|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
صور السفينة الفينيقية الكاملة: إن كانت أورشليم تشير إلى النفس التي قبلت نعمة الله - ففي العهد القديم تشير إلى الكنيسة المتمتعة بالناموس الموسوي والأنبياء، وفي العهد الجديد تشير إلى الكنيسة وقد تمتعت بالخلاص الأبدي من خلال النعمة الإلهية في المسيح يسوع - فإن صور هنا تمثل الإنسان الطبيعي: مركزه وإمكانياته وعطايا الله له ثم سقوطه وانهياره من خلال الخطيئة. فما يقوله هنا عن صور إنما يقوله عن الطبيعة الإنسانية كلها. لقد شبهها بسفينة فينيقية في موقع ممتاز، تتعامل مع كثرة من الشعوب، قوية البناء، ثمينة للغاية، فاخرة في صناعتها، طاقمها ممتاز، لا ينقصها شيء. هذا هو الإنسان "عمل يديْ الله محب البشر". لقد أقامها الله "عند مداخل البحر"، إذ تقع صور في شرق البحر الأبيض المتوسط كجزيرة جميلة لها ميناءان، موقعها يجعلها قادرة على جلب التجار من كل بلاد الشرق؛ "تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة" [3]، "تخومك في كل البحار" [4]. لقد أقام الله الإنسان عند مداخل البحار "فوق كل خليقة أرضية" بكونه على صورة الله، فيتسلط على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض (تك 1: 26)، سلمه هذه التجارة ليصير سيدًا لا عبدًا للأمور الأرضية الزمنية؛ جعل تخومه في كل البحار، أي صاحب سلطان على كل شيء. إنه لم يرد أن يخلقنا لنعيش في حالة حرمان مادي أو نفسي، بل أراد لنا شبعًا في كل شيء. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [في مقاله عن الخليقة أن الله لم يخلق الإنسان إلا بعدما خلق العالم كقصر ملوكي، فإنه لا يليق الإعلان عن الملك ما لم يُعد قصره]. أقام الله الإنسان جميلًا في كل شيء، أكمل خليقته على الأرض، لهذا بعد أن خلقه قيل: "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا" (تك 1: 31)... وتقول المرثاة: "بنَّاؤوك تمموا جمالك" [4]، سر جمالنا هو الله الذي بنى حياتنا، ووهبنا الإمكانيات الداخلية والجسد كعطية مجانية من قبله. لكن الإنسان في كبرياء قبله عوض أن يشكر الله ويمجده ينسب كل كمال لنفسه، إذ تقول المرثاة: "يا صور أنت قلت أنا كاملة الجمال" [3]. أما سر جمالها فهو: ألواحها من سرْو سَنير، سواريها من أرز لبنان، مجاذيفها من بلوط باشان، مقاعدها من عاج مطعم في البقس من جزائر كتيم. شراعها كتان مطرز من مصر، غطاؤها أسمانجوني وأرجوان من جزائر أليشة. ملاحوها من أهل صيدون وأرواد، وربابنتها حكماء من صور ذاتها، قلافوها من شيوخ جبيل وحكمائها، رجال حربها (حراسها) من فارس ولودوفوط،.. هكذا قدمت المرثاة تفاصيل كثيرة لمواد البناء للسفينة وجنسية طاقمها وحراسها. ومما يلزم ملاحظته أن السفينة عند الأمم كثيرًا ما تشير إلى رحلة الحياة التي يعيشها الإنسان في العالم ليدخل إلى الميناء، كما أن سفينة نوح رمزت إلى الكنيسة أو إلى الإنسانية المتمتعة بالخلاص الإلهي، لهذا كثيرًا ما تُبنى الكنائس على شكل سفينة وكما يقول الأب هيبوليتس: [البحر هو العالم، نزلت إليه الكنيسة حتى العمق لكنها لم تهلك لأن قبطانها المسيح ماهر. إذ تحمل صليب الرب إنما تحمل الغلبة على الموت في داخلها... البحارة هما العهدان (القديم والجديد). والجبال المحيطة بها هي محبة المسيح التي تربط الكنيسة. الشبكة التي معها هي جرن الميلًاد الجديد الذي يجدد المؤمنين. الروح القدس حال فيها كبحار ماهر يُختم به المؤمنون... لها مراسي من حديد تحتفظ بها، هي وصايا المسيح نفسه، قوية كالحديد! بها نوتية على اليمين واليسار، خدام كالملائكة القديسين يديرون الكنيسة ويحفظونها. السلم الذي نصعد به إلى ظهر السفينة هو تذكار آلام المسيح، به ترتفع قلوب المؤمنين إلى السماء. القلاع فوق السفينة هي شركة الأنبياء والشهداء والرسل الذين يدخلون راحتهم...]. وكما تشير السفينة إلى الإنسانية المتجددة من خلال صليب المسيح، فهي تشير أيضًا إلى الطبيعة الإنسانية قبل السقوط، ولهذا فإن ما ورد في المرثاة من تفاصيل إنما تشير إلى عطايا الله لنا خلال إنسانيتنا من جسد صالح، ونفس عاقلة وعواطف وأحاسيس وميول ودوافع وطاقات مباركة، لأنها هي عمل يدي الله الصالح محب البشر. نستطيع القول أن ألواح السفينة أو عوارضها هي أعضاء الجسد، وساريتها هي العقل، والمجداف هو اللسان، والمقاعد هي بقية الحواس، والشراع هو القلب، والغطاء هو السلوك اللظاهري، والملاحين هم طاقات النفس الداخلية، وربانها هو روح الإفراز والتمييز، والقلافون هم المواهب، والحراس هم الدوافع الداخلية. أ. كل الألواح من سرو سنيز، أي أن كل أعضاء الجسد التي هي بمثابة عوارض السفينة تأتي من جبل النور (سنيز)، وليس كما ظن الغنوصيون أنه من مملكة الظلمة. لهذا كثيرًا ما عالج الآباء هذا الأمر فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هؤلاء (أتباع ماني) يدعون الجسد غدارًا، من أصل شرير... ألا يلزمهم بذلك أن يفقأوا أعينهم لأن الشهوة تدخل إلى النفس عن طريقها؟! لكن الحقيقة ليست العين ولا أي عضو آخر هو الذي يلام إنما إرادتنا الفاسدة وحدها هي موضع اللوم]. كما يقول: [لقد وُهبت لنا الأعين لننظر بها الخليقة، فنمجد السيد الرب، لكننا إن كنا نسيء استخدامها تصير خادمة للزنا...]. كما يقول القديس أغسطينوس: [الروح صالحة، والجسد صالح. والإنسان المكون من الاثنين هو بالتأكيد صالح، سواء كان صلاحه هذا قليلًا أو كثيرًا]. ب. السارية: أي العقل، مأخوذ من أرز لبنان، هذا الذي يُعرف باستقامته، فقد خلق الله للإنسان عقلًا مستقيمًا يقوده كل الطريق بغير انحراف إذ "الإنسان العاقل حقًا له اهتمام واحد، وهو أن يطيع الله القدير من كل القلب وأن يرضيه، وهو يُعّلم نفسه شيئًا واحدًا فقط، وهو كيف يصنع قدر استطاعته ما يوافق الله، شاكرًا إياه على عنايته المتحننة التي تعمل في كل ما يحدث له في حياته". ج. المجداف الذي يقود السفينة هو اللسان، إذ يقول معلمنا يعقوب: "هوذا السفن أيضًا وهي عظيمة بهذا المقدار وتسوقها رياح عاصفة تديرها دفة صغيرة جدًا إلى حيثما شاء قصد المدبر، هكذا اللسان وهو عضو صغير ويفتخر متعاظمًا" (يع 3: 4-5). ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أُعطينا لسانًا نعلم ونسبح به الخالق، لكننا إن لم نحترز لأنفسنا يصير علة تجديف]. د. المقاعد هي الحواس التي ينبغي أن تكون من العاج المطعم، أي مملوءة طهارة ونقاوة. يقول القديس يوحنا سابا: [كل من يشاء الآن أن يحفظ نفسه وضميره من الأعمال الشريرة، فليحفظ هذه الحواس ويسلمها في يد الله الأمين معين الضعفاء]. ه. الشراع هو القلب ينبغي أن يكون من الكتان الطرَّز، نقيًا طاهرًا، فإذ يتقدس القلب يصير الإنسان مسكنًا لله، لهذا يصرخ المرتل: "قلبًا نقيًا اخلقه فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدد في أحشائي" (مز 51). و. غطاء السفينة الذي هو السلوك، فمن أسمانجوني أي يحمل الطبيعة السماوية، ومن الأرجوان أي يحمل سمة الملوك. فالسلوك إنما يعبر عما يحمله القلب في الداخل، إن كان القلب مرتفعًا إلى السماء حيث يوجد كنزنا يكون سلوكنا أيضًا متجهًا نحو السمويات، وحيث يوجد عند الله الملك الحقيقي يكون سلوكًا لائقًا بأبناء هذا الملك. لهذا يقول الرسول بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات". "اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1). ويقول القديس يوحنا الدرجي: [عظيم هو ذاك الذي يقهر النار الناشئة عن اللذات الأرضية بواسطة التأمل في مباهج السماء!]. ز. الملاحون أي الطاقات الداخلية للنفس، فيأتي بهم من صيدون وأرواد. فإن كانت "صيدون" تعني "مكان الصيد"، فإن الإنسان الحيّ هو الذي يستخدم كل طاقاته الداخلية للبناء، يعيش كصياد ماهر يعرف كيف يقتنى ما هو للبنيان. إن لم تستخدم للبنيان تصير تلك الطاقات ذاتها للهدم، وإن لم تكن كجنود روحيين لحساب مملكة الله تصير كجنود أشرار لحساب مملكة الظلمة. س. ربانها الذي هو روح الإفراز أو التمييز من صور، أي كالصخرة لا يهتز. هذا هو سر قوة الإنسان الروحي، إنه يسلك بتمييز، يعرف كيف يفصل بين الخير والشر، والحق والباطل، النور والظلمة. فيتقبل ما هو لبنيانه ويرفض ما هو للهدم بقوة دون أن يتزحزح. ش. القلافون أي المواهب، هم من شيوخ جبيل وحكمائها. فقد أعطى الله لكل إنسان مواهب خاصة يضرمها بقوة وحكمة فتكون فيه كشيوخ حكماء، تعمل معًا مع مواهب الآخرين لأجل بنيان البشرية كأسرة واحدة. ص. أما حراسها الذين هم دوافع النفس الداخلية فمن فارس ولود وفوط، رجال حرب متمرنون ومتنوعوا الخبرة، يعملون لحمايتها. من هذه الدوافع الغضب والخوف والأمومة والأبوة والحب إلخ... هذه جميعها دوافع مقدسة إن كانت تعمل في الإطار الروحي للبنيان. فبالغضب ينتفض الإنسان من الخطيئة ويلوم نفسه، وبالخوف يهاب الله ولا يجرح مشاعره وبالأمومة والأبوة والحب يجمع في قلبه محبة طاهرة نحو البشرية بروح الحكمة غير المتهورة. هذه هي رجال الحرب الذين في داخل النفس، يحاربون إما لحسابنا أو ضدنا. فمن يغضب على الآخرين لا على نفسه ومن يخاف الناس لا الله ومن يحب لأجل الشهوة الجسدية يحوّل رجال الحرب ضده. هذه صورة سريعة ومختصرة للسفينة "كاملة الجمال" التي وهبها الله إيانا، أي الطبيعة البشرية قبل انحرافها وسقوطها! |
|