|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التعصب والتشكيك وضبط الذات في تعليم يسوع
النص الإنجيلي (مرقس 9: 38-50) 38 قالَ له يوحَنَّا: ((يا مُعَلِّم، رَأَينا رجُلاً يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ، فأَرَدْنا أَن نَمنَعَه لأَنَّه لا يَتبَعُنا)). 39 فقالَ يسوع: ((لا تَمنَعوه، فما مِن أَحدٍ يُجْرِي مُعْجِزَةً بِاسْمي يَستَطيعُ بَعدَها أَن يُسيءَ القَوْلَ فيَّ. 40 ومَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا. 41 ((ومَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع)) .42 ((ومَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر 43 فإِذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلأَن تَدخُلَ الحَياةَ وأَنت أَقطَعُ اليد خَيرٌ لَكَ مِن أَن يَكونَ لَكَ يَدانِ وتَذهَبَ إِلى جَهَنَّم، إِلى نارٍ لا تُطفَأ. 44 وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلَأَن تَدخُلَ الحيَاةَ وأَنتَ أَقطَعُ الرِّجل خَيرٌ لَكَ مِن أَن يكونَ لَكَ رِجلانِ وتَُلْقى في جَهَنَّم. 46 وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها فَلَأَن تَدخُلَ مَلَكوتَ اللهِ وأَنتَ أَعوَر خَيرٌ لَكَ مَن أَن يكونَ لَكَ عَينانِ وتُلْقى في جَهَنَّم، 48 حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار. 49 لِأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ سَيُمَلَّحُ بِالنَّار. 50 المِلْحُ شَيءٌ جَيِّد، فإِذا صارَ المِلحُ بلا مُلوحَة، فَبِأَيِّ شَيءٍ تُمَلِّحونَه؟ فَلْيَكُنْ فيكُم مِلحٌ وَلْيُسالِمْ بَعضُكم بَعضاً)). مقدمة جمع مرقس الإنجيلي مجموعة من أقوال السيد المسيح في نص واحد (مرقس 9: 38-50). وهذه الأقوال تتناول تعليم يسوع لتلاميذه في ضبط الذات تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) وتجاه النفس (مرقس 9: 43-50)، لان كان همُّهم الوحيد ليس أن يكونوا الأكبر والأعظم فحسب (مرقس 9: 37)، بل أن يستأثروا بالسيادة والسلطة ويحتكروها وبالتالي يسيئون استخدامها، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع نص إنجيل مرقس (مرقس 9: 38-50) 38 قالَ له يوحَنَّا: يا مُعَلِّم، رَأَينا رجُلاً يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ، فأَرَدْنا أَن نَمنَعَه لأَنَّه لا يَتبَعُنا تشير كلمة "يوحنا" إلى أحد الاثني عشر؛ وهو "التلميذ الذي كان يُحبه يسوع"، أقرب التلاميذ إليه فهما وإدراكا وحبا؛ ومع ذلك كان رده سلبيا. كان همُّه الوحيد أن يستأثر بالسيادة والسلطة، وكان يريد أن يحصر قدرة المسيح في الاثني عشر رسولا، في حين أن شريعة المسيح تدعوهم إلى الخدمة والمحبة. أمَّا عبارة " رَأَينا " فتشير إلى يوحنا وغيره من التلاميذ الذين رأوا ذلك وهم يتجوَّلون للتبشير. أمَّا عبارة "رجُل" فتشير إلى رجلٍ مؤمنٍ ومُخلصٍ طالما يستخدم باسم المسيح، أو أحد الذين تمّ شُفاءهم بفضله. وهو يختلف عن "المُعَزِّمينَ الطَّوَّافينَ مِنَ اليَهودِ" (أعمال الرسل 19: 13-16). ولم يكن ضد المسيح لا بفمه ولا بقلبه، بل كان يعمل لحساب المسيح بإيمان صادق، لكنه لم يكن من تلاميذ يسوع (لوقا 9: 49) إلاَّ أن الإيمان يمنح صاحبه الحق على الرسالة والقوة لاجتراح المعجزات، وإن لم يكن من فريق الرسل؛ لا تقوم وحدتنا الكنسية المسكونية على تجمعات، وإنما على وحده الإيمان الحيّ. أمَّا عبارة "يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِكَ" فتشير إلى يسوع الذي أعطى سلطته لتلاميذه لطرد الشياطين (مرقس 6: 7) ويشكل طرد الشياطين علامة من العلامات التي ستصاحب البشارة بالإنجيل؛ وعلى سبيل المثال بولس الرسول طرد الشياطين باسم يسوع (أعمال الرسل 16: 18). وهذا الشخص الذي طرد الشياطين لا بدَّ من انه كان مؤمناً بالمسيح حتى استطاع أن يفعل الخير في إنقاذ الإنسان من الخطيئة والعذاب. لكن يوجد أيضًا من يصنع قوات باسم المسيح لكنه يضمر شرًا في قلبه كالهراطقة مسببي الانقسامات والأشرار في حياتهم العملية. يقول السيد نفسه " فَسَوفَ يقولُ لي كثيرٌ منَ النَّاسِ في ذلكَ اليَوم: ((يا ربّ، يا ربّ، أَما بِاسْمِكَ تَنبَّأْنا؟ وبِاسمِكَ طرَدْنا الشِّياطين؟ وباسْمِكَ أَتَيْنا بِالمُعْجِزاتِ الكثيرة؟ فأَقولُ لَهم عَلانِيةً: ((ما عرَفْتُكُم قَطّ. إِلَيْكُم عَنِّي أَيُّها الأَثَمَة!" (متى 7: 22-23). أمَّا عبارة "باسمِكَ" فتشير إلى شخص يسوع نفسه أي أنَّ الرجل الذي كان يطرد الشياطين كان يتلفظ باسم يسوع ممَّا يدل على انه كان مؤمناً وإلاَّ كان استعماله اسم يسوع عبثا كما كان الأمر ما حدث في كنيسة أفسس إذ "حاوَلَ بَعضُ المُعَزِّمينَ الطَّوَّافينَ مِنَ اليَهودِ أَيضًا أَن يَلفُظوا هم أَيضاً اسمَ الرَّبِّ يسوعَ على مَن مَسَّتْهمُ الأَرواحُ الخَبيثة، فكانوا يَقولون: ((عَزَمتُ علَيكم بِاسمِ يسوعَ الَّذي يُبَشِّرُ بِه بولُس ))... فأَجابَهُمُ الرُّوحُ الخَبيث: ((أَنا أَعرِفُ يسوع، وأَعلَمُ مَن بولُس، ولكن أَنتُم مَن أَنتُم؟)). ثُمَّ وَثَبَ عَلَيهِم مَن كانَ فيه الرُّوحُ الخَبيث فَتَمَكَّنَ مِنهم جَميعًا وقَهَرَهم، فهَرَبوا مِن ذلكَ البَيتِ عُراةً مُجَرَّحين" (أعمال الرسل 19: 13-16). وهذا "الاسم" على وجه أعمق، هو الذي يُأتي البشر الخلاص " فلا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص "(أعمال الرسل 4: 12) وليست المعجزات وطرد الشياطين إلا صورة لهذا الخلاص. ومن اجل هذا "الاسم " يلقى الرسل العذاب (أعمال الرسل 5: 41) وفيه يُعمّد المؤمنون (أعمال الرسل 2: 38) وإيَّاه يدعون (أعمال الرسل 9: 14)؛ أمَّا عبارة " أَرَدْنا أَن نَمنَعَه" فتشير إلى منع التلاميذ رجلا يطرد الشياطين باسم يسوع لعدم كونه واحداً منهم رغماً نأنه أنه يعرف الربّ، وحيث أنّه يعرفه، فهو يُحبّه، وحيث أنّه يُحبّه فهو يريد أن يقتدي به. وإنّ عمل الخير وتجنّب الشرّ هو قانون شامل مكتوب في قلوب البشر، بغض النظر عن الحقبة الزمنيّة والانتماء الديني. وقد وردت كلمة "منع" مرتين في هذا النص. إذ ظنّ التلاميذ أنهم مخوّلون منع الناس ووضع الحواجز أمامهم، أرادوا أن يحتكروا رسالة يسوع فيهم، لاعتقادهم أن الرسالة كانت وقفا عليهم فقط مما يدل على تعصبهم وتحزّبهم. وهذا ما لا يرضى عنه الرب؛ ويُعلق البابا فرنسيس " أن الله لا ينتمي بطريقة حصرية لأي شعب؛ لأنه هو الذي ينادينا، ويستدعينا، ويدعونا كي نكون جزءا من شعبه، وهذه الدعوة هي موجهة للجميع، بدون تفرقة، لأن رحمة الله تريد "أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4)" (المقابلة العامّة بتاريخ 12/06/2013). إن احتكار الرسالة في المسيحية هي تجربة وانحراف وإساءة لإدارة السلطة على تقرير هوية مَن يكون تلميذا أو لا يكون. ولا يجوز أن يكون اهتمام التلاميذ كجماعة أكثر من اهتمامهم بمد يد المعونة إلى من تُعذِّبهم الأرواح الشريرة. ولِعلَّ منع التلاميذ للرجل من طرد الشياطين نابع من شعورهم بالحسد والكبرياء، لأنهم لم يستطيعوا معا إن يطردوا روحا نجسا واحد عند أسفل جبل التجلي (لوقا 9: 40)، أو لِعلَّ موقف التلاميذ من هذا الرجل جعله يتعثر. وهذا يفسر الإنذار الشديد "ومَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر" (مرقس9: 42). أمَّا عبارة "لا يَتبَعُنا" فتشير إلى الرجل المؤمن الوارد ذكره أعلاه الذي لم يكن من عداد الاثني عشر أو التلاميذ السبعين، فهو لم يعترف بسلطة التلاميذ ولم يطلب تصريحا منهم لطرد الشياطين. وفي الواقع لم يقل يوحنا الإنجيلي انه لا يتبع يسوع بل لا يتبعنا مما يدل على تعصُّبه الطائفي، ويُعلق البابا فرنسيس " إن الرّب يسوع لم يطلب من الرسل أو منّا أن نشكِّل مجموعةً حصرية، أو فريقًا من النخبة. لا بل على العكس من ذلك فإنّه قال لنا: "اذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس" (متى 28: 19). ويؤكد القديس بولس الرسول أن في شعب الله، في الكنيسة، " لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (غلاطية 3: 28). " (المقابلة العامّة بتاريخ 12/06/2013). وحاول إنجيل لوقا أن يوضِّح أن "الاتباع" لا يعني اتباع التلاميذ بل المعلّم الوحيد حيث انه مطلوب إتباع الجميع يسوع المسيح الذي هو المعلم الوحيد، ولا يمكن لأحد أن يحلّ مكانه حتى أولئك الذين تبعوه منذ البداية كما جاء في النص الإنجيلي " ِأَنَّه لا يَتبَعُكَ مَعَنا" (لوقا 9: 49). لا أحد يستطيع أن يضع نفسه مكان المسيح أو بدل عنه. تحت غطاء التضامن، ألا يحدث أننا ندافع فعلا عن مصالحنا الخاصة؟ يُعلق البابا بيوس الثاني عشر" يتطلّب حب الكنيسة منّا أن نتعرّف أيضًا بإخوة لنا في الرّب يسوع المسيح بحسب الجسد بين أناس لم يتّحدوا معنا في جسد الكنيسة وهم مدعوّون مثلنا إلى الخلاص الأبدي نفسه (الرسالة الرّسوليّة "جسد المسيح السرّي"). الكنيسة هي واحدة ولا معنى فيها للتعصب لشخص ما أو جماعة ما، وهذا لا يعنى قبول تعاليم مخالفة لتعاليم وعقيدة الكنيسة. ولكن على الكنيسة أن تفهم أنها متسعة القلب للجميع، لها وحدة ومحبة تجمع الكل خلال إيمان مستقيم. إنّ الفكر اللاهوتي الصحيح أمر هامّ، ولكنّه لا يجب أن يقف أبداً حائلاً دون العمل في المشاريع المشتركة بين الكنائس لترسيخ مبدأ الوحدة داخل جسد المسيح الواحد. فكلّ من لهم نصيب في الإيمان المشترك بالمسيح يجب أن يكونوا قادرين على التعاون. 39 فقالَ يسوع: لا تَمنَعوه، فما مِن أَحدٍ يُجْرِي مُعْجِزَةً بِاسْمي يَستَطيعُ بَعدَها أَن يُسيءَ القَوْلَ فيَّ تشير عبارة "لا تَمنَعوه" إلى دعم يسوع الرجل الغريب في عمله الصالح والى عدم التعرض لمنعه أو منع مثله. وهذا الموقف يُشبه إلى حد كبير التوبيخ الذي وجَّهه يسوع للفريسيين " الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُقفِلونَ مَلكوتَ السَّمَواتِ في وُجوهِ النَّاس، فَلا أَنتُم تَدخُلون، ولا الَّذينَ يُريدونَ الدُّخولَ تَدَعونَهم يَدخُلون"(متى 23: 3). في بعض الأحيان، يحدث أن أولئك الذين يجب أن يكونوا بمثابة مرشدين يدلون الناس على طريق الملكوت ويُشِّجعونهم لدخوله، هم، مع الآسف، الذين يُغلقون الطريق ويمنعون الآخرين من الدخول فيصبحون للآخرين شكا وحجرة عثرة. فإنهم يقومون بعملية إقصائية، وتفضي إلى الاغتراب عن الرب وتبعد البشر عن أسلوب الحياة الجديدة التي أتى بها إليهم. فموقف يسوع يكمن في قبول الآخر والعمل بقلبٍ متسعٍ واحترام حريته وثقافته وعقيدته وقيمه وسلوكه بعيدا عن التعصب، وهو يهب سلطانه لمن يشاء؛ ويذكرنا هنا موقف موسى النبي تجاه يشوع بن نون الذي أراد أن يمنع ألداد وميداد بالتنبؤ فأجابه موسى "أَلعَلَّكَ تَغارُ أَنتَ لي؟ لَيتَ كُلَّ شَعبِ الرَّبِّ أَنبِياءُ بِإِحْلالِ الرَّبِّ روحَه علَيهم" (العدد 11: 29)، ويُذكرنا أيضا بكلمات بولس الرسول في المناداة باسم المسيح "هؤُلاءِ يُبشِّرونَ بِالمسيحِ بدافِعِ المَحبَّة عالِمينَ أَنِّي أُقِمتُ لِلدِّفاعِ عنِ البِشارة، وأُولئِك بِدافِعِ المُنافَسَة وبِنِيَّةٍ غَيرِ صالِحة، يَظُنُّونَ أَنَّهم بِذَلِكَ يَزيدونَ قُيودي ثِقَلاً. فما شَأنُ ذلك؟ فإِنَّ المسيحَ يُبَشَّرُ بِه في كُلِّ حال، سَواءٌ أَكانَ بِرِياءٍ أَم بِصِدْق. فبِهَذا أَفرَحُ ولَن أَزالَ أَفرَح " (فيلبي 1: 16: 18). ومن هذا المنطلق، يلزم أن نسلك بقلبٍ متواضعٍ ومتسعٍ بالحب دون أن نعثر الآخرين، وفي نفس الوقت دون أن نتعثر بسبب الآخرين، أي ليكن قلبنا متسعًا بالحب. يجب ترك المجال لكل إنسان أن يجد مكانه في الجماعة كي يتمكن من أن يعيش تلميذا للرب وأن يعمل باسمه. يدعوا يسوع تلاميذه هنا إلى نقطة تحوُّلٍ لأفكارهم التّلاميذ ولنا، إذ أن الله، هو خالق الجميع، ويحبُّ الجميع، ولا يشكُّ بوجود الخير في الإنسان، الذي أوكله على رعاية العالم وحمايته. أمَّا عبارة " يُسيءَ القَوْلَ فيَّ" فتشير إلى التكلم كعدو للمسيح ويظهر بغضه له تعالى، لانَّ عمله المعجزات برهان إيمانه بالمسيح، وهذا الأمر يمنعه إن يقول على المسيح شرا، وذلك يوضِّحه بولس الرسول " ما مِن أَحَدٍ، إِذا تَكلَّمَ بِإِلهامٍ مِن روحِ الله، يَقول: ((مَلْعونٌ يَسوع))، ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: ((يَسوعُ رَبٌّ)) إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (1قورنتس 12: 3). 40 ومَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا تشير عبارة "مَن لم يَكُنْ علَينا" إلى الذي لا يقاوم المسيح وتلاميذه، ولا يُعلِّم تعاليم مخالفة للإيمان؛ أمَّا عبارة "كانَ مَعَنا" فتشير إلى وجوده مع يسوع ورسله في وحدة ومحبة. إن الحيادية في شان المسيح مستحيلة. فكل إنسان إمَّا معه وإمَّا عليه، أي إمَّا صديقه وإمَّا عدوُّه. وعلامة الصداقة أحيانا تكون عدم المقاومة. فالآية هي دعوة ثقة بعمل الله وخدمته كما أكّده جِمْلائيل، مِن مُعَلِّمي الشَّريعَة في المجلس اليهودي "إِن يَكُنْ مِن عِندِ الله، لا تَستَطيعوا أَن تَقْضوا علَيهم" (أعمال الرسل 5: 39). أشار المسيح إلى كثيرين من الناس الذين يتبعونه ويعملون أعمالا باسمه (متى 12: 30) وليس من الضروري أن ينتموا إلى كنيستنا ليكونوا خدمة ويعملون أعمال صالحة باسم المسيح. لكن يسوع لا يدعو بهذا القول إلى عدم المبالاة أو الحياد نحوه، كما أوضح إنجيل متى " مَن لَم يكُنْ معي كانَ عليَّ، ومَن لم يَجمَعْ معي كان مُبَدِّداً" (متى 12: 30). فمن لا يشارك المسيح البتة لا باطنا ولا فعلا ولا إقراراً بل ذهب ضد المسيح في الباطن واشترك مع الشيطان "كانَ عليَّ". ومن هذا المنطلق، علينا أن نختار فلا نستطيع أن نكون على حياد: أن نكون مع المسيح أو عليه، أو أن نكون مع جماعة التلاميذ أو عليهم. وتوضح وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الموقف "إنّ الذين لم يقبلوا الإنجيل بَعد، فإنّهم مُتّجهون نحو شعب الله بطرق شتّى... والله كمخلِّص" يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ" (1طيموتاوس2: 4)... ولا تمنع العناية الإلهيّة المعونات الضروريّة للخلاص، عن الذين بدون ذنبٍ منهم، لم يتوصّلوا بعد إلى معرفة الله الصريحة، ويعملون على أن يسيروا سيرة مستقيمة بمساعدة النعمة الإلهيّة. وكلّ ما يمكن أن يوجد عندهم من خير وحقّ، إنّما تعتبره الكنيسة تمهيدًا للإنجيل، وعطيّة من ذلك الذي يُنير كلّ إنسان، لكي تكون له الحياة في النهاية" (نور الأمم، رقم 16). أمَّا عبارة "مَعَنا" فتشير إلى جمع المسيح تلاميذه معه كأنَّه وأياهم واحد. ومن هذا المنطلق، إذا رأينا أناسا اختلفوا عنا في سياسة الكنيسة ورسوم العبادة وهم يؤمنون بالمسيح وينادون به وجب علينا إن نعتبرهم مسيحيين حقيقيين وشركاء معنا في خدمة المسيح وأخوة وان لا نمنعهم من العمل بل نسرُّ به. 41 ومَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع تشير عبارة "مَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ" إلى أصغر أعمال الرحمة تجاه التلاميذ، ويُجزى صانعها بالخير. كل خدمة باسم المسيح مهما كانت زهيدة لها أجرة من عند الرب. إنها علامة ترحيب في ملكوت السماوات، لانَّ الذي يُقدِّم كأس ماء منعش بسيط سوف يُكافَأ على حُسن عمله هذا. والله يقبل أصغر الصدقات، ويقبل كلّ شيء، ويتذكّر كلّ شيء، ليُعيده مئة ضعف خاصة في الدينونة الأخيرة "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). وهذا يدلنا على أهمية الخدمات التي قدمها للقريب مهما كانت صغيرة، إذ لا شيء حقير في عيني الله. في قول المسيح هذا تعزية لنا لأننا في كل ساعة نستطيع أن نعمل أعمالا زهيدة للمسيح وليس لنا الفرصة دائما أن نعمل أعمالا عظيمة وتُعلق الكاتبة إيميلي ديكنسون، وهي من أهم 26 كاتباً وكاتبةً غربيين عبر التاريخ "إن كنت قد استطعت أن أمنع قلباً ما من الانكسار، لن أكون قد عشت عبثاً. إن كنت قد استطعت أن أخفّف من ألم حياة ما، لن أكون قد عشت عبثاً". أمَّا عبارة "على أَنَّكم لِلمَسيح" فتشير إمَّا إلى الرسل، وإما إلى جميع التلاميذ لأنهم شهود لملكوت الله، (متى 10: 42)، وإمَّا إلى داخل جماعة التلاميذ الذين هم أشدهم ضِعةً وحرمانا وربما عوزاً بسبب الاضطهاد (متى 18: 5-10). وبكلمة أخرى، جميع تلاميذ الرب، وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول" أَنتُم لِلمسيح، والمسيحُ لله" (1 قورنتس 3: 22). أصغر تلاميذ المسيح يمثِّل المسيح، المسيحي هو علامة حضور المسيح، المسيح يعتبر نفسه واحدا مع آخر المسيحيين وأضعفهم، هذه مسؤولية عظيمة لكل واحد منا؛ أمَّا عبارة "فالحَقَّ أَقولُ لكم" فتشير إلى تأكيد يعطي به يسوع قوة لأقواله. أمَّا عبارة "إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع" فتشير إلى المكافأة الموعود بها لكل من يُقدِّم خدمة لتلاميذ المسيح لأجل اسم المسيح، لان ذلك ينال مكافأته من الله مما يدل على قيمة عمل المتصدِّقين أمام الله. يعلق القدّيس إقليمنضُس الإسكندريّ "هذا هو الراتب الوحيد الذي لن يفقد قيمته يومًا. يا لها من صفقة مدهشة!" (عظة أيّ غنيّ يمكنه أن يُخَلص؟). وما يصح في المرسل والنبي والصدِّيق يَصحُّ في أصغر المؤمنين "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع" (متى 10: 42). ويعلق القدّيس أوغسطينوس "قَدِّم خيرات هذا العالم ورِثْ الخيرات الأبديّة. قدّم الأرض ورِثْ السّماء. إنّ الله ليس بحاجة إليك ولكنّ الآخر يحتاجك. إنّ ما تعطيه لأحد ما، يتلقّاه أحد آخر. لأنّ الفقيرَ لا يستطيع أن يعطيك شيئًا بالمقابل؛ فيصلّي لك. وحين يذكرك فقيرٌ بصلاته، كأنه يقول لله: "يا رب، لقد حصلت على قرضٍ، كنْ كفالتي" (العظة الثالثة عن المزمور 36)" (العظة الثالثة عن المزمور 36). ويُشدِّد هنا يسوع على كرامة التلميذ الذي يُمثِّل المسيح، لأنه يحمل اسمه. ويعلق القديس أوغسطينوس "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). بالتأكيد، إنّ الله ليس بحاجة إليك ولكنّ الآخر يحتاجك. إنّ ما تعطيه لأحد ما، يتلقّاه أحد آخر. لأنّ الفقيرَ لا يستطيع أن يعطيك شيئًا بالمقابل؛ هو يرغب في ذلك، ولكنّه لا يجد لديه شيئًا؛ فيصلّي لك. ولكن حين يذكرك فقيرٌ بصلاته، كأنه يقول لله: "يا ربّ، لقد حصلت على قرضٍ، كنْ كفالتي" (العظة الثالثة عن المزمور 36). 42 ومَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر عبارة "مَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ" باليونانية ὃς ἂν σκανδαλίσῃ (معناها من شكّك)،تشير إلى شكٍ أو عائق أو حاجز في طريق الإنسان يعرقل مسيرته أو تعريض للخطيئة أو سبب السقوط (1 بطرس 2: 8). أو فخ كما جاء في المزامير "نَجَت نُفوسُنا مِثلَ العُصْفور مِن فَخِّ الصَّيَّادين" (مزمور 124: 7). وفي إنجيل لوقا، يحذِّرنا يسوع من ثلاثة طرق يمكن أن تعثر "الصغار المؤمنين: تجربتهم (لوقا 18: 7-9)، إهمالهم أو احتقارهم (لوقا 18: 10-14) أو تعليمهم تعاليم كاذبة (لوقا 18: 15-26). إن من يُعلم الآخرين له مسؤولية كبيرة (يعقوب 3: 1). أمَّا عبارة " لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين " فتشير إلى التلاميذ والمؤمنين بحيث انهم مستضعفين في الإيمان. أن تشكيك واحد منهم أمر خطير في نظر الآب السماوي، حيث هذا العمل له خطورة أكبر للذي يفعله من أن يُرمي في البحر ويُعلق في عنقه رحى الحمار. أمَّا عبارة " فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه " فتشير إلى تحذير يسوع من أن أقوالنا أو أفعالنا سبب ابتعاد الصغار في الإيمان عن الرب. يجب أن تكون المحبة هي الدافع لكل أفكارنا وأفعالنا " لَو كانَ لِيَ الإِيمانُ الكامِلُ فأَنقُلَ الجِبال، ولَم تَكُنْ لِيَ المَحبَّة، فما أَنا بِشَيء. المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ... ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إلى مَنفَعَتِها "(1 قورنتس 13: 2، 4). إذا اضطرَّ الإنسان إلى الاختيار: أن يعثر أحد تلاميذ المسيح أو أن يُطرح في البحر فخير له إن يُطرح في البحر، لأنه أصغر الشرين. أمَّا عبارة "الرَّحَى" باليونانية μύλος ὀνικὸς (معناها رحى الحمار) فتشير إلى حجر الطاحون؛ وهي رحى حمار أي الحجر الأعلى من الطاحون يديرها حمار لضخامته، بخلاف الرًّحى اليدوّية (الجاروشة) التي تعمل عليها امرأة أو اثنتان (متى 24: 41). مما يدل ُّعلى العقاب الكبير الذي يستحقه من يُوقع بالصغار من المؤمنين. ومن هذا المطلق، تقع علينا مسؤولية مواجهة الخطيئة والفساد كما يقول بولس الرسول "أَزيلوا الفاسِدَ مِن بَينِكُم" (1 قورنتس 5: 12-13). وعلى جماعة يسوع ألاَّ تكون حجر عثرة للآخرين. أمَّا عبارة " ويُلقى في البَحْر" فتشير إلى طرحه في أعماق البحر مما يدل على أشر أنواع العقوبات، ويعلق البابا غريغوريوس الكبير" خير لذلك الذي يرتدي ثوب العمل الكرازي أو الخدمة ويعثر الصغار أن يترك وظيفته ويصير علمانيًا، فإنه حتى وإن نال أشر أنواع العقوبة فسيكون له أفضل من إعثار الآخرين وهو خادم، لأنه بدون شك إن سقط بمفرده تكون آلامه في جهنم أكثر احتمالً". 43 فإِذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلأَن تَدخُلَ الحَياةَ وأَنت أَقطَعُ اليد خَيرٌ لَكَ مِن أَن يَكونَ لَكَ يَدانِ وتَذهَبَ إلى جَهَنَّم، إلى نارٍ لا تُطفَأ تشير عبارة "فإِذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" إلى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. واليد تشير هنا إلى وسيلة للأعمال الشريرة. إن هذا الإنذار شديد الخطورة حيث لا يجوز أن نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن ضرورة الأخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة. لا شك في أن الشر يُعشِّش في القلب (متى 12: 34)؛ أي في أعماق الأنسان. ولكن يبقى للأعضاء دورها. وعندما يُصبحُ العضو أداة خطيئة "نستغني" عنه. فقطع اليد ترمز إلى الابتعاد عن أي عمل رديء. أي علينا التخلي عن كل علاقة أو عمل أو عادة تتعارض مع مشيئة الله. قد يبدو مؤلما قطع اليد أو قلع العين، ولكن الحياة الأبدية جديرة بكل تضحية، لان المسيح أثمن من كل خسارة، ولا يجب أن يقف شيء في طريق علاقتنا بالمسيح. لنتخذ قرارنا من وجهة نظر أبدية. أمَّا عبارة "فاقطَعْها" فتشير إلى موقف ارتداد جذري لا مساومة به. ويُعلق البابا بولس السادس "لا يمكننا أن ندخل الملكوت الذي أعلن عنه الرّب يسوع المسيح إلاّ من خلال الارتداد، "الميتانويا"، أي من خلال التغيير والتجديد الجذري والكامل للإنسان ككلّ، بأفكاره وأحكامه وحياته"(الدستور الرسولي "التّوبة (Paenitemini)”؛ أمَّا عبارة "الحَياةَ" فتشير إلى نيل الخلاص والحياة الأبدية في حضرة الله (متى 7: 14). أمَّا عبارة "جَهَنَّم، في الأصل اليوناني (γέεννα) مشتقة من اللفظ العبري גיהינום (جي هنوم) فتشير إلى وادي هنوم وهو وادٍ منخفض يقع في الجهة الغربية من اورشليم حيث كان مكاناً للذبائح البشرية، إذ كان الأطفال يُحرقون فيه تقدمة للإله مولك (2 أخبار 28: 3)؛ ثم أصبح مزبلة المدينة في زمن الملك يوشيا (2 ملوك 23: 10) يُحرقون فيه النفايات فتبقى النار مشتعلة ليلا نهاراً. وانطلق الأنبياء من هذه الصورة ليتحدثوا عن اللعنة الأبدية (ارميا 7: 31). وأخذ الاسم يستعمل مجازا لمكان العقاب المستقبلي ويُراد به عذاب الضمير والانفعالات الشديدة من الحسد والندم والغضب واليأس. وفي إنجيل متى تكررَّت هذه اللفظة عشر مرات لتدل على الهلاك الأبدي والعذاب أي الموت الثاني. والجدير بالذكر أن كلمة "جَهَنَّم" تختلف عن "الجحيم". فكلمة جحيم يُقابلها في العبرية كلمة (شيول שְׁאוֹל) وفي اليونانية ἅδῃ (لوقا 116: 22) التي تدل على الموت والقبر والمكان المظلم الذي يسكنه الأموات ولا يُذكر فيه اسم الله. ولذلك فان الجحيم في العهد القديم هو مكان انتظار نفوس الموتى، أمَّا الآن فهو مكان انتظار نفوس الأشرار فقط، كما أن فردوس النعيم هو مكان انتظار نفوس الأبرار. أما عبارة "نارٍ لا تُطفَأ" فتشير إلى عقاب الأشرار الأبدي. 44 حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي تشير عبارة "حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي" إلى الكلمات التي صوّر يسوع بها العواقب الوخيمة والأبدية للخطيئة. وكان الدود والنار عند اليهود يُمثلان العذاب داخليا وخارجيا حيث إن ما يرتكبه الأشرار من الخطايا تفعل في النفس فعل الدود في الجسد. وإذا كان الدود يحيا قليلا ويموت والنار تتوقد قليلا وتطفئ لكن نار جهنم أي توبيخ الضمير في الآخرة لا يموت ونار الغضب فيها لا تُطفا. وهذه الآية مقتبسة من سفر أشعيا " ويَخرُجونَ ويَرون جُثَثَ النَّاسِ الَّذينَ عَصَوني لِأَنَّ دودَهم لا يَموت ونارَهم لا تُطفَأ ويَكونونَ رُذالَةً لِكلِّ بَشَر" (66: 24). تكلم الله بهذه الكلمات الرهيبة حبا لنا ليُحذِّرنا فنهرب من الغضب الآتي ونتمسك بالرجاء الموضوع نصب أعيننا يسوع المسيح ربِّنا. لا نجد هذه الآية في أقدم المخطوطات. 45 وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها، فَلَأَن تَدخُلَ الحيَاةَ وأَنتَ أَقطَعُ الرِّجل خَيرٌ لَكَ مِن أَن يكونَ لَكَ رِجلانِ وتَلْقى في جَهَنَّم تشير عبارة "وإِذا كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" إلى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. فلا يجوز أن نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن ضرورة الأخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة، حيث انه عن طريق الرِّجل نستطيع أن نمتنع عن الذهاب للأماكن الفاسدة، ومن تعثره أماكن معينة فعليه ألا يذهب فيكون كمن قطع رجله، كما جاء في تعليم بولس الرسول "أقَمَعُ جَسَدي وأُعامِلُه بِشِدَّة، مَخافةَ أَن أَكونَ مَرفوضًا" (1 قورنتس 9: 27). ومن يجاهد تملأه النعمة، وهذه النعمة هي معونة الروح القدس "إِذا أَمَتُّم بِالرُّوحِ أَعمالَ الجَسَدِ فسَتَحيَون" (رومة 8: 13). ومن يصلب نفسه عن شهواته يحيا في المسيح كما اختبر ذلك بولس الرسول "قد صُلِبتُ مع المسيح. فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20). 46 "حيث الدود لا يموت والنار لا تنطفي" 47 وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها فَلَأَن تَدخُلَ مَلَكوتَ اللهِ وأَنتَ أَعوَر خَيرٌ لَكَ مَن أَن يكونَ لَكَ عَينانِ وتُلْقى في جَهَنَّم. تشير عبارة "إذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها" إلى مطلب يسوع الجذري في استئصال الخطيئة من حياتنا. فلا يجوز أن نقف على المستوى الحرفي للنص، ولكن يجب ضرورة الأخذ بالوسائل الضرورية في المقاومة للخطيئة. فإن كانت أعيننا تعثرنا فلنمنع أعيننا من أن تنظر. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لا يتحدث هنا عن أعضائنا الجسدية (اليد والرِجل والعين) بل عن أصدقائنا الملازمين لنا جدًا، والذين يحسبون ضروريين لنا كأعضاء لنا، فإنه ليس شيء يضرنا مثل الجماعة الفاسدة والصداقات الشريرة". 48 حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار تشير عبارة "حَيثُ لا يَموتُ دُودُهم ولا تُطفَأُ النَّار " إلى تكرارها ثلاث مرات مما يؤكد على أهمية تفادي العثرات. لذلك من الضروري أن نسهر على أعيننا وأيدينا وأرجلنا وعلى حياتنا كلها، كي تكون بعيدة عن العثرات، ومن وقوعها في تجربة تحول دون متابعة الطريق. 49 لِأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ سَيُمَلَّحُ بِالنَّار تشير عبارة "سَيُمَلَّحُ" إلى كل إنسان بار كان أو شريرا يُمتحن بنار إلهيَّة، وهي إمَّا نار التنقية وإمَّا نار النقمة. وكما تُمَلح كل ذبيحة تُقرَّب في الهيكل كذلك يجب إن يُملح كل مسيحي بملح نعمة الروح القدس باعتباره "ذَبيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسةً مَرْضِيَّةً عِندَ الله " (رومة 12: 1). إن كل ذبيحة تملّح بالنار مما تدل على تحدي عما للآلام من قيمة في التطهير. إذ اعتاد أهل فلسطين أن يستعملوا الملح في أفرانهم لتكون كأداة حفّازة. وهذا الملح يفقد خواصه الكيمائية بعد بضع سنوات فيُطرح. لأنه يصبح بلا ملوحة. ومن هنا التفسير الذي أتى به بعض المُفسِّرين "يجب على كل واحد إن يكون كالملح للنار". لكن مختلف النصوص الإنجيلية التي ورد فيها الملح تفيد بانه يرمز إلى الزهد في النفس، وهو صفة لا يكون التلميذ بدونها أصيلا. أمَّا عبارة "النار" فشير إلى المحنة أو الاضطهاد، كما أنها تدل على النار الأبدية، فيكون المعنى "ينبغي على كل واحد أن يقبل التضحية ليستطيع اجتياز المحنة والامتحان والشدائد، لذلك يُفرض على الإنسان التجرّد، ويُطلب منه أن يتبدّل كما يتبدّل الطعام حين يُوضع فيه الملح، والاَّ ستمر النار على أعماله التي تكون "ذهبا وفضة أو خشبا وقشا وتبنا وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 12-13). ومن هنا تشير الآية إلى أهمية الآلام كقيمة في التطهير. 50 المِلْحُ شَيءٌ جَيِّد، فإِذا صارَ المِلحُ بلا مُلوحَة، فَبِأَيِّ شَيءٍ تُمَلِّحونَه؟ فَلْيَكُنْ فيكُم مِلحٌ وَلْيُسالِمْ بَعضُكم بَعضاً تشير عبارة "المِلْحُ شَيءٌ جَيِّد" إلى رمز النقاوة والوقاية من الفساد، مما يدلّ على لباقة السلوك المسيحي وارتباط التلميذ بيسوع وبإنجيله، إذ يجعله كالملح الذي يُوضع على الطعام. فلا عجب أنَّ يُشبِّه يسوع تلاميذه بالملح " أَنتُم مِلحُ الأَرض" (متى 5: 13)، لأنهم وسيلة إلى نفع العالم بحفظهم إياه من الفساد حيث إنَّ الملح هنا يشير إلى نعمة الروح القدس في قلوب تلاميذه. وهذه النعمة هي سبب الطهارة الداخلية وإنكار الذات وهي تحفظهم من الفساد وتُعدُّهم لان يكونوا ملح الألم. وأمَّا عبارة "فإِذا صارَ المِلحُ بلا مُلوحَة" فتشير إلىالملح الذي لا يعود ملحا عندما يفقدَ ملوحته؛ فالملح يفقد كيانه إن فقد ملوحته، وهكذا نقول عن التلميذ إن لم يشع المسيح وإنجيله. فهذا التلميذ هو بالاسم لا بالحقيقة إذ ليس له الملوحة أي صلاح أدبي ونعمة روحية وإنكار الذات. وهكذا المسيحي يفقد كيانه كمسيحي إن فقدَ حبَّه للغير ومسالمته مع الآخرين. أما عبارة "فَبِأَيِّ شَيءٍ" فتشير إلى استفهام إنكاري بمعنى انه من المحال أن يخلص التلاميذ الذين بلا نعمة ولا ينكرون ذواتهم. أمَّا عبارة "تُمَلِّحونَه" فتشير إلىالملح الذي يُزيد الأطعمة شهية (أيوب 6: 6)، ومن خواصه أن يحفظها. أمَّا عبارة "فَلْيَكُنْ فيكُم مِلحٌ وَلْيُسالِمْ بَعضُكم بَعضاً" فتشير إلىالملح كرمز كل الاستعدادات التي تسهّل وجود السلام في الجماعة: روح الخدمة والتيقظ من اجل الآخرين واحترامهم، والتجرد من الذات ومن كل روح عظمة. فالمحبة والسلام من أثمار الروح القدس (غلاطية 5: 22) وتلك الأثمار أدله على أن المتصفين بها مملحون بنعمة الروح القدس. وهكذا يقتضي موقفنا تجاه العالم التعامل معه بروح التجرد والأخوة فنعيش معهم بسلام، كما جاء في توصيات بولس الرسول "ليَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" (قولسي 6:4). ليست الأخلاقية المسيحية تعليما في حد ذاته، بل مشاركة ليسوع في طريقة عيشه، مما يتطلب منا أن نقطع عنا ونزيل منا أشياء وأشخاص وأوضاع التي بإمكانها أن تكونَ لنا سبب عثرة. فالمسيحي الحقيقي يمتلكُ الجرأة التي تدفعه إلى مُعاكسة الميول الأنانية كيلا تصبح هذه الميول أسلوب حياة فيه. ومن هذا المنطلق لنخرج من أنفسنا ونحب القريب، ولنقطع كل ما ليس مُستحب ولننقِّي قُلوبنا من كل ما يتوجب إزالته، كي لا نخسر الاتحاد مع الله. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 9: 38-59) بعد دراسة وقائع النص الإنجيلي (مرقس 9: 38-48) يمكننا أن نستنتج انه يتمحور حول ضبط التلميذ ذاته تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) وتجاه نفسه (مرقس 9: 43-50). 1) ضبط التلميذ ذاته تجاه الآخرين (مرقس 9: 38-42) يطالب يسوع تلاميذه أن يضبط كل واحد ذاته تجاه الآخرين؛ وذلك أن يكون متسامحا بعيدا عن التعصب من ناحية، وان يقوم بمحبة الآخرين كي ينال جزاءه (مرقس 9: 41). ومن هنا ضبط الذات يتطلب التسامح وليس التعصب وثانيا محبة الآخرين وليس الإقصاء. أ) ضبط الذات من خلال التسامح ضبط الذات هو قدرة المرء على توجيه سلوكه والسيطرة على مشاعره، فلا يستسلم إلى نزواته، بل يُنظِّمها ويعدِّلها وفق للأهداف والظروف. ومن هنا نجد أنَّ يوحنا الرسول اتَّخذ موقف تعصبٍ غير منضبطٍ تجاه الرجل الذي كان يَطرُدُ الشَّياطينَ بِاسمِ يسوعَ، إذ منعه لأَنَّه لم يكن من فريق الرسل (مرقس 9: 38). لكن الرجل كان من المؤمنين بالمسيح، والإيمان يمنح صاحبه الحق على الرسالة والقوة لاجتراح المعجزات. وكل إنسان بحكم انتمائه إلى المسيح رسول؛ له ما للرسل، وعليه ما عليهم. فلا ينبغي أن يمنعه أحد من حقه المشروع. ومن يمنع صاحب رسالة من رسالته بحجة انه ليس من اتباعه فهو متعصب، حيث أنه لم يضبط نفسه تجاه الرجل الذي كان يعمل باسم يسوع بل شككه بإيمانه. ونحن كثيرا ما نعتمد شعار "لأَنَّه لا يَتبَعُنا" ونبدأ بتصنيف الأشخاص بحسب منطقنا البشري، ويصبح الآخر شرا للإبادة، وليس شخصا للاحترام والمحبة، او شخصا قادرا على عمل الخير. أمَّا يسوع فعلَّم يوحنا تلميذه أن يضبط نفسه ويتخذ موقف التسامح متمشيا مع المبدأ "مَن لم يَكُنْ علَينا كانَ مَعَنا" (مرقس 9: 40). ومن هنا نتساءل ما معنى التسامح؟ التسامح لغةً مشتقَّة من سمح بكل ما تعنيه من حرية ومِن مساواة. أمَّا التسامح اصطلاحا فهو بذل ما يجب تفضلا. وهذا المصطلح التسامح لم يَرد في الكتاب المقدس، إنما ظهر في القرن السادس عشر كرد فعل للصراعات خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت. والمقصود بالتسامح لا التساهل أو الضعف، إنما قبول الآخر واحترام حريته وثقافته وعقيدته وقيمه وسلوكه على مبدأ التعددية وقناعات الضمير وعدم التهميش. وبهذا المعنى يتعارض مع مفهوم التسلط والقهر والعنف وإقصاء الآخر. ويتضمن التسامح حسب وثيقة إعلان المبادئ العالمي الصادرة عن اليونسكو (1995) المبادئ التالية: قبول واحترام تنوع واختلافات الثقافات؛ والاعتراف بالحقوق العالمية للشخص الإنساني والحريات الأساسية للآخر؛ والتسامح هو مفتاح حقوق الإنسان والتعددية الثقافية والديمقراطية. وهو الاعتراف لكل واحد بحقه في حرية اختيار معتقداته، والقبول بأن يتمتع الآخر بالحق نفسه، كما يعني بأن لا أحد يفرض آراءه على الآخرين. وبكلمة هو ركيزة أساسيّة لحقوق الإنسان، والديمقراطية والعدل، والحريات الإنسانيّة العامّة وشرط ضروري للسِلم ما بين الأفراد كما بين الشعوب. ومن هذا المنطلق، يعتبر التسامح مُعاكساً للتعصب الديني، أي التمييز على أساس الدين. التعصب الديني لا يقوم بمجرد بيان أن المعتقدات والممارسات خاصة بجماعة دينية تتعارض مع أي معتقدات أخرى، إنما يقوم برفض الممارسات والأشخاص أو المعتقدات على أسس دينية. فكلمة التعصب مشتقة من العصبية، وهي أن يدعو الرجل إلى نصرة جماعته، ظالمة كانت أو مظلومة. وبعبارة أخرى، يعتقد المتعصب الديني أن الدين أو المذهب الذي هو يؤمن به هو الصحيح ويرفض الأديان الأخرى وممارساتهم باعتبارها غلط على أساس رفض سُنة الاختلاف فينزع إلى الإقصاء والعنف وعدم القبول بالآخر. إنّ حريّة الفكر والتفكير مكفولة لكلّ إنسان كونه مخلوق على صورة الرب ومثاله (تكوين 1: 27)، ويجب على كلّ إنسان أن يحترم تفكير أخيه، يمكن أن نكره عقيدته، ولكن يجب ألاَّ نكره من يعتقد بها. وربما نرفض التعليم، ولكن يجب أن نُبدي حذرنا من إزالة المُتعلّم. علّمنا الربّ يسوع أن نكره الخطيئة ونستمرّ في محبّة الخاطئ. تتخطى نعمة المسيح بُنية الكنيسة المنظورة. كم من الرجال والنساء كما ورد في زمن يسوع لم يكونوا في عداد التلاميذ، ومع ذلك عملوا باسم يسوع. فبدل قصر مدى نظر يوحنا وتعصبه علينا الانفتاح كليا. فالمسيح يحضُّ تلاميذه على إن يثقوا كليا بالروح القدس. تريد الكنيسة اليوم على غرار يسوع، أن تفتح أبوابها على مصراعيها حيث أنَّ الروح القدس ليس مُلكا لأحد. انه يهبُّ حيث يشاء فلا يجوز أن نمنعه. لكن إذا كان التلميذ متعصبا غير متسامحا سيكون حجر عثرة ويستحق الإنذار الذي وجّه يسوع "مَن كانَ حَجَرَ عَثرَةٍ لِهؤلاءِ الصِّغارِ المؤمِنين، فأَولى بِه أَن تُعَلَّقَ الرَّحَى في عُنُقِه ويُلقى في البَحْر" (مرقس 9: 42). فمن كان من جماعة يسوع يجب أن يكون متسامحا كيلا يكون حجر عثرة بتعصبه. ب) ضبط الذات من خلال محبة تلاميذ يسوع لا يقوم ضبط الذات تجاه الآخرين بالتسامح فحسب، إنما أيضا بمحبة تلاميذ يسوع. يُشدِّد يسوع على كرامة التلميذ ومنزلته. انه "مُلك للمسيح" حيث أن أصغر المؤمنين وأحقرهم يمثل يسوع المسيح. لان يسوع يتقمّص أصغر المسيحيين. ويتكلم يسوع عن جزاء لن يضيع في الدينونة الأخيرة "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). ومَن سقاكُم كَأسَ ماءٍ على أَنَّكم لِلمَسيح، فالحَقَّ أَقولُ لكم إِنَّ أَجرَه لَن يَضيع"(مرقس 9: 41). فالكتاب المقدس يصف كيف نعطي للربّ: "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). الله ليس بحاجة إلينا ولكنّ الآخر يحتاجنا. ألا نؤمن بما يقوله الرب "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني...". وحين يسألوه: "متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَا فسَقيناك؟"، أراد يسوع أن يرينا أنّه الضامن الحقيقيّ لتلاميذه إذ قال "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى25: 35-40). يتطلب ضبط الذات تجاه التلاميذ ليس فقط مساعدتهم فحسب، إنما أيضا عدم تعريضهم للخطيئة. إن المسيحي الذي لا يقتدي بالمسيح ولا يشهد له، تكون حياته غير متناسقة مع مبادئ الحياة المسيحية مما قد يتسبب بفضيحة، فضيحة كبيرة. هذا ما شدَّد عليه البابا فرنسيس "فمن يبدي رغبته بأن يكون مسيحيًّا عليه أن يشهد ليسوع المسيح. تنص حياة المسيحي المتناسقة على أن يفكر ويشعر ويتصرف كمسيحي". أمَّا المسيحي الذي يُسبب الشر يتسبب بفضيحة والفضيحة تقتل. لذلك يتوجب على كل تلميذ ليسوع إن يطلب النعمة مصليا "اجعل يا رب حياتي المسيحية منسجمة! لا تجعلني أتسبب بالفضائح! اجعلني شخصًا يفكر كمسيحي، ويشعر كمسيحي ويتصرف كمسيحي". 2) ضبط التلميذ ذاته تجاه نفسه (مرقس 9: 43-50) لا يُعلِّم يسوع تلاميذه ضبط الذات تجاه الآخرين، بل أيضا تجاه نفسه. فيتوجب على التلميذ ألاّ يتقاعس عن ضبط الذات واستخدام أية جراحة روحية لتخليص حياة النفس. "إذا كانَت يدُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" وإذا "كانَت رِجْلُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقطَعْها" وإِذا كانَت عَينُكَ حَجَرَ عَثرَةٍ لَكَ فاقلَعْها" يتكلم يسوع بهذه الكلمات الشديدة اللهجة، لأنه هو وحده يعرف حقيقة الخطيئة. إن هذه الإنذارات لشديدة الخطورة لان الحياة الأبدية تستحق جميع تضحياتنا وإماتاتنا. وقد استخدم الله صورة الملح (مرقس 9: 50) كي يُعلمنا عملية ضبط الذات: أولا: كما إن "الملح عهد الله "(أحبار 2: 13) إذ كان الملح يستخدم في التقدمات لتذكر عهد الله مع شعبه، كذلك على تلميذ المسيح إن يضبط ذاته كي يحافظ على الأمانة تجاه الله. ثانيا: كما أن الملح يعطي الأطعمة نكهة وطعماً (أيوب 6: 6) كذلك على تلميذ يسوع أن يضبط ذاته كي يؤثر في الشعب بمحبة الله ورسالته. إذ أن للملح تأثيره في إعطاء النكهة للطعام (متى 5: 13). ثالثا: كما أن للملح خاصية حفظ الطعام من الفساد (باروك 6: 27) كذلك على تلميذ يسوع أن يحيا حياة فاضلة حتى يستطيع أن يوقف الفساد في المجتمع. رابعا: كما أن للملح وظيفة التطهير (2 ملوك 2: 19-22)، كذلك "كل امرئ سيملح بالنار" (مرقس 9: 49). فالنار "يختبر ويُطهر" كما جاء في قول بولس الرسول "النار ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 3: 13) خامسا: كما أن الملح رمز الحكمة والصداقة كما يقول المثل الشعبي "بيننا خبز وملح"، كذلك على تلاميذ الرب أن يكون فيهم روح السيد المسيح، المحبة الأخوية فيكونوا في سلام بعضُهم مع بعض. "فليكن فيكم ملح، وليسالم بعضكم بعضاً" (مرقس 9: 50)، وهذه الكلمات يمكن أن نجد لها تفسيراً عند بولس الرسول في قوله "لِيَكُنْ كَلامُكم دائِمًا لَطيفًا مَليحًا فتَعرِفوا كَيفَ يَنبَغي لَكم أَن تُجيبوا كُلَّ إِنسان" (قولسي 6:4). سادسا: كما أنَّ الملح أداة للعقاب (تكوين 19: 26)، "إذا فسد الملح فأي شيء يملحه (مرقس 9: 50) كذلك إذا فسد التلميذ وسبَّب الخطيئة لغيره يصبح تعاقده مع الرب لاغيا. لان يسوع يطلب من التلميذ أن يكون "ملح الأرض " (متى 5: 13)، أي أنه ينبغي أن يحفظ عالم البشر ويعطيه نكهة خلال عهده مع الله، وإلاَّ فإن التلميذ يصبح عديم الجدوى، ويستحق أن يُطرح خارجاً (لوقا 14: 35). وبعبارة أخرى، الملح أصبح استعارة لإنذار التلاميذ: يجب ألاَّ يفسدوا، بل أن يكونوا مخلصين لأنفسهم وللآخرين وقبل كل شيء للإنجيل. الخلاصة جمع مرقس مجموعة مختلفة من أقوال يسوع التي يمكن تقسيمها إلى مجموعتين: الأولى (متى 9: 38-42) تتعلق بواجب المحبة المتبادلة والصبر والاحتمال وعدم تعريض الآخر للشك، والمجموعة الثانية (مرقس 9: 43-50) تتعلق بضرورة ضبط النفس. الأولى تضبط موقف كل تلميذ تجاه الآخرين، والثانية تضبط موقفه تجاه نفسه. الشك خطيئة يُمقتها المسيح. وهي متأصلة في الحواس بصفة الحواس نوافذ العقل حيث تبدأ الخطيئة. فإذا ما دعت الحواس، يدٌ أو رجلٌ أو عينٌ، إلى الشك، أي إلى الخطيئة، يدعو السميح إلى عملية قطع وقلع. والمقصود هنا تذليل الحواس جميعها لشريعة المسيح والتحرر من قيود الجسد للتفرغ لخدمة المسيح. فوظيفة اليد والرِّجل والعين هنا هي فتح الطريق للمسيح الواجب اتباعه ومحبته. خلاف ذلك، لا داعي لوجودهم، ومن الأفضل عدم وجودهم. أخيرا نتذكر ما قاله المسيح "أنتم ملح الأرض"، ويقصد أن المسيحي الحقيقي هو الذي يعطي لحياة البشر مذاقها. وبالرغم من أن كمية الملح تكون قليلة إلا أنه يُملِّح طعامًا كثيرًا. هكذا يستطيع تلميذ الرب بقدوته الصالحة أن يؤثر في حياة الكثيرين ويجتذبهم إلى الحياة مع الله، كما أنه يمنع الفساد الروحي عن كثير من البشر. وبعبارة أخرى يقدم لنا يسوع مجموعة من النصائح بخصوص الحياة الأخوية: دعوة الناس لعمل الخير، وعدم تشكيك الآخرين وتقديم خدماتنا للجميع دون تحيّز وتمييز، وتجنب الخطيئة ومسالمة بعضكم بعضا. دعاء أيها الآب السماوي، نسألك باسم يسوع، أن تعطي المجد لاسمك، فنرى ذواتنا خداما للإنجيل، ورسل للمسيح، نفكر كمسيحيين، ونشعر كمسيحين ونتصرف كمسيحين ونبتعد عن تشيكك الآخرين فنسبب لهم الزلاَّت بل نعمل على الدعوة الواحدة والرسالة الواحدة والإيمان الواحد في سبيل خلاص النفوس ومجد الله الأعظم. الأب لويس حزبون - فلسطين |
|