حياة الإيمان
بقلم: البابا شنودة الثالث
النقطة الأولي: هي الفرق في الإدراك بين الإيمان والعقل والحواس. الإيمان هو مستوي أعلي من مستوي العقل والحواس.
فالحواس تدرك الماديات فقط والمرئيات. أما الإيمان فيتسع نطاقه إلي الإيمان بما لا يري.
فالله مثلا هو فوق مستوي المرئيات والحواس, ولكننا ندرك وجوده بالإيمان, علي الرغم من أننا لا نراه.. وكذلك الملائكة: لا نراهم بعيوننا, ولكننا نؤمن بوجودهم هم. وبالوضع نفسه نتكلم عن الأرواح. إننا لا نري الروح, ولكننا بالإيمان نؤمن بوجودها. أيضا العالم الآخر بكل أوصافه: لم يره أحد قط, ولكننا نؤمن بوجوده. كذلك نؤمن بالأبدية وبكل وعود الله الخاصة بها.
وهنا يبدو الفارق بين رجال الإيمان, ورجال البحوث العلمية.
أصحاب البحوث العلمية لا تدخل في نطاق عملهم كل تلك الأمور التي لا تري. وهم لا يكونون في حالة يقين من شيء, إلا إذا فحصوه تماما بكل أجهزتهم ومقاييسهم العلمية. وعلي نفس هذا المنهج كل أصحاب المذاهب المادية.
***
الإيمان لا يتعارض مع الحواس. لكن نطاقه أوسع منها بكثير.. إنه قدرة أعلي من قدرة الحواس التي لها نطاق محدود لا تتعداه. فالحواس المادية تدرك الأشياء المادية فقط. وحتي قدرتها بالنسبة إلي الأشياء المادية هي قدرة محدودة أيضا. وكثيرا ما تستعين الحواس بالعديد من الأجهزة لمعرفة أشياء مادية أدق من أن تدركها حواسنا الضعيفة. فكم بالحري إذن الأمور غير المادية.
فالروح مثلا لا تدركها الحواس المادية, سواء كانت روح بشر أو روح ملاك. وعدم إدراك الحواس لها, لا يعني عدم وجودها. إنما يعني أن قدرة الحواس محدودة, لا تصل إلي مستوي رؤية الروح.
***
وكما أن الحواس البشرية محدودة في قدرتها, كذلك العقل البشري محدود في معرفته.. ولا يدرك سوي الأمور المحدودة.
العقل قد يوصل الإنسان إلي بداية الطريق في إدراك وجود الله وبعض صفاته. ولكن الإيمان يوصله إلي نهاية الطريق.
الإيمان لا يتعارض مع العقل, لكنه يتجاوزه إلي مراحل أبعد بما لا يقاس لا يستطيع العقل بمفرده أن يصل إليها.
فمثلا خلق الكائنات من العدم, مسألة يعرضها الإيمان. والباحث العلمي لا يستطيع أن يدركها. والعقل مع ذلك يتسلمها من الإيمان ويدركها. ذلك لأن العقل قد يقبل أشياء كثيرة حتي لو كان لم يدركها.
وليس من طبيعة العقل أن يرفض كل ما لا يدركه
حتي في نطاق الأمور المادية في العالم الذي نعيش فيه: توجد مخترعات كثيرة لا يدركها إلا المتخصصون, ومع ذلك فالعقل العادي يقبلها ويتعامل معها, دون أن يدرك كيف تعمل وكيف تحدث؟!
والموت يقبله العقل ويتحدث عنه. ومع ذلك فهو لا يدركه, ولا يعرف كيف يحدث!! فإن كان العقل يقبل أمورا كثيرة في عالمنا وهو لا يدركها, فطبيعي أنه لا يوجد ما يمنعه من قبول أمور أخري أعلي من مستوي هذا العالم.
***
العقل مثلا لا يدرك( المعجزة) وكيف تتم, ولكنه يقبلها ويطلبها, ويفرح بها..
ولقد سميت المعجزة معجزة, لأن العقل يعجز عن إدراكها وعن تفسيرها. ولكنه يقبلها بالإيمان, إذ يؤمن بوجود قوة غير محدودة أعلي من مستواه, يمكنها أن تعمل ما يعجز هو عن إدراكها. وهذه القوة هي قدرة الله القادر علي كل شيء.
إننا نحترم العقل. ولكننا في الوقت نفسه ندرك حدود النطاق الذي يعمل فيه. ولا نوافق العقل في طموحه حينما يريد أن يستوعب كل شيء, رافضا ما هو فوق مستوي إدراكه!
***
النقطة الثانية في موضوعنا, أنه يوجد نوعان من الإيمان:
إيمان نظري, وإيمان عملي:
الإيمان النظري, هو إيمان فكري فلسفي: مجرد الاقتناع العقلي بوجود الله, وبوجود الأمور التي لا تري, دون أن يكون لذلك أي تأثير علي الحياة! وهو إيمان سهل. فما أسهل إثبات وجود الله بالأدلة العقلية والبراهين العديدة.
أما الإيمان العملي, فتظهر علاماته في الحياة العملية.. فما هي؟
***
* العلامة الأولي هي ارتباط الإيمان بالفضيلة ونقاوة القلب فمثلا: لاشك أنك لا تخطئ أمام إنسان بار تحترمه. وقد تكون في حضرته في منتهي الحرص, تستحي أن ترتكب شيئا مشينا أمامه. إذ لا تحب أن يأخذ عنك فكرة سيئة أو أن تسقط من نظره. بل قد تحترس أيضا أمام أحد مرءوسيك أو خدمك, لئلا يحتقرك في داخله أو يقل احترامه لك. لذلك فغالبية الخطايا تعمل في الخفاء, إما بسب الخوف أو الاستحياء.
فإن كنت تخجل أو تخاف من إنسان يراك, فكم بالأولي الله؟!
إذن إن آمنت تماما بأن الله موجود في كل مكان أنت فيه, يراك ويسمعك ويرقبك, فلاشك سوف تخجل أو تخاف من أن ترتكب أي خطأ أمام الله.
فهل عندك هذا الشعور؟.. هل يكون أمامك في كل خطيئة تحارب بارتكابها؟.. لو عرفت هذا ستخجل وتخاف, وتمتنع عن الخطية. لأن خوف الله سيكون أمام عينيك باستمرار في كل مرة تحاول أن تخطئ.
بل إنك تشعر بالاستحياء من أرواح الملائكة والقديسين:
هؤلاء الذين لا يحتملون منظرك في الخطيئة. بل إنك قد تخجل أيضا من أرواح أصدقائك ومعارفك الذين انتقلوا من هذا العالم, وكانوا يأخذون فكرة طيبة عنك.
وإن كنت تؤمن بأن الله فاحص القلوب وقارئ الأفكار
فلاشك أنك سوف تستحي من كل فكر رديء يمر بذهنك, ومن كل شهوة رديئة تكون في قلبك.
لذلك كله, فالذي يؤمن بأهمية علاقته بالله, يخشي ارتكاب الخطية, لأنها تفصله عن الحياة مع الله.
***
النقطة الثانية: ان حياة الإيمان ترتبط بسلام القلب وعدم الخوف:
من صفات المؤمن أن قلبه يكون باستمرار مملوءا بالسلام والهدوء, لا يضطرب مطلقا, ولا يقلق ولا يخاف. لأنه يؤمن بحماية الله له. وهو يحتفظ بسلامه الداخلي, مهما تكن الظروف المحيطة تبدو مزعجة. ويخاف الشخص الذي يشعر أنه واقف وحده. أما الذي يؤمن بالله فلا يخاف.
إن المؤمن لا يستمد سلامه الداخلي من تحسن الظروف الخارجية من حوله, بينما يستمد السلام من عمل الله فيها ومعه في وسط الضيقة أيا كانت, تري الإيمان يعطي سلاما. ضيقة يتعرض لها اثنان: أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن. فيضطرب غير المؤمن ويخاف ويقلق, ويتصور أسوأ النتائج, وتزعجه الأفكار. أما المؤمن فيلاقيها بكل اطمئنان وبسلام قلبي عجيب, واثقا أن الله سيتدخل ويحلها, وأنها ستئول إلي الخير, ويقول في ثقة إن الله المهتم بالكل سوف يهتم بي.. وحقا إني لا أعرف كيف ستحل المشكلة, لكني أعرف الله الذي سيحلها.
***
النقطة الثالثة: أن الإيمان يمنح صاحبه قوة
إن المؤمن إنسان قوي, يؤمن بقوة الله العاملة فيه. فشعورنا بوجود الله معنا, يمنحنا قوة إلهية ترافقنا وتحفظنا.
إن الإيمان ـ أيا كان نوعه ـ هو قوة. يكفي أن يؤمن الإنسان بفكرة, فتراه يعمل بقوة لكي ينفذها, فالإيمان يمنحه عزيمة وإرادة وجرأة, ما كانت له من قبل.. هكذا كان المصلحون في كل زمان ومكان. آمنوا بفكرة, فجاهدوا بكل قوة لتنفيذها. وبسبب إيمانهم, احتملوا الكثير من الضيق حتي أكملوا عملهم. المهاتما غاندي مثلا, آمن بحق الإنسان في الحرية, وآمن بسياسة عدم العنف. فمنحه هذا الإيمان قوة عجيبة استطاع بها أن يحرر الهند, وأن يعطي للمنبوذين حقوقا في مساواة مع مواطنيهم.
الإيمان أيضا بنطرية علمية يكون مصدر قوة في نطاقها:
مثال ذلك رواد الفضاء, في إيمانهم بما قيل لهم عن منطقة انعدام الوزن. وكيف أن الإنسان يمكن فيهم أن يمشي في الجمر دون أن يسقط! من من الناس يمكنه أن يجرؤ أن يمشي في الجو دون أن يخاف؟.. أما الذي جعل الرواد ينفذون ذلك, فهو إيمانهم الأكيد بصحة بحوث العلماء الذين أعلنوا هذا. فالإيمان بهذا منحهم قوة وشجاعة. فكم بالأكثر الإيمان بالله.
***
إن الإيمان ليس هو مجرد عقيدة, بل هو عقيدة وحياة
بقي الحديث عن بساطة الإيمان, وما يغذي الإيمان وما يضعفه, وأيضا الشكوك التي تحارب الإيمان. وكل هذه وغيرها, مما لا يتسع له هذا المقال.
لهذا نكتفي الآن بما ذكرناه.