|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
طلب الخلاص: يستهل المرتل هذا القسم بالتضرع المعهود أن ينعم عليه الرب بالرحمة. بينما يصف القسم السابق مراحم الله في الماضي، يتحدث هذا القسم عن امتدادها والحاجة إليها في الحاضر. يُعزي المؤمنون المتاعب التي تحل بأجسادهم ونفوسهم إلى خطاياهم، لهذا يضرعون إلى الله غافر الخطايا. "ارحمني يا رب فإني حزين. تكدّرت بالغضب عيناي ونفسي وبطني" [9]. تُلائم هذه الكلمات خبرة القديسين المتألمين في كلا العهدين، إذ يعترف الكل بضعفاتهم، وبالتالي حاجتهم إلى مراحم الله. الخط الواضح في حياة جميع القديسين هو الصراحة، خاصة مع الله، إذ هنا يعلن الرسول عن نفسه أنه حزين، يحتاج إلى عون إلهي. يصرخ المرتل طالبًا الرحمة، مستنجدًا بالله من خطاياه، خاصة الغضب، فإن العدو بكل طاقاته لا يقدر أن يُحطمه أما غضبه على الغير فيُحطم بصيرته الداخلية (عينيه) ونفسه حتى بطنه أي جسده. * لأنه طالما يبقى ذلك الغضب في قلوبنا، ويعمي بظلمته المضرة عين النفس، لن نقدر أن نقتني حكمًا عادلًا أو تمييزًا ولا نحظى بالبصيرة التي تنبع عن نظرة مخلصة، أو عن نضج المشورة، كما لا نستطيع أن نتمتع بشركة الحياة أو نستعيد البر، أو حتى تتوفر لنا القدرة على التمتع بالنور الحقيقي الروحي، لذا يقول: "تكدرت بالغضب عيناي". هكذا لا نقدر أن نشترك في الحكمة حتى ولو حُسبنا بالإجماع أننا حكماء، لأن "الغضب يستقر في حضن الجهلاء" . القديس يوحنا كاسيان يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن بركة "الغضب" إن وجه في طريق الحق، إذا ما غضبنا على خطايانا وألقينا باللوم على أنفسنا لا على الغير. ويشبهه بالسيف الذي يجب حفظه لاستخدامه بطريق لائق . لقد دخل المرتل في متاعب كثيرة من الأعداء الخارجيين ومن ضعفاته حتى تمررت كل حياته، لكن حضرة الله والثقة فيه والتمسك بمواعيده، هذه جميعها تحوّل حياته من المرارة إلى العذوبة. لقد صوّر لنا المرتل الحزن الشديد الذي يلاحقه، هكذا: أ. لحق الضرر ببصيرته ونفسه وجسده [9]، أي بكيانه كله... فالحاجة ملحة إلى تدخل الخالق نفسه كمخلص له. ب. كادت حياته أن تفنى بوجع القلب وسنيه بالتنهدات [10]: عُرف داود من صباه بالشخص الشجاع الذي لا يهاب الموت؛ قاتَل أسدًا ودبًا، وحارب جليات الجبار... وفي هذا كله لم يفارقه مزماره، ولم تنزع عنه بهجة قلبه. لكنه في لحظات يشعر كأن حياته كلها آلام قلبية خفية، لم يقتنِ من سنيه إلا التنهدات العميقة. غالبًا ما ينسى الإنسان -وقت محنته- الأيام الهادئة المفرحة، حتى ليحسب عمره سلسلة لا تنقطع من الأوجاع... لكن داود النبي حوّل حتى هذه المشاعر المُرّة إلى مزامير فيها تمتزج المراثي بالتسابيح، والتضرعات بالشكر، والصراخ بالتهليل. ج. اهتزت قوته وأصاب الانحلال هيكله العظمي، وكأنه لم يعد بعد فيه رجاء حسب الفكر البشري، إذ يقول: "ضعفت بالمسكنة قوتي، واضطربت عظامي" كأنه يقول: صرت مسكينًا يستحق حالي الرثاء إذ زالت عني كل قوة للحركة، وصار حالي لا علاج له لأنه هزَّ كل كيان عظامي. د. صار المرتل عارًا وخزيًا في أعين جميع أعدائه؛ وفزع الأقرباء والأصدقاء من رؤيته... حسبه الكل كميت فهربوا منه، متطلعين إليه أن لا موضع له بينهم، وإنما يلزم دفنه خارج المحلة. صار في أعينهم كإناء خزفي مكسور يُلقى خارجًا بغير ترفق أو عناية... بهذا صار يُعاني من الشعور بالعزلة أو الوحدة. "صرتُ عارًا بين جميع أعدائي، ولجيراني جدًا، الذين كانوا يبصرونني هربوا عني خارجًا" [11]. هرب الكل منه، إذ تطلع إليه الأعداء في ضيقته وحسبوه إنسانًا رديئًا، حلَّ عليه غضب الله؛ فصار بؤسه مادة غناء لهم وعلّة سرورهم وسخريتهم! أما حدث هذا مع السيد المسيح نفسه الذي أسلموه للمحاكمة ظلمًا، وكانوا يستهزئون به ويسخرون منه، ويبصقون على وجهه؟! يقول عنه النبي: "مُحتقر ومخذول من الناس... مُحتقر فلم نعتد به" (إش 53: 3). أما ما هو أكثر قسوة، فهو أن الأصدقاء قد خشوا الالتصاق بداود حتى لا يُحسبون معه خونة لشاول الملك ولبلده، ولئلا يكون مصيرهم كمصير أخيمالك الكاهن وأهل بيته لقبوله داود ورجاله وتقديم المساعدة لهم دون علمهم بموقف شاول منه. الذين كانوا يُبجلون داود وهو في قصر الملك صاروا غرباء عنه. ألم يتحقق هذا كله بصورة أكثر ألمًا مع السيد المسيح، حيث أنكره بطرس الرسول ثلاث مرات، وخانه يهوذا، وتركه التلاميذ وهربوا... وبقى على الصليب يجتاز المعصرة وحده. لقد شارك الرسول بولس سيده قائلًا: "لنخرج خارج المحلة ونحمل عاره"... حين تركه الأصدقاء والأحباء لم يتحطم، بل حسب ذلك مجدًا أن يُشارك مسيحه وحدته وعاره! في وسط الشعور بالعزلة واليأس كان الله وحده هو صديقه، وانصبَّ رجاؤه في رحمة الله وحدها، إذ هو وحده قادر أن يخلصه من العزلة المؤلمة. تقتل الآلام نفس غير المؤمن، بشعوره بالعزلة، أما المؤمن فيجدها طريقًا للتمتع باستجابة الله له في حنوٍ، والتمتع بالحضرة الإلهية، في الوقت الذي فيه يتركه أصدقاؤه الأرضيون ويغلقون قلوبهم أمامه. بمعنى آخر بينما يُعاني من العزلة فيصير كميت، يعلن الله عن ذاته في داخل نفسه ليختبر الحياة المقامة: "نُسيت مثل الميت من قلبهم... لينر وجهك على عبدك" [12، 16]. ه. لم يقف الأمر عند سخرية الأعداء منه وخوف الأصدقاء من الالتقاء معه، بل اجتمعت قوى الشر لمقاومته ليحبكوا التآمر ضده، إذ لم يقبلوا بأقل من رقبته. "اجتمعوا عليّ جميعًا، تآمروا في أخذ نفسي" [13]. إنه من المحزن حقًا أن يجتمع الشر معًا بروح الوحدة لاتفاقهم على أمر واحد، هو مقاومة أولاد الله، كما سبق فاجتمعت القيادات اليهودية الدينية مع قوى الدولة لصلب رب المجد يسوع. يقفون صفًا واحدًا ليعملوا معًا، بجدية وحكمة بشرية، بينما كثيرًا ما يدبُّ الشقاق بين المؤمنين ويسلكون بروح التراخي والتهاون. وكما سبق فقال السيد المسيح إن أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم. في كل هذه المتاعب تعلّم المرتل الاستمرار في صراعه في الصلاة دون ملل، متمسكًا بثقته في إمكانية خالقه وحبه له. لقد سلبه الأعداء سمعته الطيبة، وحرموه الشعور بأمان الجماعة، لكنهم لم يقدروا أن ينزعوا عنه تعزيته ولا أن يحرموه التصاقه بالله. لهذا إذ يقول: "وأنا يا رب عليك توكلت" [14]، يكمل: "قلت أنك أنت هو إلهي وفي يديك حظي". أنت إلهي الشخصي الذي يعرف أسرار حُبي الداخلي، والذي في يديه كل حياتي وعمري! مرة أخرى لا يقف المرتل عند طلب الخلاص من الأعداء المطاردين إياه [15]، وإنما يقول: "لينر وجهك على عبدك، وخلصني برحمتك يا رب" [16]. أنا عبدك ولستُ عبدًا للناس، لا أطلب مديحهم ولا رفقتهم ولا مكافأتهم، إنما أطلب وجهك ينير في قلبي فأستنير. ويرى القديس أمبروسيوسأن هذا "العبد" هو كلمة الله الذي تجسد وصار لأجلنا عبدًا، فقد حمل آلامنا دون أن ينفصل عن أبيه، بكونه كلمته. * كلمة "عبد" تعني الإنسان الذي تقدس فيه، الإنسان الذي مُسح فيه. أنها تعني ذاك الذي صار تحت الناموس، ووُلد من العذراء... يقول: "طُرحت وانحنيت إلى الانقضاء" (مز 38). من هو هذا الذي انسحق (انحنى) إلى الانقضاء سوى المسيح، الذي جاء لكي يُحرر الجميع بطاعته؟! القديس أمبروسيوس بالآلام نختبر الاتضاع والصلاة الدائمة، وهما طريقا التمتع بإشراقات وجه الله علينا. * كن مرذولًا في عيني نفسك، فترى مجد الله في داخلك، فإنه حيث يوجد الاتضاع، هناك يسكن الله. إن كان لك اتضاع في قلبك، يُظهر الله مجده فيه. مار إسحق السرياني * الصلاة تجعل الراهب مساويًا للملائكة، إذ تكون رغبته هي أن يرى وجه الآب الذي في السموات . الأب أوغريس يرى بعض اليهود أن صرخة المرتل هنا: "لينر وجهك" هي صرخة طلب مجيء المسيا الذي يُخلص الإنسان من الشر. بينما يدخل المرتل خلال الآلام إلى الاستنارة بمجد الله بروح الاتضاع والصلاة، إذا بالأشرار ينحدرون إلى أعماق الجحيم بالنفاق والخداع والكذب. يتكلم قلب التقي المتألم فيرتفع إلى مجد السماويات بينما يتكلم لسان الشرير الغاش فينحدر بالكبرياء إلى الهلاك. "يخزى المنافقون ويساقون إلى الجحيم ولتصر خرساء الشفاه الغاشة المتكلمة على الصديق بالإثم والكبرياء والمحتقرة" [17-18]. يصمت الأشرار في رعب وخوف حين تتبدد كل مؤامراتهم؛ فيرتفع الأتقياء المتألمون، بينما ينحدروا هم في الجحيم... اللسان الكاذب يعجز عن أن يتكلم! * إن صنت لسانك يا أخي يهبك ندامة في القلب، فترى نفسك، وهكذا تدخل إلى الفرح الروحي. أما إذا غلبك لسانك - فصدقني فيما أقوله لك - فإنك لن تقدر أن تهرب من الظلمة. مار إسحق السرياني |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مزمور 119 | الخلاص والشهادة |
مزمور 54 - الخلاص في اسم الله |
مزمور 54 - الخلاص الأكيد |
مزمور 44 - صرخة من أجل الخلاص |
مزمور 26 - طلب الخلاص والرحمة |