القمص صليب حكيم
حرب الأفكار
تزداد حساسية الإنسان بقدر صفائه وشفافيته. ففكر الإنسان الذي تنقى وتقدس بالتأثر بالمثل العليا للطهارة والنقاوة والبتولية، وبالحياة الأسرية المقدسة، وبالاندماج في الحياة الكنسية، وبزيارات النعمة لآباء البرية ومجالستهم الروحية، وبالاستغراق في الفكر الآبائي الروحاني، وانشغال الفكر بالصلاة الدائمة، واعتياد الحواس على معايشة المقدسات سمعًا وبصرًا. وصار هذا الفكر على درجة كبيرة من الصفاء والنقاوة. يصبح صاحبه ذا حساسية مرهفة تجاه العثرات المحيطة به والتي لابد أن يتواجه معها طالما يعايش مجتمع العالم بكل متناقضاته وشروره.
وهذه العثرات لا تنال منه عند مواجهتها في حينه سوى تأثره الوقتي الخاطف نتيجة وقوع بصره أو سمعه عليها. أما ما تخلفه هذه العثرات وتأثراتها لديه فيما بعد فيتمركز في الأفكار التي تهاجمه في وقت مناسب وغير مناسب وفى أي ظروف ومواقف مهما اختلفت أهدافها أو موضوعاتها. وتُكَدر هذه الأفكار صفو الإنسان ومَنْ هُم مثله من أصحاب هذه الحساسية المرهفة نحوها، وتسبب لهم ضيقًا شديدًا خصوصًا عندما تلح عليهم وتلاحقهم ويحسون بالعجز في مقاومتها أو الهروب منها. والأكثر إيلامًا أنه يصاحبهم الإحساس بأنهم نجسون فكرًا وقلبًا وأن المسافة أصبحت بعيدة بينهم وبين إلههم القدوس. وشتان بينهم وبين مُثُل القداسة والبتولية التي يعشقونها ويتغنون بها.
هذه كلها تتمخض عن حرب الأفكار وتكاد توقعهم في اليأس من وضعهم الخاطئ أمام الله والشعور بأنهم غير مستحقين مجرد الوقوف أمامه للصلاة أو ممارسة الصوم أو حتى قراءة الكتاب المقدس. وطبعًا لا يستحقون التقدم للأسرار المقدسة. إذًا الآثار الناجمة عن حرب الأفكار لا يستهان بها على هذا النوع من الذين يسيرون في دروب الروح، خصوصًا في فترة الشباب المبكر والمتأخر.
والعلاج يكمن في التنبه لبعض الأمور وأهمها:
1 - إدراك أن استمرار ورود هذه الأفكار يشير إلى أن الميول الجسدية لازالت دفينة في أعماق النفس ولها موضع خفي في القلب، واستمرار كبتها لا يمنع من زوالها. فالأمر يحتاج إلى جهاد مستمر من أجل تنقية النفس منها ولو إلى النَفَس الأخير كما يعلمنا الكتاب "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب12: 4) خصوصا أن شهوة الجسد أكثر شهوة التصاقًا بالإنسان، وقد تلازمه حتى سنى الشيخوخة لأنها قائمة في جسده.
2 - إن كانت حرب الأفكار الشريرة مجالًا للجهاد الروحي. والجهاد قد يستمر مع الإنسان إلى آخر لحظات حياته مثلما يذكر بستان الرهبان عن حرب إبليس مع كثير من القديسين. إلا أنه يجب عدم اليأس أو انقطاع الرجاء في فكرٍ طاهر. لأنه يمكن أن يأتي وقت يرفع الله عن الإنسان حرب الأفكار وذلك بمداومة الصلاة والطلبة من أجلها حسب وعد المسيح: "إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملًا" (يو16: 24).
3 - إن الجهاد الروحي يعطى طعمًا لحياة السائرين في درب الروح ويتلذذون به بالرغم من معاناة أتعابه، وذلك لما يتخلله من انتصارات متوالية بين الحين والآخر يتذوقون فيها جمال عمل قوة النعمة الإلهية في حياتهم.
4 - إن توارد هذه الأفكار واستمرار إلحاحها هو نتيجة عادة فكرية تملكت على الشخص وهى ثمرة التكوين النفسي والبيئي والتربوي. فالجانب اللاإرادي أصبح متوفرًا في هذه الحرب الفكرية. والله يعلم بهذا كما يعلم أنها موضوع جهادنا. وينتظر منا أن نستغل هذه الفرصة أو هذه التجربة لكي نجاهد وننتصر انتظارًا لحسن المجازاة.
5 - إن عمل إبليس في هذه الحرب الفكرية هو أنه قد يشجع على يقظتها بمثيرات من الخارج. وقد يعيد تكرارها على الذهن من الداخل مستغلًا العواطف الدفينة نحوها وبعض العوامل الأخرى التي ذكرناها والتي تساعد على هجوم الأفكار على الخاطر. ولكي لا نخاف من حرب الأفكار يجب أن نعرف أنها آخر ما في جعبة إبليس من سهام يمكن أن يوجهها للذين عقدوا العزم على حياة الطهارة وعدم تدنيس أنفسهم بأي فعل جسدي.
6 - يحسن مواجهة الأفكار الشريرة باللامبالاة وعدم الاكتراث. فهذا يجعلها تعبر بهدوء ويستريح الفكر منها. لأن إهمالها وعدم الاهتمام بها أفضل بكثير من العناد معها لأن رد فعلها عندئذ العناد أيضا والإلحاح. وقد لا يسمح الوقت باستمرار المواجهة حيث تكون هناك حاجة للانتهاء من عمل فكرى في وقت معين مثل المذاكرة أو القراءة العادية أو الصلاة..
7 - إن ورود هذه الأفكار الوقتي على الخاطر ليس خطية في حد ذاته لأنه بمثابة مرور الهواء الفاسد الغير مرغوب فيه والذي يجاهد الإنسان للهروب من جوه الخانق. ولكن ما يُحَوِّل ورود هذه الأفكار إلى خطية هو عدم مقاومتها والاستسلام لها والتلذذ بها.
8 - الحل الأمثل لمشكلة الأفكار هو وسيلتان:
الأولى: انشغال الفكر الدائم بأمور واهتمامات كثيرة بحيث لا يترك الإنسان نفسه في فراغ طالما كان يقظًا وواعيًا لنفسه، أيًا كانت الاهتمامات طالما أنها بعيدة عن الأمور الجنسية أو مشاعر البغضة والعداوة نحو الآخرين.
الثانية: الامتلاء الروحي الذي يجعل الإنسان دائمًا حارًا بالروح قادرًا على أن يسبى كل فكر إلى طاعة المسيح (2كو10: 5) أي يخرج الفكر من مجاله ويدخله في دائرة وصية المسيح فيقتل فكر الخطية الشارد بسيف كلمة الله الحاضرة في الذهن والقلب.