رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أغريباس وبولس الواعظ العظيم تناولنا فى الحديث عن فستوس عظة بولس أمامه وأمام الملك أغريباس ، من حيث الروعة الموضوعية للعظة ، ردا على قول فستوس : « أنت تهذى يا بولس الكتب الكثيرة تحولك إلى الهذيان » ... على أننا هنا سنتناول العظة من جانب آخرا تجنباً للتكرار ، وكشفاً لبولس كواعظ رائع مجيد ، وأسلوبه العجيب النموذجى ، الذى يدرسه الخطباء والوعاظ كمثل يحتذى فى الفصاحة والخطابة والوعظ : الواعظ الذى نسى نفسه لعله من اللازم أن نلاحظ أن أغريباس عندما سمع لبولس بالكلام كان ليتكلم لأجل نفسه، : «فقال أغريباس لبولس مأذون لك أن تتكلم لأجل نفسك » .. وكان من المنتظر أن يكون حديث بولس أولا وأخيراً لأجل نفسه ، ... ولكن بولس مع ذلك لم يكن يهتم بنفسه بقدر الاهتمام بنفس أغريباس وفستوس وجميع الحاضرين ، .. لقد خرج بولس من نفسه ، إلى نفوس الآخرين ، وكانت أفكاره وعواطفه وصلواته تتجه إلى النفوس البائسة الملتفة حوله تستمع إليه ، وهذا ظاهر من قوله : « كنت أصلى إلى اللّه أنه بقليل وبكثير ليس أنت فقط بل أيضاً جميع الذين يسمعوننى اليوم يصيرون هكذا كما أنا ماخلا هذه القيود» ( أع 26 : 29 ) .. ومهما يعرف التاريخ من نبل وعظمة ، فإن قليلين جداً هم الذين يرقون إلى هذا المستوى من الإيثار الذى لا يريد الخير فحسب للآخرين كما يتمتع هو به ، بل أن لا يصابوا بالتجارب والشرور والأغلال التى لحقت به!! .. ومن المسلم به فى المبادئ الأساسية للوعظ وأصوله أنك لا يمكن أن تفصل البتة بين الواعظ والعظة ، لأن الوعظ - كما أشرنا فى بعض الشخصيات السابقة - كما قال فيلبس بروكس ، هو : « أن يقوم إنسان بتوصيل الحق إلى إنسان آخر » ... ويتضمن ذلك أمرين أساسيين هما الحق ، والشخصية ، والفرق بين عظة وعظة ، أو واعظ وواعظ هو الفرق فى توفر هذين العنصرين ، أو غيابهما أو نقص أحدهما أو اهتزازه أمام السامعين . ويقول الدكتور جارفى مؤيدا هذا الاتجاه: «إن الوعظ ليس مجرد توصيل معلومات أو معارف لأن الوعظ يستغرق شخصية الواعظ كلها، ومن ثم فهو يخاطب شخصية السامع كلها باعتباره موضوعاً أدبياً أو دينياً ، وطالما أن الحق الذى ينادى به ، ويدعو إليه الوعظ هو أمر يتعلق باللّه والحرية والخلود ، كذلك فإن غايته وغرضه هو حفز الإيمان والدعوة إلى النهوض بالواجب وابقاء جذوة الأمل والرجاء ذاكية لا تخبو » .. ومن المستحيل الوصول إلى ذلك دون التطلع إلى وجه الواعظ ، ومحاولة النظر والتأكد من أنه يعنى ما يقول ، وأنه ينبع من وجدانه العميق !! .. لقد عاش بولس طوال حياته مراعياً للقاعدة المشهورة التى ذكرها لقسوس أفسس : « ولكننى لست أحتسب لشئ ولا نفسى ثمينة عندى حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التى أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة اللّه » ( أع 20 : 24 ) . واعظ النعمة العجيبة كان بولس يعلم تماماً أنه يتحدث إلى رجل فى مستنقع من الوحل ، وكان الذين حوله على شاكلته وفى الصورة نفسها ، ولكن بولس مع ذلك يعلم أن نعمة اللّه تقدم مجاناً لأشر الخطاة وأقساهم وأضلهم ، .. وأنه ليس هناك أناس يمكن أن يكونوا بعيدين عن متناول يديها ، ... كتب ريتشارد جالين كتاباً عنوانه : « لو كنت اللّه » وقرأت تاريخ الشعب اليهودى كما جاء فى العهد القديم لمحوت هذا الشعب من الوجود محواً ، ... ولكن شكراً للّه أننا لسنا اللّه ولا يمكن أن نصل إلى عمق إحسانه وحبه ورحمته ، فلولا هذه جميعها لما أتيح لنا أن نجد الخلاص ، ولما كان لواحد منا أن يصل إلى المجد السماوى لبشاعة خطايانا وآثامنا !! .. تحدث مستر مودى ذات مرة فقال : وأنا أسير فى شوارع مدينة بوسطن منذ عدة أيام أبصرت جمعاً من الناس يتزاحمون حول شئ .. فاقتربت إلى المكان وزحمت الناس ودفعت هذا وذاك لأرى ما هو موضوع الزحام وتساءلت ماذا حدث !! ؟ وعندئذ أبصرت شبح رجل بين يدى رجل الشرطة وسمعت تمتمة وعاينت ضرباً ودفعاً وشتائم وسخائم وأخيراً جر رجل الشرطة الرجل ودفعه إلى العربة ، وسمعت فى الوقت نفسه صوتاً يقول : « هيا ياعمتى ... ليس هذا إلا رجلاً سكراناً » ... وسمعت العمة تقول : ماذا تقول ياوليم ... ليس هذا إلا رجلاً سكراناً !!؟ . إنه ياولدى بلا شك ابن لأم !! ... وقد نرى فى ملايين الناس أمثال فيلكس وفستوس وأغريباس أناساً لا يستحقون إلا اللعنة والسحق والجحيم ، ... ولكن اللّه مع ذلك يرى فيهم أبناء ضالين يلزم أن يسمعهم إنجيل النعمة !! .. وفى الوقت عينه ، إن كلمة اللّه لا ترجع البتة إليه فارغة ، وهى كما قال لحزقيال : « إذا قلت للشرير موتاً تموت وما أنذرته أنت ولا تكلمت إنذاراً للشرير من طريقه الرديئة لإحيائه فذلك الشرير يموت بإثمه أما دمه فمن يدك أطلبه .. لأنك لم تنذره يموت فى خطيته ولا يذكر بره الذى عمله . أما دمه فمن يدك أطلبه . وإن أنذرت أنت البار من أن يخطئ البار وهو لم يخطئ فإنه حياة يحيا لأنه أنذر وأنت تكون قد نجيب نفسك » ( حز 3 : 18 - 21 ) ... جاءت فتاة إلى أحد خدام اللّه وهى تشكو من خالتها التى كانت فى الثانية والتسعين من عمرها ، والتى كان لها طابع دينى خاص ، إذ كانت فى العادة لا تهتم فى دراستها للكتاب المقدس إلا بالبحث فى تهديداته وصعوباته والعقد الفكرية والعلمية والاجتماعية فيه ، وقد عكس هذا أثره على أخلاقها التى أضحت قاسية وجافة وعنيفة وفظة . وقد ذهبت ابنة أختها إلى رجل اللّه تسأله الحل لهذه المشكلة ، ورغب هو فى الجلوس إلى العجوز ، وإذ تم ذلك ، قال لها : سأعطيك من الوقت نصف ساعة لتقولى كل شئ ، وسآخذ بعد ذلك نصفاً آخر ، وقبلت المرأة : وظلت طوال نصف ساعة تتكلم حتى جاء دوره ليقول : يا سيدتى لقد أخطأت خطايا كبيرة ، لكن أكبر خطية لك خلال اثنين وتسعين عاماً أنك لم تتنبهى إلى وعود اللّه وحبه وإحسانه ورحمته وصوته : « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » (يو 3 : 16 ) . وابتدأ يحدثها عن المحبة الإلهية وإحسانات اللّه وصبره ، ثم صلى معها وانصرف ، ... وسأل ابنة اختها بعد أسبوع : فقالت له : إنها قضت أجمل أسبوع فى حياتها ، وبعد ثلاثة أسابيع ، والعجوز تجود بأنفاسها الأخيرة ، قالت : « خبروه أنى لو فعلت لزملائى فى اثنين وتسعين عاماً ما فعله هو فى ساعة واحدة لشكرت اللّه » ... وأيا كانت النتيجة التى وصل إليها بولس فإنه لابد شكر اللّه الذى أعطاه ساعة يتحدث فيها أمام الملك أغريباس عن نعمة اللّه العجيبة . الواعظ الذى يستولى على أذن سامعه ومن أهم ما ينبغى أن يتحلى به الواعظ ، قدرته على كسب أذن السامع ، وكان بولس من أبرع الوعاظ وأقدرهم على ذلك ، وهو هنا يفعل هذا على نحو عجيب ، ففى المقدمة يقول : « إنى أحسب نفسى سعيداً أيها الملك أغريباس إذ أنا مزمع أن أحتج اليوم لديك عن كل ما يحاكمنى به اليهود ، لاسيما وأنت عالم بجميع العوائد والمسائل التى بين اليهود ، لذلك ألتمس منك أن تسمعنى بطول الأناة » ... وهنا نحن أمام مقدمة رائعة عظيمة ، فهى قصيرة مركزة لا تبعث على الملل أو الضجر ، كما يحدث عندما تطول المقدمة ، وهى تجتذب النواحى الطيبة فيه ، وتتسلل إلى نفسه فى يسر وهدوء ، إذ أنها تحدثه عن سعادة إنسان يتحدث إلى ملك على علم بالكثير من الحقائق والعوائد ، ... وهى تتجنب فى الوقت نفسه كافة صور النفاق والتملق ، فهى لا تتحدث عن الملك وتصفه بأوصاف ليست فيه أولا تصدق عليه ، ... وهكذا تكون المقدمات الصادقة الصحيحة فى كل خطابة أو عظة ، ... أما جسم العظة نفسه فقد تحلى بصورتين عظيمتين ، إذ أنهض عند الملك إيمانه بالأنبياء ، فهو ليس الرجل الملحد الذى ينكر وجود اللّه ، وينكر الأنبياء ورسائلهم السماوية المرسلة إلى الناس فى الأرض ، وما دام هناك إيمان بوجود اللّه ، فهناك أمل حتى ولو وصل الإنسان إلى قاع المستنقع ، ... وعلى العكس من ذلك ، إن إنكار اللّه ينتهى بالإنسان إلى أقسى ألوان التعاسة والضياع !! .. كان فولتير يفاخر بإلحاده ، وبرفضه للإيمان المسيحى ، ... ولكن الشهور الأخيرة من حياته على الأرض كانت من أقسى وأرهب ما يعانى مخلوق ، ... وفى الخمسة عشر يوماً الأخيرة تمثلت له كل خطاياه وآثامه وكبرياء ذهنه وقلبه ، فقال فى عذابه للطبيب إنه مستعد أن يعطيه نصف أمواله إن هو أعانه على أن يبقى على الحياة ستة شهور فقط ، ولكن الطبيب أكد له أن هذا ليس فى قدرة الإنسان أو فى متناول البشر !! .. كان هناك بصيص من أمل فى أغريباس لأنه يؤمن بالأنبياء !! .. أما الصورة الثانية فلم تكن مأخوذة من تاريخ قديم ، بل من قصة حية ماثلة أمام الملك ، حيث استعرض بولس ، ببهجة وفرح ، اختباراته الشخصية . ولعل الملك وهو يستمع إلى السجين المقيد أمامه ، قارن فى لمحة بينه وبين نفسه . وشتان ما بين الاثنين !! .. كان الملك يملك كل أسباب السعادة الأرضية ومع ذلك فهو مجرد منها ، يعيش عيشة شقية بائسة ، وأمامه رجل سجين مظلوم تكبله الأغلال ، ومع ذلك لا يوجد من هو أسعد منه على ظهر هذه الأرض ... وهو يقول له بفخر : « ليس أنت فقط بل أيضاً جميع الذين يسمعوننى يصيرون هكذا كما أنا .. » ( أع 26 : 29 ) أى نبع خفى عظيم يشرب منه هذا الرجل ، فيفرح هذا الفرح الذى لا ينطق به ومجيد !! .. وكان ختام العظة كالسهم البارع . فكان خير ختام إذ هو النداء والتوجيه المباشر الذى يطالب بتحديد الموقف بكل وضوح وجلاء : « أتؤمن أيها الملك أغريباس بالأنبياء . أنا أعلم أنك تؤمن » . كانت العظة ابتداء وقلباً وانتهاء النموذج العظيم للعظة المسيحية الممتازة ، والتى أوقفت أغريباس وجهاً لوجه أمام المسيح ، ليعطى قراره الفاصل فى الحياة !! أغريباس والعقبات الواقعة أمامه قد لا يكون من السهل أن نضع كافة صور العقبات التى وقفت أمام أغريباس فى ذلك الوقت . ولكننا نكتفى بالإشارة إلى أهمها : (1)حب الاستطلاع الكاذب .. ولعلنا نلاحظ أن الرجل كان من هواة حب الاستطلاع ، فعندما تحدث إليه فستوس عن بولس كان جوابه : « كنت أريد أنا أيضاً أن أسمع الرجل » ... ( أع 25 : 22 ) .. كان من عائلة تحب الاستطلاع وتعشق رؤية الأوضاع المثيرة ، ويكفى أن أباه كان يحب أن يسمع المعمدان ، ومع ذلك قتله ، ... وعندما سمع عن يسوع يوم الصليـب : « كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة وترجى أن يرى آية تصنع منه » ( لو 23 : 8)... وما أكثر الذين لا تعمل فيهم كلمة اللّه ، لأنهم غواة الاستماع أو الرغبة فى حضور الاجتماعات والذين يتحقق فيهم القول : « وها أنت لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف » ( حز 33 : 32 ) وكأنما يستمعون إلى لحن موسيقى يطربهم بعض الوقت ثم يعودون إلى ما هم عليه من واقع الحياة وسير الأيام !! .. (2)نقد الآخرين ، وهى العقبة الثانية التى وقفت أمامه ، عندما نعت فستوس بولس بالهذيان والجنون ، فهو إذا استجاب لبولس ، فسيراه فستوس مجنوناً آخر نظير بولس ... وما أكثر ما يحجم الناس عن قبول الكلمة الإلهية خوفاً من نقد الناس أو اتهامهم بالغباء والحماقة والنزق والجنون والرجعية ، ... وإلى اليوم يظهر فستوس فى الكثيرين من المنتقدين الذين يقفون حجر عثرة أمام المترددين أو المتهيبين أو الخجلين فيمنعهم من الإعلان الواضح الصريح بإيمانهم بيسوع المسيح . (3)الخطية الجاثمة وكانت برنيكى كما ذكرنا أخت أغريباس وعشيقته ، وكانت سمعتها القبيحة كأختها دروسلا ، لا تعطيه فرصة للتملص والتخلص من الأفعوان الذى يطوق عنقه ، والفجور عندما يزداد فى حياة الإنسان ، يدفعه إلى الإباحية التى لا تعرف الحياء أو الخجل ، ومن ثم نرى أغريباس يحضر أخته الفاسقة ليستمع إلى بولس فى حفل عظيم !! .. وكما ضاع فيلكس مع دروسلا ضاع أغريباس مع برنيكى لأن الفجور يحرق صاحبه كما تحرق النار ، إن لم يسرع الإنسان بالابتعاد عنها بأقصى ما يستطيع من قوة ، وفى الحقيقة إن قتلى الخطية أقوياء، ما لم يهرب الإنسان لحياته من دائرة شرها ومركز جذبها !! .. (4)خوف التضحية ... وهو يرى السجين الذى وضعوا الأغلال فى يديه لأنه آمن بالناصرى وأحبه ، ... ومن يدريه هو فقد يتعرض لفقدان المركز والجاه والسلطان والمجد العالمى ... إن صليب الناصرى كثيراً ما يدفع ملايين الناس إلى البعد عن حمله خوفاً مما يسببه لهم من جهد وتعب ومشقة وآلام !! .. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يوجد شبَه كبير بين يعقوب وبولس أمام أغريباس |
أبلوس الواعظ العظيم |
أفتيخوس وبولس الواعظ |
أفتيخوس وبولس الواعظ |
أبلوس الواعظ العظيم |