مزمور 149 - تفسير سفر المزامير
دعوة كنيسة العهد الجديد للتسبيح
لم يرد عنوان لهذا المزمور في أية نسخة، ولا ذُكر اسم واضعه. يبدو أنه مزمور نصرة، سُبح به بعد نوال نصرة مجيدة. لهذا يظن البعض أنه يرجع إلي عصر المكابيين، والبعض إلي العودة من بابل وبناء أسوار أورشليم.
جاء في النسخة السريانية أنه نبوة عن نجاح الكرازة بالإنجيل وسط أمم الأرض، وأنه خاص بالهيكل الجديد، وجماعة كنيسة العهد الجديد.
خلق الله كل الكائنات العاقلة سواء كانوا بشرًا أو ملائكة يستعذبون الموسيقى. وهبهم العقل مع القلب أو العاطفة للتفكير في خالقهم والتهليل به في تناغمٍ وتناسقٍ بديعٍ.
فالطغمات السماوية كائنات عاقلة، تنعم على الدوام بالمعرفة المتجددة النامية، وكائنات ملتهبة بنار الحب نحو الله وخليقته. إنها تعيش في عيدٍ سماويٍ دائمٍ، ليس من ازدواجية بين المعرفة والفرح في حياتهم.
أما عدو الخير وملائكته، فقد انحرفوا بعقولهم كما بقلوبهم (إن صح التعبير). عوض التعقل عشقوا الجهالة، وانغمسوا في الغباوة، وحسبوا التعقل والتأمل في الحق (الله) غباوة وخداعًا وأوهامًا. وعوض الحب امتلأوا كراهية وبغضة، يسرون بعذاب الغير وهلاكهم.
أما الإنسان فكان يمكنه أن ينضم كما إلي صفوف الطغمات السماوية، لكن عدو الخير خدعه، ففسدت إرادته، وانحرف بعقله ليقول في جهله "لا إله"، وانحرف بقلبه، ففقد طبيعة الحب والبهجة الحقيقية.
الآن إذ يرى المرتل كلمة الله قادمًا للخلاص، يدعو كنيسة العهد الجديد لتسبح بأغنية جديدة، حيث يتناغم العقل مع القلب، وتصير جماعة خائفي الرب طغمة متهللة ومسبحة، تعزف بآلات موسيقية ليست من الخارج، وإنما يتحول الإنسان نفسه إلي قيثارة روحية يعزف عليها روح الله القدوس.
الآن يقدم لنا المرتل أنشودة رائعة هي دعوة للتسبيح بالذهن كما بالروح والقلب. يخاطب المرتل العقل البشري المقدس بالرب، كما يخاطب القلب والعواطف والأحاسيس. هكذا يليق بنا كشعب الله أن نكون شعبًا مُسبِّحًا.
1. نسبحه في بيت الرب [1-4] لأنه مخلصنا [1] وخالقنا وملكنا [2]. فالتسبيح يرضي الرب، ويعطي لشعبه جمالًا [4؛ مز 147: 1، 11].
2. يلزمنا أن نسبحه في البيت [5]. حتى ونحن نيام، وعند الاستيقاظ، وأثناء المرض.
3. نسبحه في ميدان الحرب الروحية [6-9]. كلمة الله سيْفنا (أف 6: 17؛ عب 4-12). والتسبيح هو سلاح عجيب للنصرة على العدو.
1. دعوة الكنيسة للتسبيح
1-3.
2. الامتيازات العظيمة لشعب الله
4-5.
3. نصرة ومجد للكنيسة
6-9.
من وحي المزمور 149
1. دعوة الكنيسة للتسبيح
يدعو المرتل الكنيسة للتهليل من أجل النعم الإلهية، وهي:
أ. التمتع بتسبحة جديدة [1].
ب. التمتع بالخالق الملك الفريد [2].
ج. التمتع برضا الله ومسرته [3-4].
د. التمتع بالمجد الداخلي [5].
هلِّلُويَا.
غَنُّوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً،
تَسْبِيحَتَهُ فِي جَمَاعَةِ الأَتْقِيَاءِ [1].
جاءت هذه الدعوة تحثنا علي الترنم بتسبحة جديدة، لا يتسلل إليها أي ملل أو ضجر، بل مع ممارستها تتجدد علي الدوام، وتلهب كل كيان الإنسان كما الجماعة ليختبروا الحياة الملائكية الدائمة التهليل.
من يتمتع بروح الله يتجدد مثل النسر شبابه، وتتجدد علي الدوام معرفته للحق الإلهي، كما يتجدد قلبه، فيلتهب بنار الحب الإلهي، الذي لا تقدر مياه الزمن أن تطفئها.
كان الشعب في العهد القديم يترقب مجئ المسيا الذي يقدم لهم الخلاص، ويهبهم قلبًا جديدًا، ويدخل معهم في عهدٍ جديدٍ. بالتالي إذ يتمتع الشعب بالتجديد الداخلي يقدمون تسبحة جديدة.
إذ يثق المرتل في وعود الله الصادقة يرتل، قائلًا: "غنوا له أغنية جديدة، أحسنوا العزف بهتافٍ، لأن كلمة الرب مستقيمة، وكل صنعه بالأمانة" (مز 33: 2-3).
لقد سبق فرأى إشعياء بروح النبوة كنيسة العهد الجديد المتهللة بمخلصها، فقال:"غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحه من أقصى الأرض" (إش 42: 10).
إذ تمتع القديس يوحنا برؤية العرش وحوله السمائيون والمؤمنون من كل الأمم يرنمون، قال: "وهم يترنمون ترنيمة جديدة" (رؤ 5: 9). مرة أخرى يقول: "وهم يترنمون كترنيمة جديدة أمام العرش" (رؤ 14: 3).
لا يقدر أحد أن يتهلل بالرب، ويقدم تسبحة جديدة، ما لم يصر قلبه مستقيمًا، عضوًا في الكنيسة المقدسة. "أحمد الرب بكل قلبي في مجلس المستقيمين وجماعتهم" (مز 111: 1).
* الإنسان العتيق لديه تسبحة عتيقة، والإنسان الجديد له تسبحة جديدة.
العهد القديم هو تسبحة قديمة، والعهد الجديد تسبحة جديدة.
في العهد القديم توجد وعود أرضية مؤقتة. من يحب الأرضيات، فليسبح التسبحة القديمة. من يرغب في التسبحة الجديدة، فليحب الأبدية.
الحب نفسه جديد وأبدي، ولهذا فهو دائمًا جديد، لن يشيخ...
في المحبة الجديدة ماذا يوجد؟ سلام، الذي هو رباط الجماعة المقدسة، واتحاد روحي، وبناء حجارة حية.
أين هي المحبة؟ ليس في موضعٍ واحدٍ، بل خلال العالم كله. هذا قيل في مزمور آخر: "رنموا للرب يا كل الأرض" (مز 46: 1). من هذا نفهم أن من لا يرنم مع كل الأرض، يرنم ترنيمة قديمة، أيا كانت الكلمات الخارجة من فمه...
الحب يسبح الله، وعدم الاتفاق يجدف على الرب...
حقل الله هو العالم وليس أفريقيا... إذن كنيسة القديسين هي الكنيسة الكاثوليكية (الجامعة). كنيسة القديسين ليست كنيسة الهراطقة...
تسبحته في "أبناء الملكوت"، أي في "كنيسة القديسين"[1].
* "غنوا للرب ترنيمة جديدة". المعنى الروحي هو أن مجيء العهد الجديد هو أغنية جديدة. كل ما حدث كان عهدًا جديدًا. يقول الكتاب: "سأقطع عهدًا جديدًا معكم" (راجع إر 31: 31). كانت خليقة جديدة. يقول الكتاب: "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (1 كو 5: 17). وكائن بشري جديد: "إذ خلعتم الإنسان العتيق... ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 9-10). فبسبب الحياة الجديدة، صار كل شيءٍ جديدًا، ودُعي "العهد الجديد". ويحثنا كاتب (المزمور) الموحى إليه أن نغني أغنية جديدة تتناسب مع (العهد الجديد)[2].
* "تسبحته في جماعة القديسين". ألا ترون أنه يطلب الشكر في الحياة والعمل، ويسحب هؤلاء الناس إلى خورس الذين يغنون بالتسبحة؟ إنه لا يكفي -كما ترون- أن نشكر بالقول فقط، ما لم ترافقه الفضيلة عمليًا.
"تسبحته في جماعة القديسين". إنه يعلمنا شيئًا آخر هنا؛ إنه يُظهر بأنه يلزمنا أن نقدم تسبيحًا معًا في انسجامٍ تامٍ، فإن كلمة "جماعة" معناها الاجتماع معًا[3].
* من ينزع عنه أعمال الإنسان العتيق، ويلبس الإنسان الجديد الذي يتجدد لمعرفة صورة من خلقه كما قال الرسول، يسبح تسبيحًا جديدًا.
إذًا، يلزمنا نحن أبناء العهد الجديد أن نضمر الموت عن الإنسان الظاهر الترابي، أعني عن شهوات الجسد. لأن هذا الرسول نفسه يقول: إن كان إنساننا الظاهر يبلى، فالإنسان الباطن يتجدد يومًا فيومًا. لهذا يقول النبي بأن التسبحة الجديدة يجب أن تكون في مجمع الأبرار. هذا القول معناه أن التسبيح يكون لا بالقول فقط، بل وبأعمال البرّ أيضًا، وباتفاق المؤمنين الذين دعاهم إسرائيل.
لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِه.
لِيَبْتَهِجْ بَنُو صِهْيَوْنَ بِمَلِكِهِمْ [2].
من أعظم النعم التي يتمتع بها المؤمن كعضوٍ في جماعة الأتقياء (خائفي الرب) أن يتهلل بالرب خالقه، الذي يقيم مملكته فيه. إن كان الرب قد أوجدنا من العدم، فإنه لا يستخف بخليقته، بل يقيم ملكوته فينا، لذا نبتهج بملكنا الساكن فينا.
إذ يتمتع المؤمن بالميثاق الجديد خلال الصليب، يصير بالحق إسرائيل الجديد المتهلل بخالقه المخلص، ويبتهج بذاك الذي ملك على خشبة، وضمه إلي صهيون السماوية. تتحول حياته إلي عيدٍ لا ينقطع، وتصير لغته هي البهجة والفرح بالله، حيث لا يستطيع أحد أو أمر ما أن ينزع فرحه منه.
لا تكف الكنيسة عن أن تقدم المجد لذاك الخالق واهب الوجود والحياة ومصدر كل بركة، يملك لا ليسيطر، وإنما بمُلكه يهب مؤمنيه الحياة الملوكية، ويفيض عليهم بفرحه الإلهي. تتهلل بخالقها وملكها، الذي يحكم بناموس الحب، ويهبها صلاحه وحكمته وبرَّه، فتنسي ضيقها ومتاعبها. يقول النبي: "لا تخافي لأنك لا تخزين... فإنك تنسين خزي صباكِ، وعار ترملكِ لا تذكرينه بعد، لأن بعلكِ هو صانعكِ، رب الجنود اسمه، ووليكِ قدوس إسرائيل، إله كل الأرض يًُدعى" (إش 54: 4-5).
* سبيل المؤمنين أن يؤلفوا اجتماعًا بائتلاف والتئام عمومي، ويسبحوا الرب بالمحبة وابتهاج وفرح روحي. لذلك كتب الرسول: "غير تاركين اجتماعنا كما لقومٍ عادة، بل واعظين بعضنا بعضًا" (عب 10: 25).
* ما هو "إسرائيل". "رؤية الله". من يرى الله يفرح به، ذاك الذي خلقه...
قلنا إننا ننتمي لكنيسة القديسين، فهل بالفعل نحن نرى الله؟ وكيف نكون إسرائيل إن كنا لا نراه؟
توجد بصيرة تخص الزمان الحاضر، وستوجد بصيرة أخرى تخص (الحياة) العتيدة. البصيرة التي لنا الآن هي بالإيمان، أما البصيرة التي ستكون فيما بعد فهي في الواقع. إن كنا نؤمن نرى؛ وإن كنا نرى فمن نرى؟ الله! اسألوا يوحنا: "الله محبة" (1 يو 4: 16). لنبارك اسمه القدوس، ونفرح بالله، وذلك بالفرح بالحب.
من له الحب، لماذا نرسله بعيدًا ليرى الله؟ ليتطلع إلى ضميره، ففيه يرى الله!
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم". أبناء الكنيسة هم إسرائيل. فإن صهيون بالحقيقة كانت مدينة قد سقطت، وفي وسط خرائبها يسكن قديسون حسب الجسد. أما صهيون الحقيقية، أورشليم الحقيقية (صهيون أو أورشليم هما واحد) هي أبدية في السماويات (2 كو 5: 1)، وهي أمنا (غل 4: 26). هذه التي ولدتنا، كنيسة القديسين، تقوتنا، وهي التي في نصيب من رحلتنا، تجعلنا نسكن في السماء جزئيًا.
جزئيًا، إذ نسكن في السماء التي هي نعيم الملائكة، وجزئيًا، إذ نجول في هذا العالم رجاء الأبرار.
عن الجزء الأول يقال: "المجد لله في الأعالي" وعن الآخر: "وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة" (لو 2: 14).
ليت أولئك الذين في هذه الحياة يتنهدون، ويشتاقون إلى وطنهم، ويجرون إليه بالحب، وليس بأقدامهم الجسدية.
ليتهم لا يبحثون عن سفنٍ، بل عن أجنحة! ليتمسكوا بجناحي الحب. ما هما جناحا الحب؟ محبة الله ومحبة القريب.
الآن نحن رحلّ؛ نئن ونتنهد.
لقد وصلت إلينا رسالة من وطننا، نقرأها إليكم: "ليبتهج بنو صهيون بملكهم". ابن الله الذي خلقنا صار واحدًا منا، وهو يحكمنا بكونه ملكنا، لأنه هو خالقنا الذي جبلنا...
لم يجد في الإنسان شيئًا طاهرًا له ليقدمه عن الإنسان، فقدم نفسه ذبيحة طاهرة، ذبيحة سعيدة، ذبيحة حقيقية، تُقدم بلا عيب.
قدم ليس ما أعطيناه نحن؛ بل بالحري قدم ما أخذه منا، وقدمه طاهرًا. فقد أخذ منا جسدًا، قدمه. أين أخذه؟ في رحم العذراء مريم، ليقدمه طاهرًا عنا نحن غير الطاهرين. إنه ملكنا وكاهننا، فلنفرح به[4].
* "ليفرح إسرائيل بخالقه" [2]. إنه يقدم حسابًا عامًا قبل الإشارة إلى الإحسانات الفردية، وكأنه يحث على هذه النقطة بما أضافه: اشكروا الله الذي جاء بكم إلى الوجود حينما لم تكونوا موجودين، ونفخ فيكم نسمة الحياة. هذا أيضًا فوق الكل ليس بالأمر الهين من الإحسان.
هنا يُظهر أمرًا أكثر أهمية، فهو لا يشير فقط إلى الخلقة، إنما يُلقي ضوءًا قويًا على العلاقة به، بالتعبير عما في نفسه هكذا، إنه يأمر بالشكر، ليس لأنه خلقهم فحسب، وإنما جعلهم أيضًا شعبه. ألا ترون كيف أنه بتوحيدهم معًا، وربطهم بالله، يريد منهم لا أن يشكروا فحسب، وإنما يشكروا برضا وفرحٍ، ويريد أن يُلهب عقولهم؛ هذا قد جعله مفهومًا ضمنيًا بالقول: "ليبتهج" [2]...
"ليبتهج بنو صهيون بملكهم" [2]... هنا يضيف "بملكهم"، ليظهر هذا، أنه كان ملكهم، لا على أساس الخلقة فحسب، وإنما على أساس العلاقة (بينهم وبينه) أيضًا[5].
لِيُسَبِّحُوا اسْمَهُ بِرَقْصٍ.
بِدُفٍّ وَعُودٍ لِيُرَنِّمُوا لَهُ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فليسبحوا اسمه القدوس بالمصاف (في خورس)".
الخورس هو اتحاد المرنمين، يرنمون معًا، بروحٍ واحدٍ وهدفٍ واحدٍ، بانسجامٍ وحبٍ صادقٍ.
يرى بعض الدارسين إن كلمة "رقص" لا تعني رقص الجسد بالمعني العام، إنما كما جاءت في الترجمة السبعينية "بالمزمار with the pipe"، وإن كان البعض يرى أن الشعوب كانت تستخدم حركات الجسد (الرقص) أثناء العبادة، كنوعٍ من التعبير عن فرح الإنسان بكل كيانه، وليس فقط بلسانه وفمه.
يرى القديسان جيروم ويوحنا الذهبي الفم أن العود يشبه القيثارة، غير أن الأخيرة تُشد أوتارها إلى أسفل، والعود إلى أعلى، لذا يليق بنا أن نسبح الله وأوتارنا مسحوبة إلى أعلى، أي بالعود لا بالقيثارة.
* يليق بنا ألاَّ نغني أغاني الغرام، بل نقتصر على التسبيح لله. وكما قيل: "ليُسبحوا اسمه برقصٍ، بدفٍ وعودٍ، ليُرنِّموا له" (مز 149: 49)[6].
القدِّيس إكليمنضس السكندري
* "بدفٍ (طبلٍ) وعودٍ ليرنموا له" [3]. أيضًا يشير بعض المفسرين إلى هذه الآلات الموسيقية بمفهوم روحي، فيقولون إن الطبل يتضمن إماتة أجسادنا، بينما يشير العود إلى السماء، فإنه يُعزف على هذه الآلة من فوق، وليس من أسفل مثل القيثارة[7].
* "ليسبحوا اسمه في خورس" [3]. لاحظوا مرة أخرى هذا الانسجام الذي يشرق خلالهم. فإن الخورس (الجوقة) غرضها أن يتناغم كل واحدٍ وهو يقدم التسبيح في اتفاقٍ واحدٍ معًا. هذا أوضحه بولس أيضًا بالكلمات: "غير تاركين اجتماعنا" (عب 10: 25)[8].
* قال القديس يوحنا الذهبي الفم: إن اليهود لضخامة ذهنهم وكثافة عقلهم وغلاظتهم، ولكونهم تركوا عبادة الأوثان من مدة قريبة، يقربون الذبائح لها، ويستعملون آلات الملاهي والمعازف... وأما نحن المسيحيون فيلزمنا أن نميت شهوات جسدنا، ونجعله طبلًا ينشغل بالسماويات، ونجتذب الروح من العلو، ونكون مثل مزمارٍ يجذب الروح من فوق، وليس من أسفل. فعلى قول هذا الجليل يجب على المسيحيين عدم استعمال العزف وآلات الضرب عند تسبيحهم لله.
* إن رنمنا في خورس، فلنرنم بانسجام معًا. إن كان أحد صوته فيه نشاز عن صوت خورس المرنمين، فهو يضايق الأذن، ويجعل الخورس في ارتباكٍ.
إن كان صوت أحدهم يحمل صدى بلا انسجام، فإنه يفسد تناغم المرنمين، كم بالأكثر اختلاف الهراطقة يسبب ارتباكًا لتناغم المرنمين. العالم كله الآن هو خورس المسيح. يعطي خورس المسيح صوتًا منسجمًا من الشرق إلى الغرب (مز 113: 3).
"بدفٍ وعودٍ ليرنموا له"... ليس فقط بالصوت يرنم، وإنما أيضًا بالأعمال. عندما يُستخدم الدف والعود، فإن الأيادي تعمل في تناغمٍ مع الصوتٍ[9].
* ليسبحوا اسمه في خورسٍ.
حيث يوجد خورس تمتزج الأصوات معًا في أغنية واحدة... لكن حيث يُوجد نزاع وحسد، لا يُوجد خورس...
لنصلب أجسامنا من أجل المسيح، ونغني لله بدفٍ من هذا النوع... لا يُصنع الدف من الجسد، وإنما من الجلد. فمادمنا جسديين فلسنا دفوفًا.
لا تقدر أن تصنع دفًا، ما لم تنزع كل جسدِ، وتسحب الجلد وتشدِّه.
لا يمكن للدف أن يتقلص، بل يلزم أن يُشدَّ الجلد.
ليته لا تقلصنا الخطية، إنما بالبرِّ نُشدَّ ونتسع[10].
* الذين يميزون توافق الروح الواحد عليهم التأمل جيدًا في نصيحة صاحب المزامير عندما يقول: "ليسبحوا اسمه برقصٍ، بدفٍ وعودٍ ليرنموا له" (مز 149: 3).
المعرفة المتعالية تنفخ بعض الناس، وتفصلهم عن الجماعة. وكلما عظمت هذه المعرفة قلت الحكمة، وتأثرت فضيلة التآلف بالروح الواحد. لذلك ليت هؤلاء يسمعون ما يقوله الحق ذاته: "ليكن لكم في أنفسكم ملحٌ، وسالموا بعضكم بعضًا" (مر 9: 50)[11]. إن الملح بلا مسالمة ليس ثمرة للفضيلة، بل يسبب لعنة...
لذلك يقول يعقوب: "ولكن إن كان لكم غيرةٌ مُرَّةٌ وتحزب في قلوبكم، فلا تفتخروا وتكذبوا على الحق. ليست هذه الحكمة نازلةً من فوق، بل هي أرضية نفسانية شيطانية، لأنه حيث الغيرة والتحزب، هناك التشويش وكل أمر رديء. وأما الحكمة التي من فوق، فهي أولا طاهرةً، مسالمةً، مترفعةُ، مذعنةً، مملوءّةٌ رحمةً وأثمارًا صالحة، عديمة الريب والرياء. وثمر البرّ يُزْرَع في السلام من الذين يفعلون السلام" (يع 3: 14-18).
الحكمة طاهرة، لأنها تفكر بنقاء. وهي مسالمة، لأنها لا تصنع شقاقًا مع جماعة الإخوة بسبب الكبرياء[12].
الأب غريغوريوس (الكبير)
2. الامتيازات العظيمة لشعب الله
لأَنَّ الرَّبَّ رَاضٍ عَنْ شَعْبِه.
يُجَمِّلُ الْوُدَعَاءَ بِالْخَلاَصِ [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن الرب يُسر بشعبه، ويُعلي الودعاء بالخلاص".
الدافع الآخر للتسبيح هو إدراك المؤمن برضا الله ومسرته بشعبه، وانشغال الله بتجميل الودعاء بالخلاص أو بالمجد الأبدي.
يقف المؤمن مبهورًا أمام الله الكلي القدرة، خالق كل العوالم، ينشغل بالإنسان كأن كل ما قد خلقه الله هو لأجله. ما يشغل الله هو أن يجدد طبيعة الإنسان ويجّملها علي الدوام، لتصير أيقونة حيَّة له. لذا لا يجد المؤمن لغة يعبر بها عن شكره لخالقه وملكه ومخلصه سوى أن يهتز كل كيانه الداخلي مع القديس يوحنا العمدان الذي ركض (رقص) مبتهجًا في أحشاء أمه أليصابات. يسبح الله بدفٍ وعودٍ، أي بجسده وروحه.
يسر الله بشعبه الوديع والمتواضع، فيقدم لهم الخلاص المجاني، ويسكب عليهم من بهائه. وكما قيل: "وجملتِ جدًا جدًا، فصلحتِ لمملكة، وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالكِ، لأنه كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليكِ، يقول السيد الرب" (حز 16: 13-14). كما قيل: "أزين بيت جمالي" (إش 60: 7).
سرّ جمال الودعاء هو تمتعهم بخلاص الرب، إذ يحملون أيقونة القائل: "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29).
* "لأن الرب يتعامل بلطفٍ بشعبه". أي تعامل بلطفٍ مثل موته من أجل الخطاة؟
أي تعامل بلطف مثل إبطال الصك الذي على الخاطي بالدم البريء؟
أي تعامل بلطفٍ مثل: "إني أنظر لا إلى ما كنتم عليه، بل ما لستم عليه الآن؟
إنه يتعامل بلطفٍ بهدايته ذاك الذي ضل، ومساندة الذي يحارب، وتكليل الذي ينتصر.
"ويُعلي الودعاء بالخلاص". فإن المتكبرين أيضًا يرتفعون، لكن ليس بالخلاص.
يرتفع الودعاء بالخلاص، والمتكبرون بالموت.
بمعنى أن المتكبرين يرفعون أنفسهم والرب يذلهم. والودعاء يتواضعون والرب يرفعهم[13].
* الذين بالتواضع والوداعة صاروا لله شعبًا خاصًا، يخلصهم خلاصًا بديعًا، ويمجدهم بهذا الخلاص، ويشرفهم بين الناس، وهم يفتخرون برؤيتهم لمجده الإلهي، كما كتب الرسول بولس: "ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ، كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18).
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "لأن الرب راضٍ عن شعبه... يحمل (يرفع) الودعاء بالخلاص" [4]. لاحظوا مرة أخرى الطريقة التي يعالج بها الأمور الخاصة بالله، والأمور الخاصة بالكائنات البشرية. فكما طلب منهم قبلًا الشكر، يقدم الأمور الخاصة بالله بالكلمات: "لأن الرب راضٍ عن شعبه". هكذا أيضًا هنا بدوره، إذ يعود إلى وعود الله، يطلب من الكائنات البشرية الكلمات "يحمل الودعاء بالخلاص".
بينما الرفع يخص الله، فلكي يكونوا ودعاء يخص البشر. أقصد أنه لا تتحقق الأمور الخاصة بالله ما لم يسبقها تحقيق ما يخص البشر[14].
يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمة "يحمل" (يرفع أو يمجد elevate) قائلًا: [إنه ليس فقط يحررهم من المتاعب، وإنما يجعلهم موضع دهشة ومشهورين، ويهبهم مجدًا مع الخلاص. هذا على أي الأوضاع يشرحه بوضوح بإضافته الكلمات: "ليبتهج الأتقياء بمجدٍ".]
لِيَبْتَهِجِ الأَتْقِيَاءُ بِمَجْدٍ.
لِيُرَنِّمُوا عَلَى مَضَاجِعِهِمْ [5].
دافع جديد يبعث فيهم روح البهجة، ألا وهو أن مجدهم لم يعد خارجًا عنهم يكمن في الغنى أو السلطان أو الجمال أو الكرامات الزمنية أو الصحة الجسدية، إنما داخلهم. لهذا تترنم قلوبهم في كل الظروف، وفي كل الأوقات، حتى أثناء نومهم وهم على مضاجعهم.
يعيش المؤمنون الحقيقيون في أمجادٍ فائقةٍ؛ لا تفارقهم البهجة، حيث لا يفارقهم المجد الداخلي، وكما وعد الرب نفسه: "وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5). إذ يتأملون في المجد الذي وُهب لهم في داخلهم، تتهلل نفوسهم، وتنطق أفواههم بالتسابيح، مقدمين ذبائح شكر لا تنقطع. يترنمون على الدوام، ولا تصمت ألسنتهم الداخلية عن التسبيح، حتى وهم نائمون: "ليرنموا على مضاجعهم" (مز 149: 5).
اذ يحل الليل، ويحوط الظلام بهم، فإنهم وهم نائمون لا يفارقهم نور شمس البرّ. يدخلون في لقاءات سرية مع الله، وتمتلئ قلوبهم فرحًا، ويلهجون في حبهم لله بالتسابيح السرية.
* "يبتهج القديسون بمجدٍ". أود أن أقول شيئًا عن مجد القديسين. فإنه لا يوجد من لا يحب المجد. لكن مجد الأغبياء مجد شعبي كما يُقال، يحوي شباكًا للخداع، حتى أن الإنسان بالمجد الباطل يريد أن يعيش بشكلٍ ما حسب ما يطلبه البشر، أيا كان حالهم، وأيا كان الطريق...
أما القديسون الذين يبتهجون بالمجد، فلا يحتاجون إلينا كيف يبتهجون. اسمعوا فقط ما قيل بعد ذلك في المزمور: "ويبتهجون على مضاجعهم"، وليس في المسارح أو المدرجات أو الميادين أو مبانٍ باهظة التكلفة أو الأسواق، وإنما "في مضاجعهم"... أي في قلوبهم.
اسمعوا الرسول وهو يبتهج في خلوته: "لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا" (2 كو 1: 12).
من جانب آخر يوجد سبب للخوف من أن يُسر أحد بنفسه، ويبدو أنه متكبر ومتشامخ بضميره. إذ يليق بكل أحدٍ أن يبتهج بخوفٍ. بهذا يبتهج بعطية الرب وليس عن استحقاقه. فإن كثيرين يُسرون بأنفسهم، ويظنون في أنفسهم أنهم أبرار.
يوجد أيضًا عبارة أخرى ضد هؤلاء وهي: "من يقول إني زكيت قلبي، تطهرت من خطيتي؟" (أم 20: 9) يمكن القول إنه يوجد حد لتمجيد ضميرنا، أي أن تعرف أن إيمانك صادق، ورجاءك أكيد، وحبك بدون خداع[15].
* "ليرنموا (يفرحوا) على مضاجعهم" [5]. إنه يُظهر الأمان الكامل من المشاكل، ويقودهم إلى راحة عظيمة، وفرح عظيم، وشبع فائق. الآن يشير إلى هذه الأمور ليعرفوا أن كل ما حدث ليس بواسطة أسلحتهم أو قوتهم، وإنما بنعمة الله، وإنهم ينتصرون بالتواضع والوداعة[16].
* يقول الكتاب: الروح لم يكن قد ُأعطي، لأن يسوع لم يكن قد تمجد، بمعنى أنه لم يكن قد صُلب (يو 7: 39).
"ليبتهج المؤمنون بمجد"، لماذا أركز على هذه النقطة؟ لأن المرتل يقول: ليبتهج المؤمنون في مجدٍ، وأنا أقول: "ليبتهج المؤمنون في الصليب". "أما أنا فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14)[17].
* "ليرنموا على مضاجعهم" هذا ينطبق على القديسين، على الأبرار.
من منا يرنم بفرحٍ على مضجعه؟ من لا يصارع على سريره مع الجسد؟
عندما أسهر على نفسي وأنا على مضجعي، لا أرتل بفرحٍ، بل أصارع، لا أتنهد على ملكوت السماوات، إنما أصارع مع الجسد. أبلل نار الشهوة بدموعي وأطفئها. لهذا السبب يقول المرتل: "أبلل سريري بدموعي" (مز 6: 7). الدموع تطفئ لهيب فراش الملتهب بالشهوة.
طوبى لأولئك الذين قيل عنهم: "ليرنموا على مضاجعهم"[18].
* يقول المرتل عن الأبرار: "ليبتهج القديسون في مجدٍ، ليرنموا على مضاجعهم" (راجع مز 149: 5). لأنهم إذ يهربون من مآسي الأمور الخارجية، يتمجدون في سلام داخلي في أعماق قلوبهم. لكن فرح القلب سوف يكمل عندما تتوقف حرب الجسد من الخارج. إنه كما لو أن حائط البيت قد تزعزع يصير المضجع نفسه مضطربًا[19].
البابا غريغوريوس (الكبير)
3. نصرة ومجد للكنيسة
بعد أن عدد دوافع الترنم ببهجةٍ، من تمتع بعهدٍ جديدٍ، وإدراكٍ لعمل الخالق المحب، واهتمامه بنا كملكٍ، مع سروره بنا، وسكناه في داخلنا كمصدر مجدٍ داخلي، الآن يحثنا على الترنم والتهليل من أجل النصرات المستمرة على عدو الخير وكل قوات الظلمة. نحمل فينا كلمة الله كسيفٍ ذي حدين يحطم الشر، وينجذب الوثنيون إلي مخلص العالم ليتمتعوا بإنجيل الحق، ويسقط إبليس كالبرق من السماء، ويصير موضعه تحت الأقدام.
يَدعو المرتل الكنيسة للتهليل من أجل التمتع بنصرات مستمرة:
أ. التسبيح كسلاح للغلبة [6].
ب. قبول الأمم للإيمان [7].
ج. هزيمة إبليس وملائكته [8]
د. كرامة ومجد لخائفي الرب [9].
تَنْوِيهَاتُ اللهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ،
وَسَيْفٌ ذُو حَدَّيْنِ فِي يَدِهِمْ [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "تعليات الله في حنجرتهم، وسيوف ذات فمين في أياديهم".
يرى بعض الدارسين أن هذه العبارة تكشف عن تاريخ وضع هذا المزمور، فالمرتل يرى الشعب يبني أسوار أورشليم تحت قيادة نحميا. الكل يهتف بتسابيح سماوية بصوتٍ عالٍ، وقد أمسك المؤمن سيفًا بيده الأخرى وهو يبني. "باليد الواحدة يعملون العمل، وبالأحرى يمسكون السلاح، وكان البانون يبنون، وسيف كل واحدٍ مربوط علي جنبه" (نح 4: 17-18).
غالبًا ما كانت السيوف عند الرومان تأخذ هذا الطابع، ذات حدين حتى يمكن استخدامها في الطعن كما في الضرب بالسيف.
الترجمة الحرفية:" سيف ذو فمين"، فهو كالحيوان الوحشي يجول ليفترس بكل وسيلة.
يرى المرتل ربنا يسوع المسيح وقد تقلد سيفه على فخذه كجبارٍ، لكي إذ يقدم إنجيل الحب لشعبه، يهبهم روح القوة. يعطيهم ذاته كسيفٍ ذي حدين يبترون به الشر، فلا يكون له سلطان عليهم. ويتقدمهم على الدوام، يبيد ضد المسيح بنفخة فمه (2 تس 2: 8). أخيرًا يظهر على السحاب "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16)، به يدين المسكونة، ويفصل أبناء الملكوت عن أبناء إبليس. وكما يقول القديس جيروم: [به يضرب الأعداء، وبه يفتح ملكوت السماوات[20].]
"تعليات" هنا تعني ابتهاج بالنصرة، ففرحهم في مخادعهم يقوم لا على استحقاقاتهم الذاتية، وإنما على عمل الله معهم. ما بلغوه هو من قبل نعمته، وإنهم يترجون منه البلوغ إلى الكمال، فقد بدأ وسيكمل معهم.
أما السيوف الحادة من الجانبين والتي في أياديهم، فتحمل معنى رمزيًا. يُفهم منها أنها كلمة الله (عب 4: 12). أما وضعها في صيغة الجمع، فهي لأنها تصدر عن أفواه الكثير من القديسين. أما الحدان أو الفمان، فإشارة إلى أن كلمة الله تعالج حياتنا الزمنية كما تمس تمتعنا بالحياة الأبدية.
* "وسيوف ذات حدين في أياديهم"... لماذا في أياديهم وليست على ألسنتهم...؟
بالقول "بأياديهم" يعني "بسلطان". لقد تسلموا كلمة الله بسلطانٍ، يتكلمون أينما أرادوا ولمن أرادوا، لا يخشون سلطانًا، ولا يحتقرون فقرًا.
فإن في أياديهم سيفًا يلوحون به، ويستعملونه، ويضربون به أينما أرادوا. هذا كله في سلطان الكارزين. لو أن الكلمة ليست في أياديهم، لماذا كُتب: "كانت كلمة الرب عن يد حجيَّ النبي" (حج 1: 1)...؟
أخيرًا يمكننا فهم هذه "الأيادي" بطريقة أخرى أيضًا؟ لأن الذين تكلموا كان لهم كلمة الله في ألسنتهم، هؤلاء الذين كتبوها بأياديهم[21].
* "تسابيح الله العالية في حناجرهم". بالتأكيد من يصرخ، لا يصرخ من حنجرته، وإنما بشفتيه. بالطبع أقصد أن الشخص لا ينطق بصوتٍ عالٍ بحنجرته بل بشفتيه. فكيف يقول هنا: "تسابيح الله العالية في حناجرهم"؟ "نصرخ: يا أبّا، الآب!" الصوت الذي يصرخ لله لا يخرج من الشفتين، وإنما من القلب. بالحقيقة قال الرب لموسى: "ما لك تصرخ إليّ؟ بالتأكيد لم ينطق بكلمة...
"وسيوف ذات حدين في أياديهم"... سيوف القديسين ذات حدين... مكتوب عن الرب المخلص: "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16). لاحظوا جيدًا أن هؤلاء القديسين يتقبلون من فم الله السيوف ذات حدين، يمسكون بها في أياديهم. لذلك يعطي الرب سيفًا من فمه إلى تلاميذه، سيفًا ذا حدين، أعني كلمة تعاليمه.
يعطي سيفًا ذا حدين: أي (التفسير) التاريخي والرمزي، الحرف والروح.
سيف ذو حدين، يذبح الأعداء، وفي نفس الوقت يحمي المؤمنين.
السيف ذو الحدين له رأسان: يتحدث عن العالم الحاضر والعالم العتيد. هنا يضرب المقاومين، وفي العلا يفتح ملكوت السماء[22].
* أقوال التعليم الحقيقي تشَّبه بسيوفٍ ذوات حدين، لأنها توضح الحق، وتحطم الكذب والباطل، ولأنها تقهر أقوال الإلحاد، وتوبخ الخاطئين من الشعب. هذه الأقوال الحقيقية هي قيود وأغلال من حديد، تقيد الجدال، وتمنع الكذب والطغيان من جريانه نحو الامتداد والتقدم.
* "تسابيح الله العلوية في حنجرتهم، وسيف ذو حدين في أياديهم، ليصنعوا نقمة في الأمم ودينونة للشعوب" [6-7]. هنا يصور الحرب جنبًا إلى جنب مع الموسيقى، موضحًا أنه بالغناء والتسبيح ينتصرون.
إنه يدعو الغناء بالألحان والمزامير والشكر تسابيح علوية[23].
لِيَصْنَعُوا نَقْمَةً فِي الأُمَمِ،
وَتَأْدِيبَاتٍ فِي الشُّعُوبِ [7].
في تث 7: 1 الخ. يعد الله شعبه بالنصرة الكاملة على الأعداء المقاومين لهم، وعلي الأمم الوثنية التي لا تكف عن مهاجمة الإيمان الحقيقي. تحققت هذه النصرة ولا تزال تتحقق، لا بهلاك الوثنيين، بل بأسر ملوكهم بقيودٍ، وشرفائهم بكبولٍ من حديد.
من هم هؤلاء الملوك والشرفاء، إلا إبليس وكل قوات الظلمة، الذين يحسبون أنهم رؤساء هذا العالم، أصحاب سلاطين.
* لماذا يحمل القديسون مثل هذه السيوف؟ "ليصنعوا نقمة في الأمم"... لكي يبيدوا كل هرطقة إلى النهاية[24].
* الآن يا إخوة ها أنتم ترون القديسين مسلحين: لاحظوا المذبحة، لاحظوا معاركهم المجيدة. لأنه إذ يوجد قائد يلزم وجود جند، وإن وُجد جند توجد معركة، وإن وُجدت معركة توجد نصرة.
ماذا يفعل هؤلاء الذين في أياديهم سيوف محماة من الجانبين؟ "ليصنعوا نقمة في الأمم".
انظروا إن كانت النقمة تتحقق في الأمم. تتم كل يوم، نتممها بالكلام.
لاحظوا كيف أن أمم بابل قد قُتلت. لقد دفعت ضعفين، كما هو مكتوب عنها: "ضاعفوا لها ضعفًا نظير أعمالها" (رؤ 28: 6).
كيف دفعت الضعف...؟ فإن عبادة الأوثان قد انطفأت، والأصنام انكسرت، ولئلا يظنوا أن البشر بالحقيقة يُضربون بالسيف، والدم بالحقيقة يُسفك، الجراحات تتحقق في الجسد، أكمل موضحًا: "وتوبيخات في الشعوب"[25].
* "أفراح الرب في حناجرهم، وسيف ذو حدين في أياديهم، ليصنعوا نقمة في الأمم، وتأديبات في الشعب" (راجع مز 149: 6-7) يليق بنا أن نلاحظ جمال هذه التعبيرات المتباينة ونفعها.
قبلًا قال إن القديسين يفرحون في مضاجعهم، والآن يقول إن أفراح الرب قائمة في حناجرهم. المعنى هنا أنهم لن يتوقفوا عن التسبيح، سواء كان في الفكر أو على اللسان. يسبحون ذاك الذي ينالون منه الهبات الأبدية.
يتحرك أيضًا ليشرح القوة التي يستخدمونها ببراعة، بالكلمات: "وسيف ذو حدين في أياديهم".
السيف ذو الحدين هو كلمة الرب المخلص، التي يقول عنها المسيح نفسه في الإنجيل: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا". (مت 10: 34)
إنه سيف ذو حدين، لأنه يحوي عهدين[26].
لأَسْرِ مُلُوكِهِمْ بِقُيُودٍ،
وَشُرَفَائِهِمْ بِكُبُولٍ مِنْ حَدِيدٍ [8].
يرى القديس جيروم الملوك هنا هم قادة الهرطقات الذين يعلمون الناس ويضللونهم.
* ألا ترون فيض القوة؟ فإنهم ليس فقط يطردون الأعداء ويقصونهم، وإنما يأخذونهم أيضًا أسرى، ويرجعون حاملين شهادة أمام الكل عن قوة الله[27].
* نحن نعلم أن ملوكًا صاروا مسيحيين، وإن شرفاء من الأمم صاروا مسيحيين. صاروا هكذا في هذا اليوم. إنهم صاروا وسيصيرون.
"السيوف ذات الحدين" ليست عاطلة في أيدي القديسين. ماذا إذن نفهم بالقيود والسلاسل من حديدٍ التي يُربطون بها؟
أنتم تعلمون أيها الأحباء والإخوة المتعلمين (أقول متعلمين، لأنكم قد تربيتم في الكنيسة، واعتدتم أن تسمعوا كلمة الله تُقرأ)، أن الله اختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، وجهال العالم ليخزي بهم الحكماء، وغير الموجود ليبطل الموجود (1 كو 1: 27)...
قال الرب: "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل ما لك وأعط الفقراء، وتعال اتبعني، فيكون لك كنز في السماء" (مت 19: 21). كثير من الشرفاء فعلوا هذا وكفوا عن أن يكونوا شرفاء الأمم، واختاروا أن يكونوا فقراء في هذا العالم شرفاء في المسيح.
لكن كثيرين بقوا في مراكزهم السابقة كشرفاء، بقوا في سلطانهم الملوكي، ومع ذلك صاروا مسيحيين، هؤلاء صاروا كمن في قيودٍ وسلاسلٍ من حديد. كيف هذا؟
لقد قبلوا قيودًا تحفظهم من الذهاب إلى أشياء غير شرعية، "قيود الحكمة" (سي 6: 25)، قيود كلمة الله. لماذا هي أغلال من حديد، وليست من ذهب؟ إنها من حديد، إذ هم يخافون. فليحبوا، فتصير من ذهب!
لاحظوا أيها الأحباء ما أقول. لقد سمعتم الآن ما يقوله يوحنا: "لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب" (1 يو 4: 18). هذا قيد من حديد. ومع ذلك إن لم يبدأ الإنسان بالخوف يعبد الله، لا ينال الحب. "مخافة الرب بدء الحكمة" (مز 111: 10).
البداية إذن قيود من حديد، والنهاية قلادة من ذهب. فقد قيل عن الحكمة: "قلادة من ذهب حول رقبتك" (سي 6: 24)[28].
لِيُجْرُوا بِهِمِ الْحُكْمَ الْمَكْتُوبَ.
كَرَامَةٌ هَذَا لِجَمِيعِ أَتْقِيَائِهِ.
هَلِّلُويَا [9].
يرى القديس جيروم أن الحكم المكتوب هو الكتاب المقدس، فيليق معالجة الهرطقات بروح الكتاب المقدس.
* من له هذا السلاح لا يخشى سلاح العالم... إن كنا لا نخشى الواحد، فإننا نتقبل الآخر. لنشكر (الله) الذي له ذاك السيف ونباركه إلى أبد الأبد، آمين[29].
* هكذا ستكون النصرة عظيمة، والنصب التذكاري عجيب وواضح للكل. إنه واضح كما لو كان مكتوبًا (منقوشًا) على عمود، ولن يُمسح[30].
* "كرامة هذا لجميع قديسيه" [9]. أية كرامة؟ النصرة أو بالحري ليست النصرة فقط، وإنما النصرة بطريقةٍ هكذا، خلال مساندة الله، خلال النعمة التي من فوق[31].
من وحي المزمور 149
شعب جديد وتسبحة جديدة!
* مراحمك جديدة في كل صباحٍ.
يحملنا روحك القدوس إليك،
فنلمس عنايتك التي لا تشيخ.
تجدد على الدوام مثل النسر شبابنا.
تجدد عهدك معنا باستمرار.
تجعلنا كنيسة جديدة،
تدخل معك في عهدٍ جديدٍ.
حبك لا يشيخ، ونعمتك لا تقدم.
* تهبني تسبيحًا جديدًا، به تتلذذ أعماقي!
بحبك العجيب تقدم لي تسبيحًا جديدًا،
وبتنازلك تقبل هذا التسبيح ذبيحة حب لك!
هذه العطية هي من عندك،
وعندما أقدمها لك تحسبها من عندي.
تشتم فيها رائحتك الذكية،
فتحسبني موضع سرورك!
* أقدم لك التسبحة خفية،
إذ لا يقدر أحد أن يسمع صوت قلبي سواك.
لكن قلبي يجد راحته في الشركة مع قلوب إخوتي.
علي البحر البلوري الذي أمام عرشك،
أجتمع مع كل قديسيك.
ويقف السمائيون في دهشةٍ وعجبٍ.
يرون فريق مغنين،
يتكون من ملايين كثيرة.
الكل يحملون قيثارات الروح،
ويترنمون بروحٍ واحدةٍ!
* نسبحك يا ملك الملوك،
نغني لك بكل آلة موسيقية:
بقلوبنا وأفواهنا وعواطفنا وعقولنا وطاقاتنا.
ليس لنا، ليس لنا،
كل ما نقدمه هو من فيض عطاياك.
تسكب بهاءك علينا،
فنُحسب ملوكًا مملوءين بهاء!
* بأية لغة نسبحك، سوي لغة العلويين!
أفواهنا الداخلية ترنم بتسابيح سماوية.
وأيادينا تمسك بك،
أنت هو سلامنا!
* تسابيحنا لك هي سهام قاتلة لقوات الظلمة.
لسنا أهلًا أن نقدم هذه التسابيح!
إنها تسابيح نصرة الله،
تهبنا بهجة وكرامة.