أننا لا نستطيع أن نتأمل حياة الأنبا أنطونيوس في يوم عيده، دون أن نتذكر حياة الوحدة والسكون التي عاشها، وثمار هذه الحياة في حياته وفى تعاليمه..
لقد ذكر عنه القديس أثناسيوس الرسولى أنه قضى ثلاثين سنة، وقد أغلق على نفسه في وحدة كاملة، لا يرى فيها وجه إنسان.
وفى هذه الوحدة اختبر ثمار السكون، في خلوة كاملة مع الله. وأمكنه أن يفرغ ذهنه من تذكارات العالم وأخباره وتفاهاته، لكي يملأ هذا الذهن بالله وحده، فلا يفكر إلا فيه.
وفى مذاقته لحلاوة السكون نصح أولاده فيما بعد، خوفا عليهم من أن يتبدد سكونهم خارج البرية، فقال:
[الراهب في الدير كالسمكة في البحر، لا تحيا خارج مياهه]..
وحتى حينما عاش معه القديس الأنبا بولس البسيط بضع سنوات، يتتلمذ عليه، ويحيا تحت ظل صلواته، طلب إليه أن يدخل إلى البرية ويحيا وحده [ليجرب حروب الشياطين].
إنه الدرس الأول الذي أخذه الأنبا أنطونيوس [أن كنت راهبًا، فأدخل إلى البرية الجوانية].. وكان هذا هو الدرس الذي يقال لكل راهب، في أن يتعلم الهدوء:
[اجلس في قلايتك، والقلاية ستعلمك كل شئ]..
إن القديس الأنبا أنطونيوس هو الذي وضع أساس الرهبنة الأصيل. والنظام الذي وضعه هو الذي بقى أكثر من غيره.. أكثر من حياة الشركة التي كانت تعتمد على رئيس حازم قوى كالقديس باخوميوس مثلًا، يديرها بدقة وجدية، ويعاقب من يكسر قوانينها.. فإذا لم توجد هذه الرئاسة انتهى قيام الرهبنة تبعًا لذلك.. وهكذا انتهت كثير من أديرة القديس باخوميوس.
أما القديس أنطونيوس فكان يبنى الراهب من الداخل، بمحبة الوحدة والسكون، أكثر مما يبنيه بقوانين صارمة تحفظ طاعته..
كان يبنى قلب الراهب، لا مجرد إرادته.. وتصرفه..
كان يميت العالم داخل قلبه، ولا يقتصر على إماتة التصرفات العالمية في سلوكه.
وهذه الإماتة كانت تأتى أولا بالوحدة، بالبعد عن الكل، لحفظ العقل في السكون.
وتأتى ثانيا بانشغال الفكر والقلب بالله في حياة السكون. ما أجمل قول مار أسحق:
[إن مجرد نظر القفر، يميت من القلب الحركات العالمية].
في البرية تربى موسى قبل عمله الرعوي أكثر مما "تهذب بكل حكمة المصريين". وإلى البرية نقل الله أبانا إبرآم، حيث تدرب على حياة الخيمة والمذبح، أي الغربة والشركة مع الله. وفى البرية تدرب إيليا، على جبل الكرمل. وفى البرية تدرب أيضا يوحنا المعمدان، أعظم من ولدته النساء. وربنا يسوع المسيح أيضا أحب البرية والجبال، وترك لنا في ذلك مثالا، حتى كما كان يختلي في جبل الزيتون (يو 8: 1) ويقضى الليل في الصلاة، نفعل نحن أيضًا..
وهكذا عاش الأنبا أنطونيوس، ليس أيامًا، وإنما الحياة كلها..
عاش بعيدا عن المدن، وما فيها من صخب وضجيج وضوضاء، وأيضا بعيدا عما فيها من دوامة المشغوليات، التي لا تعطى فرصة لجلوس الإنسان مع نفسه أو جلوسه مع الله..
حقا، لقد سألت نفسي مرة: لماذا خلق الله كل هذه الصحراوات؟
هذه الصحراوات الواسعة، وهذه الجبال والتلال، في كل قارة من القارات، تمثل الهدوء والوحدة، بعيدا عن صخب المدن..
أليس في كل هذا إيحاء، يشير إلى الناس بحياة الهدوء؟!
وكان السيد المسيح يأخذ تلاميذه إلى موضع قفر، حتى تتركز حواسهم في كلامه، ولا تنشغل بالمناظر والأفكار.
إن كل إنسان في الدنيا، مهما تعمق في الحياة الروحية.. هو محتاج إلى فترات هدوء، يجلس فيها إلى الله، وإلى نفسه..
يهدأ بعيدا عن المشغوليات، وبعيدًا عما تجلبه الحواس من أفكار.. وفى هدوء يأخذ من الله، وأيضا يفحص ذاته، ويأخذ من أعماق أعماقه، حيث يسكن الله أيضًا. هذا هو أول ما يجذبنا، في الحياة العميقة التي
عاشها قديسنا.
وحياة السكون هذه، لها دلالتها الروحية الكثيرة:
فليس كل إنسان يستطيع أن يحيا حياة السكون في البرية. وإن استطاع ذلك بضعة أيام أو أسابيع، فلا يستطيع أن يحيا في البرية العمر كله، إلا إن كانت له دوافع روحية راسخة، كما كان للقديس أنطونيوس. فما هي هذه الدوافع؟
أول صفة تلتزمها حياة البرية، هي الزهد:
أن الذي يحب العالم، تجذبه أمور العالم، فلا يستطيع أن يبقى في البرية إذ يشتاق إلى ما تركه في العالم من أمور محببة إلى نفسه. وكما قال الكتاب: "حيثما يكون كنزك، فهناك يكون قلبك" (مت 6: 21). إنما يحيا في البرية، الإنسان الذي مات قلبه عن العالم موتا حقيقيا. بمقدار ما يكون قلبه مائتا عن العالم، هكذا يكون ثباته في البرية أيضًا.
إذن الموت عن العالم، يسبق بالضرورة الحياة في البرية:
والقديس الأنبا أنطونيوس كان قلبه قد مات عن العالم وكل رغباته: ترك الأهل والبلد والمال والجاه والعلم وكل شيء. ولم يعد يشتهى شيئا عالميا، لذا استطاع أن يسكن في مقبرة، وأن يسكن في القفر وأن يحتمل الجوع والعطش والوحدة..
كذلك السكنى في البرية تحتاج إلى شجاعة قلب:
يصلح لها قلب لا يخاف.. لا يخاف الوحدة، ولا الظلام، ولا الوحوش والدبيب، ولا الشياطين.. وهكذا كان الأنبا أنطونيوس، لقد تعرض لحروب مخيفة جدًا. وكان الشياطين يظهرون له في هيئة وحوش مفترسة، تصيح بأصوات مرعبة، وتهجم عليه. ومع ذلك لم يخف، بل وقف صامدا أمامهم.. كذلك هاجموه لما كان في المقبرة، وضربوه ضربا مبرحا جدًا، ولم يهتز إطلاقا. وفيما بعد أصبحت الشياطين هي التي تخاف الأنبا أنطونيوس، وأخذ قوة من الله على طرد الشياطين..
هذا هو الأنبا أنطونيوس رجل البرية، وأبن الجبال، صاحب القلب القوى الذي لا يخاف، الذي عاش في الجبال وحده عشرات السنوات، لا يؤنسه سوى الله.
السكنى في البرية أيضا يلزمها إنسان يعرف كيف يقضى وقته حسنا، بحيث لا يمل من فراغ يحيط به..
فالوحدة ليست مجرد عمل سلبي، هو البعد عن العالم، أو الموت عن العالم، إنما هي عمل إيجابي في الحياة مع الله والالتصاق به، ومذاقه حلاوته والعشرة معه. وهذا هو الهدف الأساسي من الوحدة، التي تعتبر مجر وسيلة للالتصاق بالله. وأن كانت الوحدة هي الانحلال من الكل، فإن مار أسحق يقول:
[الإنحلال من الكل، للارتباط بالواحد]..
والأنبا أنطونيوس عاش حياة الصلاة وحياة التأمل، منشغلا بالله كل وقته، فكرًا وقلبًا، فلم يمل، ولم يعد محتاجًا إلى عزاء بشرى يسليه. وصارت الوحدة بالنسبة إليه متعة روحية، بسبب العشرة الإلهية التي شغلت حياته..
ولم يعش وحده في البرية، وانما كان الله معه.
عرف أن "الحاجة إلى واحد"، ونجح في الارتباط بهذا الواحد.
ولما عاش في حياة السكون، دخل السكون إلى قلبه أيضًا.
وكما قال مار أسحق: [بسكون الجسد، نقتنى سكون النفس].
هدأت حواسه، وهدأت أفكاره، وهدأ قلبه من الداخل، وهدأت ملامحه أيضًا، وصار مصدرا للسلام لكل من يتصل به. وفيه أحب الناس هذه الحياة الهادئة الساكنة المملوءة بالسلام.
بمرور الوقت زالت من فكره كل التذكارات القديمة التي عاشها في العالم، وأخذت نقاوة فكره تنمو شيئًا فشيئًا، حتى لم يعد في فكره سوى الله وحده. أو محيت من ذهنه كل العالميات، إذ لا استعمال، ولا جديد يضاف إليها، بل لا جديد سوى الأمور الإلهية التي رسخت في ذهنه، وملكته كله.
وفيما بعد، حينما سمح أن يكون له تلاميذ، وزوار، لم يكن يكلمهم إلا عن الله وحياة الروح. فصارت حياته كلها مركزة في الله، فكرا، وشعورا وكلاما.. ومات العالم من حوله.
استطاع أن يحول الأرض التي عاش فيها إلى سماء، وأن يحول أبناءه الرهبان إلى ملائكة أرضيين أو بشر سمائيين.
أما أنتم يا أخوتي، فإن كنتم لا تستطيعون أن تسكنوا الجبال..
فعلى الأقل لا تحرموا أنفسكم من الخلوة والسكون على قدر طاقتكم.
ولو بضعة أيام كل سنة، أو يوما كل أسبوع، أو ساعة كل يوم، أو بضعة دقائق كل ساعة..
انفضوا ضجيج العالم من آذانكم، وغوصوا داخل أنفسكم، واكتشفوا في أية الطرق أنتم سائرون، وماذا على كل منكم أن يفعل.. وأجلسوا مع الله، وخذوا منه معونة..
ولا تجعلوا الفترة تطول بكم وسط ضجيج العالم، حيثما استطعتم أن تنسحبوا من هذا الضجيج، انسحبوا بسرعة..
وإن لم تستطيعوا أن تنسحبوا منه موضعيا، فعلى الأقل انسحبوا منه موضوعيا.. فلا تشتركوا في أعماله وأحاديثه..
كونوا كغرباء في الموضع الذي لا يناسبكم حديثه. لا تشتركوا في الكلام، أن لم يمكنكم تغيير دفته. وفيما أنتم صامتون، اسرحوا بأفكاركم في الله وملكوته، دون أن يشعر أحد.
وهكذا تحتفظوا بقلوبكم مع الله، سواء كنتم في خلوة أو مع الناس، كما قال عن ذلك (الشاعر):
كنت في مجتمع أو خلوة أنا وحدي، يستوي الأمران عندي
لي طريق مفرد أحببته عشت فيه طول هذا العمر وحدي
المهم أن محبة السكون تكون في القلب، وكإحدى نتائجها تتكون الرغبة في الاختلاء بالله، حتى وسط مشغوليات المجتمع.
ونصيحتي أنكم لا تأخذون أمور العالم بعمق..
لا تجعلوا أمور العالم تستقر في عمق اهتمامكم، بحيث تستولي على ذهنكم، ويطيش فيها فكركم وقت الصلاة..!
وفى محبتكم للوحدة، لا تنفروا من الناس ومحبتهم، بل انفروا من الأخطاء.. لأن هناك فرقا بين الوحدة والانطواء..
والقديس الأنبا أنطونيوس كانت حياته حبا للوحدة، حبا في الله، ولم تكن انطواء ولا كراهية للناس أو عجزًا في معاملتهم فكلما سمحت الفرصة، كان يفيض حبًا على الناس، وكانت معاملاته تتميز بالطيبة والوداعة واللطف..