تفسير الأصحاح الخامس من سفر زكريا النبي
السيف والسهام
المنجل
مقياس الشر والخير
الثواب والعقاب
المرأة الجالسة
المرأتان الذاهبتان
الحواشي والمراجع
فَعُدْتُ وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِدَرْجٍ طَائِرٍ. فَقَالَ لِي: [مَاذَا تَرَى؟] فَقُلْتُ: [إِنِّي أَرَى دَرْجًا طَائِرًا طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عَشَرُ أَذْرُعٍ]. 3 فَقَالَ لِي: [هَذِهِ هِيَ اللَّعْنَةُ الْخَارِجَةُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. لأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ يُبَادُ مِنْ هُنَا بِحَسَبِهَا وَكُلَّ حَالِفٍ يُبَادُ مِنْ هُنَاكَ بِحَسَبِهَا. 4 إِنِّي أُخْرِجُهَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَتَدْخُلُ بَيْتَ السَّارِقِ وَبَيْتَ الْحَالِفِ بِاسْمِي زُورًا وَتَبِيتُ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَتُفْنِيهِ مَعَ خَشَبِهِ وَحِجَارَتِهِ].
ثُمَّ خَرَجَ الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي وَقَالَ لِي: [ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مَا هَذَا الْخَارِجُ]. فَقُلْتُ: [مَا هُوَ؟] فَقَالَ: [هَذِهِ هِيَ الإِيفَةُ الْخَارِجَةُ]. وَقَالَ: [هَذِهِ عَيْنُهُمْ فِي كُلِّ الأَرْضِ]. 7 وَإِذَا بِوَزْنَةِ رَصَاصٍ رُفِعَتْ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ جَالِسَةٌ فِي وَسَطِ الإِيفَةِ. فَقَالَ: [هَذِهِ هِيَ الشَّرُّ]. فَطَرَحَهَا إِلَى وَسَطِ الإِيفَةِ وَطَرَحَ ثِقْلَ الرَّصَاصِ عَلَى فَمِهَا. 9 وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِامْرَأَتَيْنِ خَرَجَتَا وَالرِّيحُ فِي أَجْنِحَتِهِمَا. وَلَهُمَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ اللَّقْلَقِ فَرَفَعَتَا الإِيفَةَ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. 10 فَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: [إِلَى أَيْنَ هُمَا ذَاهِبَتَانِ بِالإِيفَةِ؟] 11 فَقَالَ لِي: [لِتَبْنِيَا لَهَا بَيْتًا فِي أَرْضِ شِنْعَارَ. وَإِذَا تَهَيَّأَ تَقِرُّ هُنَاكَ عَلَى قَاعِدَتِهَا].
" 1 فَعُدْتُ وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِدَرْجٍ طَائِرٍ. 2 فَقَالَ لِي: [مَاذَا تَرَى؟] فَقُلْتُ: [إِنِّي أَرَى دَرْجًا طَائِرًا طُولُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عَشَرُ أَذْرُعٍ]. 3 فَقَالَ لِي: [هَذِهِ هِيَ اللَّعْنَةُ الْخَارِجَةُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. لأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ يُبَادُ مِنْ هُنَا بِحَسَبِهَا وَكُلَّ حَالِفٍ يُبَادُ مِنْ هُنَاكَ بِحَسَبِهَا. 4 إِنِّي أُخْرِجُهَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَتَدْخُلُ بَيْتَ السَّارِقِ وَبَيْتَ الْحَالِفِ بِاسْمِي زُورًا وَتَبِيتُ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَتُفْنِيهِ مَعَ خَشَبِهِ وَحِجَارَتِهِ]." (زك 5: 1 - 4).
تأملوا قيمة التعليم العالية، يؤتى بإعلان فيكشف عن الأمور التي لا ترى بتلك التي ترى وعن الأمور الروحية بالأمور المحسوسة.
بما أن الديان العادل يفصل الصديق عن الشرير ويعطي كل واحد حسب أعماله، لذلك فإن الكتاب المقدس يسمى الجزاءات التي يعاقب بها الظالمون والأشرار تارة سيفًا وسهامًا، وطوراً فأسًا ومنجلًا.
السيف والسهام
عندما يستخدم الأشرار والمزورون والشياطين ضراوتهم للمحاربة وإثارة الفِتَنْ، فإن ما يُتوقع عليهم جزاء لهم يُسمى سيفًا وسهامًا يُرسلها الرب الذي يقول: "أسكر سهامي بدم ويأكل سيفي لحمًا بدم القتلى والسبايا ومن رؤوس قواد العدو" (تث 32: 42). "أجمع عليهم شرورا وأنفذ سهامي فيهم" (تث 32: 23).
وبما أن العقاب لا يحيق بالخطاة على الأرض فقط، بل بالملائكة الساقطين في الشر، بالشياطين أيضا. لأنه مكتوب: "الله لم يُشفِق على ملائكة قد أخطأوا" (2 بط 2: 4). لذلك يقول الله في إشعياء النبي: "لأنه قد روى في السموات سيفي" (أش 34: 5). ويعرفنا بالحُكم الرهيب ضد الأشرار عاموس النبي خاصة، إذ يقول: "بالسيف يموت كل خاطئ شعبي القائلين لا يقترب الشر ولا يأتي بيننا" (عا 9: 10).
وما يتكلم عنه النبي ليست أداة مادية ضد الأعداء، لأنه لم يحدث أبدا أن تلاشى كل أشرار الشعب بسيف مرئي. وبنفس المعنى يسمع داود النبي المرتل هذا التهديد للمدعوين إلى التوبة: "إن لم يرجع يحدد سيفه، مد قوسه وهيأها، وسدد نحوه آلة الموت يجعل سهامه ملتهبة" (مز 7: 12 - 13). وقيل عن هذه الأسلحة الفتَّاكة: "حَتَّى مَتَى تَخْمِشِينَ نَفْسَكِ. آهِ، يَا سَيْفَ الرَّبِّ، حَتَّى مَتَى لاَ تَسْتَرِيحُ؟ انْضَمَّ إِلَى غِمْدِكَ! اهْدَأْ وَاسْكُنْ" (سفر إرميا 47: 5-6).
المنجل
أما وقد شرحنا بما فيه الكفاية آلات الحرب التي تضرب وتهدد الناس والشياطين القُساة المتمردين، لنتأمل النصوص المملوءة سرا عن الأشجار التي لا تُعطي ثمرا جيدا والتي هي أيضا موضع غضب وقصاص.
"فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة" (مت 3: 8). وأيضا "والآن قد وُضِعَتْ الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تُقطع وتُلقى في النار" (مت 3: 10). إن اللعنة تأتي على النباتات من هذا النوع مثلها مثل المنجل يقطع الذين يثمرون ثمرًا رديئًا مفسدًا، الذين قيل عنهم: "لأنه ليس كصخرنا صخرهم ولو كان أعداؤنا القُضاة. لأن من جِفنة سدوم جِفنتهم ومن كروم عمورة، عِنَبهم عِنَب سُمْ ولهم عناقيد مرارة. خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل" (مت 32: 31 - 32).
وتُشبه الإرادة الشريرة الكرمة الفاسدة، فهي ثمارًا رديئة؛ فيلزم أن تُقطع بمنجل حاد ويُنتزع عنها عنبها وعناقيدها. ويكفي الخوض في هذا الشرح بصفة عامة، ولننزل إلى التفاصيل على قدر ما نستطيع لتوضيح المعنى.
ينأى النبي عن الأمور التي رآها وعرفنا بها، ويرفع عيني قلبه المستنير فيرى منجلا طائرا، ليس منجلًا ماديًا، بل روحانيًا لا ريب في ذلك "طوله عشرون ذراعًا وعرضه عشرة أذرع"، وهو يقطع "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي" (مت 15: 13). يقطع كل نجس.
إن المنجل الذي يتقدم ليعاقب كل سارق وكل من يحلف باسم الرب باطلا، يسمى لعنة لأنه يجر الآلام والبلايا على الذين يطهرهم وحتى لا يضطر أحد إلى احتمال تلك الأتعاب، يلزمه أن يحفظ الوصايا الآتية من ناموس موسى: "ولا تزن ولا تسرق"، ووصية الرسول هذه: "لا يسرق السارق في ما بعد بل بالحري يتعب عاملا الصالح بيديه ليكون له أن يُعطي من له احتياج" (أف 4: 28).
وكما أنه يجب أن نرفض السرقة بسبب اللعنة التي أسماها منجلًا أو درجًا. كذلك يجب أن نتجنب الحلف زورًا، ولا ننطق باسم الرب باطلا. وفي فصل قال من نبوة زكريا النبي، يشجب الحلف باطلا بقوله: "ولا يُفكرْنَ أحد في السوء على قريبه في قلوبكم. ولا تحبوا يمين الزور" (زك 8: 17). وإذ يتكلم عن هذه اللعنة في شكل مَنجْل أو دَرَجْ يقول الرب "إني أُخرِجْها يقول رب الجنود فتدخل بيت السارق وبيت الحالف باسمي زورا وتبيت في وسط بينه وتفنيه مع خشبه وحجارته" (زك 5: 4).
وبما أن البيت المُتهدم ليس بيتا ماديًا، فلا يكون الخشب والحجارة في بنائها من المرئيات. يطير هذا المنجل ويجوب كل الأرض بسرعة. فلا يصيب الذين على الأرض فحسب، بل الذين في الهواء (الشياطين) أيضا وكل الأشرار أينما كانوا.
إن المنجل يهدم ما في وسط البيت، أي القلب، العقل يهدم ما هو داخل الإنسان،كالسيف الذي شق قاضي إسرائيل الذي كان يحترق بشهوة الزنا بسوسنا من الوسط: "فها هوذا ملاك الله قد أخذ القضاء من الله ويشقك نصفين" (تتمة سفر دانيال وهي خارجة من عدد الإصحاحات وتعرف بخيرية سوسنا العفيفة: 55) - عن الأسفار القانونية التي حذفها البروتستانت. فشق الزاني من الوسط يعني أن عقله قد انقسم.
"ثُمَّ خَرَجَ الْمَلاَكُ الَّذِي كَلَّمَنِي وَقَالَ لِي: [ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مَا هَذَا الْخَارِجُ]. فَقُلْتُ: [مَا هُوَ؟] فَقَالَ: [هَذِهِ هِيَ الإِيفَةُ الْخَارِجَةُ]. وَقَالَ: [هَذِهِ عَيْنُهُمْ فِي كُلِّ الأَرْضِ]. وَإِذَا بِوَزْنَةِ رَصَاصٍ رُفِعَتْ. وَكَانَتِ امْرَأَةٌ جَالِسَةٌ فِي وَسَطِ الإِيفَةِ. فَقَالَ: [هَذِهِ هِيَ الشَّرُّ]. فَطَرَحَهَا إِلَى وَسَطِ الإِيفَةِ وَطَرَحَ ثِقْلَ الرَّصَاصِ عَلَى فَمِهَا." (زك 5: 5-8).
خرج الملاك لكي يظهر الشر، والمقياس (الأيفة)، ووزنة الرصاص التي رُفِعَتْ. ويجدر بنا أن نفكر بإمعان ماذا تعني كل هذه الأشياء.
مقياس الشر والخير
"الأيفة(1) الخارجة" في الرؤيا، هي تفاقم القساوة والشرور في شتى الصور، وما لم يكن الأموريون والأمم المذكورة، فيتحملوا الجزاء عندما تفيض خطاياهم، فما كان ينقصهم أي نوع من الظلم، حسب الكلمة الموجهة إلى بعضهم: "ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم" (أش 1: 4).
وبنفس الأسلوب قيل عن الذين كانوا ممتلئين من شهوة الزنا تجاه سوسنا العفيفة: "أتى أيضًا الشيخان مملوئين فكرا رديًا على سوسنا" (تتمة سفر دانيال: 28).
ويقول الرسول بدون مداراة عن عليم الساحر فاضحا تزويره: "أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر ألا تزال تُفسِد سبل الله المستقيمة" (أع 13: 10).
ويؤكد هذه الوجهة بصفة خاصة رد الرب على اليهود الذين كانوا يقولون: "لو كنا في أيام آباءنا لما شاركناهم في دم الأنبياء فانتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء، فاملأوا أنتم مكيال آبائكم" (مت 23: 30 - 32).
لأنهم أن كانوا مرات عديدة أساءوا معاملة الأنبياء وقتلوهم فما كان ينقصهم لكي يملئوا مكيال انتهاك المقدسات، إلا تلك الجسارة التي جعلتهم يصلبون الرب يسوع، فهكذا تكلم. ولم يكن إلا بحُكمهم بالموت على ذلك الذي كان موضوع النبوات حتى فاض الكيل.
إذن، كما أن هناك مكيالا للأخطاء التي تستحق الجزاء، كذلك يوجد مكيال للأعمال الحسنة والأفكار الصالحة بالنسبة لمن يختار السيدة الشريفة، عمادها التقوى، فيمتلئ أيضا عندما لا ينتقص شيء مما هو حق للإيمان، أو مما تستلزمه الفضيلة.
الثواب والعقاب
وعن هذين النوعين من المكاييل. يقول الرب مخلصنا: "بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم" (لو 6: 38). فالذين ملأوا المكيال الحسن، سوف تُكال لهم المواعيد "ما لم تر عين ولم تسمع أُذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو 2: 9). أما الذين فاض منهم الكيل الممقوت المستوجِب الدينونة بما أتوه من الأعمال والأقوال والأفكار الشريرة، فسوف يُكال لهم جزاء ذلك العقاب العادل الذي به يبعد البعض "إلى الظلمة الخارجية" (مت 8: 12)، "إلى النار الأبدية المُعَدّة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41).
هل ينطبق قول الرب مخلصنا: "كيلًا جيدًا ملبدًا مهزوزًا فائضًا يعطون في أحضانكم" (لو 6: 38). على هذين النوعين من المكاييل، أم ينطبق فقط على الأعمال الصالحة؟
إنه بلا شك يتكلم عن مكيال الأعمال الفاضلة وحده، حيث يعطي الديان الجزاء خيرات مائة ضعف في العدد وفي العظمة "أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر" (أف 3: 20). ولا يرجح أن يعطى مثل هذا المكيال لمن كانت خطاياهم جميعها قد تنزه عن ذكرها "الرب العارف القلوب" (أع 1: 24)، "رقيب الناس" (أيوب 7: 20).
"لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا. إذا لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا" (مز 124: 2-3). إنه لا يُعطي هؤلاء كيلا مُلبَّدا مهزوزًا فائضًا، بل يُعطيهم كيلا بسيطا حتى يُرى كأنه ناقص من حيث الرحمة والصلاح ممن "عيناه تنظران أجفانه تمتحن بني آدم" (مز 11: 4).
المرأة الجالسة
وسط الإيفة ظهرت امرأة جالسة: لم تكن سوى الشر والقوة المضادة التي توسوس به. ثم رأى وزنة رصاص رفعت، ورأى هذه المرأة تطرح وسط الإيفة، لأنها الشر. لماذا إذن لم تبين الرؤيا المرأة بداخل الإيفة فقط، بل بينتها في وسطها؟ ذلك لأنها قد شغلت سلفا محور كل شر حتى استشرى بما كان لها من الاستبداد.
"وطرح ثقل الرصاص على فمها" لأن الرصاص يمثل اللهجة الثقيلة التي ليس لها بارقة، وعلى النقيض من ذلك تلك اللهجة التي لذلك الذي يمتلك الفضيلة لأن الكتاب يقول: "لسان الصديق فضة مختارة" (أم 10: 20).
لا نعجب إن كان الكتاب المقدس يُسمي السلوك الشرير، والفكر الفاسد، والقوة الغاشمة التي تُولدها، امرأة وكما يُسمي الشر هنا امرأة، كذلك في سفر الأمثال يُسمي الجنون امرأة. وهذه هي النصوص، فالحكيم يُعَلّم تلميذه بقوله: "يا ابني أصغ إلى حكمتي. أَمِلْ أُذنك إلى فِهْمي لحِفظ التدابير ولتَحفظ شفتاك معرفة. لأن شفتيّ المرأة الأجنبية تقطران عسلا وحنكها أنعم من الزيت. لكن عاقبتها مُرّة كالأفسنتين حادة كسيف ذي حدين قدماها تنحدران إلى الموت. خطواتها تتمسك بالهاوية" (أم 5: 1-5).
ويرمز في سفر الأمثال نفسه إلى النجاسة بامرأة: "فرأيت بين الجهال لاحظت بين البنين غلاما عديم الفهم. عابرا في الشارع عند زاويتها وصاعدا في طريق بيتها في العشاء في مساء اليوم في حدقة الليل والظلام. وإذا بامرأة استقبلته في زى زانية وخبيثة القلب. صخَّابة هي وجامحة. في بيتها لا تستقر قدماها. تارة في الخارج وأخرى في الشوارع وعند كل زاوية تكمن. فأمسكته وقبلته. أوقحت وجهها وقالت له على ذبائح السلامة. اليوم أوفيت نذوري. فلذلك خرجت للقائك لأطلب وجهك حتى أجدك. بالديباج فرشت سريري بموشى كتّان من مصر. عطرت فراشي بمُرّ وعود وقرفة. هلم نرنو ودا إلى الصباح نتلذذ بالحب" (أم 7: 7 - 18).
وبعد تلك الكلمات الخَدّاعة وما يتبعها في النص يقول الحكيم: "أغوته بكثرة فنونها بملث شفتيها طوحته" (أم 7: 21). ومع ذلك فإنه وإن كان الشاب يدع نفسه لخداعِها فإن المعلم يُشجِّعه ثانية فيقول: "لا يَمِل قلبك إلى طُرقِها ولا تَشِرد في مسالِكها. لأنها طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء. طُرق الهاوية بيَّنها هابطة إلى خُدور الموت" (أم 7: 25 - 27).
ومثل الرذائل، أيضًا الفضائل يُرمَز إليها بالنساء. فيقول الحكيم عن الحكمة: "هذه أحببتها وطلبتها منذ حداثتي والتمست أن أتخذها عروسا لي وصرت لجمالها عاشقًا" (سفر الحكمة 8: 2).
وإذ يتكلم عمن اتخذها لنفسه عروسا يقول: "أما الحكمة فلذي فهم" (أم 10: 23). ثم يوصي ذلك الرجل قائلا: "ارفعها فتعليك. تمجدك إذا اعتنقتها" (أم 4: 8).
وللرجل الفاضل الذي نال ثمرا في الفضيلة يقول الروح القدس: "امرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك" (مز 128: 3). ولا يعني الوحي بذلك امرأة وبنيها، وذلك ما تُبيِّنه الآية التالية: "هكذا يُبَارَك الرجل المُتقي الرب" (مز 128: 4).
لأنه إذا أردنا أن نفهم هذه النصوص بأسلوب بشري، فما كان الكثيرون من أقدس الشخصيات وأتقاهم قد نالوا البركة، لأنهم لم يكونوا متزوجين ولم يكن لهم نسل، ويكفي لكي نقتنع بذلك أن تذكر مثل إيليا النبي العظيم، وإليشع ابنه الروحي بالتقوى، ويمكن أن نقول نفس الشيء عن يوحنا المعمدان، وهناك كثيرون آخرون مارسوا البتولية لكي يهتموا فيما للرب. "فأريد أن تكونوا بِلا هَم. غير المتزوج يهتم في ما للرب كيف يُرضي الرب وأما المتزوج فيهتم في ما للعالم كيف يُرضي امرأته" (1 كو 7: 32 - 33).
وقد رأى القديس يوحنا اللاهوتي في الرؤيا، جموعا عديدة من آلاف الرجال: "الذين لم يتنجسوا مع النساء" (رؤ 14: 4). "وَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ وَنَظَرْتُ وَإِذَا بِامْرَأَتَيْنِ خَرَجَتَا وَالرِّيحُ فِي أَجْنِحَتِهِمَا. وَلَهُمَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ اللَّقْلَقِ فَرَفَعَتَا الإِيفَةَ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. فَقُلْتُ لِلْمَلاَكِ الَّذِي كَلَّمَنِي: [إِلَى أَيْنَ هُمَا ذَاهِبَتَانِ بِالإِيفَةِ؟] فَقَالَ لِي: [لِتَبْنِيَا لَهَا بَيْتًا فِي أَرْضِ شِنْعَارَ. وَإِذَا تَهَيَّأَ تَقِرُّ هُنَاكَ عَلَى قَاعِدَتِهَا" (زك 5: 9-11).
المرأتان الذاهبتان
لنبحث ما عسى أن تكون هاتان المرأتان. هلا يُكنىَ بهما عن رذيلتين من الرذائل، رذيلة معنوية في تعدي وصايا الله، ورذيلة الرأي الفاسد في أمور الإيمان، وما تحركه القوات الشريرة.
ولكن هاتين المرأتين تظهران بأجنحة مليئة بالريح، بذلك الروح الذي يقول عنه بولس الرسول: "التي سلكتم فيها قبلا حسب دهر هذا العالم حسب رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية" (أف 2: 2).
ليس من شك أن الروح الشرير في الأجنحة هو من نوع الروح الشرير الذي طرده الرب يسوع من الإنسان. "إذا الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول ارجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغا مكنوسا مزينا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أُخَرْ أشر منه فتدخل وتسكن هناك. فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله" (مت 12: 43 - 45).
وقد قابل أجنحة المرأتين بأجنحة اللقلق، لكي يُبيِّن أنها ممقوته. لأن هذا الحيوان نجس. ثم يكتب العلامة ديديموس الكثير عن اللقلق وصفاته ويستعملها في معاني رمزية مستفيضة. ثم يتساءل أيُمكِن أن يوجد مكان أكثر ملائمة للفوضى(2) من مكان الإيفة التي تحمل الشر (أي الكيل الفائض شرا)، حتى يجدها الذين يشتهونها؟ أنه يجب أن نهرب من بابل ونتجنبها، لأنه هناك وضعت الإيفة لتكون في متناول من يشتهونها. لذلك يُعلِن الكتاب من يريدون أن يكونوا فضلاء: "اخرجوا من بابل اهربوا من أرض الكلدانيين" (أش 48: 20).
_____
الحواشي والمراجع:
(1) ميزان حق ووزنات حق وإيفة حق وهين حق تكون لكم - لا 19: 26.
(2) رمز بابل. لأن أرض شِنعَار مرتبطة ببابل كما جاء في سفر التكوين: "وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلفه في أرض شنعار" تك 10: 10.