قتل هابيل:
"وكلم قايين هابيل أخاه، وحدث إذ كان في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقايين: أين هابيل أخيك؟ فقال: لا أعلم، أحارس أنا لأخي؟ فقال: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض" [ 8-10].
ظن قايين أنه قتل واستراح، ولكن الله جاء ليسأله كي يثير فيه التوبة، فهو لا يريد أن يستر على خطايانا بغلاف خارجي بينما يبقي الفساد يدب في الأعماق، إنما كطبيب روحي يريد أن يكشف الجراحات ويفضحها لأجل العلاج. هذا ومن جانب آخر أراد الله أن يؤكد لقايين أنه إله هابيل لا ينساه حتى وإن مدّ أخاه يديه عليه ليتخلص منه،
وكما يقول القديس ديديموس الضرير على لسان الرب: [لا تظن أن جريمتك هربت من عيني، ومن رعايتي التي لا تغفل ].
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تخلص منه إذ رآه محبوبًا، متوقعًا أن ينزعه عن الحب، لكن ما فعله جعله بالأكثر مثبتًا في الحب، إذ بحث الله عنه، قائلًا: أين هابيل أخوك؟ ].
أخفي قايين جسد أخيه، لكنه لم يقدر أن يكتم صوت النفس الصارخة إلى الله، والتي عبّر عنها الرب بقوله: "صوت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض"، إذ يشير الدم إلى النفس بكونه علامة لحياة. فإن سُفك الدم تبقي النفس صارخة خلال الدم المسفوك ظلمًا على الأرض. هذا الصوت الصارخ هو صوت كل إنسان يُظلم من أجل الحق فيُحسب شاهدًا للحق أو شهيدًا، تبقي صرخاته تدوي فوق حدود الأرض (المكان) والموت (الزمان).
عن هذا الصوت يقول القديس أمبروسيوس: [للدم صوت عال يصل من الأرض إلى السماء ]. فالظلم أو الضيق لا يكتم النفس ولا يلجم لسانها بل بالعكس يجعلها بالأكثر متحدة مع كلمة الله الحيّ المصلوب، فيصير لها الصوت الذي لا يغلبه الموت ولا يحبسه القبر. وكأن سر قوة صوت الدم المسفوك ظلمًا هو اتحاد الإنسان بالمصلوب الحيّ.
وقد رأى القديس إكليمنضس الإسكندري في دم هابيل رمزًا لدم المسيح الذي لا يتوقف صوته الكفاري وعمله، إذ يقول:
[لم يكن ممكنًا للدم أن ينطق بصوت ما لم تراه خاص بالكلمة المتجسد، فالرجل البار القديم (هابيل) كان رمزًا للبار الجديد (السيد المسيح كلمة الله)؛ وما يشفع به الدم القديم إنما يتحقق خلال مركز الدم الجديد. الدم الذي هو الكلمة يصرخ إلى الله معلنًا أن الكلمة يتألم].
إن كان قايين قد حطم جسد هابيل بجسده فصمت لسانه تمامًا، لكنه لم يكن ممكنًا أن يلجم لسانه قلبه وصرخاته الداخلية التي يستجيب لها الله سامع التنهدات الخفية.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان موسى متألمًا وصلي هكذا (بقلبه) وسُمع له، إذ يقول له الله: "لماذا تصرخ إليَّ؟" (خر 14: 15) ومع أنه لم يصرخ بفمه؛ وحنة أيضًا لم يكن صوتها مسموعًا، وحققت كل ما تريده، إذ كان قلبها يصرخ (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِ فقط وهو صامت وإنما حتى عندما مات أرسل دمه صرخة كانت أكثر وضوحًا من صوت بوق].
استهان قايين بحياة أخيه هابيل، وإذ به يستهين بالله نفسه في حديثه معه، فإن كل خطية تصوب نحو أخوتنا تدفعنا للخطأ في حق الله نفسه.
وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليته لا يحتقر أحدنا الآخر، فإن هذا عمل شرير يعلمنا الاستهانة بالله نفسه. فبالحقيقة إن أزدري أحد بالأخر إنما يزدري بالله الذي أمرنا أن نظهر كل اهتمام بالغير... لقد احتقر قايين أخاه، وفي الحال استهان بالله].
إن كان عصيان آدم وحواء قد حمل تأديبًا ملموسًا يذّكر البشرية مرارة عدم الطاعة، فإن جريمة القتل الأولى قدمت لقايين تأديبًا ماديًا ملموسًا يكشف له عما حلّ به في أعماقه، إذ قيل له: "متى عملت الأرض لا تعطيك قوتها" [12]. بسبب جريمته حلّ بالأرض نوع من القفر لتكشف عن أرض الإنسان أي جسده الذي صار بالخطية قفرًا، لا يقدم ثمرًا روحيًا لائقًا.
ويعلق القديس ديديموس الضرير على هذا التأديب الإلهي بقوله: [يحدث أحيانًا أنه بسبب خطايا الإنسان تصير الأرض قفرًا ولا تعطي ثمرًا، كالقول: "تنوح الأرض بسبب الساكنين فيها" (هو 4: 3). لقد وهبت الأرض لكي تثمر للذين يحتفظون بفهمهم بغير فساد... لكن الثمر يتناقص بأمر الرب (بسبب فساد الإنسان) حتى يتغير الناس عن حالهم].
إن كانت الأرض تشير إلى الجسد الذي يفقد عمله الأصيل فيصير بلا ثمر روحي، فإن النفس أيضًا تفقد سلامها الداخلي، إذ قيل له: "تائهًا وهاربًا تكون في الأرض" [12]. وكأن النفس التي خضعت للجسد الترابي الأرضي تجده قفرًا، فتعيش فيه بلا راحة ولا سلام، إنما في حالة تيه وفزع. هذا ما أكده الكتاب المقدس بقوله: "خرج قايين من لدن الرب، وسكن في أرض نود شرقي الأردن" [16]. أي تخرج النفس من حضن ربها مصدر سلامها لتسكن في "نود" التي تعني "التيه" أو "الاضطراب".
وكما يقول القديس ديديموس الضرير: ["نود" تعني "اضطراب". هناك كان يجب أن يسكن من ترك الفضيلة الهادئة ودخل إلى الاضطراب ].
ويقول القديس چيروم: [ترجمة "نود" هو "تيه"، فإذ اُستبعد قايين من حضرة الله سكن بالطبيعة في نود وصار تائهًا. هكذا اليهود إذ صلبوا الله ربهم تاهوا هنا وهناك وصاروا يلتمسون خبزهم. لقد تفرقوا في العالم ولم يبقوا في أرضهم. أنهم يشحذون الغنى الروحي إذ ليس لهم أنبياء، وصاروا بلا ناموس ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا شحاذين بمعنى الكلمة]. أما سر التيه فهو الخروج من لدن الرب [16]؛ ليس خروجًا مكانيًا إنما هو خروج عن الشركة معه والتمتع به.
وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [لا نفهم أن قايين خرج بعيدًا عن الرب مكانيًا، إنما نقول أن كل خاطئ هو خارج الرب بنفس المعنى الذي يحمله التعبير "أدخل نحو الرب" عندما يقول المزمور: "ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز 100: 2). فعندما ندخل إلى حضرته نترك عنا كل ما هو خارجي أي الخطايا وكل الملموسات، حتى ننعم بأمور أخرى ليست من هذا العالم، لنشترك في معرفة الله... الله ليس بخاضع لمكان بالرغم من إقامة هيكل له... لقد خرج قايين لأنه حسب نفسه غير مستحق لمعاينة وجه الرب، بمعنى أنه لم يعد له فكر الرب].
ويرى القديس باسيليوس الكبيرأن أقسى عقوبة يسقط تحتها الإنسان حرمانه من حضرة الرب: [أقسى أنواع العقوبة التي تفرض على ذوي القلوب الصالحة هي التغرب عن الله].
أدرك قايين خطورة ما بلغ إليه حاله، فاعترف للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل. إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض من وجهك اختفي وأكون تائهًا وهاربًا في الأرض، فيكون كل من وجدني يقتلني. فقال له الرب: لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف يُنتقم منه، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده" [13- 15].
واضح من اعتراف قايين أنه شعر بالندم ليس كراهية في الخطية وإنما خوفًا من العقاب الأرضي، ومع هذا فقد فتح الرب باب الرجاء إذ لم يعده بألا يُقتل وإنما من يقتله يعاقب بمرارة شديدة كمن يُنتقم منه سبعة أضعاف، مقدمًا له علامة حتى لا يقتله كل من وجده، هكذا يبدأ الرب مع قايين بالحب لعل قايين يرتمي من جديد في حضن الله بالتوبة الصادقة والرجوع إليه.
يرى القديس باسيليوس الكبير أن قايين أخطأ، واستحق أيضًا سبعة تأديبات،
أم خطاياه السبع فهي: [حسده لأخيه هابيل، كذبه على الله، خداعه لهابيل إذ استدرجه إلى الحقل، ما هو أبشع من قتل أخاه، قدم قدوة سيئة للبشرية في بدء تاريخها، أخطأ في حق والديه بقتل إبنهما].
أما التأديبات السبعة فهي: [بسببه لُعنت الأرض، صارت الأرض عدوة له يعيش عليها كمن مع عدوه، لا تعطيه الأرض قوتها، يعيش في تنهد، يصير في رعب، يُطرد تائهًا، يتغرب عن وجه الرب].
أما العلامة التي قدمها الله لقايين حتى لا يقتله كل من وجده فربما تشير إلى علامة الصليب التي فيها يختفي الخاطئ ليجد أمانًا وسلامًا خلال مصالحته مع الله. هذه هي العلامة التي يوسم بها أولاد الله الذين لا يطيقون الرجاسات فتحفظهم من الهلاك المهلك كما رأى حزقيال النبي (حز 9: 6).
ويرى القديس أغسطينوس أنها علامة العهد الذي وُهب لرجال العهد القديم كظل للصليب، معلنًا في ناموسهم وطقوسهم، إذ يقول: [هذه العلامة لليهود إذ أمسكوا بناموسهم واختتنوا وحفظوا السبوت وذبحوا الفصح وأكلوا خبزًا غير مختمر ].