رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العصفور والأبرص تُطالعنا شريعة الأبرص بدورٍ رئيسي للعصفور، فعندما يحكم الكاهن بأن ضربة البرص قد برئت، يأمر بأن يُؤخذ للمتطهر عصفوران حيَّان طاهران: واحدٌ منهما يُذبح، والآخر يُغمس في دم العصفور المذبوح، ثم يُطلق على وجه الصحراء. فبالرغم أن إجراءات تطهير الأبرص كثيرة ومتعددة، إلا أن أول ما يطلبه الكاهن من المُتطهر هو إحضار هذين العصفورين!! لماذا؟ في البداية أُريد أن أُوضح أن شريعة الأبرص لا تُكلمنا بالتحديد عن حالة الإنسان الخاطئ البعيد عن الله، وكيفية عودته لجو العلاقة مع الله ومع شعب الله - وإن كان يُمكننا أن نأخذها بهذا الاتجاه على سبيل التطبيق أو التأمل - إنما تكلمنا شريعة الأبرص أساساً عما يتعرض له أحدٌ هو أصلاً من شعب الرب، وإذا تأكَّد الكاهن من حقيقة ضربته؛ أنه أبرص، تتم فيه إجراءات صارمة نقرأ تفاصيلها في سفر اللاويين13: 45، 46 إذ يُعزَل خارج المحلة، ويُحرَم من كل صور الشركة؛ سواء مع أسرته أو مع شعب الله أو مع لله نفسه! من هنا نستطيع أن نفهم أن كل ما يجتاز فيه المتطهر من إجراءات والتي منها ذبح عصفور وإطلاق الآخر، إنما ليتم تطهيره وتجهيزه للعودة مرة أخرى لجو الشركة التي كان قد حُرم منها. فشريعة الأبرص لا تُكلمنا عن قصة عودة الخاطئ إلى الله، بل كيفية رد شركة مؤمن قد تعثَّر وحُرِم من امتيازاته. لقد وُضع الرسول بولس في موقف مشابه، لكن ما أبعد الفارق بين ما فعله الرب هنا وما فعله الرسول بولس، إذ لم يحتمل أن يُضرَب دون ذنب عمله، فاحتدَّ على رئيس الكهنة، الأمر الذي اضطره أن يعتذر عما بدُر منه (أع23: 2-5). وهذا يأخذنا إلى نقطة أخرى جديرة بالاهتمام .. نحن نفهم من سفر اللاويين 3 أنه عندما يُخطئ كاهن أو رئيس أو واحد من عامة الشعب، خطية سهو، عليه أن يُقدم عن نفسه ذبيحة خطية حتى لا يفقد شركته مع الله، أما هنا في شريعة الأبرص فبالإضافة إلى ما يُقدمه من ذبائح وقرابين متنوعة، ذبيحتي خطية وإثم، ومحرقة وقربان دقيق (لا14)، كان عليه أن يأتي بعصفورين؛ ليُذبح الواحد ويُطلق الآخر! لأننا هنا لسنا بصدد مجرد زلَّة أو خطأ سهو، كل ما يحتاج إليه المخطئ هو أن يُقدم عن نفسه ذبيحة خطية فتُرد شركته، إنما نحن أمام مظهر بغيض يظهر في خارج الجسم يُنبئ عن مرض عضال في داخل الجسم. من أجل ذلك يحتاج المتطهر إلى إجراءات مُطوَّلة حتى يحصل على التطهير الكافي، ليمارس حياته مرة أخرى بسهولة وسط شعب الرب. إذ قد يُصيبه كثيرٌ من الشك في مدى استعداد الله لقبوله مرة أخرى ورد شركته. فهل بعد أن تعرَّض لهذه الضربة اللعينة لا زال الله مُستعِداً أن يقبله؟ إن ما يُشير إليه العصفور الذي غُمس في دم العصفور المذبوح وأُطلق على وجه الصحراء، لخير دليل على ثبات مركزه أمام الله. إن قيامة المسيح من الأموات ودخوله بدم نفسه إلى الأقداس «كسابق لأجلنا» (عب6: 20). هو الذي يُؤكد ثبات مركزنا أمام الله. وفي الواقع أن الإيمان المسيحي قائم على هاتين الحقيقتين: «موت وقيامة المسيح». «الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا» (رو4: 25). الحقيقة الأولى نجدها في ذبائح الخطية والإثم، التي يُقدمها الشعب عندما يصدر منهم خطية سهو، أما الحقيقة الثانية فلا نجدها سوى هنا وهي متمثلة في العصفور الحي الذي يُطلق على وجه الصحراء. ويُؤكد الرسول على أهمية حقيقة قيامة المسيح بالقول: «إن لم يكن المسيح قد قام، فباطلةٌ كرازتنا وباطلٌ أيضاً إيمانكم... أنتم بعد في خطاياكم» (1كو15: 14، 17). ثم يستكمل حديثه قائلاً: «ولكن الآن قد قام المسيح من الأموات وصار باكورة الرَّاقدين» (1كو15: 20). الآن يوجد في السماء إنسان قائمٌ أمام الله، وهو مُمَثِّل لنا جميعاً. فقبوله يعني أيضاً قبولنا، بل إننا نُرى فيه من الآن في السماء، وهذا ما يُؤكده الرسول بولس: «أقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع» (أف2: 6). كما يُؤكد الرسول حقيقة ذلك في قوله: «وهو رأس الجسد: الكنيسة. الذي هو البداءة، بكر من الأموات» (كو1: 18). طالما رأسنا حي وهو الآن في السماء، فهذا يبعث في قلوبنا الضمان واليقين. بقي أن نتأمل قليلاً في ما يحمله العصفور من معاني جميلة كرمز للمسيح: كي ما يُقدَّم العصفور ليُذبح كان لابد أولاً أن يُمسك ويُحبس في قفص، وهذا ما كان متَّبعاً في كل الذبائح «أوثقوا الذبيحة برُبُط إلى قرون المذبح» (مز118: 27)، بل إنه عندما أراد إبراهيم أن يُقدم ابنه إسحاق ربطه ووضعه على المذبح (تك22: 9). غير أن الرب يسوع تبارك اسمه لم يكن محتاجاً إلى ذلك، فهو الذي قدَّم نفسه للذين أتوا كي يقبضوا عليه، إذ بكلمة منه «رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض»، ورغم ذلك لم يُبادر هو بالهرب لأنه لم يرغب في ذلك، بل قال لهم: «إن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون» (يو18: 6-8). نعم إنه لم يُربط «بالوثق» (يو18: 46)، ولا حتى بالمسامير، بل بالمحبة. يا له حباً عجيباً بان في ذلك المجيد بالمحبة تقيّد لا بمسمار الحديد
ثم نختم حديثنا بمشهدين للعصفورين: أولاً: العصفور وهو يُذبح على الماء الحي: إن كل ذبيحة تُقَدَّم يجب أن يكون هناك من يُقدمها، وطبيعي أن يكون مُقدم الذبيحة أفضل مما يُقدمه. لذلك كان الكهنة قديماً يُقدمون ذبائح متنوعة سواء من الحيوانات أو الطيور، وبالطبع هذه الكائنات أقل من الإنسان. أما المسيح تبارك اسمه عندما أراد أن يُقدِّم نفسه ذبيحة وقرباناً لأجلنا، لم يجد من هو أعظم منه ليقدمه، لذلك يقول الرسول بولس إنه «بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب» (عب9: 14). وهذا ما يُشير إليه العصفور الذي يُذبح على ماء حي، فالماء الحي هو إشارة إلى الروح القدس، وهكذا المسيح تبارك اسمه بالروح القدس قدَّم نفسه لله. ثانياً: مشهد العصفور الحي عندما يُغمس في دم العصفور المذبوح يُطلق على وجه الصحراء، حيث نرى إشارة لما قاله الرسول بولس عن المسيح له كل المجد إنه: «بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداءً أبدياً» (عب9: 12). «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعي الخراف العظيم، ربنا يسوع، بدم العهد الأبدي ..» (عب 20:13) وهكذا صار لنا «ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً، بالحجاب، أي جسده» (عب10: 19). ما أجمل ما يحمله لنا العصفور من معانٍ سامية وعميقة، بل ما أروع ذلك الشخص المجيد الذي لم يكن العصفور إلا ظلاً باهتاً جداً له، إنه هو وحده الذي حوى جميع أوصاف الكمال، إنه «الأبرع جمالاً من بني البشر». لا يمكن بأي حال أن يفهم الخاطئ الذي يُريد أن يرجع للرب شيئاُ من الإجراءات التي يجب أن يمارسها المتطهر هنا، فما الذي يُمكن أن يعرفه عن ذبيحتي الخطية والإثم أو عن المحرقة أو قربان الدقيق، بل ماذا يمكن أن يعرفه عن معاني كل من خشب الأرز والقرمز والزوفا، وما هو المغزى من ذبح عصفور وإطلاق الآخر؟! إنها أمور يُفترض أن يعرفها كل من له علاقة حقيقية بالرب، إنه يُدرك شيئاُ من قداسة الله وبره وبُغضه الكامل للخطية. جدير بالملاحظة أنه تتكرر كلمة «فيطهر» أربعة مرات في ذكر تفاصيل شريعة تطهير الأبرص (لا14: 7، 8، 9، 20). لقد وُضع الرسول بولس في موقف مشابه، لكن ما أبعد الفارق بين ما فعله الرب هنا وما فعله الرسول بولس، إذ لم يحتمل أن يُضرَب دون ذنب عمله، فاحتدَّ على رئيس الكهنة، الأمر الذي اضطره أن يعتذر عما بدُر منه (أع23: 2-5). |
|