منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 17 - 08 - 2022, 05:46 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,577

موسى النبي وتقديس البكر




تقديس البكر

أول وصية أمر الله بها موسى بعد الخروج مباشرة هي: "قدِّس ليّ كل بكر، كل فاتح رحم من بني إسرائيل من الناس ومن البهائم إنه ليّ" [2].
إنها ليست أمرًا أو وصية بقدر ما هي عطية ووعد، فبخروج الشعب من دائرة العبودية والانطلاق نحو أورشليم العليا يدخل المؤمن في دائرة ملكية الله، ويصير عضوًا حيًا في هذا الملكوت الإلهي، إذ يقول: "إنه ليّ".
أ. المسيح بكرنا: طلب الله البكر من الإنسان والحيوان، وفيما بعد يطلب أيضًا أبكار الحصاد والكروم والزيت، واهتم الرب بهذا الأمر في أسفار الخروج (13) واللاويين (23: 10-14، 27: 26-29)، والعدد (15: 19-21؛ 18: 13-20؛ 19: 23)، بتقديم البكر للرب يتقدس الكل، وبهذا يُحسب أن الكل قد قدم للرب. كان هذا رمزًا للسيِّد المسيح بكرنا، وبكر كل الخليقة ورأسها (كو 1: 15، 18؛ رو 8: 29). تقدم نيابة عنا نحن إخوته الأصاغر مقدمًا حياته للآب ذبيحة طاعة وحب بلا عيب، فاشتمه أبوه الصالح رائحة رضا وسرور، فصارت البشرية المتحدة فيه موضوع سرور الآب ورضاه.

لتوضيح ذلك نقول أن الله الكلمة صار واحدًا منا، وإن كان قد جاء حسب الجسد بعد كثيرين لكنه دُعي "آدم الثاني" وحُسب البكر إذ فقد آدم الأول بكوريته للبشرية بسبب خطيته، كما فقد عيسو بكوريته وتسلمها يعقوب، وفقد أيضًا رأوبين بكوريته لأنه دنَّس فراش أبيه (تك 49: 1، 3؛ أي 5: 1). وكما حُسب إسحق البكر لأبيه يعقوب وورث كل شيء (تك 21: 10) مع أنه وُلد بعد أخيه إسماعيل. ليس من يقدر أن ينال البكورية للبشرية في وجود السيِّد المسيح، القدوس وحده الذي بلا عيب، تقدم كبكر ثمار البشرية للآب فقُبل فيه كل المؤمنين به، وتقدسوا فيه، وسمع كل مؤمن من الفم الإلهي: "إنك ليّ" [2].
يظهر ذلك بوضوح في بكور ثمار الشجرة (لا 19: 23) فإنها تبقى غلفاء ثلاث سنين أي غير مقدسة روحيًا، وفي السنة الرابعة يقدم كل ثمرها للرب، حينئذ يقول الرب: "أنا الرب إلهكم" (لا 19: 25). ما هذه الشجرة إلاَّ البشرية التي بقيت غلفاء ثلاث سنوات في الفردوس حين سقط أبوانا آدم وحواء، والبشرية في عهد الآباء في ظل الناموس الطبيعي، والسنة الثالثة في ظل الشريعة الموسوية، أما السنة الرابعة التي يتقبل فيها كل ثمرها فهو في عهد النعمة حيث تقدم السيِّد المسيح ثمرًا مقدسًا عنّا...
ويلاحظ أن فكرة البكورية عرفها الإنسان قبل الشريعة الموسوية، فالإنسان يفرح بابنه البكر، والفلاح يفرح ببكور حصاده... لذا كما قدم لنا الله ابنه البكر الوحيد فدية عنا طالبنا رد الحب بالحب، فنقدم له بكور أولادنا لخدمته بل وبكور حيواناتنا وحصادنا، فهو يريد من أثمن ما لدينا وليس من فضلاتنا.
ب. كنيسة الأبكار: في القديم طالب بأبكار شعبه الذكور كعلامة عمله الخلاصي معهم إذ يقول: "ويكون متى سألك ابنك غدًا قائلًا: ما هذا؟ تقول له: بيد قوية أخرجنا الله من مصر من بيت العبودية. وكان لما تقسَّى فرعون عن إطلاقنا أن الرب قتل كل بكر في أرض مصر من بكر الناس إلى بكر البهائم. لذلك أنا أذبح للرب الذكور من كل فاتح رحم، وأفدي كل بكر من أولادي، فيكون علامة على يدك وعصابة بين عينيك، لأنه بيد قوية أخرجنا الرب من مصر" [14-16].
تقديم البكور هي العلامة التي على اليد أي العلامة العملية، وبين العينين أي الملامة التي لا تنسى، خلالها يذكرون أعمال الله الخلاصية، أنه قتل الأبكار بسبب شر فرعون ليقيمهم "الابن البكر لله" (خر 4: 22، إر 31: 9). لقد أقام الله شعبه كابن بكر له، وإذ جاه البكر الحقيقي إلى العالم واتحدت الكنيسة فيه صارت بحق كنيسة أبكار، كقول الكتاب المقدس.
ج. نظام البكورية: إن كانت البكورية قد عرفت قبل الشريعة الموسوية، فإن الأخيرة جاءت لتنظمها بصورة دقيقة تفصيلية، حملت رموزًا لكنيسة الأبكار السماوية، وإننا إذ نترك دراسة البكورية لمجال آخر إن شاء الرب وعشنا، أود أن أضع بعض النقاط الهامة في تنظيم الشريعة للبكورية:
أولًا: البكر له نصيب اثنين في الميراث (تث 21: 17)، إشارة إلى فيض نعم الله علينا في الميراث الأبدي.
ثانيًا: يُحسب الذكر المولود أولًا هو البكر، حتى وإن كانت والدته ليست محبوبة لدى زوجها (تث 21: 15-17). ولعل الزوجتين (المحبوبة وغير المحبوبة) تشيران إلى اليهود وجماعة الأمم الوثنيين، فالمؤمن يُحسب بكر في كنيسة الأبكار دون تمييز إن كان من أصل يهودي أو أممي.
ثالثًا: غالبًا ما يتبوأ البكر من أولاد الملوك العرش (2 مل 21: 3)، ونحن أيضًا كأولاد ملك الملوك نُحسب فيه ملوكًا.
رابعًا: يُقدم البكر لخدمة الرب (خر 13: 12، 34: 19)، علامة تقديم كل العائلة وتكريسها للرب. لكنه أُستعيد باللاويين عوض الأبكار، الأمر الذي نعود لدراسته في سفر اللاويين إن شاء الرب.
خامسًا: تكريس حتى بكور الحيوانات لخدمة الرب، ولا يفك ولا يستبدل إلاَّ إذا كان من الحيوانات النجسة (خر 13: 13، لا 27: 27). هكذا يرفض الله بكور الحيوانات غير الطاهرة وتُستبدل بحيوان طاهر وإلاَّ يُكسر عنقها. هذا هو حال الخاطئ الذي لا يُفدى إلاَّ خلال السيِّد المسيح القدوس، وإلاَّ مات.




2. تيَهان الشعب:

اندهش الشعب إذ رأى نفسه يسير في طريق غير طريق فلسطين، فإنه إذ كان لم يتدرب بعد على الحرية، أراد الله أن يتدرج به في البرية حتى يبلغ به إلى أرض الحرية "قال لئلاَّ يندم إذا رأوا حربًا ويرجعوا إلى مصر" [17].



3. عظام يوسف:

يقول الكتاب: "وأخذ موسى عظام يوسف معه، لأنه كان قد استحلف بني إسرائيل بحلف قائلًا: إن الله سيفتقدكم فتصعدون عظامي من هنا معكم" [19].
كأن يوسف أدرك خلال الظلام أن شعبه سيخرج من أرض مصر ويستريح في أرض الموعد، فكان طلبه يحمل رمزًا لشوق القيامة فيه، إنه يود أن يستريح جسده أيضًا في أورشليم العليا، حينما يحمل الطبيعة الجديدة اللائقة بالسمويات.
ويعلق القديس أفراهات على تصرف موسى النبي قائلًا: [كانت عظام الرجل البار أثمن وأفضل -في عينيه- من الذهب والفضة التي أخذها بنو إسرائيل معهم من مصر وأفسدوها.
لقد بقيت عظام يوسف. أربعين عامًا في البرية وعندما رقد موسى أورثها ليشوع بن نون... هذا الذي دفنها في أرض الموعد ككنز!].



4. النزول في إيثام:


تحدثنا قبلًا عن الرحيل من رعمسيس إلى سكوت، وقلنا أنها خروج من مثيرات الخطية مع شعور بالغربة، أما الآن فقد بلغوا إيثام، التي في رأي العلامة أوريجينوس تعني "علامة" وهي المحطة الثالثة، وفي طرف البرية [20]. ليس ممكنًا للمؤمن أن يدخل البرية بكل آلامها وتجاربها ما لم يبلغ المحطة الثالثة، أي يختبر القيامة مع السيِّد المسيح، فيعلن الرب ذاته له، يسنده نهارًا وينير له ليلًا.
يقول العلامة أوريجينوس: [يلزمنا ألاَّ نتوقف هنا (في سكوت) بل نكمل الطريق. يليق بنا أن نرفع الخيمة من سكوت ونسرع إلى إيثام.
ويمكننا ترجمة إيثام إلى "علامة"، وهو اسم أُحسن اختياره، لأنك تسمع بعد ذلك أن الله كان يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود نار لينير لهم. هذه العلامة لا نجدها في رعمسيس ولا في سكوت، وهما المرحلتان الأولى والثانية من الرحلة، وإنما تأتي في المرحلة الثالثة حيث تبدأ إعلانات الله. تُذكِّر ما كُتب قبلًا أن موسى كان يقول لفرعون: "نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا" (خر 5: 3)... إذن لم يكن يريد فرعون أن يسمح لبني إسرائيل بالذهاب إلى أماكن إعلانات الله ما لم يسمح لهم بالتقدم لينعموا بأسرار اليوم الثالث. اسمعوا ما يقوله النبي: "الرب يحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يقيمنا فنحيا أمامه" (هو 6: 2).
اليوم الأول بالنسبة لنا يمثل آلام المخلص.
واليوم الثاني يمثل نزوله إلى الجحيم.
واليوم الثالث يمثل قيامته.
كان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود السحاب ليهديهم في الطريق، وليلًا في عمود نار ليضيء لهم. إن أخذنا بقول الرسول أن هذه الكلمات يقصد بها المعمودية (1 كو 6: 2)، فإنه ينبغي على كل من يعتمد ليسوع المسيح إنما يعتمد لموته، ويدفن معه بالمعمودية للموت (رو 6: 3)، ويقوم معه في اليوم الثالث. يتحدث الرسول عن مثل هذا الإنسان قائلًا: "إن الله يقيمه ويجلسه معه في السمويات" (أف 2: 6).
إذن عندما تقتني سرّ اليوم الثالث يقودك الرب ويريك بداية طريق الخلاص(178)].

إن كان الرسول يرى في السحابة التي ظللت الشعب المعمودية (1 كو 6: 2)، التي خلالها ننال روح التبنِّي بالروح القدس، فإن القدِّيس باسيليوس الكبير يرى فها "ظل نعمة الروح القدس الذي يُعطي برودة للهيب شهواتنا، بإماتة أعضائنا" (كو 3: 5)(179)]، بهذا يكون عمود النور ظلًا للاستنارة التي نلناها بالمعمودية لنسير في طريق الرب المخلص خلال ظلمة هذه الحياة.








عبور البحر الأحمر






1. النزول إلى فم الحيروث:

بأمر إلهي رجع بنو إسرائيل ونزلوا أمام فم الحيروث، وهي بين مجدل والبحر، أمام بعل صفون [2].

يرى العلامة أوريجانوس أن "فم الحيروث" تعني "الصعود القاسي أو الصعود القفر"، "ومجدل" تعني "برج"، "وبعل صفون" تعني "الصعود بخفة أو بسرعة".
قبل أن يعبروا البحر الأحمر ليعيشوا أربعين عامًا في البرية حتى يدخلوا أرض الوعد، ألزمهم الرب أن يقفوا أمام فم الحيروث، أي أمام الصعود القاسي، كأنه يعلن لهم مقدمًا أن طريق الخلاص هو صعود مستمر خلال الطريق الكرب والباب الضيق. فالمؤمن لا يعرف التراخي بل الجهاد المستمر خلال شركته مع الله. أما موقع فم الحيروث فهو بين مجدل وبين بعل صفون، أي بين البرج والصعود السريع، بمعنى أن المؤمن يلتزم أن يُحسب نفقة بناء البرج حتى لا يبدأ ولا يقدر أن يكل فيهزأ المارة به، وإذ عرف حساباته التزم ألاَّ يتباطأ في الطريق بل يصعد بسرعة نحو الحياة السماوية، أما كونها أمام البحر فهذا إعلان عن دخولنا في التجارب (البحر) والضيقات طوال طريق جهادنا، حتى نعبر إلى الأرض الجديدة والسماء الجديدة حيث لا يكون للبحر موضع (رؤ 21).

هذا ما يراه العلامة أوريجانوس الذي يقول: [قد تظن إن طريق الله مستوىٍ وسهل، لا يحتاج إلى مجهود أو تعب، كلا! إنه صعود، وصعود صعب. فطريق الفضائل لا ينحدر إلى أسفل بل يصعد، هو صعود ضيق وكرب. اسمعوا ما يقوله الرب في الإنجيل: "ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة؟!" (مت 7: 14). يا للتوافق بين الإنجيل والناموس! فالناموس يُظهر أن طريق الحياة صعود كرب، والإنجيل يُعلن عن ضيقه، والرب نفسه هو الطريق المؤدى إلى الحياة...
إذن فالطريق الذي ينبغي علينا أن نسيره هر طريق صاعد وضيق، يتطلب السهر والإيمان. فالإيمان والأعمال يتطلبان مشقات ومجهودات ضخمة، والذين يريدون السير حسب الله يواجهون تجارب وضيقات عديدة...
في هذا الطريق نجد برجًا... هذا الذي قال عنه الرب في الإنجيل: "من منكم وهو يريد أن يبني برجًا لا يجلس أولًا ويحسب النفقة، هل عنده ما يلزم لكماله؟!" (لو 14: 28). هذا البرج هو الأساس القوي الذي تقوم عليه الفضيلة مرتفعة...
وفي خروجك أيضًا... تأتي إلى البحر حيث تلتق بالأمواج، إذ لا يوجد طريق للحياة بغير أمواج التجارب، كقول الرسول "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهَدون" (2 تي 3: 12). وكما يقول أيوب أيضًا: "أليس جهاد للإنسان على الأرض كأيام الأجير أيامه؟" (7: 1). هذا هو معنى الوصول إلى البحر .




2. ندم فرعون على إطلاقهم :

أ. أوضح الرب سرّ إنزالهم إلى فم الحيروث قائلًا: "أُشدد قلب فرعون حتى يسعى وراءهم" [4]. لقد سمح لهم بالدخول في الضيقة حتى يتمجد الرب فيهم، وأيضًا كما يقول: "ويعرف المصريون إني أنا الرب" [4].
كيف شدد الرب قلب فرعون؟" أسلمه الله إلى شهوات قلبه" (رو 1: 24)، تركه لقساوة قلبه، فثار على الشعب وتشدد قلبه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [إن كان الله قد تركه لقساوة قلبه فإننا لا نستطيع أن نتجاهل حرية إرادة فرعون في صنع الشر].
ب. سعى فرعون ومعه ستة مائة مركبة. قلنا أن رقم 6 يُشير إلى كمال العمل البشري، والمائة تُشير إلى كمال عدد الجماعة. كأنه خرج بكل طاقاته البشرية وبكل رجاله، لكنهم لم يحملوا الطبيعة السماوية (رقم 1000) لذلك فشل وهلك.





3. تذمر الشعب:

أ. اشتهى الشعب في أول ضيقة تصادفه بعد الرحيل، أن يعود إلى حياة العبودية عوضًا عن حياة الحرية ومعها الجهاد، مع أنه "من الأفضل لنا أن نموت ونحن في الطريق نبحث عن حياة الكمال عن أن نمتنع عن البحث عنها".

ب. طلب موسى من الشعب أن يقفوا وينظروا خلاص الرب الذي يصنعه لهم... قائلًا لهم: "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون" [14]. إنه لا يدفعهم للحرب مع فرعون كما فعل معهم في حربهم مع عماليق وغيرهم فيما بعد، لأنهم لم يختبروا بعد المن السماوي ولا الشراب الروحي، خروجوا من مصر بلا خبز للجهاد... هكذا لا يطالب الإنسان بالجهاد إلاَّ بالقدر الذي يناسب إمكانياته وقدراته!



4. صرخة موسى الصامتة:

يقول الرب لموسى: "مالك تصرخ إليّ" [15]، مع أن موسى لم يصرخ له علانية أمام الشعب، بل كان يحدث الشعب المتذمر في مرارة قلب يبعث فيهم روح الرجاء في الخلاص قائلًا: "الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون".
بلا شك صرخ موسى في قلبه صرخة مرارة هزت السماء، سمعها الله وحده دون الشعب، وجاءت الاستجابة سريعة... وقد اهتز كثير من الآباء لهذه الصرخة الصامتة فسجلوا تعليقات قوية إيمانية، نذكر منها:
قال العلامة أوريجانوس: [إن الله يسمع صرخات القديسين الصامتة بالروح القدس

وفي موضع آخر يعلق على هذه العبارة هكذا: [قال الله لموسى: "لماذا تصرخ إليَّ؟ بينما لم يصرخ موسى بصوت مسموع قط، ولا سجل سفر الخروج أنه فعل هذا، لكن موسى صرخ صرخة قوية، قدمها كصلاة يسمعها الله وحده! لهذا يقول أيضًا داود: "بصوتيّ إلى الرب صرخت، فاستجاب ليّ" (مز 77: 7)].



يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تستطيع أن تضبط أفكارك وتسبح الله دون أن يسمعك آخر، حتى وإن كنت في السوق، فقد صلى موسى هكذا وسمع له، إذ قال الرب: "لماذا تصرخ إليّ"، مع أنه لم ينطق بشيء، وإنما صرخ في فكره بقلب منسحق حيث سمعه الله وحده، فليس ثمة ما يمنع من أن يصلي الإنسان وهو يسير في الطريق فيسكن الأعالي].
كما يقول: [حنة أيضًا لم يُسمع صوتها، نالت كل اشتياقها قدر ما صرخ قلبها (1 صم 1: 13).
هابيل أيضًا لم يصلِ فقط بصمت، وإنما صلى عندما مات، إذ أصدر دمه صرخة أقوى من صوت البرق (تك 4: 10)... أيضًا "من الأعماق صرخت إليك يا رب"، من الأعماق أي من القلب يصدر الصوت وتكون صلاتك سرًا].
ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [الفكر الذي ارتفع من موسى نحو الله دُعي صرخة، ولو أنها تمت في فكر القلب الداخلي دون صوت!].

5. عبور البحر الأحمر:

سلك الشعب بالإيمان إذ رأوا البحر أمامهم فانفتح لهم طريق ونجوا، أما الأعداء فرأوا الطريق بالعيان فساروا فيه، فغرقوا وهلكوا. ويلاحظ في هذا العبور الآتي:

أولًا: عبور البحر الأحمر هو رمز المعمودية، حيث ينعم المؤمن بالخلاص خلال الدفن مع المسيح المتألم والتمتع بقوة قيامته، ويهيج إبليس وجنوده وتباد أعماله الشريرة. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إلى الآن حينما يدخل الشعب مياه التجديد، هاربين من مصر (رمزيًّا محبة العالم)، أي من ثقل الخطية، يتحرر ويخلص، أما إبليس وخدامه، أقصد بلا شك الأرواح الشريرة - فإنهم يُصدمون بالحزن ويهلكون، حاسبين خلاص البشرية شرًا بالنسبة لهم].
يقول القديس أغسطينوس: [تحرر شعب الله من مصر (رمزيًا محبة العالم) بعظمتها واتساعها واُقتيد إلى البحر الأحمر، لكي تكون فيها نهاية أعدائهم (الشياطين) في المعمودية. لأنه بهذا السر- كما في البحر الأحمر - يتقدسون بدم المسيح بينما تهلك الخطايا المقتفية آثارهم...].
ويقول القديس جيروم: [إذ ندم فرعون وجنوده أنهم أطلقوا شعب الله من مصر غرقوا في البحر الأحمر، فصار ذلك رمزًا لعمادنا. وقد وصف سفر المزامير هلاكهم قائلًا: "أنت شققت البحر بقوتك. كسرت رؤوس التنانين في المياه. أنت رضضت رؤوس لوياثان" (مز 74: 13-14). لهذا تسكن الحيات والعقارب الأماكن الجافة (تث 8: 15)، أما إذا اقتربت إلى المياه فإنها تصير في حالة هياج أو جنون].
ويرى القديس اغريغوريوس أسقف نيصص أن غرق فرعون وقواده ومركباته وكل إمكانياته الحربية إنما يُشير إلى موت الشر بكل طاقاته من طمع وشهوة وأفكار شريرة وغضب وحقد وحسد... إلخ في مياه المعمودية السرية .
ويرى القديس اغريغوريوس أسقف نيصص أنه كما التزم الشعب في سرّ الفصح بأكل الفطير غير المختمر حتى لا يخلطوا دقيق المحصول الجديد بخميرة من المحصول القديم. هكذا يليق بنا بعد عبورنا مياه المعمودية ألاَّ نترك لقوات فرعون أن تعيش في حياتنا، إنما تكون لنا الحياة الجديدة دون عودة لأعمال الإنسان القديم .

ثانيًا: يرى البابا أثناسيوس الرسولي الفارق بين السيِّد المسيح الذي ينتهر البحر ويأمر الرياح فتطيعه بسلطانه الإلهي (مز 4: 37-41)، وبين انشقاق البحر الأحمر الذي تم على يد موسى لكن بأمر إلهي إذ يقول: [وإن كان البحر الأحمر قد انشق بواسطة موسى، لكن ليس موسى هو الذي فعل هذا، لأن ما قد حدث تم بناءً على أمر إلهي وليس بسبب كلام موسى ].
ثالثًا: ليتنا نتمثل بموسى النبي فنمسك بعصا الرب، أي صليبه المقدس، ونضرب بها أمواج الخطية الثائرة داخلنا فينفتح لنا طريق يهلك أعداءنا الروحيين.
يرى العلامة أوريجانوس في هذه العصا أيضًا الناموس أو الوصية الإلهية إذ يقول: [إضرب الأمواج الهائجة بعصا موسى فينفتح لك طريق وسط أعدائك ].
رابعًا: أعلن هذا العمل حب الله للإنسان وعمله الخلاصي،
إذ يقول العلامة أوريجانوس: [المياه تصير جبالًا! المياه الراجعة تصير سورًا...! ويظهر عمق البحر، وإذا هو رمال فقط! ليتك تدرك محبة الخالق، فإنك إن أطعت إرادته وحفظت ناموسه يسخر الأشياء لتعمل ضد طبيعتها لأجل خدمتك].
تظهر محبة الله أيضًا في انتقال عمود السحاب من أمامهم إلى الوراء [19]، حتى يحجبهم عن أعين فرعون وجنوده ويكون حماية لهم.
خامسًا: يرمز هذا الخلاص لعمل السيِّد المسيح من جوانب كثيرة منها:
أ. قسّى فرعون قلبه لكي يهلك الشعب فغرق هو وجنوده، وقسّى إبليس أيضًا قلبه فأراد أن يقتل السيِّد المسيح ويُبيد اسمه من كورة الأحياء، وإذا به هو يهلك مع جنوده.

ب. رأى فرعون البحر منشقًا فاندفع وراء الشعب ليهلكه بدلًا من أن يخاف ويرتعب، ورأى إبليس الطبيعة ثائرة في لحظات الصليب ولم يبال بل اندفع ليكمل الصليب.
ج. ضرب موسى البحر بالعصا فغرق فرعون، وضرب السيد المسيح إبليس بخشبة الصليب فأغرقه في الجحيم.
د. بعد العبور اجتاز الشعب البرية، ونحن أيضًا إذ تمتعنا بعمل الصليب في المعمودية نجتاز برية هذا العالم مع قائدنا يسوع المسيح حتى نبلغ أورشليم السماوية.
سادسًا: يعلق القديس غريغوريوس أسقف نيصص على العبارة: "فخاف الشعب الرب وآمنوا بالرب وبعبده موسى" [31] قائلًا: [من يعبر البحر ويرى المصريين (الملذات الأرضية) موتى داخله كما سبق فشرحت، لا يعود ينظر موسى وحده كحامل عصا الفضيلة، إنما يؤمن بالله ويكون مطيعًا لموسى [31]. نحن أيضًا نرى ذات الأمر يحدث مع الذين يعبرون المياه مكرسين حياتهم لله، وفي طاعة وخضوع للذين يخدمونه في الكهنوت (عب 13: 17)].








1. تسبحة النصرة:

ترمز هذه التسبحة لتسبحة المفديين في السماء، إذ خلصهم الله وعبر بهم من العالم إلى السماء، تُستخدم هناك مع السيِّد المسيح (رؤ 15: 3). لهذا وضعتها الكنيسة في التسبحة اليومية بكونها "الهوس الأول"، لتؤكد لأولادها ضرورة التسبيح لله وتقديم الشكر المستمر من أجل عمله الخلاصي معنا، إذ يهبنا غلبة يومية على إبليس وجنوده، وليس بذراعنا البشري، وإنما خلال عمل نعمته فينا.
ويلاحظ أن موسى والشعب لم ينطقوا بالتسبيح إلاَّ بعد ما اعتمدوا ورأوا خلاص الله العجيب. هكذا بالمعمودية إذ ندفن مع مسيحنا المصلوب ونقوم معه في جدة الحياة ينفتح لساننا الداخلي لنسبِّح للرب ونشكره.
أصبحت هذه التسبحة تُمثل جانبًا حيًا في حياة موسى، حتى حينما تحدث البابا أثناسيوس الرسولي في إحدى رسائله عن عيد الفصح المسيحي قال إن القديسين يقضون كل حياتهم كمن يفرح بالعيد، فواحد يجد راحته في الصلاة كداود النبي، وآخر يعطي المجد لله خلال تسابيح الحمد مثل موسى، وآخرون يتعبدون بمثابرة مثل العظيم صموئيل والطوباوي إيليا... كأن موسى صار بهذه التسبحة مثلًا لحياة التسبيح لله.
وقد حملت هذه التسبحة تعبيرات ومعانٍ جميلة تحتاج إلى كتاب مستقل، لكنني اكتفي هنا بعرض بعض الفقرات منها:
"أُرنم للرب فإنه قد تعظم. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" [1].
بدأت التسبحة بتمجيد الرب الذي تمجد بالصليب حيث داس إبليس وكل قواته، ليعتق الذين سبق فأسرهم...

إنها تسبحة عذبة يترنم بها المسيحي كل يوم حين يرى الخطية تسقط بالصليب تحت قدميه،

وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [لنغني مع موسى... ونسبح مرتلين، إذ نرى الخطية التي فينا قد طُرحت في البحر، أما نحن فنعبر إلى البرية].
"قد هبطوا في الأعماق كحجر" [5].
يري القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [إن الإنسان الذي يسلك في الحياة الفاضلة يكون خفيف الوزن، أما الإنسان الشرير فيكون ثقيلًا يغطس في المياه. الفضيلة خفيفة تعوم على المياه، والذين يسيرون في طريقها يطيرون كالسحاب وكالحمام بأجنحتهم الصغيرة (إش 9: 8)، أما الخطية فكالرصاص ثقيلة (زك 5: 7).


اقتبس القديس الفكرة عن معلمه أوريجانوس الإسكندري، الذي قال: [لماذا هبطوا؟ لأنهم لم يكونوا من الحجارة التي يخرج منها أولادًا لإبراهيم، إنما كانوا محبين للمنخفضات ويتلغمون بالسوائل (الأمور المائعة)، يبتغون اللذة... ويهربون من الواقع. لهذا قيل عنهم "غاصوا كالرصاص في مياه غامرة" [10]. هكذا للخطاة ثقل شرور أشار إليها زكريا النبي، قائلًا: "وإذا بوزنة رصاص رفعت، وكانت امرأة جالسة في وسط الإيفة" (5: 7). ولما سُئل عن شخصيتها قيل له: "هذه هي الشر" (5: 8). لهذا قيل عن الأشرار أنهم غاصوا كالرصاص في مياه غامرة... أما القديسون فلا يغوصون بل يمشون على المياه... إذ ليس فيهم ثقل خطية ليغوصوا.
لقد مشى ربنا ومخلصنا على المياه (مت 14: 25)، هذا الذي بالحقيقة لا يعرف الخطية، ومشى تلميذه بطرس مع أنه ارتعب قليلًا إذ لم يكن قلبه طاهرًا بالكلية، إنما حمل في داخله بعضًا من الرصاص... لهذا قال له الرب: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟". فالذي يخلص إنما يخلص كما بنار (1 كو 3: 15)، حتى إن وجد فيه رصاص يصهره].


الأشرار إذن كالحجارة التي رفضت قبول عمل الروح القدس فيها لتصير أولادًا لإبراهيم، وكالرصاص الذي يغوص في المياه أي يغوصون في الملذات، أما القديسون
فكالذهب المصفى بالنار.
"يمينك يا رب معتزة بالقدرة. يمينك يا رب تحطم العدو" [6].
يرى القديس أمبروسيوسفي هذه التسبحة عمل الثالوث القدوس واضحًا، ففي هذه العبارة يعترف بالابن الذي هو "يمين الرب"، ليعود بعد قليل فيتحدث عن عمل الروح القدس "أرسلت روحك فغطاهم البحر" [10]، هذا الذي يعمل في سرّ "المعمودية"، مهلكًا الشر ومنقذًا أولاد الله.
"قال العدو: أتبع أدرك أقسم غنيمة. تمتلئ منهم نفسي. أجرد سيفي. تفنيهم يدي" [9].
هذا هو عمل إبليس: الإرهاب المستمر والاضطهاد، لهذا عندما دافع البابا أثناسيوس عن هروبه من وجه الأريوسيين مضطهديه أورد هذا القول معلقًا عليه: [أمرنا الرب بالهروب، والقديسون هربوا. أما الاضطهاد فهو شر من عمل الشيطان، يريد أن يمارسه ضد الكل].

وفي حديث للقديس أنبا أنطونيوس في كتاب البابا أثناسيوس الرسولي عنه يقول: [تخدع الشياطين الصديقين بافتخاراتهم... لكنه حتى في هذا يلزمنا ألاَّ نخاف من المظهر ولا نعطي اهتمامًا بكلماته، فإن الشيطان كذاب ولا ينطلق بكلمة حق واحدة. يتكلم كثيرًا جدًا ويظهر جسارة عظيمة هكذا، لكنه بلا شك كلوياثان يصطاده المخلص بشص (أي 41: 1) )].
لقد حاول العدو أن يستخدم ذات الأسلوب مع السيِّد المسيح، ظانًا أنه يقدر أن ينزع اسمه من كورة الأحياء، لكن تهديدات العدو لم تهز قلب السيِّد المسيح بل حطمت العدو نفسه.
"من مثلك يا رب" [11].
ليس لله شبيه في قدرته وحبه وفي طبيعته بكونه غير المدرك ولا المنظور ولا متغير، بلا بداية ولا نهاية. هذا الذي ليس له شبيه أعطانا بالتبني أن نحسب أولادًا له لكي نتشبه به، كقول الرسول يوحنا: "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1 يو 3: 2).
"تمد يمينك فتبتلعهم الأرض" [12].
يعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة قائلًا: [اليوم تبتلع الأرض الأشرار. ألا ترى أن الأرض تبتلع مْن ليس له إلاَّ الأفكار والأعمال الأرضية...؟! فيشتهي الأرض، ويضع فيها كل رجائه، ولا يرفع نظره نحو السماء، ولا يفكر في الحياة العتيدة، ولا يخشى دينونة الله، ولا يبتغي مواعيده في الأبدية، إنما هو دائم التفكير في الأمور الحاضرة، راكضًا نحو الأرضيات. إن رأيت إنسانًا كهذا قل أن الأرض ابتلعته. إن رأيت إنسانًا منسكبًا على رغبات الجسد وشهواته، ورأيت روحه بلا قوة لأن الجسد مُسيطر على كل حياته فقل أن هذا الإنسان ابتلعته الأرض.
بقى ليّ أمر آخر، فقد قيل "تمد يدك فتبتلعهم الأرض". مدّ الرب يده فابتلعتهم الأرض. تأمل الرب وقد بسط يده على الصليب "طول النهار بسطتُ يدي إلى شعب معاند ومقاوم" (إش 65: 2). كان هذا الشعب الغادر يصرخ أصلبه، أصلبه... فعاقبه بالموت...].
ابتلعت الأرض فرعون المتكبر الذي كان يظن أنه يُبيد شعب الله، أما الذين ابتلعهم الجحيم فنزل إليهم السيِّد المسيح، نزل إلى أقسام الأرض السفلى (أف 4: 9) لكي يخرجهم من أحشائها ويرتفع بهم، لا على سطح الأرض بل يدخل بهم إلى مسكن قدسه.

"حتى يعبر شعبك يا رب. حتى يعبر شعبك الذي اقتنيْته" [16].
كرر موسى النبي "حتى يعبر شعبك" ليُعلن أن غاية العمل هو الخلاص والعبور إلى الأبدية، ولتأكيد أن العابرين هم شعب واحد من أصلين: يهودي وأممي.
"تجيء بهم وتغرسهم في جبل ميراثك" [17].
يقول العلامة أوريجانوس: [الله لا يريد أن يغرسنا في مصر (محبة العالم)، ولا في أماكن فاسدة وشريرة، لكنه يريد أن يُقيمنا في جبل ميراثه.
ألا تبدو الكلمات "وتجيء بهم وتغرسهم"، كأنما يتحدث عن أطفال يقودهم إلى المدرسة حتى يتثقَّفوا بكل أنواع العلوم... لنفهم كيف يفعل هذا؟ "كرمة من مصر نُقلت، طَرَدت أممًا وغرستها. هيأت قدامها فأصَّلت أصولها فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله" (مز 80: 9-11)... إنه لا يغرسها في الوديان بل على الجبال، في أماكن مرتفعة وعالية. لا يريد أن يترك الخارجين من مصر في الحضيض إنما يقودهم من العالم إلى الإيمان. يريد أن يقيمهم في المرتفعات. يُريدنا أن نسكن في الأعالي، لا أن نزحف على الأرض. لا يريد كرمته تلمس ثمارها الأرض بل أن تنمو دون أن تشتبك فروعها مع أي شجيرة، إنما تلتصق بأرز الله العالي المرتفع (مز 80: 11). أرز الله في رأيي هم الأنبياء والرسل، فإننا إن التصقنا بهم نحن الكرمة التي نقلها الله من مصر تنمو أغصانها مع أغصانهم. إن كنا نتكئ عليهم نصير أغصانًا مغروسة برباطات الحب المتبادل ونأتي بلا شك بثمر كثير ].
"المقْدس الذي هيَّأته يداك يا رب" [17].
يقول العلامة أوريجانوس: [ما هو المقْدس الذي لم يقمه إنسان بل هيَّأه الرب؟ "الحكمة بَنت بيتها" (أم 9: 3). هذا الأمر إنما يخص تجسد الرب، فإن الجسد الذي أخذه ليس من زرع إنسان، إنما قام البناء في العذراء كما تنبأ دانيال "قُطع حجر بغير يدين... أما الحجر فصار جبلًا كبيرًا" (دا 2: 34، 35). هذا هو المقْدس الذي ظهر في الجسد، الذي قُطع بغير يدين، أي ليس من صنع إنسان].
"مشوا على اليابسة في وسط البحر" [19].
يقول العلامة أوريجانوس: [إن كنت أنت أيضًا من بني إسرائيل (الجديد) تستطيع أن تمشي على اليابسة وسط البحر. إن وجدت نفسك وسط جيل معوج وملتوي تُضيء بينهم كأنوار في العالم متمسكًا بكلمة الحياة لافتخاري (في 2: 15-16). قد تسير وسط الخطاة دون أن تصيبك مياه الخطيئة، قد تسير وسط هذا العالم دون أن ترتد عليك مياه الشهوة...
من يتبع المسيح يسير مثله (على المياه)، فتكون له المياه سورًا عن يمينه ويساره [22]. يسير على اليابسة حتى يبلغ الحرية مترنمًا للرب بتسبحة النصرة، قائلًا: "أُرنم للرب فإنه قد تعظم" [1]].




2. مريم المُرنِّمة:

يرى القديس جيروم في مريم أخت هرون كقائدة روحية للنساء في ذلك الوقت، صورة حيّة لعمل المرأة في الكنيسة، هذه التي تُكرِّس حياتها لتسبيح الرب وتعليم الأخريات هذا العمل. ففي رسالة بعثها للأرملة فيوريا Furia التي فكرت في الزواج ثم عدلت عنه، كتب إليها: [علَّمت مريم صاحباتها أن يكُنَّ موسيقيَّات لكن للمسيح، يضربن العود لكن للمخلص. تقضي في هذا العمل النهار والليل فتصنع بهذا زيتًا في المصابيح وتستعد منتظرة مجيء العريس ].
كما رأى فيها القديس أمبروسيوسصورة رمزية للكنيسة المترنمة للرب على الدوام ففي حديثه عن العذارى، قال: [ألم تكن رمزًا للكنيسة البتول بروح بلا عيب تجمع الجماهير المتدينة لتُنشد الأناشيد الإلهية؟! إذ نسمع أنه كان يوجد عذارى مهتمات بذلك في الهيكل بأورشليم؟!].
وفي نفس المقال(212) تحدث أيضًا عن تصرف مريم مع النساء أنهن يمثلن مركب السماء، وقد تهلل السمائيون إذ رأوا الأرضيين خرجوا منطلقين نحو السماء.



3. من مارة إلى إيليم:

طريق البرية هو طريق الدخول في ضيقات كثيرة، بل بالحري هو طريق خبرة العمل الإلهي في حياتنا وسط الآلام، وانفتاح القلب نحو السمويات.
ما أن عبر الشعب وفرح وتهلل، حتى تحولت أفراحه إلى مرارة وضيق، إذ شعروا بالعطش فتذمروا على موسى [24]، إذ وجدوا ماءً مرًا لا يقدر أن يرويهم. ألقى موسى النبي بالشجرة في المياه المرة فصارت حلوة.

ما هي هذه المياه المرة إلاَّ وصايا الناموس، التي أُعطت مرارة للإنسان بسبب عجزه عن التنفيذ، لكن دخل السيِّد المسيح - شجرة الحياة - في الوصية، فصيَّر الناموس روحيًا وجعله مُرويًا للنفس.

في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [كأس الناموس مرّ... لكن إن كنا نلقي فيه شجرة حكمة المسيح الذي يكشف لنا كيف يجب أن نفهم الختان والسبوت، ونحفظ شريعة البرص، ونميز بين النجس والطاهر، حينئذ تصير مياه مارة عذبة، وتتحول حرفية الناموس إلى عذوبة المعنى الروحي، حينئذ يقدر شعب الله أن يشرب].
كما يقول: [إن كان أحد يُريد أن يشرب من حرفية الناموس بعيدًا عن شجرة الحياة، أي بعيدًا عن أسرار الصليب، بعيدًا عن الإيمان بالمسيح والإدراك الروحي، فإنه يهلك من هول المرارة. لقد أدرك بولس هذه الحقيقة فقال: "الحرف يقتل" أي أن المياه المارة تقتل إن شربت كما هي قبل أن تصير عذبة].

ويقول: [عندما دخلت خشبة الصليب إلى الوصية جعلتها عذبة، إذ صارت تُنفذ روحيًا، وبالتالي صارت نفس هذه الوصايا للحياة].
يرى كثير من الآباء في الشجرة رمزًا للصليب الذي يعمل في مياه المعمودية، فتتحول حياتنا من المرارة إلى العذوبة، وعوض ما نحمله من أعمال الإنسان القديم نتمتع بالطبيعة الجديدة التي صارت لنا في المسيح يسوع .
يقول القديس أمبروسيوس: [كانت مارة عين ماء شديدة المرارة، فلما طَرح فيها موسى الشجرة أصبحت مياهًا عذبة. لأن الماء بدون الكرازة بصليب الرب لا فائدة منه للخلاص العتيد. ولكن بعد أن تكرس بسرّ صليب الخلاص يصبح مناسبًا لاستعماله في الجرن الروحي، وكأس الخلاص، إذ أنه كما ألقى موسى النبي الخشبة في تلك العين هكذا أيضًا ينطق الكاهن على جرن المعمودية بشهادة صليب الرب فيصبح الماء عذبًا بسبب عمل النعمة ].
ويرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص في الخشبة: "سرّ القيامة" خلال صليب السيِّد، حيث تتحول الحياة الفاضلة بما فيها من جهاد ومرارة إلى حياة سهلة وعذبة، إذ يقول: [الإنسان الذي يترك خلفه الملذات (المصرية) التي كان يخدمها قبل عبوره البحر، فإن الحياة التي كانت تبدو له أنها بدون هذه الملذات صعبة وغير مقبولة، متى ألقيت فيها الخشبة، أي يتقبل سرّ القيامة الذي يبدأ بالخشبة - حيث تفهم بالخشبة الصليب طبعًا - عندئذ تصير الحياة الفاضلة عذبة خلال الرجاء في الأمور العتيدة، بل أكثر حلاوة وعذوبة من تلك التي تختبرها الحواس خلال الملذات].

إن كانت مارة حملت إشارة إلى الناموس الذي صار بالصليب روحيًا، والمعمودية بما فيها من عمل الصليب وقوة القيامة، كان لزامًا للشعب أن يعبر من مارة إلى إيليم [27]، أي يعبروا من الناموس إلى العهد الجديد، إذ وجدوا فيه اثنتى عشر عين ماء وسبعين نخلة، إشارة إلى الاثني عشر تلميذًا والسبعين رسولًا.
في هذا يقول العلامة أوريجانوس: [لقد قصد الله ألاَّ يأتي بالشعب إلى إيليم منذ البداية حيث يوجد اثنا عشر عين ماء خالية من كل مرارة تمامًا. وحيث يوجد موضع للراحة في ظلال النخيل...
عندما تُصير مرارة الناموس عذبة بواسطة شجرة الحياة (أم 3: 18)، حينئذ نفهم الناموس روحيًا، ويتم العبور من العهد القديم إلى العهد الجديد. وبهذا نصل إلى الاثني عشر عين ماء الرسولية، ونجد في نفس الوقت سبعين نخلة...
لا يكفي لشعب الله أن يشرب مياه مارة بعد أن صارت عذبة بواسطة شجرة الحياة، وخلال سمو الصليب فقدت مرارة الحرف، فإن العهد القديم وحده لا يكفي للشرب وإنما يلزم أن نأتي إلى العهد الجديد لنشرب منه بلا صعوبة ...].
ويقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [سرّ الخشبة التي تصير خلاله مياه الفضيلة مبهجة للعطاشى يقودنا إلى الاثني عشر ينبوع ماء والسبعين شجرة، أي إلى تعاليم الإنجيل(221)].





1. في برية سين:

في سفر الخروج يقول: "ثم ارتحلوا من إيليم وأتى كل جماعة بني إسرائيل إلى برية سين" [1]، أما سفر العدد فيوضح بأكثر تفصيل قائلًا: "ثم ارتحلوا من إيليم ونزلوا على بحر سوف ونزلوا في برية سين" (عد 33: 10-11).
يرى العامة أوريجينوس إن إيليم تعني "الأكباش"، ولو أن البعض يرى أنها تعني "الأشجار". في رأيه أن الأكباش تمثل قادة القطيع حيث الاثنا عشر تلميذًا (عين ماء) والسبعون رسولًا (نخلة)، هؤلاء قادوا بالمسيح يسوع الشعب إلى شاطئ بحر سوف (عد 33: 10)، لكنه من الجانب المملوء أمانًا، إذ عبروه مرة واحدة، وفيه هلك إبليس وجنوده. الآن "يستطيعون أن ينظروا البحر ويرون أمواجه، لكنهم لا يخافون حركاته ولا عواصفه".

ارتحلت الجماعة المقدسة من بحر سوف ونزلت إلى برية سين، وهي المدينة التي أنزل الله فيها المنّ للشعب للمرة الأولى، ولعلَّ موضعها الآن دبة الرملة، وهي كومة رمال عند سفح جبل التيه.

ويرى العلامة أوريجينوس أن "سين" تعني "عليقة" أو "تجربة". فكما أن أول ظهورات الله لموسى كان في العليقة، ليعلن له سرّ التجسد الإلهي، فإنه في سين قدم الله لشعبه لأول مرة المنّ - إشارة أيضًا إلى السيِّد المسيح النازل من السماء شبعًا للنفس البشرية. أما معناها "تجربة"، إنما ليذكرنا أنه حيث توجد الإعلانات يجب أن يكون لنا روح التمييز (1 كو 2: 5)، لئلا يخدعنا عدو الخير بتجاربه التي يظهر فيها أحيانًا كملاك نور (2 كو 11: 4)، لتضليل إن أمكن حتى المؤمنين.



2. تذمر الشعب:

إذ مضى شهر على خروجهم من أرض العبودية قدموا لله تذمرًا عوض تسبحة الشكر والحمد له، إذ قالوا لموسى وهرون: "ليتنا متنا بيد الرب في أرض مصر، إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزًا للشبع، فإنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع" [3].
يقول الكتاب: "رجعوا بقلوبهم إلى مصر"، حقًا لقد ذاقوا مرارة العبودية والذل واختبروا عربون أرض الموعد ومارسوا حياة الغلبة والنصرة ومع هذا كانوا في كثير من الأوقات يشتاقون إلى رائحة قدور اللحم، إلى "شهوة العين وشهوة الجسد وتعظم المعيشة". أمام لذة الخطية الدنيئة ينسى الإنسان بركات الله ونعمه، مشتهيًا الذل عن الحرية!

لقد حذرنا كثير من الآباء من "شيطان النهم"، حتى لا تصير آلهتنا هي بطوننا،

وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تذكر اليهود قدور اللحم فظهر استبداد البطن العظيم ].

وعندما تحدث الأب أوغريس عن حروب الشيطان خلال الأفكار الشريرة الثمانية اعتبر "الشراهة في الأكل" هو أول هذه الأفكار.

ويسمي القديس يوحنا كليماكوس المعدة بالسيِّد المستبد، كما يقول: [كن سيِّدًا على معدتك قبل أن تسود هي عليك. الذي يرعى شرهه ويأمل في التغلب على روح الفجور يشبه من يحاول أن يخمد النار بزيت )

ويقول الأب يوحنا من كرونستادت: [تأكد تمامًا أن العدو يهاجم القلب عن طريق امتلاء البطن].
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان التذمر جزءًا من طبيعة هذا الشعب. إذ يتسلط على قلبهم ويبررونه بسبب أو بآخر،

لذا يشبههم القديس يوحنا الذهبي الفم بالأطفال الصغار الذين يوجدون كل علة للتذمر والهروب من المدرسة، إذ يقول: [كانت البرية بالنسبة لهم مدرسة، وكأطفال طال بهم الوقت في المدرسة يريدون الانقطاع عنها، هكذا كان هؤلاء يرغبون في الرجوع إلى مصر باكين قائلين: لقد ضعنا، لقد متنا! ].
لم يكن الجوع هو السبب في التذمر بل كان ذلك طبعهم، فإنهم حتى بعد أن قدم لهم هذا الطعام اليومي الطازج الذي لا يتعبون فيه، لم يكفوا عن التذمر، بل عادوا يبكون قائلين: "من يطعمنا لحمًا؟ قد تذكرنا السمك الذي نأكله في مصر مجانًا والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن؟! (عد 11: 4-6).

وكما يقول القديس جيروم: [احتقروا طعام الملائكة وتنهدوا على لحم مصر. صام موسى أربعين يومًا وأربعين ليلة على جبل سيناء مظهرًا أن الإنسان لا يعيش على الخبز وحده بل على كلمة الله. يقول الرب إن الشعب شبع فصنع أوثانًا. كان موسى يتسلم الشريعة المكتوبة بإصبع الله بمعدته الخاوية، أما الشعب فأكل وشرب وقام ليلعب أمام العجل الذهبي، مفضلين العجل المصري عن جلالة الرب. حقًا لقد ضاع تعب أيام كثيرة كهذه خلال الشبع لساعة واحدة].
3. المنّ والسلوى:


تذمر الشعب ولم يكن لدى موسى خزائن مادية لتُشبع جوعهم، لكنه إذ قبل عار المسيح حاسبًا إيّاه غنى أعظم من خزائن مصر (عب 11: 26)، لم يتركه الرب هو وشعبه معتازين إلى شيء.
وكما يقول القديس أمبروسيوس: [حسب موسى خزائن مصر خسارة بالنسبة له، مظهرًا في حياته عار صلب الرب. لم يكن غنيًا حين كان معه مال وفير (في قصر فرعون) ولا افتقر حين صار في عوز إلى طعام، اللهم إلاَّ إذا ظن أنه كان أقل سعادة حين كان في احتياج إلى الطعام اليومي ليشبع شعبه. لكنه قدم له من السماء المنّ الذي هو طعام الملائكة، علامة الخير العظيم والطوباوية... كما كان سيل من اللحم يمطر عليه ليشبع الجموع ].
هذا المنّ يُشير إلى السيِّد المسيح الذي قدم جسده المقدس غذاءً للنفس، إذ قال: "الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء، لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم... آباؤكم أكلوا المنّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو 6).
فيما يلي مقارنة مبسطة بين المنّ القديم والمنّ الجديد:

أ. بعد العبور كان يلزم للشعب أن يأكل طعامًا جديدًا غير طعام أرض العبودية، يشبع كل واحد منهم. ونحن أيضًا إذ دخلنا عهدًا جديدًا قدم لنا السيِّد طعامًا روحيًا حقيقيًا، يقدر أن يُشبع النفس ويهبها حياة أبدية.
والعجيب إن المنّ بدأ ينزل على الشعب يوم الأحد كما هو واضح من قول الرب لموسى: "وفي اليوم السادس أنهم يهيئون ما يجيئون به فيكون ضعف ما يلتقطونه يومًا فيومًا" [5]، وكان يوم الاستعداد للسبت (الجمعة) هو سادس يوم ينزل فيه المن، فيكون قد بدأ النزول بالأحد.

وبقيامة السيِّد المسيح من الأموات فجر الأحد قدم لنا جسده القائم من الأموات، سرّ قيامة لنفوسنا وأجسادنا. وصار الأحد العيد الكنسي الأسبوعي حيث نتمتع فيه بالمنّ السماوي.
ب. سقط المنّ من السماء [4]، وأخذ كل واحد قدر احتياجه حسب أكله [18]، فشبع الكل. ونزل السيِّد المسيح كلمة الله من السماء وقدم نفسه سرّ شبع للجميع. قدم نفسه لبنًا للأطفال، وطعامًا دسمًا للناضجين، لكي لا يترك نفسًا في عوز أو جوع.

ج. الذين أخذوا المنّ بغير إيمان، مخالفين الوصية، ومحتفظين به لليوم التالي صار بالنسبة لهم دودًا ونتنًا. هكذا من يتناول جسد السيِّد بغير إيمان ولا استحقاق يحمل فيه رائحة الموت عوض الحياة والعذوبة التي يذوقها المؤمنون عند تمتعهم به.
كلمة الله كالمنّ، هي سرّ حياة للتائبين المؤمنين، وسرّ هلاك للمُصرّين على عدم الإيمان.
في هذا يقول العلامة أوريجينوس: [في المنّ الآن عذوبة العسل بالنسبة للمؤمنين، وفيه دود لغير المؤمنين. إن كلمة الله (السيِّد المسيح) يفند الأفكار الشريرة وينخس ضمير الخطاة بالمناخس الحادة ويضرم نارًا في قلوب الذين يفتحون له، حتى يقولوا: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا وهو يفسر لنا الكتب؟!" (لو 24: 32). وعلى العكس هو نار تحرق الأشواك التي على الأرض الرديئة].
من يجمع منًا ليحتفظ به دون أن يأكله، أي يسلك مخالفًا للوصية وبغير إيمان، يكون كمن يدرس الكتاب المقدس ويتعرف على الإيمان المسيحي معرفة نظرية، فيكون إيمانه ميتًا كقول معلمنا يعقوب الرسول (يع 2: 14-15، 26).

وفي هذا يقول العلامة أوريجينوس: [إن أخذ غير المؤمن كلمة الله ولم يأكلها (أي يعيش بها)، بل أخفاها، يتولد فيها الدود ].
د. قال موسى النبي: "الرب يعطيكم في المساء لحمًا لتأكلوا، وفي الصباح خبزًا لتشبعوا" [8]. ما هو هذا المساء إلاَّ آخر الأزمنة أو ملء الزمان الذي فيه حمل كلمة الله جسدًا، مقدمًا ذاته لنأكل ونشبع! وبمجيئه في ملء الزمان، وسط الظلمة في المساء، أشرق بنوره علينا فتحول مساؤنا نهارًا، ودخلنا في صباح جديد، مقدمًا لنا خبزًا جديدًا تشبع به البشرية المؤمنة.
مرة أخرى يقول: "في المساء تعلمون أن الرب أخرجكم من مصر، وفي الصباح ترون مجد الرب" [6-7]. ما هو هذا المساء إلاَّ تلك اللحظات التي فيها أسلم السيِّد المسيح الروح في يدي الآب، حيث غطّت الظلمة وجه الأرض، فأخرجنا من عبودية إبليس وحرر الذين كانوا في الجحيم؟! وما هو هذا الصباح الذي فيه رأينا مجد الرب إلاَّ فجر الأحد الذي فيه قام من الأموات وأعطانا قوة قيامته وبهجتها.؟!
ه. المنّ لم يعرفه الشعب [15]، والسيِّد المسيح تحيّر في حقيقته الشعب (1 كو 2: 8).

و. نزل المنّ على الخيام التي تُشير إلى أجسادنا، وجاءنا السيِّد المسيح إلى مساكننا وفي جسدنا، صار كواحد منا.
ز. نزل المنّ بعد تذمر الشعب، وجاء السيِّد المسيح بعدما قامت العداوة بيننا وبين الله، وكما يقول الرسول بولس: "ونحن أعداء صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو 5: 10). وبنزول المنّ أعلن الله حبه ولطفه، برغم تذمر شعبه عليه. ومجيء السيِّد المسيح إلينا علامة رعاية الله ومحبته اللانهائية.
س. وصف المنّ أنه كدقيق أبيض كالثلج [14]، وصارت ثياب السيِّد المسيح القدُّوس "بيضاء كالثلج" (مز 9: 3).
ش. طعم المنّ كرقاق بعسل، والسيِّد المسيح "حلقه حلاوة وكله مشتهيات" (نش 5: 6).
ص. كان الشعب يلتقط المنّ صباحًا فصباحًا... وشركتنا مع ربنا يسوع المسيح متجددة كل يوم، ولقاؤنا معه مبكرًا جدًا "الذين يبكرون إليَّ يجدونني" (أم 8: 17).
ط. يلتقط المنّ ويطحن ويدق ويطبخ ليصير صالحًا للأكل، والسيِّد المسيح جاء متأنسًا، صُلب وتألم ومات وصار غذًاء وسرّ حياة لمن يأكله (مر 14: 13، 24).
ظ. إذ احتقر الشعب المنّ ضربهم الله ضربة عظيمة جدًا، ومن يأكل جسد الرب بدون استحقاق ينال دينونة لنفسه (1 كو 11: 27-33).
أخيرًا فإننا إذ نتحدث عن المنّ نجد فيه صورة حيَّة للشبع والاكتفاء، لكن بغير ترف زائد أو نهم.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لنا معدة واحدة فقط لكي نملأها. أما أنت يا من تريد أن تقوتها بترف زائد، فإنك تقدم لها ما تريد أن تتخلص هي منه. فكما أن الذين جمعوا (من المنّ) أكثر مما يجب، إذا بهم يجمعون دودًا ونتانة لا منًا، الذين يعيشون في ترف وطمع ونهم وسكر إنما يجمعون لأنفسهم فسادًا وليس طعامًا لذيذًا].




4. شريعة السبت:

من جمع لنفسه منًا فائضًا لليوم التالي جمع دودًا ونتانة، وصار موضع سخط الله وغضب موسى النبي، لكنه إذ جاء يوم الاستعداد للسبت التزم الجميع بجمع ضعفين، وكان ذلك إشارة إلى الجمع والحفظ ليوم الراحة العظيم.

وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هذا اليوم (السابق) إنما هو الحياة الحاضرة التي فيها نعد أنفسنا للأشياء العتيدة].
ماذا نعد للحياة العتيدة؟ يقول الرسول: "من يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غلا 6: 8).

ويقول العلامة أوريجينوس: [يليق بنا في اليوم السادس أن نجمع ونخزن ما يكفي لليوم التالي. إن كنت تجمع هنا أعمالًا صالحة، إن كنت تخزن هنا كنوزًا للبرّ والرحمة والتقوى، فإنها تمثل غذاءك في الدهر الآتي. ألا تسمع في الإنجيل أن الذي ربح عشرة وزنات أخذ مقابلها عشر مدن، والذي ربح خمس وزنات أخذ مقابلها خمسة مدن. هذا ما يقوله لنا الرسول بصورة أخرى "ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد" (غلا 6: 7)].
كما يقول: [من خزَّن للسبت لم يفسد ولا أتى فيه دود بل بقى سليمًا، أما إن كُنت تُخزن للحياة الحاضرة حبًا في هذا العالم فسيتولد فيك الدود].



5. قسط المنّ:

أمر موسى هرون أن يأخذ قسطًا واحدًا ويجعل فيه ملء العمر منًا ويضعه أمام الرب، يوضع فيما بعد في تابوت العهد. بقى هذا تذكارًا لعمل الله معهم، ويحمل شهادة رمزية لمجيء السيِّد المسيح المنّ الحقيقي النازل من السماء. وقد رأت الكنيسة في القسط رمزًا للقديسة مريم الحاملة للسيِّد المسيح في أحشائها.



رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
موسى النبي وتقديس يوم الرب
موسى وهارون وتقديس الهيكل
هو البكر والوحيد فى ميلاده من العذراء البكر البتول
البكر فى قبره ومن هذا القبر البكر خرجت بشرى القيامة
تفسير التوراة اسفار موسى النبى ودراسات روحية فى شخصية موسى النبى لابونا داود لمعى


الساعة الآن 10:44 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024