الرحمة باب السماء
لمحات مضيئة من حياة الراهبة كيريا اسكندر
نشأتها وحياتها الأولى :
ولدت الطفلة أوجينى اسكندر (وهذا كان اسمها قبل الرهبنة) عام 1910 م ببلدة طلخا بمحافظة الدقهلية من والدين تقيين ودرست بإحدى المدارس الأجنبية بالمنصورة حتى أتقنت اللغة الفرنسية تماما، وكان والدها اسكندر يوسف يعمل صرافا، ملاْ الرب قلبة بالرحمة والعطاء ونمت هذه الفضيلة في حياته لدرجة انه كان يعطى من اعوازة ويستدين لكي يعطى المحتاجين. وكان لا يرفض سؤال أي فقير يطلب منة واضعا امامة قول الرب "كل من سألك فأعطه" (لو 30:6) وكان لهذا تأثير كبير في نفس ابنته اوجينى فانغرس في داخلها حب العطاء حتى عاشت هذه الفضيلة منذ بداية حياتها. وعندما كانت تعطى الفقراء فبسخاء ودون تمييز أو تفكير حتى كانت تضع مبلغا من النقود في جيبها وتعطى كل من يسألها دون النظر إلى كمية النقود، وذلك حتى لا تعرف شمالها ما تفعلة يمينها. وكانت تشترى الأقمشة وتعطى الأجر للخياطة لتفصلها ثم توزعها على الفقراء.
أما عن فترة شبابها المبكر فلم تكن صلتها بالرب يسوع قوية بل عاشت حياة العالم والاهتمام بالزينة الخارجية وارتداء الملابس على احدث الموديلات، و كانت تشجع صديقاتها على الذهاب للسينما معها والاهتمام بالأمور العالمية .
**دعوة السماء :
في إحدى المرات ذهبت اوجينى كالعادة للمصيف وذهبت لشاطئ البحر بالإسكندرية وهناك كانت نعمة الرب تنتظرها لتعمل فيها وتغيرها ولم يكن في وسع اوجينى أن تقاوم إرادة الرب بل خضعت لها. فعندما أمسكت إنجيلها وبدأت تقرأ فيه شعرت بدافع قوى داخلها وأحست برغبة في الزهد وفكرت في زوال هذا العالم ومتعته الباطلة.
و لوفتها تركت الشاطئ وعادت إلى المنصورة وقررت أن تعيش للرب طول أيام حياتها، و هكذا بدأت تتحول من الاهتمام الشديد بالزينة الخارجية إلى الاهتمام بالقلب الداخلي .
**تلمذتها:
تعرفت اوجينى على المتنيح الأنبا تيموثاؤس مطران الدقهلية الأسبق وتتلمذت على يدية واهتمت بالمواظبة على حضور القداسات والاجتماعات بكنيسة الملاك ميخائيل بالمنصورة، وبدأت تنمو في الطريق الروحي وأحبت الصلاة بكل قلبها فصارت تصلى كثيرا لدرجة أنها كانت تستيقظ في منتصف الليل وتركع وترفع قلبها للرب بخشوع في إحدى حجرات الشقة التي خصصتها لذلك. وكان لسان حالها يقول مع المرتل "كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" (مز1:42)
**رهبنتها وذهابها إلى الدير :
وبعد فترة أحست إنها تريد أن تعطى لالهها من حبها اكثر واكثر وتعطشت أن تقدم حياتها بالكامل ذبيحة حب لمن بذل ذاته من اجلها، ووضعت أمامها قول السيد المسيح له المجد "من احب أبا أو أما اكثر منى فلا يستحقنى "(مت 37:1) وقولة أيضا "كل من ترك بيوتا أو اخوة أو أبا أو أما ...من اجل أسمى يأخذ مائة ضعف ويرث الحيلة الأبدية "(مت 29:19) وبذلك بدأت فكرة الرهبنة تتملك على قلبها ومشاعرها فصارحت أباها الروحي الأنبا تيموثاؤس بما تفكر فيه. فلما تأكد من صدق عزمها على هذا الطريق وشعر حقا إنها ستكون أناء مختارا أرسلها إلى أحد الأباء الرهبان الذي رهبنها بأسم كيرية "( وهي كلمة يونانية معناها "سيدة "ذكرت في رسالة يوحنا الثانية) .”
وقد تمت الرسامة يوم الجمعة الموافق 20 يونيو عام 1931 ببلدة شربين مركز المنصورة. وكانت الام كيرية تختلي كثيرا في حجرتها الخاصة التي رتبتها على هيئة قلاية بمنزلها، ولما كان من الصعب عليها في المنزل أن تحيا حياة السكون والخلوة الكاملة قررت أن تترك المنزل وتذهب إلى أحد الأديرة فتكلمت مع نيافة الأنبا تيموثاؤس في هذا الأمر، فلما رأي جدية جهادها ساعدها وأعطاها توصية للذهاب إلى دير الشهيد أبى سيفين للراهبات بمصر القديمة، فقبلتها الام الرئيسة واستبشرت خيرا بها وقالت لها "انك سوف تكوني بركة في هذا الدير" وكان هذا في 22 يناير 1933م
ولما علم والدها بذلك حاول بكل الطرق أن يقنعها بأن تعود لمنزلها وتتعبد فيه، و لكنها رفضت بشدة وصممت أن تحيا حياة الرهبانية في مناخ الدير، واضعة نصب عينها قول الكتاب "ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى يصلح لملكوت الله "(لو 62:9)
** حياتها داخل الدير :
كانت الام كيرية في الدير تسلك بمحبة وأتضاع وبذل، و أحبت أخواتها الراهبات بكل قلبها ووضعت في داخلها أن تصير خادمة لهن كل أيام حياتها، فأخذت تعمل في الدير بكل قوتها بفرح وبلا تذمر. وكانت تخدم الراهبات المرضى والمسنات كما كانت تعمل بمطبخ الدير وتقوم بأعمال النظافة المتنوعة وهي تقول "أنا كنت متكبرة في العالم لكن حياة الدير هي إلى جابت أنفى الأرض الدير هو إلى علمني كل حاجة " .
وكانت تحرص على أن تقوم بأحقر الأعمال في الدير التي تنفر منها بعض الأمهات. فصادف هذا العمل ارتياحا من أمهات الدير اللواتي قدرن لها حسن صنيعها.
واكتسبت حب وثقة الجميع حتى أن الام الرئيسة كانت تجعلها تقراء لها الإنجيل والكتب المقدسة يوميا لأنها كانت ضريرة .
وقد استرشدت في حياتها بأقوال قديسين كثيرين مثل الأنبا انطونيوس والأنبا شنودة رئيس المتوحدين، و كانت تداوم على الصلوات والاصوام والتناول من الأسرار المقدسة . كما كانت وديعة متسامحة لا تسلم نفسها للغضب مهما واجهتها الصعاب .
وبالجملة كانت تقضى طول النهار في العمل وجزءا كبيرا من الليل في الصلوات والمطانيات وقراءة الكتب المقدسة. فكانت حياتها في الدير محل تقدير كل الراهبات، ومن اجل ذلك حسدها عدو الخير وأراد إضعافها فرأت رؤية وهي راهبة إذ بثعبان ضخم جدا قال لها (وراك يا كيرية والزمن طويل) ولكنها رغم ما تعرضت له من محاربات كثيرة إلا أنها انتصرت ببساطتها ووداعتها ونعمة الروح القدس الساكن فيها.
ومما هو جدير بالذكر أن الام كيرية ذهبت لزيارة الأراضي المقدسة بالقدس في عام 1947.
وبعد فترة تتلمذت على يد القمص مينا المتوحد(البابا كيرليس السادس) الذي كان يخدم في كنيسة القديسين اباكير ويوحنا بمصر القديمة في ذلك الوقت وصار أب اعترافها حتى نياحتة، ولثقته بها عهد إليها بعمل الاباركة التي كان يستخدمها قداستة خاصة وقد أحبت هذا العمل وتفوقت فيه كما شهد لها كثيرون.
و مما يزيدنا فرحا بهذه الام القديسة أنها وهي لاتزال راهبة بدير أبى سيفين لبست الاسكيم المقدس رغم صعوبة قانونة. والذي ألبسة لها كان القمص مينا المتوحد وذلك لما رآه فيها من جدية ومحبة واتضاع وزهد، فقد أجهدت نفسها في الصلوات والميطانيات التي كانت تصل إلى 550 ميطانية في اليوم .
و هكذا كانت حياتها مملؤة بالفضائل إلى أن سمحت العناية الإلهية باختيارها رئيسة لدير الشهيد العظيم مارجرجس بمصر القديمة.
**آلام كيرية رئيسة لدير مارجرجس:
"كنت امينا على القليل فأقيمك على الكثير "(مت 21:25)
و لما رأى الرب أمانتها ارشد قداسة البابا كيرلس السادس باختيارها رئيسة على دير مارجرجس للراهبات بمصر القديمة. فعرض عليها الأمر فلم توافق لشعورها بعدم استحقاقها لهذه المسؤولية الكبيرة فمهد لها الأمر بان عينها أمينة للدير لمدة ثلاثة شهور، فنالت محبة الراهبات جميعا وشعرن بأمومتها الروحية لهن فتمسكن بها فخضعت لارادة الله وتمت الرسامة في يوم 26 سبتمبر عام 1961 (تذكار عيد الصليب المجيد) بيد المتنيح الأنبا ثاؤفيليس رئيس دير السريان والمتنيح الأنبا كيرلس أسقف البلينا. وكانت أول رئيسة ترسم لدير راهبات في عهد قداسة البابا كيرلس السادس.
و هكذا بدأت الام كيرية تحمل نير الخدمة وتسير طريق جهاد جديد في عمل مقدس جليل القدر وهو خدمة الدير .
وكان الدير في ذلك الوقت بلا إمكانيات فطلبت معونة الرب الذي هو معين لكل الملتجئين إلية .......و بالفعل تم إنشاء قلالى كثيرة بالدير وبناء منارة ونمت حركة التجديد والتعمير فيه .
و لم يكن بالدير في ذلك الوقت كنيسة بل كانت الراهبات يصلين في كنيسة الشعب وهي كنيسة الشهيد مارجرجس المجاورة للدير، فأنشأت كنيسة للدير بالدور الأول وهي التي تحولت لمكتبة فيما بعد، ثم أعانها الرب وتم إنشاء كنيسة بالدور الأرضي خاصة لراهبات الدير. أما عن المكتبة فكان لها الفضل الكبير في نشاءتها والاهتمام بها وخاصة بمخطوطات الدير بعد أن كانت عرضة للضياع وعملت على تنميتها وساهمت معها الراهبات.
كما أنشأت مشغلا للراهبات لكي يكون لهن عمل يد يشغلن به وقتهن، لان عمل اليد وصية رهبانية هامة وأساسية في حياة الرهبنة كما قال الابأ الرهبان الأوائل .
قامت بشراء ماكينات للتطريز والتريكو والخياطة وكان بالمشغل أقسام كثيرة منها التريكو والتطريز وعمل ملابس الكهنة والشمامسة وصناعة الجلد من صلبان ومناطق وشنط وغير ذلك.
و كان يشجعها باستمرار على حركة التعمير شفيعها الشهيد العظيم مارجرجس حيث قالت مرة أنة ظهر لها في حلم على هيئة ضابط منير وقال لها "أنا محافظ على الدير" وهكذا كان هو خير معين ومشجع لها.
**أمومتها لبناتها الراهبات :
كانت آلام كيرية تحنو على بناتها الراهبات وتحثهن على التمسك بالفضائل الرهبانية والسير في طريق آبائنا القديسين فكانت قدوة لهن في الصلاة والصوم وحب الكنيسة وصلاة التسبحة وكانت تقيم لهن الاجتماعات الروحية صباحاً ومساءاً لقراءة مخطوطات سير القديسين حيث كانت تعشق أقوالهم معتقدة أنها كنز ثمين للراهب وكانت تواظب على مواعيد الصلاة صباحا ومساء مع مجمع الراهبات مهما يكن لديها من مهام.
وكانت تربطها بالراهبات محبة قوية جدا استمرت منذ رسامتها رئيسة للدير حتى نياحتها، ففي الأيام الأولى لرياستها للدير سألها قداسة الباب كيرلس السادس كيف حال الراهبات معك فأجابته ............ ... "أنا مش قاعدة وسط راهبات أنا قاعدة وسط ملائكة " وكانت في أيام الأعياد تمر على قلاية كل راهبة لتعيد عليها وتقدم لها بركة العيد بنفسها وأن لم تجد إحداهن تظل تنتظرها على باب القلاية حتى ترجع. ومع اهتمامها الشديد بحياتهن الروحية كانت تهتم بكل احتياجاتهن الجسدية .
+ مرة مرضت راهبة وحاولت الأم كيرية الاتصال تليفونيا بأي طبيب فلم تتمكن وآتى المساء وهي في حيرة من أمرها فظلت تبكى مشاركة للراهبة في آلامها ولما لم تستطيع الانتظار ارتدت ملابسها للخروج لتبحث عن طبيب لولا أن أتى كاهن الدير والشماس بالصدفة في ذلك الوقت وتمكنا من الاتصال بطبيب. ولم تستريح إلا بعد أن اطمأنت على ابنتها المريضة.
+ وفي وسط آلامها على فراش الموت أرادت الراهبات أن يشغلنها عن آلامها فأبلغنها بمرض إحدى الراهبات، فما كان منها إلا أن نسيت آلامها وظلت تنادى بأن يحضرن الطبيب للراهبة المريضة .
+ وذات مرة أصيبت إحدى الراهبات فجأة بمرض في عينيها ولم تستطيع أن تقراء ولا أن ترى الأشياء بوضوح، و في أول قداس بالدير بعد هذه الحادثة وضعت آلام كيرية اسم هذه الراهبة فوق المذبح وصلت من اجلها بأيمان ففي نفس اليوم استطاعت هذه الراهبة أن تفسر قراءة بعض الكلمات ثم قليلا قليلا استعادت بصرها مرة أخرى ببركة صلوات أمنا كيرية.
صلواتها تكون معنا جميعا آمين.
فضائل الام كيرية
الام كيرية و فضيلة الرحمة :
" من يرحم الفقير يقرض الرب و عن معروفة يجازيه " (أم:19-17 )
امتازت الام كيرية بفضائل كثيرة ولكن الفضيلة الأولى التي تميزت بها بالأكثر هي الرحمة والعطاء. فكان قلبها يفيض بمحبة عجيبة نحو اخوة الرب من الأيتام والأرامل، وكانت تعطى الجميع بلا تفرقة، حتى الحيوانات نالت جانبا كبيرا من أعمال رحمتها.
إحدى الراهبات طلبت منها ذات مرة أن يقللوا كمية الخبز حتى لا تلقى بالقمامة فأجابتها بأن القطط و الكلاب تعيش على هذه البقايا.
كانت تعطى بسخاء شديد حتى تعجب البعض من سخائها وتذمر البعض الأخر ولكنها لم تلتفت لهم واستمرت في عطائها حتى إنها كانت تعطى من أكلها لاخوة الرب، وكان ذلك بفرح واضعة أمامها قول الكتاب "المعطى المسرور يحبة الرب (2 كو9-7) .
كانت تحب الفقراء جداً وكانوا يحبونها. وكانت تحب أن تسمع دعاء الفقير لها. وقد خصصت يومي الأحد والجمعة من كل أسبوع لاخوة الرب لتعطيهم جميع احتياجاتهم بقدر الإمكان.
وكانت تعطى بلا فحص فقد أتتها سيدة غير فقيرة اكثر من مرة طالبة مبلغا من المال وكانت معروفة للراهبات وأعطتها الام كيرية في كل مرة بفرح رغم تذمر البعض شاعرة إنها تعطى السيد المسيح.
ومن فرط محبتها للعطاء كانت تحمل في جيبها دائما نقود فكه لتعطى من يسألها.
وفي إحدى المرات لم يكن معها نقودا فكه لأطفال اخوة الرب ففوجئت بإحدى السيدات تجئ للدير وتقدم مبلغا جنية فكه فئة خمسة قروش وعشرة قروش فاندهشت الام كيرية من ذلك و سألتها: لماذا أحضرت هذه النقود فكه؟ فقالت إني كنت نذرت جنية لمارجرجس ولكنى نسيته وفي هذه الليلة رأيت الشهيد مارجرجس في حلم وهو يقول لي "اذهبي إلى الدير يوم الجمعة وقدمي النذر الذي نذرتية بحيث يكون من فئة خمسة قروش وعشرة قروش" ففرحت الام كيرية لما سمعت ذلك وشعرت أن الشهيد مارجرجس يشجعها ويساعدها على أعمال الرحمة.
في إحدى الأيام قرع باب الدير أحد المتسولين و سأل صدقة فقالت الام كيرية لإحدى الراهبات "ضعي يدك في جيبي وأعطية ما تجدين" فلما وضعت يدها في الجيب وجدت جنيهين فترددت أن تعطيهما له ولكن الام كيرية صممت أن تعطية المبلغ دون تقلل منة
كانت الام كيرية تحب أطفال اخوة الرب جدا وخصصت صندوقا وضعت فيه قروشا لهؤلاء الأطفال. و قد تعود الطفل أن يأتي إليها صباح كل يوم ليأخذ القرش (هذه الأحداث كانت في الستينات والسبعينات حينما كان للقرش قيمة في هذا الوقت) والبعض كان يأتي عدة مرات يوميا فكانت تعطية كل مرة بفرح. وكان الأطفال يزحمونها لكي يأخذوا منها القرش حتى أشفقت إحدى الراهبات من زحام الأطفال حولها ولكنها عاتبتها قائلة السيد المسيح أوصى بهؤلاء الأطفال و قال "دعوا الأطفال يأتون إلى و لا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (مت 14:19).
في يوم أحد مر على باب الدير أحد باعة المقشات الليف الصغيرة فسألته الام كيرية عن ثمن المقشة أجابها "ثلاثة قروش" فلم توافق على الثمن فأجابها بان ثمن التكلفة ولا يستطيع أن يقلل السعر، معتقدا إنها تريد أن تنقص من ثمنها ولكنها قالت له "هو في حاجة دلوقتى بثلاثة قروش! سأشتريها بخمسة قروش" واشترت منة في هذا اليوم خمس عشرة مقشة، فدعا لها البائع كثيرا. فلما سألتها الراهبات عن ذلك أجابت قائلة "أن الحسنة الخفية في البيع و الشراء".
صلواتها فلتكن معنا جميعا امين.