طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض
كانت الوداعة من الصفات المميزة في حياة السيد المسيح في خدمته. وكان يدعو تلاميذه لاقتناء هذه الفضيلة. فقال لهم: "تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت11: 29).
الوداعة وتواضع القلب لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، وذلك في المفهوم السليم لحياة الفضيلة.. كل وديع حقيقي هو متواضع القلب، وكل متواضع قلب حقيقي هو وديع.
فهناك من يتصرف خارجيًا بأسلوب وديع، ولكن قلبه في الداخل غير متضع. وربما تمدحه أفكاره بصورة تقود إلى العظمة الداخلية.. ولهذا فوداعته ليست حقيقية.
وهناك من الجانب الآخر من يفتكر أن قلبه متضع، ولكنه لا يسلك بوداعة، فاتضاعه ليس حقيقيًا.
فالوداعة الكاملة هي وداعة المتواضعين في قلوبهم، كما أن الاتضاع القلبي الكامل هو الذي يتشح بالوداعة ويتحلى بها.
الإنسان الوديع يكون مريحًا في معاملاته، محبوبًا من الناس.. ومحبوبًا من الله.
لهذا قال الآب عن السيد المسيح في سفر إشعياء: "هوذا فتاي الذي اخترته، حبيبي الذي سُرت به نفسي.. لا يخاصم، ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ" (مت12: 18-20، انظر إش42: 1-3).
ونفس الكلمات نطق بها الآب السماوي أثناء عماد السيد المسيح: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت3: 17). فكلمة "ابني"التي وردت في الإنجيل هي نفسها كلمة "فتاي"التي وردت في سفر إشعياء.
وقد سر الآب به لأنه "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" وكلها علامات الوداعة.
وقد جاء السيد المسيح إلى العالم معلِّمًا للوداعة، بعد أن فقدت البشرية الصورة الجميلة التي خلقهم عليها "على صورة الله.. ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك1: 27).
بدأ العنف يدخل إلى العالم بعد سقوط الإنسان. وقام قايين على أخيه الصديق هابيل وقتله. وبدأت الحروب والمخاصمات والكراهية تنتشر في العالم. وفقد الإنسان صورته الهادئة الوديعة التي خلقه الله ليحياها.
وتفاقم العنف في حياة الإنسان حتى أصبح أحيانًا يتلذذ بتعذيب أخيه الإنسان.. وصار الأباطرة ومن حولهم يتمتعون برؤية المصارعة الدموية في حلبات المصارعة. وأحيانًا كان الإنسان يتغنى ويعزف الألحان على صوت أنين الآخرين وعذاباتهم.
كانت البشرية في أشد الاحتياج لرؤية ذلك الوديع المتواضع القلب.. الذي بالرغم من قوته وقدرته الإلهية، لم يستخدم العنف في رسالته على الأرض.
كان السيد المسيح ذا طلعة بهية مهابة، ولكنه كان وديعاً بصورة تفوق الوصف. وقد كُتِبَ عنه: "ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه" (إش53: 7).
حينما كُلل بالشوك، وحينما جردوه من ثيابه ومدوه للجلد بالسياط، وحينما سخروا منه ولطموه قائلين تنبأ من لطمك، وحينما وضعوا عليه خشبة الصليب وخرج وهو حامل صليبه، وحينما مدوه على الصليب وسمروا يديه ورجليه، وحينما استهزأوا به وهو معلّق على الصليب وفغروا عليه أفواههم.. في كل هذا كان وديعًا مسالمًا مثل الحمل فلم يفتح فاه، بل كان يشفع أمام الآب من أجل خلاص العالم، ومغفرة خطايا البشرية بما في ذلك صالبيه، لكي يعلن أن الطريق إلى المغفرة بالتوبة مفتوح أمام الجميع بقوة الدم الزكي الذي سفك على الصليب.
فهو بحق قد صار كاهنًا لأنه غفر خطايا كثيرين وشفع في المذنبين، مدعوًا من الله رئيس كهنة إلى الأبد على رتبة ملكي صادق.
كان مجيء السيد المسيح إلى العالم هو نقطة تحول من العنف إلى الوداعة، ومن الكراهية إلى المحبة، ومن العداوة إلى المصالحة والسلام.
ميراث الأرض
ما الذي قصده السيد المسيح بقوله إن الودعاء يرثون الأرض؟
إن الإنسان الوديع إذ يكتسب محبة الآخرين فإنه يملك قلوبهم وهذا هو ميراث للأرض.. بل إن ذكراه تبقى إلى الأبد،وتحيا في قلوب الذين يسمعون بسيرته. مثل سير القديسين التي هي شهية وحلوة ومحبوبة من الناس، حتى إنهم يطلقون أسماءهم على الكنائس والأديرة ويتسمون بأسمائهم.
كذلك فإن كرازة الودعاء تستطيع أن تجتذب الكثيرين من الظلمة إلى النور ومن عدم الإيمان إلى الإيمان الحقيقي ليتمتعوا بخيرات الحياة الأبدية. وقد أوصى الرسول بالوداعة في عمل الكرازة حينما قال: "مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة وخوف" (1بط3: 15). وحينما يخلص البعض بكرازة الودعاء فإن الودعاء يكونون قد ورثوا الأرض. ونفس هذه العبارة قالها الآب للسيد المسيح كمخلص للأمم: "اسألنى فأعطيك الأمم ميراثك" (مز2: 8).
والودعاء الذين يتشبهون بالسيد المسيح ويستحقون أن ينالوا قيامة الأبرار يرثون الأرض أيضًا.
فالإنسان حينما أخطأ قال له الرب: "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تك3: 19) بمعنى أن الأرض هي التي ترث الإنسان عند موته.
ولكن السيد المسيح إذ انتصر على الموت وصار باكورة الراقدين "فكذلك الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه" (1تس4: 14)، وبهذا يعود الجسد الذي ابتلعته الأرض إلى الحياة مرة أخرى.. الروح تأخذ جسدها معها إلى حياة أبدية وبهذا يكون الإنسان البار الذي سلك بالروح، قد استطاع أن يأخذ جسده المأخوذ منها أو المدفون فيها.. أخذه معه إلى ملكوت السماوات.
أيضا يشير كلام السيد المسيح عن ميراث الأرض إلى الأرض الجديدة كقول الكتاب في سفر الرؤيا "رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا" (رؤ21: 1). هذه الأرض الجديدة هي ميراث للأبرار للحياة الأبدية. وعن مثل هذه الأرض تكلّم السيد المسيح لأن الأرض الحالية سوف تزول.