الاعتراف هو الاتضاع
يشهد جميع الآباء أن الاعتراف هو الاتضاع ويحقق ذلك القديس كاسيان (1) في الميمر الذي وضعه على الإفراز (التمييز في الروحيات) حيث يقول أنه بغير إفراز لا يمكن لأحد الخلاص، وسأله سائل عن الإفراز الحقيقي فقال هو أن نكشف للآباء أفكارنا وأعمالنا، ولا نثق البتة بأعمالنا ولا برأينا، لكن في كل شيء من أعمالنا وتدبيراتنا نستشير الشيوخ ونعمل برأيهم ما يشيرون به علينا أن كان ما يتراءى لنا جيدًا أو رديئًا، حينئذ نسلم من جميع مكائد العدو وحيله (من الممكن أن نستشير أحد المرشدين الروحيين ممن نثق أنهم على جانب كبير من الخبرة الروحية وذلك إلى جانب أب الاعتراف، وقال في ذلك الأنبا أشعياء: لا نكشف أسرارك لكل احد لئلا تسبب عثرة لقريبك، اكشف أفكارك لآبائك الشيوخ لتجد معونة بمشورتهم)، وقال أيضًا.. لا تنظر إلى كبير السن بل اعتمد على من له علم وعمل وتجربة ومعرفة روحانية لئلا يزيدك سقما بدلًا من أن يهبك شفاء.
قال أحد الشيوخ: "إن الإفراز الحقيقي لا يكون إلا من الاتضاع والاتضاع هو أن نكشف لأب الاعتراف أفكارنا وأعمالنا، ولا نثق برأينا بل نستشير الشيوخ المجربين الذين نالوا نعمة الإفراز، ونعمل بكل ما يشيرون به علينا، فالذي يكشف أفكاره الرديئة لآبائه فإنها تخف عنه، وكما أن الحية إذا خرجت من موضع مظلم إلى ضوء تهرب بسرعة كذلك الأفكار الرديئة إذا كشفت نبطل من أجل فضيلة الاتضاع، وإذا كانت الصناعات التي نبصرها بعيوننا ونسمعها بأذننا ونعملها بأيدينا لا نقدر أن نمارسها بذواتنا إن لم نتعلمها أولا من معلميها - أفليست إذن جهالة وحماقة من يريد أن يمارس الصناعة الروحية الغير المرئية بغير معلم؟ مع العلم بأنها أكثر خفاء من جميع الصنائع والخطأ فيها أعظم خسارة من كل ما عداها.."
وقال الأب اوغريس Evagrius، لا تنسى انك أخطأت ولو تبت بل اجعل النوح وتذكار الخطية اتضاعًا لك لكي بالاتضاع نشفى الكبرياء".
وقال القديس مكاريوس الكبير كما أن الماء إذا سلط على النار يطفئها ويغسل كل ما أكلته، كذلك أيضا التوبة التي وهبها لنا الرب يسوع تغسل جميع الخطايا والأوجاع والشهوات التي للنفس والجسد معًا"، وكان القديس أرسينيوس مثالًا للاتضاع، لذلك كان دوامًا يَكشِف أفكاره. وقد ذُكِرَ عنه أنه كان يسأل أحد الشيوخ المصريين عن أفكاره، فرآه شيخ آخر وقال له: "يا أبى أرسينيوس: كيف وأنت المتأدب بالرومية واليونانية تحتاج إلى أن تسأل هذا المصري الأمي عن أفكارك؟!" أجابه أنبا ارسينيوس قائلًا: "أما الأدب الرومي واليوناني فأني عارفٌ بهما جيدًا، أما ألفا فيطا التي قد أحسنها هذا المصري فإني إلى الآن لم أتعلمها". وكان يقصد طريق الفضيلة.
كما ذكر عنه انه كان يكشف أفكاره لمرشده الروحي وكان يكتبها في حال جلوسه في القلاية ليكشفها قبل التناول.
لا ينبغي لأحد أن يصنع شيئًا برأي نفسه دون مشورة معلم لأن كثيرين أرادوا أن يعلموا أعمالًا مرضية لله ولم يتواضعوا ولم يستشيروا فضلوا عن الطريق الصحيح إن من يستشير في عمل البر ولا يعمله إلا بمشورة هو المتضع، ومن يفعل ذلك بغير مشورة فهو ضال ومتكبر، وبهذا نعلم ونتحقق أن الاعتراف هو الاتضاع الحقيقي كما ذكرنا، وبغير اتضاع حقيقي لا يمكن خلاص، كما يقول القديس انطونيوس (إني رأيت فخاخ الشيطان منصوبة على الأرض فهمت وقلت من الذي يخلص من هذه كلها)؟! فسمعت صوتًا يقول (الاتضاع هو الذي يخلص من هذه كلها) فالقديس انطونيوس وسائر الآباء متفقون على أن التلمذة والمشورة والاعتراف ضرورية للخلاص وأما من يسير في عبادة الله برأي نفسه وحده دون مشورة معلم فلا تثبت له عادته كما ابتدأ بها.
ويقول أحد الآباء: "الذي يصنع أعمالا بغير مشورة فإن الشياطين يرفعونه بالأكثر، وهكذا يسقطونه إلى أسف سريعًا فالذي يقوم بما يفوق قدرته يقتل جسده وحينئذ ينكسر كالقوس زاده توتره أكثر من اللازم.
ورد في سيرة القديس أنبا موسى الأسود أنه كان يتزايد جدًا في نسكه وفي جهاده - لكن رغم ذلك كانت المحاربات تزداد وقد نبهه مرشده القديس الأنبا ايسيذورس أن يعتدل في كل شيء حتى في أعمال الحياة النسكية، وعليه الانسحاق والمداومة على الاتضاع وان يعتمد على رحمة الله ويتقدم للتناول ولما فعل ذلك خف عنه القتال.
إن كثيرين يندفعون في طريق إذلال الجسد دون إفراز ودون سماع نصائح المرشد منساقين في هذا التيار فيسقطون في تعييرات وفخ إبليس.
ويذكر البستان قصصا كثيرة محزنه عن رهبان تركوا آباءهم في الرب قائلين: (إننا نتوحد ونصوم ونهرب من الناس، فانخدعوا بذلك من الشيطان ولم يصنعوا لا وحدة ولا صومًا ولا هروبًا من الناس - بل تنقلوا بين الأديرة والمدن والقرى وفرح بهم الشيطان وهزأ بهم لأنهم قبلوا خداعة وعملوا مشيئته الخاصة).
ويشهد كتاب الفردوس أن واحدًا - سأل أنبا تادرس ما هو القول الذي قيل في أمثال سليمان الحكيم أن الذين لهم مدبرون يسقطون مثل الورق والخلاص هو بالمشورة الكثيرة؟ فأجاب الشيح القديس وقال: إن الورق في ابتدائه حسن وأخضر وبعد ذلك ييبس ويقع، كذلك الذي له مدبر يستشيره فإنه في بدء سيرته يكون له حرارة في الصوم والصلاة والسهر والسكون ثم بعد ذلك يبتدئ قليلا تبرد تلك الحرارة فيقع مثل الورق، وما أشبهه في ذلك بشجرة مورقة وبأثمارها مخصبة هزتها ريح شديدة فسقطت بغته وتَعَرَّت من أوراقها وأثمارها وبقيت يابسة، وهذا ما يلحق بمن يتدبر برأي نفسه ولا يسمع مشورة الحكماء..
وقوله: "إن الخلاص بمشورة كثيرة" يعنى أن يكون لكل إنسان الأب الروحي وهو الكاهن الذي يثق به ويستشيره في جميع أموره ولا يكتمه شيئًا من خطاياه وأوجاعه لان الإنسان إذا لم يظهر أموره كلها ويكشفها ربما وجد فيه الشيطان خطية واحدة مكتومة فيه فيطرحه بها.. وقد لا يظن ذلك الإنسان أن هذا الفعل خطية -لكن إذا كشف الإنسان أسراره كلها وعمل بما أشير به عليه فلا يقوى عليه الشيطان في شيء أصلا.
ويقول أحد الآباء في ذلك: "لست اعرف للإنسان سقطة إلا إذا صنع هواه، فإذا أبصرت واحدًا وقع فأعلم أنه إنما وقع لأنه كان يقنع برأي نفسه(2).
وجاء في كتاب البستان أن أخا سأل أنبا بيسيرس ماذا أصنع؟ إن نفسي ليس لها دموع ولا تنهد ولا تخاف الله!؟
فقال له الشيخ "اذهب واجلس مع إنسان يخاف الله فهو يعلمك خوف الله".
والقديس برصنوفيوس هو أيضًا يقول. "الذي يريد أن يعرف الطريق إذا لم يسر مع مَنْ يرشده في الطريق من أوله إلى آخره فلن يبلغ البتة إلى المدينة، فاترك هواك خلفك واخضع في كل شيء وأنت تخلص.
وقد حقق بهذا أن التلمذة والطاعة والمشورة هي الاتضاع الحقيقي. وفي موضع آخر يقول في المشورة "اصنع كل شيء بمشورة، وبلا مشورة لا تصنع شيئا، لأنه لا يوجد من لا يحتاج إلى المشورة إلا الله وحده الذي خلق الحكمة".
فالذي يظن انه في غنى عن المشورة فقد شبه نفسه بالله خالق الحكمة، وهذه هي الكبرياء التي سقط بها آدم من الحياة وخرج من الفردوس لكونه أراد التشبه بالله في معرفة الخير والشر.
كذلك من يظن انه يعرف الجيد من الرديء ولا يحتاج إلى مشورة غيره فقد تكبر تلك الكبرياء عينها.
إن كتب الله تعلمنا أن العدو الشرير له استطاعة أن يحسن للإنسان ما ليس هو حسن ويجعله يظن انه حسن ويقبح عنده ما ليس بقبيح ويجعله يظن انه قبيح، ومن اجل هذا وجب على كل واحد منا أن لا يثق برأيه فيما يراه انه حسن أو قبيح بل في كل شيء يستشير أب اعترافه الذي قد اتخذه له في الرب ويؤمن أن كل كلمة يسمعها من فمه ليست من فم المخلوق.. بل من فم الله الخالق الحكيم إذا قبلها بالإيمان بالذي وعدنا لأنه سيكون معنا جميع الأيام إذا كنا نتتلمذ لمن يعلمنا حفظ وصاياه لأنه هكذا قال "تلمذوهم وعلموهم حفظ جميع ما أوصيتكم به وهأنذا معكم جميع الأيام والى انقضاء الدهر".
وواضح انه لا يكفى الاعتراف بالخطية وبالضيقات للآب الكاهن دون طاعة إرشاده ولو كان مخالفًا لهوى قلوبنا، ويجب بالأكثر أن نطيع ونتضع لئلا نسقط فإن الشياطين بالعظمة والمعصية سقطوا وهلكوا.
ونورد هنا الخبر الآتي عن الطاعة:
قيل أن أحد الشيوخ أبصر أربعة مراتب مرتفعة إلى السماء.
الأولى - مريض صابر شاكر الله،
الثانية - صحيح يضيف الغرباء ويُنَيِّح الضعفاء،
الثالثة - منفرد بالبرية مجتهد،
الرابعة -تلميذ ملازم لطاعة أبيه من أجل الله، ووجد أن مرتبة التلميذ أسمى من المراتب الثلاثة الأخرى- وزعم أنه سأل الذي أراه ذلك قائلًا: كيف صار هذا هكذا وهو أصغرهم فأصبح أكبرهم مرتبة؟ فقال "إن كل واحد منهم يعمل الخير بهواه أما هذا فقد قطع هواه لله وأطاع معلمه لأجل الله أفضل الفضائل".
_____
الحواشي والمراجع:
(1) راجع سيرته في كتابنا "تعاليم القس دانيال".
(2) الأوجاع غير الخطايا، فالخطايا هي عمل الأوجاع بالفعل، والأوجاع هي سبب الخطايا، فقد يوجد إنسان فيه الأوجاع كالغضب الضار وشهوة الشر ولا يستعملها - ص 110 البستان، الجزء الثاني