الراهب القمص بطرس البراموسي
قراءة في حياة الأنبا أنطونيوس الكبير منارة الرهبنة
صار الشاب أنطونيوس صاحب الآذان الصاغية والقلب المُهيَّأ لإنبات بِذرة الملكوت أو مَنْ بدأ الوحدة الرهبانية والسُّكنى في الجبال، راعيًا فئة الشباب التي سمعت عن سيرته وسلكت مسلكه، تارِكةً كل ما يملكون من مُقتنيات أرضية لكي يغتنوا بالكنز السماوي الذي لا يفسده سوس، ولا يسرقه سارِق..
خرج الأنبا أنطونيوس وهو يشعر بصوت الله على لِسان الأميرة التي نزلت إلى النهر لتستحِم هي وجواريها في مقولتها الشهيرة: "هذا المكان لا يصلُح لِسُكنى الرهبان، إن كنت راهبًا فادخل البرية الجوَّانية"". فسمع الصوت الذي يدعوه إلى البرية الجوانية، حيث العريس يسكن في الهدوء والجِبال والقفار، بعيدًا عن صخب الحياة وضوضائها ومشغولياتها وحروبها الكثيرة، وشرود الفِكر والحواس والتشتيت الدائِم بصخب الحياة..
ذهب من بلدته "بني سويف" إلى داخل صحراء البحر الأحمر، إلى جبل العربة حيث البرية القاحلة التي نراها حتى الآن.. وإذا كانت هي الآن هكذا، فكيف كانت في القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الميلادي..
تمتَّع الأنبا أنطونيوس بالذهن النقي، والرؤية الروحية العميقة، والشيخوخة الحسنة والقلب المتسع، وطهارة الجسد والروح، وصموده باتضاع أمام حروب الشياطين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. واقفًا أمامهم ليخزيهم بكلماته القليلة المُلتهبة بنار الروح القدس الذي كان يسكن فيه ويشعل قلبه قائلًا: "عجبي لتجمهركم، على ضعفي وتظاهركم، أنا أضعف من أصغركم". فكانت الشياطين المرعبة بشكلها الأسود والتي تتخِذ شكل الفهود والأسود الضارية تنحَل كالدخان وتهرب منه ومن اتضاعه الكامل. فكان مخيفًا لهم، لا يحتملون ذِكر اسمه أو رؤيته.
وكذلك نجده يكتب لنا في عِظة من عِظاته موضحًا أنه لا يوجد مبرر للخوف من إغراءات الشيطان، ويقول:
"الشياطين إذا رأت كل المسيحيين ولاسيَّما الرهبان، مجاهدين بابتهاج ومتقدمين، يهاجموننا أولًا بالتجربة، ويضعون الأفكار الشريرة أمامنا كمعوقات ليعرقلوا طريقنا.. ولكن لا مبرر لنا للخوف من إغراءاتهم، لأنه بالصلاة والصوم والإيمان بالرب تفشل هجماتهم في الحال. وحتى عندما تفشل، فإنهم لا يكفون بل يكررون هجماتهم بمكر وخبث، لأنهم إذا عجزوا عن أن يخدعوا القلب بطريقة مكشوفة بالملذات الدنيئة، فهم يقتربون منّا بصورة مختلفة، ثم من ذلك الحين فصاعدًا يشكلون استعراضات يحاولون بها أن يثيروا الفزع، مغيرين أشكالهم، متخذين هيئة نساء أو وحوش أو زحَّافات أو أجساد ضخمة أو فِرَق من الجنود. ولكن حتى هذه لا مبرر لكم أن تخافوا من مظاهرها الخدَّاعة لأنها كلها لا شيء وتختفي بسرعة، ولاسيَّما إذا سبق الإنسان أن حصَّن نفسه بالإيمان وعلامة الصليب. ومع ذلك فإنهم جسورون ولا يستحون قط، لأنهم إذا غُلِبُوا على أمرهم ينقضون علينا بطريقة أخرى، ويتظاهرون بالتنبؤ ويخبرون بالمستقبل، وهم يستعرِضون أنفسهم بصورة بطول يصل إلى السقف، وبعرض ممتلئ (سمين) لكي بمثل هذه المظاهر يستولون خِلسة على الذين لم يتمكنوا من أن يخدعوهم بالمناقشة، وفي هذه الحالة أيضًا إذا وجدوا أن النفس متقوية بالإيمان وثبات العزيمة، يأتون بزعيمهم لمساعدتهم"..
ولذلك أحث المؤمنين جميعًا وليس الرهبان فقط من أن نحذر كل الحذر من حِيَل إبليس ومكره ودهائه، قائلًا: "لنجاهد حتى لا يتسلَّط علينا الغضب أو تغلبنا الشهوة، لأنه مكتوبٌ: "أَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ" (يع 1: 20)، لأننا نصارع ضد إبليس وجنوده كقول معلمنا بولس الرسول: "إِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" (أف 6: 12).
ولذلك يجب علينا الحِرص الدائم تجاه حيل الشياطين التي لا تهدأ إلا بإسقاط الإنسان في المُخالفة للوصية، زاعمين أنهم أقوى، ولكن الإنسان يكون أقوى مادام متسلِّحًا بقوة السيد المسيح القادِرة أن تهدم حصون الشيطان وكل أعوانه وكل جنوده الرديئة.. ليحفظنا الرب منهم كل أيام حياتنا.