" (أفسس 6: 17). وقد استخدم يسوع الكلمة المقدسة في مواجهة هجمات الشيطان. ولكي نستخدمها بكفاءة وفاعلية لا بُدَّ لنا أن نؤمن بكلام الله، لان الشيطان يعرف الأسفار المقدسة وهو بارع في استخدامها بصورة خادعة لتتناسب مع غرضه. وطاعة كلمة الله أهم بكثير من مجرَّد الاستشهاد بآيات كلام الكتاب المقدس الطاهر. أمَّا هدف التجربة فهو التقاء يسوع مع عدوه الشيطان وهزيمته على أرض المعركة "لأَنَّه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين"(عبرانيين 2: 18)، إذ أنَّ غرض خدمة يسوع هو تحدِّي قوة الشيطان في الآخرين وكسر شوكتها في النهاية. وبانتصاره على إِبليس يتمّم وعد الله الذي قطعه على نفسه في جنة عدن بقوله لأبوينا الأولين "فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه " (تكوين3 :15). هدف التجربة إذا هو انتصار يسوع على الشيطان وتقديم الخلاص لنسل آدم بصفته آدم الجديد. فكما أنَّ آدم سقط في التجربة ونقل الخطيئة إلى كل الجنس البشري، كذلك على يسوع آدم الجديد أن يقاوم التجربة وينتصر على الشيطان ويُقدِّم الخلاص لكل نسل آدم (رومة 5: 12-19). وحيث خان آدم، كان يسوع أميناً، فصار مخلصَ جميع الذين يقبلونه. جُرِّب فعرف ضعفنا، وصار " مُشابِهًا لإِخوَتِه في كُلِّ شَيء، لِيَكونَ عَظيمَ كَهَنَةٍ رَحيمًا" (عبرانيين 2: 17). واستطاع أن يساعد المجرّبين "لأنه قَدِ ابتُلِيَ هو نَفسُه بِالآلام، فهو قادِرٌ على إِغاثَةِ المُبتَلَين" (عبرانيين 2: 18). وأخيرا بثبات يسوع على أمانته تجاه التجربة، كان مثال الثبات للمؤمنين. هدف التجربة أيضا هو تضامن يسوع مع الإنسان الذي يتعرَّض لتجارب الشيطان كونه هو نفسه إنسان. وحيث إنه إنسانٌ كاملٌ، لقد جّرب "فلَيسَ لَنا عَظيمُ كَهَنَةٍ لا يَستَطيعُ أَن يَرثِيَ لِضُعفِنا: لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (عبرانيين 4: 15). إ لأنه ابن الله، ما خطئ البتة وفي هذا الصدد قال بولس الرسول "ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله" (2 قورنتس 5: 21) إن يسوع تجرَّب مثلنا، لكنه لم يستسلم مطلقا ولم يخطئ أبدا، فقدَّم لنا مثالا نحتذي به في مواجهة التجربة والتغلب عليها. فهو يعرف عن طريق اختباره ما نتعرض نحن له، وما نحن بحاجة إليه، وهو قادر أن يُعيننا في تجاربنا. واكتسبت التجربة أهمية بالغة، لأنها أعطت يسوع الفرصة ليثبّت خطة الله في خدمته. إنها أثبتت أنه كامل قدوس بلا خطيئة، فهو يواجه التجربة ولكنه لا يستسلم لها. وهذا ما يؤكده النبي موسى للشعب " يَمتَحِنَكَ فيَعرِفَ ما في قَلبِكَ هل تَحفَظُ وَصاياه أَم لا "(تثنية الاشتراع 8: 1-2). واجه يسوع التجارب الثلاث بكلمة الله رافضا مسيحانية بشرية دنيوية وانتهت التجارب بالموت والقيامة والانتصار. أخيرا، هناك صلة بين المعمودية والتجربة: تلقّى يسوع بالمعمودية قوة الروح القدس وكرّس نفسه لطريق الصليب كي يموت لأجل خطايانا ويمنحنا فرصة لنيل الحياة الأبدية. أمَّا في التجربة فعرَّض الشيطان ليسوع طرقا لإنجاز خدمته دون أن يتعرّض للصليب. في المعمودية أكمل يسوع البِرَّ، وفي التجربة كان بِرُّه تحت الامتحان. ومنذ بداية رسالته العلنية جُرَّب يسوع في البرِّيَّة ليدلَّ ليس فقط على انه يحيا من كل كلمة تخرج من فم الله، بل أيضا على انه "الكلمة"(يوحنا 1: 1). وهنا تضامن يسوع تماما مع الوضع البشري، فقبل أن يجرِّبه إِبليس كما يجرّبِ كل إنسان. كانت تجارب يسوع تجارب حقيقية، لا رمزية فقط. كما جُرِّب شعب إسرائيل في البرِّيَّة (خروج 15-18)،). فقد واجه المُجرِّب كما نواجه كل واحد منا، واستعمل سلاحا يجب أن نستعمله: سلاح الروح الذي هو كلام الله (أفسس 6: 17). وإن ربط رواية التجربة بالمعمودية ليذكّرنا معنى الحياة المسيحية: مطلوب من كلِّ ابنٍ لله أن ينتصر على الشيطان. 2) ما هو موقف يسوع من التجارب؟ يصف لنا إنجيل لوقا ثلاث تجارب تغوي الإنسان في التمسك في الدنيا، وهي شهوة الجسد وشهوة العين وكبرياء الغنى (1 يوحنا 2: 16) وتبعده عن الله وسعادته الحقيقية، وقد أشار إليها يوحنا الإنجيلي كشرط مطلوب لصرف النفس عنها كي نسير في نور المسيح. قبل البدء برسالته العلنية، تعرَّض يسوع لهذه التجارب كي يختار طريقه والتوجه الأساسي في خدمته العلنية، ويكون قدوة لنا وقت التجارب. التجربة الأولى: تجربة الخبز أي شهوة الجسد (لوقا 4: 3) تدل شهوة الجسد على الأهواء المنحرفة في الطبيعة البشرية، وهنا تتحدد بتجربة الطمع والجشع (تحويل كلّ شيء إلى خبز أي الرغبة في "أكل" الدنيا كلّها! وتقوم التجربة على أن يجعل يسوع من الحجارة خبزا، "مُر هذا الحَجَرَ أَن يَصيرَ رَغيفاً " (لوقا 4: 3)، وذلك تلبية لحاجة جسدية وهي الجوع. وينطلق منطق إِبليس الخبيث من الحاجة الطبيعية والمشروعة إلى الغذاء والعيش، تحقيق الذات والسعادة، ليدفعنا إلى الإيمان بأن كل هذا ممكن بدون الله، بل بالسير ضد الله. بالرغم من أنَّ يسوع كان جائعا، متعباً بعد صومه أربعين يوماً. ولكنه لم يشأ أن يستخدم قوته الإلهية لإشباع حاجته الطبيعية الخاصة (الخبز). والطعام امر طيب. ولكن التوقيت كان خاطئا. وقد جُرّب لإشباع رغبة طبيعية بطريقة خاطئة أو في وقت خاطئ، في حين يجب إشباعها في طريقة صائبة وفي الوقت المناسب. لم يستخدم يسوع قوى روحية لغايات دنيوية. ولا يطلب من الله أن يُنقذه بطريقة سحرية عن طريق معجزة. رفض يسوع مسيحانية أرضية تنسيه أنه إنسان من الناس يجب أن يعمل بيديه مثل آدم (تكوين 3: 19). استغل الشيطان الجوع والحاجة الجسدية لإثبات انه ابن الله. واستند الشيطان إلى بنوَّة يسوع الإلهية وهي التي أعلنها الآب عند اعتماد يسوع "أَنتَ ابنِيَ الحَبيب، عَنكَ رَضِيت" (لوقا 3: 22)؛ فاقترح إِبليس على يسوع أن يستخدم قدرته العجائبية للتخلص من الجوع. أمَّا يسوع فرفض هذه التجربة وقاومها، لأنه لا يريد أن يجري معجزة لمنفعته الشخصية. وقد صدق فيه قول الرسول بولس: "لِأَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُرْضِ نَفْسَهُ" (رومية 15:3). وخير مثال على ذلك موقف يسوع من هيرودس انتيباس الذي كان "يَرْجو أَن يَشهَدَ آيَةً يَأتي بِها يسوع" أمَّا يسوع فلَم يُجِبْهُ بِشَيء" (لوقا 23: 8-11). صنع يسوع معجزات كثيرة فيما بعد، لا لأجل نيل إعجاب الجماهير، ولا كوسيلةٍ لجذبِ الناس إلى الإيمان به، بل صنعها تثبيتاً للذين قد آمنوا. وقد استند يسوع في جوابه لإِبليس على كلمة الله "لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان" (تثنية الاشتراع 8: 3) مؤكدًا رغبته في ترك نفسه بثقة تامة لعناية أبيه السماوي. ليست الخطيئة في الفعل ذاته أي تحويل الحجارة إلى خبز، بل في سبب الفعل ودافعه وهو إخراج يسوع من مخطط الله. استطاع الشيطان أن يدفع بني إسرائيل للتذمُّر على الله والاستقلال عنه بحجة الطعام والشراب (خروج 16: 3). لكن المسيح أظهر لإِبليس أنه لا يتذمر على آبيه بسبب جوعه، لأن عنده كلامه، وهذا أهم من الطعام الجسدي، وأنه لا يستقل عن مشيئة الآب، ولا يسعى للتخلُّص من الجوع إلا بأمره كما جاء في قوله: "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34). وبهذا الأمر دّل يسوع على انه يحيا من كل كلمة تخرج من فم الله، بل دلّ انه هو كلمة الله بالذات (يوحنا 1: 1). التجربة الثانية: شهوة العين (لوقا 4: 6-7) تدل شهوة العين على الرغبة في تملك كل ما نراه خاصة جشع التملك والعظمة والسيطرة. ومن هذا المنطلق، تقوم التجربة الثانية على سجود يسوع للشيطان" رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ" (يوحنا 16:11)، "فَإِن سَجَدتَ لي، يَعودُ إِلَيكَ جَميعَ مَمالِكِ الأَرضِ " (لوقا 4: 6-7)،وذلك تلبية لحاجة نفسية وهي التملك والقوة والنفوذ على ما يراه من ممالك. ويبدو أنَّ للشيطان سلطة وقتية على الأرض "رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ". فعرض إِبليس على يسوع الحصول دون مشقة على مُلك هذا العالم، بمجرد السجود له، وبذلك يُغنيه عن الأتعاب والإهانات والآلام والصلب. فحاول إِبليس إن يحوّل يسوع عن هدفه ويجعله أن يركز بصره على السلطة العالمية ويُبعده بذلك عن مخطط الله. لم يساوم يسوع الشيطان في اقتسام العالم ليحكم العالم حكما سياسيا، لأنه رفض السجود للشيطان وقاوم التجربة من خلال جوابه مستندا على كلمة الله " لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد، وإِيَّاه وَحدَه تَعبُد" (لوقا 4: 8) مستشهدا بكلمة الله (تثنية الاشتراع 6: 13). وقد رفض يسوع هذه التجربة، لأنه لا يريد أن يكون مديناً لاحد بمُلكه إلاَّ لأبيه، وفقا للطريق الذي اختارها الله له وهي طريق الصليب والفقر. إن يسوع المسيح يعرف أنه فادي العالم فقدّم حياته ذبيحة على الصليب بعيدا عن تحالفه مع الشيطان. رفض مسيحانية أرضية تنسيه أن ينبغي عليه أن يمرّ في الآلام قبل أن يمرّ في المجد (متى 6: 21-22). لكن الشيطان ما زال إلى اليوم يقدّم لنا العالم بمحاولة إغرائنا بالماديات والقوة والسلطة. فلا ننسي كلمة الله لمواجهته "الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقي وإِيَّاه تعبُدُ" (تثنية الاشتراع 6: 13). لأنه يُمكننا فقدان الكرامة الشخصية إن سمحنا لأصنام المال والنجاح والسلطة بإفساد عبادتنا لله. التجربة الثالثة: الكبرياء (لوقا 4: 9) تقوم التجربة الثالثة على الكبرياء، والكبرياء يقوم على اكتفاء الإنسان بالذات والأمَان بصرفه النظر عن الاتِّكال على الله بل استغلال الله من أجل المصلحة الشخصية؛ فجاء قول إِبليس " إِن كُنتَ ابنَ الله، فأَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل" (لوقا 4: 9)، الله قادر أن يُنجِّيك استنادا على كلمته " لأَنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ" (مزمور 91: 11-12). فالمقصود في آية مزمور هو إظهار حماية الله لشعبه، وليس تحريض الناس على استخدام قوة الله في تقديم عروض جسدية حمقاء كما عرضها الشيطان على يسوع. وهنا يقتبس إِبليس نص الكتاب المقدس خارجًا عن السياق. لان المعنى والتفسير ليسا ما أراده لا الله ولا النص الذي ألهمه الله. صحيح أنّ الملائكة يحمون التّقيّ عندما يكون في خطر، ولكن هذا لا يعني أن يرمي نفسه في الخطر. يدعو إِبليس يسوع أن ينتظر من الله معجزة مدهشة مستغلا حاجة عاطفية، وهي الأمان والكبرياء ليجرّبه كي يفتخر بقوته أمام الجمهور. لكن يسوع رفض مطلب إِبليس لأنها "تجربة ضد الله"، حيث طلب الشيطان من يسوع أن يتدخّل الله بصورة غير مطابقة للمخطط الإلهي، وهي نجاة يسوع من الموت لأنه ابن الله. وجدَّد يسوع بإصرار قاطع على البقاء متواضعًا وواثقًا أمام الآب. ويُعلق البابا فرنسيس "يرفض يسوع هنا أكثر التجارب خبثًا على الأرجح، أي استغلال الله، بأن نطلب منه نعمة تهدف في الواقع إلى إرضاء غرورنا". لذلك رفض يسوع أن يجعل من لقبه كابن الله لتأمينه ضد جميع الأخطار أو إظهار قوته وعظمته، وذلك احتراما لحرِّية أبيه السماوي. رفض هذه التجربة وقاومها من خلال جوابه مستندا على كلمة الله " لا تُجَرِّبوا الرَّبَّ إِلهَكم" (تثنية الاشتراع 6: 16). رفض أن يجرّب الله بل قدَّم نفسه ليكون بكليته في خدمته تعالى وخدمة ملكوته. نستنتج مما سبق أنَّ يسوع لم يُتمَّ يسوع خدمته بواسطة قوة سحرية لإبهار الجموع (أَلْقِ بِنَفْسِكَ مِن ههُنا إلى الأَسفَل) فيرافقونه لحظة (يصفّقون له ويتعجّبون) ثم يتركونه في طريق الصليب. لذا كان رد يسوع على الشيطان هو ألاّ نجرّب الله (تثنية الاشتراع 6: 16). وخير مثال على ذلك مثل الغني ولعازر، إذ طلب الرجل الغني أن يصنع الله آية بإرسال أحد الموتى إلى إخوته ليؤمنوا، لكن يسوع قال إن الناس الذين لا يؤمنون بالمكتوب في الكتاب المقدس، لن يؤمنوا أيضا ولو قام واحد من بين الأموات (لوقا 16: 31). فطلب علامات من الله هو محاولة تحريك الله كما نشاء، أمَّا الله فيريدنا أن نحيا بالإيمان. ويُعلق البابا فرنسيس "إن هذه الدروب التي تُطرح أمَّامنا لإيهامنا بإمكانية بلوغ النجاح والسعادة من خلالها غريبة تماما عن أسلوب عمل الله، بل هي تفصلنا عن الله لأنها أعمال إِبليس". لا يكفي أن نعرف كلمة الله فحسب، بل علينا أن نطيعها أيضا. إن كلمة الله هي سلاح، مثل سيف ذي حدّين، للاستخدام في الحرب الروحية، حيث تعتبر معرفة آيات الكتاب المقدس خطوة هامة في مساعدتنا على مقاومة هجمات الشيطان، ولكن علينا أن نطيع كلمة الله، فالشيطان نفسه يحفظ الكتاب المقدس، ولكنه لا يطيعه. إن معرفتنا بالكتاب المقدس وطاعتنا له يساعدنا على أن نتَّبع رغبات الله لا رغبات الشيطان. فالشيطان استطاع أن يقتطع بعض آيات الكتاب المقدس ويلوِّنها لتأييد ما يريد أن يقوله كما جاء في تعليم بولس الرسول "لا نَسلُكُ طُرُقَ المَكرِ ولا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ الله" (2 قورنتس 4: 4). بكلمة موجزة، يُبين لنا يسوع أهمية وفعالية معرفتنا لكلمة الله وتطبيقها لمواجهة التجربة. التجربة الرابعة والنهائية: تجربة النزاع الأخير على الصليب (لوقا 4: 13) "لَمَّا أَنْهى إِبليس جمَيعَ مَا عِندَه مِن تَجرِبَة، اِنصَرَفَ عَنه إلى أَن يَحينَ الوَقْت" (لوقا 4: 13)، بعد أن أنهى إِبليس جميع تجاربه الثلاثة، هُزم إِبليس وانتصر يسوع، فاز زعيم البر على زعيم الإثم، وانتصاره حاسم لكنه ليس نهائياً، لان إِبليس سيعود عند الآلام من خلال يهوذا الإسخريوطي الذي دَخَلَ الشَّيطانُ فيه (ّلوقا 22: 3)، ومن خلال عُظَماءِ الكَهَنَة وقادَةِ حَرَسِ الهَيكَلِ والشُّيوخ (لوقا 22: 53). لم تكن آلام يسوع إلاَّ امتدادا للتجربة وهجوم إِبليس الأخير على يسوع (1 قورنتس 2: 8). قبل يسوع إتمام المرحلة النهائية من رسالته فتعرض للتجربة الأخيرة، وهي نزاعه في بستان الزيتون (لوقا 22: 40) ثم الصلب. فعلى الصليب كما كان في البرِّيَّة، سيُطلب من يسوع أن يُخلّص نفسه، وأن يفضّل طريق السلطة والإثارة والأمور الخارقة. سيطلب منه النزول عن الصليب ثلاث مرات: بدأ الرُّؤَساءُ يَهزَأُونَ فيقولون: ((خَلَّصَ غَيرَه فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَه، إِن كانَ مَسيحَ اللهِ المُختار! " (لوقا 23: 35) ثم أخذ جنود الرومانيون يقولون " إِن كُنتَ مَلِكَ اليَهود فخَلِّصْ نَفْسَكَ!" (لوقا 23: 36) وأخيرا المجرم المصلوب مع يسوع على الصليب أخذ " يَشتُمُه فيَقول: ((أَلستَ المَسيح؟ فخَلِّصْ نَفْسَكَ وخَلِّصْنا!" (لوقا 23: 39) تماما كما جرّبه إِبليس في البرِّيَّة. لحظات الصليب سبق وأنبأ عنها لوقا الإنجيلي (لوقا 4: 13). واجه يسوع التجربة النهائية في أورشليم، وأكَّد أنه يريد ما يختاره: ليس حياة متمحورة على الذات، بل حياة تصغي إلى صوت الآب، حياة بدأت بالآب السماوي وتنهي بيد الآب. هكذا كان سلاح يسوع الأخير كلماته الأخيرة على شكل صلاة تعبّر عن الثقة التامة في علاقته مع الآب "يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي" (لوقا 23، 46)، وهي مقتبسة من سفر المزامير (مزمور 31: 6). إذا كان الشيطان، في تجارب اليوم، يدعو يسوع إلى استخدام السلطة، التي تأتيه من كونه ابن الله لخلاص نفسه، ولتفادي المحدوديّة والتعب والإرهاق الآتي من كونه إنسانًا، ففي أورشليم سوف يختار يسوع طريق المحدوديّة والضعف والموت، للتعبير الكامل عن طاعته للأب، وثقته غير المحدودة به. وهكذا كان ثمن الأمانة للاب السماوي موت يسوع على الصليب: وهناك يفهمنا يسوع بأن هذه الأمَانة هي أثمن من الحياة الشخصيّة. نستنتج مما سبق أنه من خلال انتصار يسوع على المُجرِّب الشيطان منذ البداية حتى النهاية (لوقا 4: 13)، أُدخل البشرية الجديدة في وضعها الحقيقي وفي دعوتها إلى البنوة كما جاء في تعليم صاحب الرسالة إلى العبرانيين "فلَمَّا كانَ الأَبناءُ شُرَكاءَ في الدَّمِ واللَّحْم، شارَكَهُم هو أَيضًا فيهِما مُشاركةً تامّة لِيَكسِرَ بِمَوتِه شَوكَةَ ذاكَ الَّذي لَه القُدرَةُ على المَوت، أَي إِبليس، ويُحَرِّرَ الَّذينَ ظَلُّوا طَوالَ حَياتِهِم في العُبودِيَّةِ مَخافَةَ المَوت" (عبرانيين 2: 14-15). تشير التجربة إلى طبيعة يسوع البشرية إذ جُرّب مثلنا، وتشير أيضا إلى انتصاره على الشر، وقد رفض يسوع أن يستغل امتيازاته كابن الله لينجو من الجوع والموت والوصول إلى ملكه دون مشقة كما جاء في تعليم بولس الرسول "هو الَّذي في صُورةِ الله لم يَعُدَّ مُساواتَه للهِ غَنيمَة بل تَجرَّدَ مِن ذاتِه مُتَّخِذًا صُورةَ العَبْد وصارَ على مِثالِ البَشَر وظَهَرَ في هَيئَةِ إِنْسان فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 6-8). والصليب هو الاختبار الأخير (يوحنا 12: 27-28) الذي يُثبت به الله محبة (يوحنا 3: 14-16). أنتصر يسوع على التجارب، حتى ننال نحن الغلبة على كل قوي الشرير من خلاله. لذلك يليق بنا أن نجاهد بكل مقاومة ضد إِبليس. لا يُكلَّل أحدٌ ما لم يَغلب، ولا يمكن له أن يَغلب ما لم يحارِب كما جاء في رسالة بولس الرسول "المُصارِعُ أَيضًا لا يَنالُ الإِكْليلَ إِن لم يُصارِعْ صِراعًا شَرعِيًّا" (2 طيموتاوس 2: 5). لكن "لَيسَ صِراعُنا مع اللَّحمَ والدَّم، بل مع أَصحابِ الرِّئاسةِ والسُّلْطانِ ووُلاةِ هذا العالَم، عالَمِ الظُّلُمات، والأَرواحِ الخَبيثةِ" (أفسس 6: 12). "ولكِنَّنا في ذلِكَ كُلِّه فُزْنا فَوزًا مُبيناً، بِالَّذي أَحَبَّنا" (رومة 8: 37). الشُّكرُ للهِ الَّذي يَسْتَصْحِبُنا دائِمًا أَبَدًا في نَصرِه بِالمَسيح. ويَنشُرُ بِأَيدينا في كُلِّ مَكانٍ شذا مَعرِفَتِه" (2 قورنتس 2: 14). الخلاصة بعد صوم يسوع مدة أربعين يومًا أراد إِبليس تجربته ثلاث مرات، حيث دعاه أولا إلى أن يحوّل الحجر إلى خبز، ثم أراه جميع ممالك الأرض عارضًا عليه السلطة والمجد، وأخيرًا مضى به إلى أعلى الـهيكل في أورشليم سائلا إياه أن يلقي بنفسه كي يُظهر قوته الإلهية. التجربة الأولى تقوم على حمل يسوع أن يعدلَ عن عمل الفداء باعتبار كونه إنسانا خاضعا كما يريد الله أبيه السماوي، والتجربة الثانية تقوم على حمل يسوع أن يعدلَ أن يكون ملكا روحيا على مملكة روحية، والتجربة الثالثة تقوم على حمل يسوع كونه ابن الله أن يعدل عن ثقته بمحبة الآب له وان يلزمه ليصرِّح بانه أبنه بمعجزة. هذه التجارب الثلاث تشير إلى ثلاث دروب خادعة يدعو إليها العالم: جشع التملك، المجد البشري، واستغلال الله من أجل المصلحة الشخصية. هاجم إِبليس السيد المسيح في البرِّيَّة بأنواع التجربة الثلاثة " شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى " (1 يوحنا 2: 16). ولقد وضع الشيطان سيدنا يسوع المسيح في المواقف التي كان قد سقط فيها آدم وبني إسرائيل. تجرّب الرب يسوع من الشيطان ولكن يسوع انتصر على الشيطان في البرِّيَّة. بسقوط آدم الأول تحوّلت جنة عدن إلى برية، وبثبات آدم الثاني تحولت البرِّيَّة إلى جنة. فيسوع هو الإنسان الذي يحيا بكلمة الله، وفي الوقت نفسه هو إلهٌ المُخلص، الذي يستمر شعبه في تجربته على خطى الفريسيين " ودَنا الفِرِّيسيُّونَ والصَّدُّوقيُّونَ يُريدونَ أَن يُحرِجوه" (متى 16: 1(. التجربة في ذاتها ليست خطيئة، لكننا نخطئ عندما نستسلم للتجربة ونخالف الله. ولا تصبح التجربة خطيئة إلا بقرار قبولها. والشيطان هو حقيقة، وهو في حرب مستمرة ضد من يتبعون الله ويطيعونه، وهو يحاول أن يجعلنا أن نتصرّف بحسب هواه أو هَوانا وليس حسب طريق الله. يسبر الله غور القلوب ويختبرها (1 تسالونيقي 2: 4)، ويسمح فقط بالتجربة (1 قورنتس 10: 13) التي يُثيرها المجرّب (أعمال 5: 3) خلال العالم (1 يوحنا 5: 19) وخصوصاً خلال المال (1 طيموتاوس 6: 9). ولذلك يجب أن نطلب ألاّ "ندخل في تجربة" (متى 6: 13)، فهي تقود إلى الموت (يعقوب 1: 14-15). وإن التجربة التي لا يسقط فيها المرء، تفضي به إلى الحياة. إنها تجعل الإنسان يَعبُر من الحرية المعروضة إلى الحرية المعاشة، ومن الاختيار إلى العهد. فإنَّ حقيقية الإنسان لا تظهر إلا متى تعرض للامتحان والتجربة. لا بُدَّ أنَّ نتعرض للتجربة، فعلينا أن نكون متيقِّظين ضد هجمات إِبليس ومستعدين لها، حتى لا تغلبنا كما أوصّانا السيد المسيح "إِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة. الرُّوحُ مُندَفع وأمَّا الجَسدُ فضَعيف" (متى 26: 41). والصوم والصلاة أقوى أسلحة ضد تجارب الشيطان كما علمنا السيد المسيح "هذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم" (متى21:17) وبكلمة الله. ويُعلق البابا فرنسيس "إن يسوع في مواجهته تجارب إِبليس لم يتحاور معه بل لجأ إلى كلمة الله فقط، وهذا يُعلمنا أنه ليس هناك حوار مع الشيطان، لا يجوز أن نتحاور معه، بل علينا الإجابة فقط بكلمة الله". ضروري ربط التجربة مع المعمودية لنُدرك معنى الحياة المسيحية، وهو كل ابن الله يجب أن ينتصر على الشيطان. ويعلق القديس أوغسطينوس " إن جُرِّبْنا مع المسيح، فمعه نحن سوف ننتصرُ على إِبليس. أتعرفُ أنّ يسوعَ جُرِّبَ، ولا تعرفُ أنّه انتصر؟ اعرِفْ أنَّك أنت جُرِّبْتَ معه، واعرِفْ أنّك ستنتصرُ معه"؛ لذلك لنتهلل مع الرسول مرنمين: "الشُّكرُ للهِ الَّذي آتانا النَّصْرَ عَن يَدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح! " (1 قورنتس 15: 57). من هذا المنطلق، إنّ الله يسمح بالتجارب ليس ليُهلكنا ويُدمِّرنا، إنما لكي نعي حقيقة ذواتنا! ولكي نرى بيد من نضع حياتنا، ولكي نكتشف على مَن نتكل! إنَّ التجارب تساعدنا على أن نعزز إيماننا. وبالواقع، بفضل التجربة نتخلص مما تعلق بنا من شوائب فنصبح أنقى وأنصع، إنّها فرصة لننفض ما عُلِّق بنا، ونكتشف من نحن، فنجدِّد نفوسنا. ويُعلق القديس أوغسطينوس " لا يمكنُ أن تخلوَ حياتُنا في غربتِنا الأرضيّةِ هذه من التجربة. لأنَّ تقدُّمَنا يتمُّ عن طريقِ التجربة. ولا أحدَ يقدرُ أن يَعرِفَ نفسَه إلا إذا مرَّ بالتجربة، ولا يمكنُ أن يُكلَّلَ بالمجدِ إلا إذا غَلَبَ. ولا يمكنُ أن يَغلِبَ إلا إذا جاهد، ولا يمكنُ أن يجاهدَ إلا إذا عرضَ له أعداءٌ وتجارِبُ". Corpus) Christianorum Latinorum, 39, 66). دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع أن ترسل إلينا نعمة الروح القدس لكي يملانا بقوته والهاماته في ساعة التجربة فنستطيع أن نقاوم هجمات الشرير كما قاومها معلمنا يسوع المسيح فنخرج منها منتصرين ثابتين على الإيمان والرجاء والمحبة ومواظبين على الصلاة مُردِّدين صلاة معلمنا يسوع المسيح "لا تُدخلنا في التجربة بل نجّنا من الشّرّير"! آمين. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
تجربة يسوع كما رواها متى الإنجيلي |
قيامة المسيح كما رواها يوحنا الإنجيلي البشير |
التطويبات كما رواها متى الإنجيلي |
لوقا الإنجيلي أراد وصف سر يسوع |
التجلي في حياة يسوع كما رواه لوقا الإنجيلي |