لماذا الانقسام؟
منذ بدء الخليقة وإبليس يحاول جاهداً أن يضع انقساماً في جسد الله؛ فهو يعلم جيداً أن كل جماعة أو كنيسة صغيرة كانت أم كبيرة تدب فيها الانقسامات، سرعان ما تغيب عنها البركات والقوة. فاليوم الذي تضعف فيه محبتنا بعضنا نحو البعض، فبكل تأكيد سوف تضعف قوتنا الروحية وتقل مسحتنا. فمن أحد الأسباب الهامة التي من أجلها استخدم الله الكنيسة الأولى بقوة هو وجود التلاميذ وتجمعهم معاً بنفس واحدة ( أع 1:2).
فإذا كانت الوحدة بين الأعضاء هي مصدر القوة والاستخدام الإلهي، فلماذا الانقسام والانشقاق إذا؟ ببساطة: * لأننا لانريد أن نضحي ولو بالقليل، ولا نريد أن نحتمل قليلاً، ويصعب علينا أن نقدم الآخر عن أنفسنا.
لأننا لا نريد أن نسقي الآخر من نهر غفران الله الذي يروينا كل يوم وكل لحظة، ولانريد أن نتغاضى عن أخطاء الآخر، الأمر الذي يزيد من جراح نفسه الداخلية، فنكون مصدر ألم للآخر بدلاً من تضميد جراحه.
لأننا نضع كرامتنا الشخصية فوق الخضوع لكلمة الله في الحفاظ على وحدانية الجسد (1كو 25:2).
لأننا نعظم شأن ذواتنا متغاضين عن وصايا الله في احتمال الضعفاء، ومحبة الذين يسيئون إلينا (متى 44:5).
لأننا لم نعد نخضع للمرشدين ولا القادة الذين وضعهم الله لنا كأن الخضوع بات شيمة الضعفاء.
يُقال: إذا تقابل شخصان في قنطرة ضيقة لا تتسع إلا لعبور شخص واحد وأراد كل منهما العبور،
فإذا تزاحما محاولاً كل منهما العبور أولاً، لسقطا معاً.
وإذا عاندا في الوقوف، سيظلا في مكانهما بلا أي تقدم وسيفقدا الهدف الذي جاءا من أجله.
أما إذا انحنى أحدهما للآخر وسمح له بالمرور من فوقه، لاستطاعا معاً العبور وتحقيق الهدف الذي جاءا إليه، ولتجنبا عناء مجهود ضاع في عناد بلا قيمة أو احتمالات السقوط بسبب الأنانية.
وفي سفر راعوث يقدم لنا الكتاب المقدس قصة هامة؛ عندما نتأمل فيها، نستطيع أن نتعلم درساً هاماً من دروس التضحية لأجل الالتصاق بالآخرين (جسد المسيح في العهد الجديد)، والتنازل عن أمور هامة لأجل محبة الآخرين.
سمح الله أن ترتبط "راعوث" و "عرفة" بشعب الله وأن تكون لهن شركة معه من خلال زواجهن بابني "نعمى"، ولكن سرعان " ما مات كلاهما ". وكان من الطبيعي أن تتفكك أوصال الرباط بموت أزواجهن، وأن تصير العلاقة مع شعب الله مهددة بالانقطاع. ولكن تُرى ماذا فعلت راعوث لتحافظ على هذا الرباط بشعب الله من خلال نعمى؟
1- لم تصغ لصوت الذهن الطبيعي (الحكمة البشرية) الذي تمثل في كلمات نعمى مشجعة إياهن على الرحيل ".. ارجعا يا بنتي. لماذا تذهبان معي. هل في أحشائي بنون بعد حتى يكونوا لكما رجالاً.. وإن قلت لي رجاء أيضاً بأني أصير هذه الليلة لرجل وألد بنين أيضاً. هل تصبران لهم حتى يكبروا .." (راعوث 1: 11-13) وكأن المنطق الطبيعي يقول أنه لا أمل في إحياء تلك العلاقة.. إلى متى الانتظار والإصرار على تلك الربط.. كل أمل نتمسك به يمثل خسارة بلا فائدة.
وهكذا أحياناً كثيرة نجد أفكارنا الطبيعية تهمس بداخلنا وتقول "لماذا نستمر في هذه الوحدة.. لماذا نصر على المحبة.. لا يوجد أمل في شيء وانتظارنا لن يأتِ علينا بفائدة بل سيجلب الخسارة. فلماذا نستمر؟".
2- لم تتأثر باتجاهات الآخرين: قد ينجح البعض في التغلب على الأفكار التي تهاجمه، ولكن من الصعب أن لا يتأثر عندما يجد كل من حوله يسير في اتجاهات عكس مسيرته ويتكلم بلغة عكس كلماته؛ وتكون النتيجة هي خوفه من أن يخسر نفسه وحياته فيتجاوب معهم. أما راعوث فلم تتأثر بما فعلته عرفة التي كانت تمر في ذات الموقف. بكت عرفة وناحت ولكنها قبلت حماتها ورحلت بعيداً عن شعب الله، وأما راعوث فلصقت بحماتها وبشعب الله. لم تتأثر بقرار عرفة ولم تقل بداخلها أنه القرار الصائب الذي ينهجه الجميع، بل وقفت بإصرار لتقول لنعمى ".. لأنه حيثما ذهبتِ أذهب وحيثما بتِ أبيت. شعبك شعبي وإلهك إلهي. حيث مُتِ أموت وهناك أندفن" (راعوث 1:16-17).
فراعوث التي امتلكت إصرار وأمانة في قلبها بالروح القدس على استمرار علاقتها بشعب الله، قد أخذت بزمام المبادرة بتقديم التنازل برحيلها عن بلادها وبالتخلي عن عاداتها ولغتها والذهاب وراء نعمى. ولم تكن رغبتها في الاستمرار مع نعمى رغبة أنانية بأن ترغمها أو تلح عليها في أن تظل معها في موآب. فكثيراً ما نصلي أن يضع الله تغير في الآخرين حتى تستمر علاقتنا بهم ولا نُقدم على مبادرة التغير من جهاتنا.
وأمام ذلك الإصرار الأمين والتضحية الخالصة يخبرنا الكتاب بأن المدينة تحركت عند دخول نعمى وراعوث وإنهما دخلا في زمان الحصاد.
ما أروع نتائج هذه التضحية؛ فالله يستطيع أن يستخدمنا، إن كسرنا ذواتنا، في أن نصنع زلزلة ونشاط روحي في كل مكان نذهب إليه ولا نعاق عن عمل المسحة بل ونلحق بزمان الحصاد، وتمتلئ أيدينا بالثمر المُفرح كما فعلت راعوث في أرض بوعز.