منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 11 - 03 - 2014, 04:22 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مقدمة


كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ببركة صلوات وتوجيهات وتعاليم قداسة البابا شنودة الثالث؛ نقدّم هذا الكتاب وهو تجميع ما نشرناه في مجلة الكرازة من مقالات تحمل عنوان "المسيح في سفر إشعياء" وعددها خمسون مقالًا. وأضفنا إلى ذلك بعض الوثائق التاريخية من مخطوطات سفر إشعياء؛ أخذنا تصريحًا بنشرها من مصادرها الحالية.
وسفر إشعياء غني بالنبوات عن السيد المسيح ولا يكفيه مثل كتابنا هذا؛ ولكننا نقدّم أمثلة لما يمكن أن نراه من خلال قراءتنا المتواضعة لهذا السفر النفيس.
الرب يجعل هذا الكتاب سبب خلاص أو بركة لكثيرين بصلوات قداسة البابا شنودة الثالث أدام الله رعايته للكنيسة المقدسة.
بيشوى
مطران دمياط وكفر الشيخ والبرارى
ورئيس دير الشهيدة العفيفة دميانة
والأستاذ بمعهد الدراسات القبطية
والكلية الإكليريكية
رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:24 PM   رقم المشاركة : ( 2 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الأول: مقدمة تاريخية عن السفر ومخطوطاته

النبى الإنجيلي

البعض يلقبون إشعياء بلقب "النبي الإنجيلي" وهي تسمية مجازية لأن الأناجيل أربعة فقط. ولكن استخدمت هذه التسمية المجازية للتعبير عن وضوح وكثرة النبوات التي وردت في هذا السفر عن السيد المسيح.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ونشكر الله فقد تم اكتشاف نسخة كاملة من سفر إشعياء باللغة العبرية مع الضمائر باللغة الآرامية يعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثاني قبل الميلاد في وادي قمران بالأردن في منطقة البحر الميّت، بواسطة بعض رعاة الغنم العرب الأردنيين، ومعه بعض أجزاء من أسفار أخرى للكتاب المقدس العهد القديم بداخل مغاير حيث تم إخفاؤها بواسطة جماعة اليهود الأسينيين في قدور مغلقة من الفخار في هذه المغاير أثناء هجوم جيوش الإمبراطورية الرومانية على هذه البلاد.
وقد حصلنا على نسخة كاملة من سفر إشعياء المذكور من مخطوطات قمران. وحصلنا أيضًا على دراسة مقارنة باللغة الإنجليزية بين نص هذا السفر المكتوب على لفائف من الجلد، وبين النص المازورى الذي حصلنا عليه ضمن نسخة مصوّرة كاملة من العهد القديم التي قام الكتبة المازوريين بكتابتها سنة 1008م باللغة العبرية في مجلّد من الجلد. وتنقلت بين البلاد حتى وصلت وحُفظت في متحف سان بطرس بيرج (ليننجراد) بروسيا. وهؤلاء الكتبة هم من تلاميذ "هارون بن آشير" المشهور بين كتبة العهد القديم المازوريين. كما حصلنا على نسخة أقدم من السفر ضمن مخطوطة حلب "The Aleppo Codex" التي كتبها هارون بن آشير بنفسه سنة 935م. وحاليًا محفوظة في الجامعة العبرية بتل أبيب.
وبمقارنة نص سفر إشعياء في مخطوطات قمران وفي مخطوطتى المازوريين، نجد تطابقًا واضحًا بين النصين. وهو نفس النص الموجود في الترجمة العربية البيروتية المنتشرة في الوقت الحاضر لهذا السفر العظيم.
وسوف ننشر بمشيئة الرب نص الدراسة المقارنة التي أجراها أحد العلماء بالترجمة من العبري إلى الإنجليزي بين نص مخطوطة قمران ونص المخطوطات المازورية للسفر كله. ولكن سوف نركّز على النبوات الواردة في الإصحاحات السابع والتاسع والثالث والخمسين لأهميتها الخاصة.
وقد حصلنا على تصريح بنشر صورة ضوئية للإصحاح الثالث والخمسين من متحف ليننجراد بروسيا، أما مخطوطة حلب فهي على شبكة الإنترنيت، ومخطوطة وادى قمران على قرص إلكتروني؛ تم استئذان ناشره على نشر هذا الإصحاح. وسوف يجد القارئ هذه الصور الضوئية بألوانها الطبيعية ضمن هذه المقدمة.
* الإصحاح الثالث والخمسون من سفر إشعياء من مخطوطة ليننجراد التي حُفظت في متحف سان بطرس بيرج بروسيا (تم كتابتها في معبد عزرا لليهود بمصر القديمة سنة 1008م)
* الإصحاح الثالث والخمسون من سفر إشعياء من مخطوطة حلب The Aleppo Codex، (تم كتابه سنة 935م بيد هارون بن آشير قائد مدرسة الكتبة المازوريين اليهود)
* الإصحاح الثالث والخمسون من سفر إشعياء من مخطوطات قمران (مخطوطة من القرن الثاني قبل الميلاد)
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:28 PM   رقم المشاركة : ( 3 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الثاني: ظهور الابن الوحيد في سفر ﺇشعياء

السيد المسيح على عرشه

بدأ سفر إشعياء بالنص التالي "رُؤْيَا إشعياء بْنِ آمُوصَ الَّتِي رَآهَا عَلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ فِي أَيَّامِ عُزِّيَّا وَيُوثَامَ وَآحَازَ وَحَزَقِيَّا مُلُوكِ يَهُوذَا" (إش1: 1).
ثم جاء إلى رؤياه التي شاهد فيها السيد المسيح فقال: "فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ" (إش6: 1).
الذى رآه إشعياء النبي هو السيد المسيح قبل تجسده من العذراء مريم. رآه جالسًا على عرشه في الهيكل ويطير حوله السرافيم وهم يسبّحون تسبحة الثلاثة تقديسات، وشَعَر إشعياء بالخوف؛ لأنه إنسان خاطئ وعيناه قد أبصرتا الملك رب الجنود.
وقد وصف الموقف كما يلى:
"رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثنيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثنيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثنيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ. فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ" (إش6: 1-7).
ونلاحظ في هذا النص الملاحظات التالية:
1- إن السيد الجالس على الكرسي العالي يحمل لقب "الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ" وهو من ألقاب الله الخاصة به وحده.
2- إن الذي رآه إشعياء ليس هو الآب السماوي لأن يوحنا الرسول الإنجيلي يقول: "اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلإله الْوَحِيدُ الجنس الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو1: 18) والمقصود بقوله "الله" في هذا النص؛ هو الله الآب. بينما يقول إشعياء "لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ" فالذي رآه هو الابن بالتأكيد.
3- إن الذي رآه إشعياء هو واحد من الأقانيم الثلاثة لأن الملائكة (السرافيم) قد سبّحوا قائلين: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ"، ويستحيل أن تُقال تسبحة الثلاثة تقديسات إلا للواحد من الثالوث القدوس.
4- إن الكرسي العالي في هذه الرؤيا لم يكن في السماء بل على الأرض. لأنه يقول عن السيد الجالس إن أذياله تملأ الهيكل، كما أن التسبيح قيل فيه فقط أن "مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ"، ومعروف طبعًا أن مجد الرب يملأ السماء أيضًا، ولكن هذه الرؤيا كانت على الأرض. كما ذُكر اهتزاز أساسات العتب وامتلأ البيت دخانًا. وكل هذا يدل على أن الرؤيا كانت في هيكل الرب في أورشليم في ذلك الزمان. يُضاف إلى ذلك وجود المذبح وعليه الجمرات المتقدة؛ وهذا أيضًا كان في خدمة الهيكل بأورشليم.
5- إن تطهير فم النبي إشعياء بجمرة من على المذبح يرمز إلى سر الافخارستيا؛ حيث يؤخذ التناول من جسد الرب ودمه من على المذبح بواسطة الكاهن. ويُعطى خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه. وكل ذلك يجرى في الكنيسة الحاضرة هنا على الأرض كعربون للحياة الأبدية؛ وتكون الملائكة حاضرة حول المذبح في خدمة القداس الإلهي في الكنيسة التي هي بيت الله الحالي في الزمان الحاضر.
6- امتلأ البيت دخانًا، وهذا يرمز إلى البخور الذي يملأ الهيكل عند إصعاد القرابين في الكنيسة.
7- إن إشعياء النبي قد اعترف بخطاياه وخطايا شعبه قبل أن ينال التطهير والتكفير. وقد سمع السرافيم اعترافه، فلم يقدّم إشعياء هذا الاعتراف للسيد الرب وحده. لذلك قام الملاك الذي يرمز إلى خادم ذبيحة القداس الإلهي بأخذ الجمرة من على المذبح بملقط؛ ومس بها فمه. وهذا يرمز إلى خدمة الأسقف في الكنيسة (ملاك الكنيسة) بمساعدة القسوس في سر الافخارستيا.
وأكمل إشعياء النبي رؤياه فقال: "ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟ فَأَجَبْتُ: هاأنذا أَرْسِلْنِي" (إش6: 8).
شيء رائع أن يستمع إلى الدعوة ويستجيب لها بعد أن تطهّر من خطاياه بقوة المذبح. وها هو صوت الرب ينادى باستمرار "مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟".. ألم يقل السيد المسيح إن "الْحَصَادُ كَثِيرٌ وَلَكِنَّ الْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَاطْلُبُوا مِنْ رَبِّ الْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إلى حَصَادِهِ" (مت9: 37، 38)؟
ليتنا نكون مستعدين للاستماع إلى صوت الرب ودعوته، ومستعدين أن نعمل معه في بناء الملكوت ونردد مع إشعياء إذ يدعونا عندما نكون مستعدين "هاأنذا أَرْسِلْنِي"..
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الارتباط بين الرؤيا وتابوت العهد

كان تابوت العهد يوضع داخل قدس الأقداس في خيمة الاجتماع التي صنعها موسى النبي حسب أمر الرب، وأيضًا بعد ذلك في الهيكل الذي بناه سليمان الملك في أورشليم.
ومن الأمور اللافتة للنظر أن الملائكة الذين ذكرهم إشعياء في رؤياه؛ قد ورد عنهم عبارة "وَهَذَا نَادَى ذَاكَ"، مما لا يخفى على القارئ أنه يتكلم عن ملاكين يتبادلان تسبحة الثلاثة التقديسات.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
في قبر السيد المسيح، بعد قيامته المجيدة من الأموات، أبصرت مريم المجدلية "ملاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِدًا عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ" (يو20: 12). وأيضًا قبل ذلك النسوة اللواتى أتين إلى القبر بعد قيامة الرب ووجدن الحجر مدحرجًا عن القبر "فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إلى الأَرْضِ قَالاَ لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ هَهُنَا لَكِنَّهُ قَامَ!" (لو24: 3-6)، وكان المنظر الذي رأته النسوة هو منظر ملاكين.
مسألة وجود ملاكين عند أو في قبر السيد المسيح، ووجود ملاكين في رؤيا إشعياء النبي ليست مصادفة لأن الرب أمر موسى أن يضع ملاكين على غطاء تابوت الشهادة (أى تابوت العهد) في قدس الأقداس،وقد ورد ذلك في وصف الرب لموسى كيف يعمل ذلك في سفر الخروج:
"وَتَصْنَعُ غِطَاءً مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ طُولُهُ ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ وَعَرْضُهُ ذِرَاعُ وَنِصْفٌ. وَتَصْنَعُ كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ. صَنْعَةَ خِرَاطَةٍ تَصْنَعُهُمَا عَلَى طَرَفَيِ الْغِطَاءِ. فَاصْنَعْ كَرُوبًا وَاحِدًا عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَا وَكَرُوبًا آخَرَ عَلَى الطَّرَفِ مِنْ هُنَاكَ. مِنَ الْغِطَاءِ تَصْنَعُونَ الْكَرُوبَيْنِ عَلَى طَرَفَيْهِ. وَيَكُونُ الْكَرُوبَانِ بَاسِطَيْنِ أَجْنِحَتَهُمَا إلى فَوْقُ مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا عَلَى الْغِطَاءِ وَوَجْهَاهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى الآخَرِ. نَحْوَ الْغِطَاءِ يَكُونُ وَجْهَا الْكَرُوبَيْنِ. وَتَجْعَلُ الْغِطَاءَ عَلَى التَّابُوتِ مِنْ فَوْقُ. وَفِي التَّابُوتِ تَضَعُ الشَّهَادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ. وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ" (خر25: 17-22).
إذن فتابوت العهد يشير إلى العرش الإلهي الذي تحيط به مظلة الكاروبيم.
ولكن الأمر اللافت للنظر هو أنه في رؤيا إشعياء وفي وصف تابوت الشهادة (تابوت العهد) قد قيل إن الملاكين كانا فوق العرش أو فوق غطاء التابوت.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا

ما معنى أن يظلل الملائكة فوق العرش الإلهي "مُظَلِّلَيْنِ بِأَجْنِحَتِهِمَا" (خر25: 20)؟ وقد وردت هذه العبارة أيضًا في سفر حزقيال إذ يقول الرب لزُهرة بنت الصبح "أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ وَأَقَمْتُكَ" (حز28: 14، انظر إش14: 12).
هل يحتاج الرب إلى مظلّة. وما فائدتها..؟! إن المظلة تحمى من المطر أو من الشمس. ولكن الرب لا يحتاج لمثل هذه الأمور.
وقد قال معلمنا بطرس الرسول للسيد المسيح على جبل التجلي: "يَا مُعَلِّمُ جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً. وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذَلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي السَّحَابَةِ. وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ. لَهُ اسمعُوا" (لو9: 33-35). فماذا كان يقصد بطرس الرسول بعمل المظال..؟!
إن ما يمكننا أن نفهمه عن مظلة الكاروبيم فوق العرش الإلهي هو أنها لا تحمى العرش إطلاقًا، بل تعكس المجد والبهاء الصادر عن الله لتنبهر به الخليقة المتطلّعة نحو العرش. مثلما تحاط المصابيح والكشافات المتقدة بالنور بمظال تعكس ضوءها. لهذا قيل عن حادثة التجلي "إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ" (مت17: 5).
ألم يقل السيد المسيح عن نفسه إنه هو "نُورُ الْعَالَمِ" (يو8: 12، 9: 5)، ثم عاد يقول: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ" (مت5: 14). وقيل عن السيد المسيح "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إلى الْعَالَمِ" (يو1: 9). فالسيد المسيح هو النور الحقيقي، أما القديسون فيعكسون هذا النور لأنهم ليسوا هم مصدره، كما شرح ذلك قداسة البابا شنودة الثالث - أطال الرب حياة قداسته.
فوجود الملائكة فوق العرش لا تعنى أنها تعلو في المقام عنه، بدليل أن كل واحد منهم (كما ورد في سفر إشعياء النبي الإصحاح السادس) بجناحين يغطى وجهه، وباثنين يغطى رجليه، وباثنين يطير. فهو يغطّى وجهه من بهاء عظمة مجد الرب التي لا تحتمل التحديق فيها، ويغطى رجليه بمعنى الخجل والاحترام، ويطير باثنين ليكون قادرًا على تنفيذ مشيئة الرب في الحال، ويشبه في ذلك السيد المسيح معلقًا وهو فاتح ذراعيه على الصليب طاعةً لأبيه السماوي.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لماذا إشعياء بالذات؟

بالرغم من أن رؤيا إشعياء النبي قد وردت في الإصحاح السادس؛ إلا أنها تشير إلى بداية خدمة إشعياء النبي؛ وبدء دعوة الرب له. لأن السيد قال على مسمع منه: "مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟" (إش6: 8)، فردّ إشعياء وقال: "هاأنذا أَرْسِلْنِي" (إش6: 8). وبالطبع فإن الدعوة تسبق الإرسالية.
ولكن لماذا اختار الرب إشعياء بالذات ليظهر له في الهيكل، ويرسل واحدًا من السرافيم لتطهيره، ثم يدعوه ويرسله، ويسكب عليه هذا الفيض العجيب من النبوات عن السيد المسيح؛ حتى دُعي إشعياء النبي "النبي الإنجيلي" ودُعي سفر إشعياء "الإنجيل الخامس" لكثرة ما ورد فيه من نبوات عن المسيح الرب؟!!
نلاحظ أن إشعياء كان من العابدين بعمق وملازمًا للعبادة؛ لأن الرؤيا التي ظهرت له كانت في الهيكل بأورشليم كما شرحنا سابقًا..
وبالإضافة إلى ذلك كانت مخافة الرب واضحة في كلامه عندما قال: "وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ" (إش6: 5).
كان إشعياء إنسانًا متواضعًا معترفًا بخطاياه. ولكن الشيء العجيب أنه قد حمل هموم شعبه عند رؤيته للرب؛ فاعترف بخطاياه وخطاياهم معًا.
كان إشعياء مثقلًا بهموم شعب إسرائيل.. مثقلًا برؤيته لخطاياهم، وحيرته في أمر خلاصهم.. وحيرته في كيفية تحقيق وعد الرب بالخلاص لمثل هذه البشرية التي الجميع فيها قد "زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو3: 12).
لقد تمرر إشعياء بسبب خطايا شعبه وصلّى كثيرًا إلى الرب مُذكّرًا إياه بمواعيده للآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، ومن قبلهم وبعدهم كثيرون من الذين انتظروا خلاص الرب شاعرين بحاجتهم إلى الخلاص.
كان إشعياء يتطلع نحو مجد الله، ويتوعّد شوقًا أن يصير مجد الرب رايةً للشعوب.. وانطلق ببصره النبوي خارج إطار الأمة اليهودية ومملكة إسرائيل إلى كل شعوب الأرض مثل ما ورد في الآيات التالية:
"وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا" (إش11: 10).
"إلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ لأَنِّي أَنَا اللَّهُ وَلَيْسَ آخَرَ" (إش45: 22).
كان إشعياء قلبًا يشتعل بالحب نحو الله ونحو البشرية جمعاء. لذلك فعندما أوحى إليه الروح القدس بنبواته الرائعة "وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ. بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقَوَيْهِ" (إش11: 1-5). وأيضًا "وَتَقُولُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ لأَنَّهُ إِذْ غَضِبْتَ عَلَيَّ ارْتَدَّ غَضَبُكَ فَتُعَزِّينِي. هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا. فَتَسْتَقُونَ مِيَاهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الْخَلاَصِ. وَتَقُولُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: احْمَدُوا الرَّبَّ. ادْعُوا بِاسمهِ. عَرِّفُوا بَيْنَ الشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ. ذَكِّرُوا بِأَنَّ اسمهُ قَدْ تَعَالَى. رَنِّمُوا لِلرَّبِّ لأَنَّهُ قَدْ صَنَعَ مُفْتَخَرًا. لِيَكُنْ هَذَا مَعْرُوفًا فِي كُلِّ الأَرْضِ. صَوِّتِي وَاهْتِفِي يَا سَاكِنَةَ صِهْيَوْنَ لأَنَّ قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ عَظِيمٌ فِي وَسَطِكِ" (إش12: 1-6).
فقد شملت نبواته هذه جميع الأمم بصورة لم يتقبلها الشعب اليهودى بسهولة حتى في بدايات الكنيسة في العهد الجديد. وهو الأمر الذي عمل فيه الروح القدس حتى أوضح لكنيسة الرسل مقاصد الرب بصورة متدرجة حتى وصلت لكمالها.
واختص إشعياء في نبوته؛ مصر وشعبها بنبوات رائعة مثل قوله: "في ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا" (إش19: 19)، وقوله "بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلًا: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ" (إش19: 25).
كان إشعياء شاعرًا وكانت حياته أنشودة حب؛ لذلك ظهر له الرب في رؤيا مع السرافيم أي المتقدين بالنار-نار الحب الإلهي. فالكاروب؛ معناه: "الممتلئ أعينًا" أي الممتلئ معرفة. والسرافيم ومفردها "ساراف"؛ معناه: "المتقد بالنار" أي بالحب.
حقًا ينطبق على إشعياء النبي شعر قداسة البابا عن المتنيح الأرشيذياكون حبيب جرجس:
هذه تقواك: إيمانٌ فحبٌ هذه دنياك: أشواكٌ وصلبٌ
أنت، من أنت؟ رسولٌ ههنا؟ أنت أبهى من رسول، أنت قلبٌ
أنت قلبٌ واسعٌ في حِضْنهِ عاش جيلٌ كاملٌ أو عاش شعبٌ
أنت نبعٌ من حنانٍ دافقٍ أنت عطفٌ، أنت رفقٌ، أنت حبٌ
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:30 PM   رقم المشاركة : ( 4 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الثالث: نبوات عن ميلاد السيد المسيح وتجسده


ملء الزمان

لم يذكر إشعياء النبي رؤيته للسيد المسيح في بداية سفر نبوته لئلا يبدو الأمر وكأنه متمركز حول أموره الخاصة، ولكنه ذكرها بالروح القدس قبل أن يبدأ نبواته المحددة عن تجسُّد الكلمة (أي تجسُّد السيد المسيح وميلاده من العذراء مريم لأجل خلاصنا) والتي وردت في الإصحاحين السابع والتاسع.
وأراد الروح القدس بهذا أن يوضح أن رؤية إشعياء للسيد المسيح في الهيكل وسط تسابيح الملائكة هي التمهيد الطبيعي لنبواته عن التجسد الإلهي.
فظهورات السيد المسيح في العهد القديم كانت تمهيدًا واضحًا لظهوره بالتجسد الفعلي في ملء الزمان.
وكان ملء الزمان هو الموعد الذي أعدّ فيه الله الآب كل شيء لإرسال ابنه الوحيد إلى العالم متجسدًا وفاديًا ومخلصًا؛ كقول بولس الرسول: "وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابنهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ... لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل4: 4، 5).
ولقداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- تأملات جميلة ونافعة حول موضوع "ملء الزمان"، وكيف أعد الله البشرية لاستقبال الكلمة المتجسد بكثير من الرموز والنبوات، وأعد الأشخاص الذين يعاصرون مجيئه في الجسد مثل العذراء القديسة مريم والقديس يوحنا المعمدان والتلاميذ الرسل القديسين، وحتى هيرودس الملك ويهوذا الإسخريوطى وقيافا وحنانيا وبيلاطس الحاكم الروماني، وغيرهم الكثيرين، بحيث يؤدى كل واحد من هؤلاء دوره بإرادته الحرة؛ ويكون مسئولًا عن تصرفاته بدون إجبار.. إنها ملحمة رائعة لا يمكن احتواء أبعادها بفكرنا المحدود، ولكننا نقف أمامها مبهورين بما عمله الرب؛ وبما شرحه قداسة البابا.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ميلاد السيد المسيح

وردت في سفر إشعياء أكثر من نبوة عن ميلاد السيد المسيح. وهذه النبوات لا تتكلم عن ميلاده فقط، بل تتكلم أيضًا عن ألوهيته.
ولابد قبل أن نعرض لهذه النبوات أن نوضح أن السيد المسيح باعتباره "الله الكلمة" له ميلادين (حسب تعليم القديس كيرلس الكبير):
الميلاد الأول: من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته.
الميلاد الثاني: من العذراء القديسة مريم في ملء الزمان بحسب ناسوته.
فالمولود من العذراء مريم هو هو نفسه المولود من الآب.
ولكنه في ميلاده من العذراء لم يستمد منها ألوهيته. كما أنه في ميلاده من العذراء مريم لم يستمد ناسوته من مصدر إلهي خارجًا عن العذراء مريم بل من طبيعتها البشرية وبقدرة الروح القدس اتخذ طبيعة بشرية كاملة بلا خطية. وجعل الناسوت المأخوذ منها خاصًا به جدًا. ونظرًا لأن كل ما يُنسب إلى ناسوته الخاص يُنسب إليه هو شخصيًا، باعتباره الله الكلمة الذي تجسّد، لذلك دُعيت العذراء مريم والدة الإله (ثيئوطوكوس).

* النبوة الأولى: "هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابنًا وَتَدْعُو اسمهُ عِمَّانُوئِيلَ" (إش7: 14). كلمة "عمانوئيل" باللغة العبرية فسّرها إنجيل معلمنا متى الرسول أنها تعنى "الله معنا" (مت1: 23).
وقد ورد في العهد القديم كثيرًا أن الله كان يلتقي بشعبه في خيمة الاجتماع وكان يكلّم موسى النبي من فوق غطاء تابوت العهد بين الكاروبين الذهبيين. ولكن تابوت العهد كان رمزًا للسيد المسيح.. وبداخل التابوت عصا هارون التي أفرخت بدون زرع ولا سقى. وهي ترمز إلى ميلاده من العذراء القديسة مريم بدون زرع بشر. كان الله مع شعبه في خيمة الاجتماع التي رمزت إلى السيد المسيح. ولكن لم تطلق عبارة "الله معنا" على شخص من البشر إلى أن تجسد الله الكلمة في ملء الزمان من العذراء مريم.
لهذا كان القديس إشعياء النبي عجيبًا في أقواله حينما كتب "هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ" لأنه لم يُسمع منذ الدهر أن عذراء قد حبلت. وكان أعجب عندما أشار إلى أن الابن المولود منها هو "الله معنا". ولكن هكذا نطق الروح القدس بفم إشعياء النبي..

* النبوة الثانية: "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابنًا وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسمهُ عَجِيبًا مُشِيرًا إِلَهًا قَدِيرًا أَبًا أَبَدِيًّا رَئِيسَ السَّلاَمِ" (إش9: 6).
إن المولود من العذراء هو ابن الله قبل ميلاده منها، وهو ابن الله وابن الإنسان في آنٍ واحد بعد ميلاده منها. لأنه هو نفسه المولود من الآب قبل كل الدهور الذي أتى وتجسد من العذراء مريم في ملء الزمان بميلاده العذراوي العجيب.
قال السيد المسيح لمنوح أبو شمشون في ظهور من ظهوراته السابقة للتجسد في العهد القديم: "لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسمي وَهُوَ عَجِيبٌ؟" (قض13: 18).

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وها هو إشعياء النبي يكرر نفس الأمر ويقول يُدعى اسمه "عجيبًا". لقد كان السيد المسيح عجيبًا في تجسده وفي ميلاده، عجيبًا في تواضعه، عجيبًا في محبته، عجيبًا في تعاليمه، عجيبًا في إخفاء مجده، عجيبًا في صلبه وموته وقيامته وصعوده إلى السماوات.. كان عجيبًا في كل شيءٍ.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَن صَدّق خبرنا؟!

يقول النبي: "مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟" (إش53: 1)!!
العبارة تشير إلى أن الأمور التي سيحكى عنها ربما يصعب تصديقها بالنسبة لعامة البشر. ويلزم أن يعين الروح القدس السامع لكي يصدّقها!!
وفعلًا ربما لا يصدق البعض أن محبة الله تصل إلى درجة أن يبذل ابنه الوحيد الجنس لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (انظر يو3: 16)
ربما يصعب على البعض أن يصدّق أن "اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تى3: 16). ويصعب عليهم أكثر أن يصدقوا أنه من الممكن أن يحتمل الآلام عوضًا عن الخطاة، أو أن يموت نيابة عنهم بحسب الجسد.
قد يصعب عليهم أن يصدقوا أن الله الابن شخصيًا سوف يتمم الخلاص والفداء ويحتمل كل شيء مهما كان صعبًا وثقيلًا من أجل خلاص البشرية..
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ذِرَاعُ الرَّبِّ

إن عبارة "لِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟" تدل على أن الله نفسه هو الذي سيصنع الخلاص، وسوف تراه كل أطراف الأرض. كما سبق أن قال: "قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا" (إش52: 10). وهنا يرتبط قول النبي "قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ" بقوله: "لِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ" (إش53: 1).
لقد استخدم تعبير "ذِرَاعُ الرَّبِّ" ليشير إلى تجسد الابن الوحيد الجنس وإلى كل ما قام به في عملية الفداء والخلاص. وكأنه يشبّه الابن بذراع الله الآب.
كما أن عبارة "قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ" تشير إلى دخول الابن إلى الزمن ليصنع الفداء في ملء الزمان. هذا الفداء قد صنعه الله الآب بكل قوة وبكل حكمة وفطنة، كقول معلمنا بولس الرسول: "لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ، الَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ" (أف1: 6-8).
لقد انتظرت البشرية طويلًا ولمدة آلاف من السنين أن يتدخل الرب لإتمام الفداء. لهذا قال أب الآباء يعقوب على فراشه عند موته: "لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ" (تك49: 18). فبالرغم من أن السيد المسيح قد ظهر له، وصارعه طوال الليل، وباركه، وأعطاه اسمًا جديدًا (انظر تك32: 24-28)؛ إلا أن ذلك لم يكن تجسدًا للابن الوحيد بل ظهورًا فقط ولم يتحقق الفداء بواسطة هذا الظهور.
كان يلزم الإعداد لمسألة الخلاص على مدى عدة آلاف من السنين بواسطة الكثير من الرموز، والنبوات، والظهورات، والأحداث اليقينية التي دُونَت في الأسفار المقدسة، حتى تتمكن البشرية من تصديق تجسد الله الكلمة والابن وآلامه وموته على الصليب. وبالرغم من ذلك كله يقول إشعياء النبى: "مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟!" (إش53: 1)..
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الخبر العجيب

فما هو الخبر العجيب الذي تحدث عنه النبي؟ إن الخبر العجيب الذي بدأ به تنفيذ رحلة الخلاص؛ كان هو البشارة بميلاد السيد المسيح من العذراء مريم إذ يتجسد متأنسًا منها بفعل الروح القدس. الأمر الذي لم يحدث من قبل في كل تاريخ البشرية ولن يتكرر، وهو أن تحبل العذراء بدون زرع بشر وتلد ابنًا ذكرًا؛ طفلًا حقيقيًا؛ هو هو نفسه الله الكلمة الذي تجسد في ملء الزمان من أجل خلاصنا.
وقد أشارت رموز العهد القديم إلى هذا الأمر حينما أفرخت عصا هارون الجافة وأزهرت وأثمرت بدون غرس ولا سقى كما هو مكتوب في سفر العدد لموسى النبي "فَكَلمَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيل، فَأَعْطَاهُ جَمِيعُ رُؤَسَائِهِمْ عَصًا عَصًا لِكُلِّ رَئِيسٍ حَسَبَ بُيُوتِ آبَائِهِمِ. اثنتَيْ عَشَرَةَ عَصًا. وَعَصَا هَارُونَ بَيْنَ عِصِيِّهِمْ. فَوَضَعَ مُوسَى العِصِيَّ أَمَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ. وَفِي الغَدِ دَخَل مُوسَى إلى خَيْمَةِ الشَّهَادَةِ وَإِذَا عَصَا هَارُونَ لِبَيْتِ لاوِي قَدْ أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لوْزًا. فَأَخْرَجَ مُوسَى جَمِيعَ العِصِيِّ مِنْ أَمَامِ الرَّبِّ إلى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيل، فَنَظَرُوا وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ عَصَاهُ. وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: رُدَّ عَصَا هَارُونَ إلى أَمَامِ الشَّهَادَةِ لأَجْلِ الحِفْظِ عَلامَةً لِبَنِي التَّمَرُّدِ فَتَكُفَّ تَذَمُّرَاتُهُمْ عَنِّي لِكَيْ لا يَمُوتُوا" (عد17:6-10).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ

يقول إشعياء النبي: "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ" (إش53: 2) تشير عبارة "نَبَتَ قُدَّامَهُ" إلى اهتمام الآب بتدبير تجسد ابنه الوحيد الجنس أي أن الابن في تجسده قد نبت أمام الآب الذي أرسله وهيأ له جسدًا بفعل الروح القدس.
إن عبارة إشعياء النبي "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ" ترتبط ارتباطًا وثيقًا بعبارتين في أسفار موسى النبي كما أوردنا في سفر العدد:
1- "وَضَعَ مُوسَى العِصِيَّ أَمَامَ الرَّبِّ" ترتبط بكلمة "قُدَّامَهُ" في سفر إشعياء.
2- "أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا" ترتبط بكلمة "كَفَرْخٍ" ونلاحظ أن ما ورد في سفر العدد قد ذكر تدرجًا عجيبًا أن عصا هارون قد "أَفْرَخَتْ. أَخْرَجَتْ فُرُوخًا وَأَزْهَرَتْ زَهْرًا وَأَنْضَجَتْ لوْزًا" أي ثلاث مراحل وهي الأغصان والزهر واللوز. بمعنى أنها لم تخرج فروعًا فقط، ولم تزهر زهرًا فقط، بل وصلت إلى مرحلة الإثمار، كقول القديسة أليصابات والدة القديس يوحنا المعمدان بالروح القدس للقديسة العذراء مريم "َمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ!" (لو1: 42).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ

الجميل في نبوة إشعياء إنه لم يكتف بالقول: "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ" وإنما أضاف "وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ" وذلك لكي يكتمل التطابق في المعنى بين الرمز والنبوة والمرموز إليه،إذ أن عصا هارون كانت جافة أي يابسة قبل أن تفرخ وتزهر وتنضج لوزًا. واستخدم هنا إشعياء تشبيه الأرض اليابسة. لتكتمل فكرة أن العصا قد أفرخت وأزهرت وأثمرت بدون غرس ولا سقى.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ

يقول إشعياء النبي قرب نهاية السفر المبارك مخاطبًا الرب الإله: "لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ! مِنْ حَضْرَتِكَ تَتَزَلْزَلُ الْجِبَالُ. كَمَا تُشْعِلُ النَّارُ الْهَشِيمَ وَتَجْعَلُ النَّارُ الْمِيَاهَ تَغْلِي لِتُعَرِّفَ أَعْدَاءَكَ اسْمَكَ لِتَرْتَعِدَ الأُمَمُ مِنْ حَضْرَتِكَ. حِينَ صَنَعْتَ مَخَاوِفَ لَمْ نَنْتَظِرْهَا نَزَلْتَ. تَزَلْزَلَتِ الْجِبَالُ مِنْ حَضْرَتِكَ. وَمُنْذُ الأَزَلِ لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا. لَمْ تَرَ عَيْنٌ إِلَهًا غَيْرَكَ يَصْنَعُ لِمَنْ يَنْتَظِرُهُ" (إش64: 1-4)
ونقول نحن في القداس الباسيلي مخاطبين الآب السماوي: {وفى آخر الأيام ظهرت لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بالظهور المحيى الذي لابنك الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح، هذا الذي من الروح القدس ومن العذراء القديسة مريم تجسد وتأنس} (بداية صلوات التقديس).
ما ورد في الفقرة المذكورة من سفر إشعياء هو نبوات واضحة عن ظهور الله على الأرض بتجسد ابنه الوحيد الجنس الرب يسوع المسيح. وسوف نرى ما في هذه العبارات من معانٍ نبوية.
"لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ" (إش64: 1) لا نستطيع أن نفهم هذه العبارة إلا في ضوء نزول الابن الوحيد من السماء وتجسده وتأنُسّه من القديسة مريم العذراء.
لهذا نقول في قانون الإيمان عن السيد المسيح: [هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس].
والنبي إشعياء يتوسل إلى الله أن يأتي إلى عالمنا المحتاج إلى الخلاص فيقول "لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ".
كان هناك حاجزًا بين السماء والأرض يفصل بين الإنسان والله. وقد بدأ الله الآب يشق هذا الحاجز حينما أرسل ابنه الوحيد إلى العالم كقول بولس الرسول: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل 4: 4-5). لهذا صلى القديس سمعان الشيخ حينما حمل الطفل يسوع المسيح على ذراعيه وبارك الله قائلًا: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ. لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ. الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل" (لو2: 29-31).
بدأ الله في شق الحاجز حسب التدبير في قصده؛ ولكن أعلن ذلك بصورة ملموسة في واقع الأحداث عندما انشق حجاب الهيكل إلى اثنين من فوق إلى أسفل وقت أن سلّم السيد المسيح روحه البشرى الطاهر المتحد باللاهوت على الصليب؛ صانعًا الفداء، ومصالحًا الآب مع البشرية إذ أن "اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (2كو5: 19).
ولكن إشعياء النبي اعتبر نزول السيد المسيح إذ أخلى نفسه آخذًا صورة عبد هو نوع من انشقاق للسماء لكي ينزل الرب الإله و"يَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الذي تفسيره الله معنا" (مت 1: 23). ولا يمكن أن نفصل التجسد عن الصليب والفداء، ولا عن القيامة والصعود، لأن هذا هو عمل الفداء الخلاصي المتكامل.
وليس ذلك فقط، فقد انشقت السماوات على مرأى من يوحنا المعمدان عند عماد السيد المسيح في نهر الأردن وحل الروح القدس على رأسه بهيئة جسمية مثل حمامة وصوت الآب من السماء يقول: "هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17).
لقد انشق نهر الأردن عندما نزل الكهنة حاملو تابوت العهد فيه ليفتح الطريق إلى أرض الميعاد ولكن عندما نزل تابوت العهد الحقيقي إلى مياه الأردن لم تنشق المياه بل انشقت السماوات ليفتح لنا السيد المسيح الطريق إلى السماء عن طريق سر العماد المقدس الذي به ننال التبني.
ويمكننا أن نفهم أيضًا أن السماوات قد انشقت عند صعود السيد المسيح جسديًا وهو مالئ الوجود كله بلاهوته. ولذلك صاح الملائكة المصاحبون للابن المنتصر على الهاوية والموت في صعوده مخاطبين الملائكة حراس الأبواب السمائية "اِرْفَعْوا أَيّهَا الرُؤسَاء أبوابكم، وَارْتَفِعْى أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّة، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْد" وعندما تساءل الحراس "مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟" أجابوهم: "الرَّبُّ العزيز الْقَدِيرُ، الرَّبُّ الْقوى فِي الحروب.. رَبُّ الْقوات، هذا هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ" (مز24: 7-10)[1]. ويقول معلمنا بولس الرسول عن دخول السيد المسيح إلى المقدس السماوي "تَدْخُلُ إلى مَا دَاخِلَ الْحِجَابِ، حَيْثُ دَخَلَ يَسُوعُ كَسَابِقٍ لأَجْلِنَا" (عب 6: 19، 20).

_____ 1) نصوص وشواهد مزامير السواعى مأخوذة من الأجبية.
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:34 PM   رقم المشاركة : ( 5 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الرابع: نبوات عن معمودية السيد المسيح وبداية خدمته في الجليل

صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ

نلاحظ أن عبارة "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ" قد تكررت في الأناجيل الأربعة استنادًا إلى نبوة إشعياء النبي التالية:
"صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَيَصِيرُ الْمُعَوَّجُ مُسْتَقِيمًا وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلًا. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ" (إش40: 3-5).
أشارت الأناجيل المقدسة إلى نبوة إشعياء النبي عن يوحنا المعمدان الذي قال عنه الملاك في بشارته لأبيه زكريا الكاهن إنه يتقدم أمام الرب "بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إلى الأَبْنَاءِ وَالْعُصَاةَ إلى فِكْرِ الأَبْرَارِ لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا" (لو1: 17).
وقد ورد في إنجيل معلمنا متى الرسول الإشارة التالية إلى نبوة إشعياء النبى: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ. قَائِلًا: تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإشعياء النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً" (مت3: 1-3).
وفى إنجيل معلمنا مرقس الرسول ورد في بدايته:
"كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مر1: 2-4).
وإنجيل معلمنا لوقا البشير ورد فيه:
"كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ. فَجَاءَ إلى جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالأُرْدُنِّ يَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي سِفْرِ إشعياء النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً. كُلُّ وَادٍ يَمْتَلِئُ وَكُلُّ جَبَلٍ وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ وَتَصِيرُ الْمُعْوَجَّاتُ مُسْتَقِيمَةً وَالشِّعَابُ طُرُقًا سَهْلَةً. وَيُبْصِرُ كُلُّ بَشَرٍ خَلاَصَ اللهِ" (لو3: 2-6).
أما إنجيل معلمنا يوحنا الرسول
فقد أورد حوارًا بين يوحنا المعمدان واليهود الذين سألوه: "مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ كَمَا قَالَ إشعياء النَّبِيُّ" (يو1: 22، 23).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
يُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبِّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ

نبوة إشعياء ربطت بين رسالة يوحنا المعمدان والإعداد لخدمة السيد المسيح بالمناداة بمعمودية التوبة "أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ". وأشارت أيضًا بوضوح إلى ظهور مجد الرب لجميع البشر كوعد من فم الرب مع الإشارة إلى أن المسيح هو كلمة الله بقوله: "وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا لأَنَّ فَمَ الرَّبِّ تَكَلَّمَ".
مثلما قال بولس الرسول عن الآب: "كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابنهِ" (عب1: 2). بمعنى أن المسيح هو كلمة الله وهو "صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ" (كو1: 15).
ولكن لم ترد هذه النبوة فقط في سفر إشعياء، بل تنبأ ملاخى النبي أيضًا قائلًا: "هاأَنَذَا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إلى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ" (ملا3: 1).
لذلك فإن القديس مرقس قد ضم في إنجيله النبوتين معًا، نبوة ملاخى النبي ونبوة إشعياء النبى، وقال بصيغة الجمع: "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ" (مر1: 2).
واقتبس من ملاخي وكتب عبارته "هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ" (مر1: 2)، وإن كانت في إنجيل مرقس قد جاءت في صيغة الآب السماوي مخاطبًا الابن وفي سفر ملاخى وردت في صيغة الابن كمتكلم "هاأنذا أُرْسِلُ مَلاَكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي".
واقتبس من إشعياء وكتب عبارته "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً" (مر1: 3).

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ونلاحظ في نبوة ملاخي أن كلمة "مَلاَكِي" تشير إلى يوحنا المعمدان، وكلمة "َمَلاَكُ الْعَهْدِ" تشير إلى السيد المسيح. على اعتبار أن كلمة "ملاك" في اللغة العبرية "מלאך" تعنى "سفير" أو "مرسل" أو "مُفوّض". ولا أحد ينكر أن السيد المسيح كان سفيرًا فوق العادة مرسلًا من الآب السماوي لخلاص البشرية.
لقد اهتم الإنجيليون الأربعة بنبوة إشعياء النبي عن يوحنا المعمدان وإرساليته كمقدمة تُمهّد لظهور السيد المسيح الله الكلمة المتجسد الذي قال عنه يوحنا الإنجيلي: "وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو1: 14).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّه مَسَحَنِي

"رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ" (إش61: 1، 2).
حينما دخل السيد المسيح مجمع اليهود دفع إليه الخادم سفر إشعياء فقام ليقرأ. وجاءت قراءته في هذا الموضع من السفر. ثم طوى السفر وسلّمه إلى الخادم وجلس وقال لليهود: "إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ" (لو4: 21).
وبهذا أشار السيد المسيح إلى أن هذه النبوة في سفر إشعياء لم تكن عن إشعياء النبي كما لو كان هو المتكلّم، ولكن تكلّم إشعياء بلسان السيد المسيح مشيرًا إلى مسحه بالروح القدس في نهر الأردن واستعلانه مسيحًا للرب.
ومما يثبت صحة كلام السيد المسيح في سمع اليهود أن يوحنا المعمدان قد شهد بذلك وقال:
"َأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لَكِنْ لِيُظْهَرَ لإِسْرَائِيلَ لِذَلِكَ جِئْتُ أُعَمِّدُ بِالْمَاءِ.. إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ. وَأَنَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ. لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي لأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ" (يو1: 31-34).
وهكذا أثبت يوحنا المعمدان كنبي؛ أن نبوة إشعياء النبي قد سجّلها الوحي الإلهي بالتحديد عن السيد المسيح الذي اعتمد من يوحنا في نهر الأردن.
والجميل في نبوة إشعياء إنها لم تتكلم عن مسح السيد المسيح فقط؛ بل شرحت أبعاد المسحة والإرسالية، وهذا يتضح من الربط الموجود في النبوة "رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ...". والربط المقصود هو كلمة "لأَنَّ" في عبارة "لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ

يقول المزمور "من أجل شقاء المَساكين وتنهد البائسين؛ الآن أقوم يقول الرب، أصنَع الخلاص علانية" (مز11: 5).
ويقول الرب في سفر الخروج: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ" (خر3: 7، 8).
حقًا كان البشر مساكين وهم محكوم عليهم بالموت والهلاك الأبدي، ينتظرون تحقيق وعود الرب بالخلاص.
قال يعقوب أب الآباء على فراش موته: "لِخَلاَصِكَ انْتَظَرْتُ يَا رَبُّ" (تك49: 18). "الْخَلاَصَ الَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِالآلاَمِ الَّتِي لِلْمَسِيحِ وَالأَمْجَادِ الَّتِي بَعْدَهَا" (1بط1: 10، 11)
لقد بشر السيد المسيح المساكين الأحياء من البشر وبدأ يكرز ويقول: "اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مر1: 15).
واستمر السيد المسيح أكثر من ثلاث سنوات يبشر بالخلاص للبشر الأحياء، ثم "ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ" (1بط3: 19)، أي أنه نزل إلى الجحيم من قبل الصليب وكرز للأرواح التي في الجحيم وبشرهم بالخلاص الذي تم.
وحتى إيليا النبي الذي صعد حيًا إلى السماء كان ينتظر إتمام الفداء لذلك فعندما ظهر مع موسى أثناء تجلى السيد المسيح على الجبل "تَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ" (لو9: 31). أي كانا يتكلمان معه عن الخلاص بالصليب الذي كان الرب عتيدًا أن يكمله في أورشليم.
وقد تنبأ زكريا الكاهن والد يوحنا المعمدان في يوم ميلاده قائلًا: "وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ. بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلَهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ. لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ" (لو1: 76-79).
كانت البشرية تجلس في الظلمة وظلال الموت وتحركت أحشاء إلهنا وتحنن وأرسل ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليتمم الفداء وننال التبني.
هؤلاء هم المساكين الذين جاء الرب من أجلهم ليرفعهم من مذلتهم وعبوديتهم، ويمنحهم البنوة وحياة الحرية والقداسة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ

إذن فالمسألة ليست مجرد مسح الرب يسوع في نهر الأردن ولكن إرساله بدأ بالتجسد؛ إذ "أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غل4: 4). لذلك قال يوحنا المعمدان عن السيد المسيح: "الَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ" (يو3: 31). أي أن السيد المسيح قد جاء من السماء مُرسلًا من الآب والروح القدس.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَسَحَنِي

في سن الثلاثين عامًا كان بنو هرون يبدأون خدمتهم الكهنوتية في خيمة الاجتماع أو في الهيكل بأورشليم. وهكذا بدأ السيد المسيح خدمته الخلاصية في السن الثلاثين عامًا من جهة ولادته الإنسانية من العذراء مريم.
ورقم ثلاثين لا يخفى أنه حاصل 3×10 (ثلاثة × عشرة). ورقم ثلاثة يشير للثالوث القدوس، أما رقم عشرة فيشير إلى كمال العدد (العد على أصابع اليدين)، ومضاعفاته تُكوِّن الأرقام الحسابية.
في سن الثلاثين في حياة السيد المسيح ظهر الثالوث عند عماد السيد المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان،فالسماوات قد انشقت وجاء صوت الآب من السماء "هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17) والروح القدس نزل من السماوات بهيئة جسمية مثل حمامة واستقرت على رأس السيد المسيح.
"رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّه مَسَحَنِي" (إش61: 1)، لقد مسح الآب بالروح القدسالسيد المسيح (ناسوتيًا) ملكًا وكاهنًا ونبيًا. وهذا ما أشارت إليه هدايا المجوس عند زيارتهم للسيد المسيح بعد ولادته وسجودهم له.
فالذهب كان إشارة إلى ملكه، واللبان إشارة إلى كهنوته، والمر إشارة إلى آلامه التي تنبأ عنها وخاصة موته بالصليب وقيامته في اليوم الثالث.
فالسيد المسيح مارس الكهنوت على طقس ملكى صادق وهو رئيس الكهنة الأعظم. ومارس المُلك عندما مَلَكَ على خشبة الصليب ومَلَكَ على قلوب المؤمنين باسمه وهو في نفس الوقت ملك الملوك ورب الأرباب وليس ملكًا فقط. ومارس النبوة حينما تنبأ عن آلامه وصلبه وموته وقيامته، وعن خراب أورشليم، وعن نهاية العالم، ولكنه في نفس الوقت هو رب الأنبياء ومرسلهم.
فى نهر الأردن ربط السيد المسيح بين المعمودية والثالوث القدوس، لذلك قال لتلاميذه: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسم الآبِ وَالابن وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (مت27: 19).
فالمعمودية وهي معمودية واحدة يجب أن تكون على اسم الثالوث القدوس بثلاث غطسات كل غطسة منها على اسم أحد الأقانيم الثلاثة. فوحدانية المعمودية تشير إلى وحدانية الثالوث في الجوهر، وثلاثية الغطسات تشير إلى تمايز الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد المثلث الأقانيم.
وقد مهّد السيد المسيح لفكرة الخلاص بالمعمودية؛ بإرساله يوحنا المعمدان ليعمّد بالماء لمغفرة الخطايا، وفي نفس الوقت الذي كانت الذبائح الحيوانية تقدَّم في الهيكل أيضًا لغفران الخطايا. فالذبائح كانت إشارة إلى ذبيحة الصليب، ومعمودية يوحنا كانت ترمز لمعمودية العهد الجديد بالماء والروح. وكما سارت معمودية يوحنا جنبًا إلى جنب مع الذبائح في الهيكل؛ هكذا فإن المعمودية المسيحية تستمد فاعليتها من ذبيحة الصليب باستحقاقات دم المسيح، لأن المعمودية هي اتحاد بالمسيح بشبه موته وقيامته.
ولما طُعن السيد المسيح بالحربة في جنبه بعد أن سلّم الروح على الصليب جرى من جنبه المقدس دم وماء "وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي الأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالْمَاءُ، وَالدَّمُ" (1يو5: 8) والماء والروح أي المعمودية المسيحية، والدم أي دم المسيح على الصليب وفي سر الافخارستيا.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ

عندما قَبِل السيد المسيح أن ينزل إلى مياه المعمودية في وسط الخطاة جاءت شهادة الآب له وهو صاعد من الماء أنه هو البار الوحيد الذي بلا خطية "هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17)، وهو موضوع سرور الآب منذ الأزل باعتبار أن الآب يرى فيه كل كمالات الجوهر الإلهي مثلما قال القديس أثناسيوس الرسولي: وهو أيضًا موضوع سرور الآب باعتباره آدم الجديد ونائب البشرية ورأس الكنيسة الذي صنع كل مشيئة الآب وهو في الهيئة كإنسان أي بحسب ناسوته مقدمًا طاعة كاملة لأبيه السماوي ليشفى عصيان آدم وباقي البشر.
إذن فالسيد المسيح هو موضوع سرور الآب بحسب لاهوته، وأيضًا بحسب ناسوته. فهو موضوع سرور الآب من كل ناحية.
لقد جعل السيد المسيح الإنسان عمومًا في شخصه المبارك مقبولًا لدى الآب، وموضوع فرحه وسروره ورضاه، بعد أن كان الإنسان تحت الغضب الإلهي الذي أوجدته خطية البشرية.
لذلك نصلّى في القداس الغريغوري ونقول: [باركت طبيعتي فيك، أكملت ناموسك عنى، أريتني القيام من سقطتي].
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ما بين تعبير "عبدي" وتعبير "ابني" أو "فتاي"

وردت الآية التالية عن السيد المسيح في سفر إشعياء النبي وهو قول الآب بفم إشعياء: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ" (إش42: 1).
لقد تعجب أصحاب موقع يهاجم الكتاب المقدس على الإنترنت، وقد يتعجب معهم البعض أيضًا، من قول الله الآب عن ابنه الوحيد المتجسد لقب "عَبْدِي". ولكن نحن نرد على تعجبهم فنقول بكل وضوح وصراحة إن هذا اللقب يخص السيد المسيح من حيث إنسانيته فقط، مثلما شرح القديس بولس الرسول عن السيد المسيح: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ مساواته لِلَّهِ اختلاسًا. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فى2: 6-8).
إذن السيد المسيح لم تكن له طبيعة البشر قبل التجسد؛ لذلك يقول عنه معلمنا بولس الرسول: "إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ".. وكلمة "صُورَةِ" التي وردت في هذا النص باللغة اليونانية هي "مورفى" μορφή, وتعنى الصورة التي تحمل نفس الطبيعة التي للأصل. وهو بذلك مساوٍ للآب في الطبيعة وفي المجد بحسب لاهوته، ولم يحسب هذه المساواة اختلاسًا؛ لذلك كان من المقبول بالنسبة له أن يخلى ذاته ويخفى مجده الإلهي الأزلي ويوجد في "صورة عبد" بأن يأخذ الطبيعة البشرية الكاملة من السيدة العذراء مريم بفعل الروح القدس.. وبذلك وُجد هو نفسه في الهيئة كإنسان.
وبتجسد الله الابن الكلمة أمكن أن يخاطب الآب بقوله: "إلهي"؛ سواء في صرخته الشهيرة على الصليب "إِلَهِي! إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي" (مز22: 1، مت27: 46، مر15: 34)، أو في حديثه عن الآب مع مريم المجدلية بعد قيامته المجيدة من الأموات: "إِنِّي أَصْعَدُ إلى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُمْ" (يو20: 17).
وقد ورد أيضًا في نفس سفر إشعياء لقب "عبدي" على فم الآب بقوله: "وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا" (إش53: 11).
المسألة بمنتهى البساطة أن السيد المسيح هو الله الابن من حيث لاهوته ويحمل أيضًا لقب "عبد" من حيث ناسوته، لأنه صار إنسانًا حقيقيًا وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وحدها وبذلك أمكنه أن ينوب عن البشرية حاملًا خطايا العالم لكي يكفّر عنها ويصالحنا مع الله أبيه بدم صليبه المحيى.
ولقب "عَبْدِي" في سفر إشعياء في النص العبري هو "בעﬧ عيبيد"، باللغة العبرية. وورد في النص اليونانى لترجمة سفر إشعياء في الترجمة السبعينية "παîς بيس" والكلمة اليونانية معناها عبد أو خادم أو غلام أو فتى.. ونظرًا لأن أناجيل العهد الجديد قد كتبت باللغة اليونانية واقتبس الإنجيليون النبوات من سفر إشعياء من الترجمة السبعينية؛ لذلك وجد مترجم العهد الجديد نفسه أمام كلمة تحمل عدة معاني. ولأن كلمة "عبد" في اليونانية هي أيضًا "ذولوس" δουλος مثل "خريستوذولو" أي عبد المسيح الذي يتسمى به كثير من اليونانيين؛ لذلك رجّح المترجم للعهد الجديد إلى اللغة العربية في الترجمة البيروتية ترجمة كلمة "بيس" παîς إلى "فتى" عند اختياره لأحد معانيها الأربعة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الترجمة العربية في العهد القديم وفي العهد الجديد

وللأسف فقد أقام البعض الدنيا ولم يقعدوها على الإنترنت بشأن الترجمة العربية[2] للاقتباس الموجود في العهد الجديد من سفر إشعياء النبي بدعوى أنه قد جرى تحريف النبوة من "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي" (إش42: 1) إلى "هوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ.." (مت12: 18)، وذكروا أن هذا التحريف هو بقصد الإدعاء بأن المسيح هو ابن الله وليس عبد الله. ولكن طبعًا لقب ابن الله قد ورد في الإنجيل صراحة مرات عديدة. وتحقيقًا لنفس النبوة عندما اعتمد السيد المسيح في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان وعند صعوده من الماء إذا السماوات قد انفتحت له وصوت من السماء قائلًا: "هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17) وهي نفس عبارة "هوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي" (مت12: 18) الواردة في الإنجيل أيضًا.
وعلى العموم فقد ورد في سفر إشعياء قول الله الآب: "لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابنا وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسمهُ عَجِيبًا مُشِيرًا إِلَهًا قَدِيرًا أَبًا أَبَدِيًّا رَئِيسَ السَّلاَمِ" (إش9: 6). فما قول هؤلاء الذين يهاجمون ترجمة العهد الجديد وما فيه من الاقتباس المذكور من سفر إشعياء.. ما قولهم في هذا النص الصريح في سفر إشعياء أن المسيح هو ابن الله في قوله: "يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابنًا.."..
وهل يقبل هؤلاء المشككون أيضًا ما ورد في سفر إشعياء عن السيد المسيح في قول الله الآب عنه: "وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا. لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إش53: 11، 12)، "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ. وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ ظُلْمًا وَلَمْ يَكُنْ فِي فَمِهِ غِشٌّ. أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 7-10). وقد وردت كلمة "عبدي" باليوناني في الترجمة السبعينية لهذا النص (إش53: 11) كفعل "δουλεύω ذوليفو"، مثل الاسم "ذولوس" أي عبد وليس "بيس" أي فتى أو غلام أو عبد. وهنا نرى روعة الترجمة السبعينية المرتشدة بالروح القدس. إذ في عبارة " عَبْدِي.. الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي" (إش42: 1) استخدمت كلمة "بيس". وفي عبارة "عَبْدِي الْبَارُّ.. وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ" (إش53: 11، 12) استخدمت كلمة "ذولوس". لأن الأولى تشير إلى بر المسيح الشخصي والثانية تشير إليه كحامل لخطايا غيره. وهكذا تأتى الترجمة السبعينية كموسيقى لسيمفونية الوحي الذي سجله إشعياء بالشعر العبري.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
:
إذا كان السيد المسيح قد أخذ لقب "عبد" فإن هذا اللقب قد اقترن بنبوات واضحة عن صلبه، وأنه قد مات ودُفن في القبر، وأنه بموته قد كفّر عن خطايا العالم. ونحن لا يضرنا شيء أن يقول الآب عنه "عبدي" لأننا نؤمن بتجسده الحقيقي وبأنه أخذ صورة عبد ليخلصنا، ولكنه هو نفسه بحسب لاهوته لا يتألم ولا يموت مثلما لا تموت أرواح الشهداء إذا ماتت أجسادهم، ولا يقع عليها الضرب والجراحات أثناء تعذيب هذه الأجساد.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
جليل الأمم

كتب إشعياء النبي عن معمودية السيد المسيح وبداية خدمته فقال: "وَلَكِنْ لاَ يَكُونُ ظَلاَمٌ لِلَّتِي عَلَيْهَا ضِيقٌ. كَمَا أَهَانَ الزَّمَانُ الأَوَّلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي يُكْرِمُ الأَخِيرُ طَرِيقَ الْبَحْرِ عَبْرَ الأُرْدُنِّ جَلِيلَ الأُمَمِ. اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (إش9: 1، 2).
وقد أورد إنجيل متى عماد السيد المسيح ومن بعده صعوده إلى البرية إلى جبل التجربة ثم بعد ذلك موضع سكناه وخدمته الأولى في الجليل "وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ أَنَّ يُوحَنَّا أُسْلِمَ انْصَرَفَ إلى الْجَلِيلِ. وَتَرَكَ النَّاصِرَةَ وَأَتَى فَسَكَنَ فِي كَفْرِنَاحُومَ الَّتِي عِنْدَ الْبَحْرِ فِي تُخُومِ زَبُولُونَ وَنَفْتَالِيمَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإشعياء النَّبِيِّ: أَرْضُ زَبُولُونَ وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ طَرِيقُ الْبَحْرِ عَبْرُ الأُرْدُنِّ جَلِيلُ الأُمَمِ، الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (مت4: 12-16).
فى منطقة الجليل علّم الرب يسوع كثيرًا، وألقى موعظته على الجبل، وصنع معجزات كثيرة حتى إن ثماني عشر من ثلاث وثلاثين معجزة من المعجزات المسجّلة في الأناجيل الأربعة للسيد المسيح قد صنعها في تلك المنطقة، إلى جوار آلاف المعجزات التي ذُكرت إجمالًا.
وعبارة "جَلِيلُ الأُمَمِ" تشير إلى أن تلك المنطقة قد سكن فيها كثير من الأمم من غير الشعب الإسرائيلي وخالطوهم وكان يُظن أنه لا يمكن أن يقوم نبى من الجليل. لهذا قال رؤساء الكهنة والفريسيون لنيقوديموس عندما دافع عن السيد المسيح: "فَتِّشْ وَانْظُرْ! إِنَّهُ لَمْ يَقُمْ نَبِيٌّ مِنَ الْجَلِيلِ" (يو7: 52).
لذلك قال إشعياء النبي عن الجليل: "كَمَا أَهَانَ الزَّمَانُ الأَوَّلُ أَرْضَ زَبُولُونَ وَأَرْضَ نَفْتَالِي يُكْرِمُ الأَخِيرُ" (إش9: 1) وقد ذكر أسماء سبطى زبولون ونفتالى لأن هذه المنطقة في الجليل كانت من نصيبهم في توزيع الأرض على أسباط إسرائيل الاثني عشر في القديم.
وقد أوضح القديس متى الإنجيلي كيف خدم السيد المسيح كثيرًا في منطقة الجليل فقال: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْبِ. فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ. فَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْعَشْرِ الْمُدُنِ وَأُورُشَلِيمَ وَالْيَهُودِيَّةِ وَمِنْ عَبْرِ الأُرْدُنِّ" (مت4: 23-25).
كان شعب منطقة الجليل يرزح تحت ظلال الموت لكثرة اختلاطهم بالأمم؛ وركّز السيد المسيح كرازته بالإنجيل هناك أولًا قبل أن يذهب للخدمة في اليهودية وفي الهيكل في أورشليم إلى أن يتمم رسالته الخلاصية بدخوله أورشليم كملك ثم الحكم عليه بالموت في مجمع اليهود هناك، وصلبه خارج أسوار أورشليم وما تبع ذلك من أحداث..
ولكن لا يفوتنا أن السيد المسيح بعد قيامته من الأموات وظهوره لمريم المجدلية ومريم الأخرى قال لهما: "اذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إلى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي" (مت28: 10)،وقد سبق ذلك أيضًا قول ملاك القيامة للمرأتين: "اذْهَبَا سَرِيعًا قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إلى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ" (مت28: 7). وكأن السيد المسيح يريد أن يعيد ذكريات الأيام الأولى في خدمته هناك.
وبالرغم من ظهوراته المتفرقة للتلاميذ ثم ظهوره لهم وهم مجتمعين في أورشليم؛ مرة في غياب توما الرسول ومرة في حضوره. إلا أنه بالفعل قد ظهر لهم بعد ذلك في الجليل على شاطئ البحر. كما ذكر ذلك القديس يوحنا الإنجيلي "بَعْدَ هَذَا أَظْهَرَ أَيْضًا يَسُوعُ نَفْسَهُ لِلتّلاَمِيذِ عَلَى بَحْرِ طَبَرِيَّةَ... هَذِهِ مَرَّةٌ ثَالِثَةٌ ظَهَرَ يَسُوعُ لِتلاَمِيذِهِ بَعْدَمَا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ" (يو21، 1، 14).
بعد ذلك توالت ظهوراته للتلاميذ كما ورد في سفر الأعمال "إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ بَعْدَ مَا أَوْصَى بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الرُّسُلَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ. اَلَّذِينَ أَرَاهُمْ أَيْضًا نَفْسَهُ حَيًّا بِبَرَاهِينَ كَثِيرَةٍ بَعْدَ مَا تَأَلَّمَ وَهُوَ يَظْهَرُ لَهُمْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَيَتَكَلَّمُ عَنِ الأُمُورِ الْمُخْتَصَّةِ بِمَلَكُوتِ اللهِ" (أع1: 2، 3).
إذن لقد اقترن اسم الجليل مع أحداث كبيرة في خدمة السيد المسيح في موعظته على الجبل، وفي معجزة قانا الجليل، وكثير من المعجزات، وبعد قيامته في بشارة الملاك للمريمات وفي ظهوره الثالث لمجموعة من الرسل الاثني عشر الذين عاش عدد منهم يعملون في صيد السمك في الجليل مثل بطرس ويعقوب ويوحنا، قبل أن يدعوهم السيد المسيح ليجعلهم صيادين للناس.
من كان يظن في عصر إشعياء النبي أن تحدث كل هذه البركات في منطقة الجليل المسماة "جَلِيلُ الأُمَمِ"؟ ومن المعروف أن "الأمم" هو تعبير عن الشعوب الوثنية في ذلك الزمان!!
حقًا إن المسيح في سفر إشعياء ليس فقط قد دعى اسمه "عجيبًا" بل كان عجيبًا بالفعل أن يرد كل ما ورد عنه في سفر إشعياء مما ذكرناه وما لم نذكره وما سوف نذكره لاحقًا..
_____
2) الترجمة البيروتية التي أشرف عليها المستشرق فانديك.
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:40 PM   رقم المشاركة : ( 6 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الخامس: نبوات عن آلام السيد المسيح وصلبه

آلام المسيح

الآن نحن أمام أهم إصحاح في سفر إشعياء؛ الذي حمل نبوات كثيرة عن آلام السيد المسيح، وذبيحته الكفارية على الصليب، وموته، وقيامته، والخلاص الذي دبّره الآب السماوي بذبيحة ابنه الوحيد الجنس، وهو الإصحاح الثالث والخمسين الذي يرتبط بنهاية الإصحاح الثاني والخمسين (52: 12-15).
يقول النبي: "نَبَتَ قُدَّامَهُ كَفَرْخٍ وَكَعِرْقٍ مِنْ أَرْضٍ يَابِسَةٍ لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ. مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53:2، 3).
العجيب أن النبي قد أشار إلى ميلاد السيد المسيح العذراوي، أي بدون زرع بشر من العذراء القديسة مريم. ثم انتقل سريعًا ومباشرةً إلى مرحلة الآلام حينما امتلأ جسد المسيح بالجراحات من الجلد وإكليل الشوك بصورة تقشعر لها الأبدان.
وبالرغم من أن المزمور قد ذكر عن السيد المسيح إنه "أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ" (مز44: 2) ؛ إلا أن النبي إشعياء قال عن حالته في مرحلة الآلام: "لاَ صُورَةَ لَهُ وَلاَ جَمَالَ فَنَنْظُرَ إِلَيْهِ وَلاَ مَنْظَرَ فَنَشْتَهِيهِ". فالمزمور تكلّم عن المسيح "الملك" (مز44: 1)، وقال: "قامتِ الْمَلِكَةُ عَنْ يَمِينِكَ" (مز44: 9) مشيرًا إلى جماله الروحي وإلى مجده العظيم في ملكوته في الدهر الآتى. أما إشعياء فقد نقلنا سريعًا إلى آلام السيد والإهانات التي لحقت به من جراء خطايانا.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ

يقول إشعياء النبي عن السيد المسيح: "مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ. وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53: 3).
نظرًا لأن كلام النبي كان يشير إلى مرحلة آلام السيد المسيح؛ لذلك فقد ركّز على الوضع الذي صار أثناء هذه المرحلة بالذات، وليس على جميع مراحل خدمته بعد عماده في نهر الأردن على يد يوحنا المعمدان.
فعبارة "مُحْتَقَرٌ وَمَخْذُولٌ مِنَ النَّاسِ" تشير إلى السخرية والاستهزاء الذي عومِلَ به السيد المسيح أثناء محاكمته أمام مجمع اليهود، ثم بواسطة الجند الرومان الذين كانوا يلطمونه ويقولون له: "تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ الَّذِي ضَرَبَكَ؟" (لو22: 64). كذلك يشير إلى البصق في وجهه الوديع بواسطة الأشرار. ووصل الأمر إلى تمزيق جسده المبارك بواسطة السياط الرومانية المصنوعة من عصب البقر وفي آخرها قطع من العظام أو المعدن الذي يغرس في اللحم وعند جذب الكرباج ينزع أجزاء من جلد الظهر أو الصدر إلى جوار تمزيق الشرايين الداخلية المحيطة بالقفص الصدري مما يؤدى إلى النزف الداخلي الذي يملأ تجويف الصدر بالدماء المكونة من الهيموجلوبين الأحمر والبلازما الشفافة البيضاء.
وعند طعن السيد المسيح بالحربة في جنبه جرى منه دم وماء. لأن الهيموجلوبين يرسب إلى أسفل والبلازما تعلوه لوجود فرق في الكثافة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
رَجُلُ أَوْجَاعٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ

تشير هذه العبارة إلى أن السيد المسيح قد اتخذ ناسوتًا حقيقيًا قابلًا للألم والحزن والموت.
وإلى جوار ذلك فإنها ترد على ادعاءات اليهود ضد ذبيحة الصليب أن الله لا يقبل ذبيحة بشرية.
فعلًا الله لا يقبل كل ذبيحة بشرية بدليل أنه قد افتدى إسحق بخروف على جبل المريّا. ولكن ذبيحة الصليب كانت لها قيمة خاصة في نظر الآب السماوي لأنها ذبيحة الفداء. ولأن المسيح سوف يقهر الموت ويدوس الموت بالموت ويقوم منتصرًا من الأموات.
كما أن ذبيحة الصليب تتميز بأن السيد المسيح كان هو الكاهن والذبيحة في آنٍ واحد. أي أنه هو الذي قدّم نفسه: مثلما ذكر معلمنا بولس الرسول: "الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ للهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب9: 14).
فالذبيحة البشرية الوحيدة التي قبلها الآب السماوي هي ذبيحة ابنه الوحيد الجنس الذي أكمل الفداء بذبيحة نفسه. ولذلك قال إشعياء النبي عن المسيح المصلوب: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 10).
فعبارة "كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ" (إش53: 7) هي على سبيل التشبيه، ولا تعنى أن الذبيحة هي ذبيحة خروف من الحيوانات، بل ذبيحة الابن المتجسد الذي صار إنسانًا (أى رجلًا) من أجل خلاصنا. لذلك قال: "رَجُلُ أَوْجَاعٍ".
أما عبارة "َمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ" فإن السيد المسيح في ليلة صلبه قال لتلاميذه: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 38)، (مر14: 34).
فالمسيح لم يتألم فقط ليوفى دين خطايانا، بل حزن أيضًا على هذه الخطايا. لأن المفروض أن نحزن نحن على خطايانا إلى الأبد. وهذا يعنى أن نذهب إلى الهلاك الأبدى. ولكن أحزان السيد المسيح تقوم في مقام حمل أحزان كل البشر على جميع الخطايا في جميع الأجيال.
وقد أكد إشعياء النبي ذلك أيضًا بقوله: "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا" (إش53: 4). إذن فأوجاع السيد المسيح لم تكن جسدية فقط، بل شاركت نفسه في هذه الأوجاع بالأحزان الساحقة التي حملها. وقد سُر الرب بأن يسحقه بالحزن.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَكَمُسَتَّرٍ عَنْهُ وُجُوهُنَا، مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ

حينما يرى الإنسان منظرًا مؤلمًا بشعًا مثل من دهسه الترام أو الأوتوبيس، فإنه يستر وجهه بيديه لكي لا يُبصر هذا المنظر المريع.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
هكذا كل من ينظر إلى السيد المسيح مُعلقًا على الصليب، وجسده مملوءًا بالجراحات، ورأسه مكللًا بالأشواك، والدماء تغطى وجهه، والمسامير في يديه ورجليه بجراحات غائرة، فإنه يستر وجهه عنه لأنه لا يحتمل النظر إليه.
وما أجمل كلمات قداسة البابا شنوده الثالث -أطال الرب حياة قداسته- عن مشهد الصليب في تقدير آلام المخلص وجراحاته:
كلّما طافت بك العين انزوت نفسي الخجلى يغطيها بكاها
فلماذا أنت مصلوب هنا وأنا الخاطئ حُرٌ أتباهى
أما عن موقف اليهود فقد تكلم إشعياء النبي بلسانهم قائلًا: "مُحْتَقَرٌ فَلَمْ نَعْتَدَّ بِهِ" (إش53: 3) أي أن البشر غير المؤمنين في وقت الصلب لم يدركوا عظمة المصلوب ولا بهاء مجده.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا

أكمل القديس إشعياء النبي نبواته عن آلام المسيح فقال: "لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).
الخطية تستوجب الحزن على ارتكابها. حزنًا يمتد إلى الأبد لأن عقوبة الخطية هي الموت الأبدي.
فكان ينبغي أن السيد المسيح يحمل أحزان كل الخطايا لجميع البشر في جميع العصور. وفي حمله لها يكون قد أوفى دين الخطية الذي علينا. لأنه بالرغم من أنه قد أخذ إنسانية حقيقية وشابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها، إلا أنه في الوقت نفسه هو الله الكلمة المتجسد، والذي وحّد ناسوته مع لاهوته. فأحزانه هو وحده تساوى أحزان الجميع وموته هو وحده يساوى موت الجميع. لأنه لم يكن إنسانًا عاديًا بل هو نفسه الله الكلمة وكل ما يُنسَب إلى جسم بشريته الخاص ينسب إليه.
أحزان السيد المسيح قد عوّضت كل ما هو مطلوب من البشرية من أحزان أبدية. ويتبقى أن نشاركه فقط في أحزانه وآلامه كعلامة على تقديرنا لبذله وآلامه ومحبته. وبمعنى أوضح أن نحزن على ما سببناه له من أحزان. نتحد به في شبه موته، ونتحد به في شبه قيامته في المعمودية (انظر رو6: 5). ونتشبه بموته، ولكن لا يمكننا أن نساويه في موته وأحزانه وطاعته في حمل الآلام لأجلنا، تلك التي أرضت قلب الآب السماوي، وصالحته مع البشرية التي سبق أن تأسف في قلبه أنه خلقها (انظر تك6: 6).
الحزن من أجل الخطية قيل عنه في الكتاب "لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ" (2كو7: 10).
وقيل عن السيد المسيح في هذا المجال "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ" (إش53: 10).
كُتب عن السيد المسيح وهو مقبل على إتمام الفداء كحامل لخطايا العالم "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 37، 38).
إن آدم الأول قد عصى الله حتى الموت، وآدم الأخير أي السيد المسيح قد أطاع الله الآب حتى الموت.
إذ أنه حينما تجسّد "وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فى2: 8).
ونلاحظ أن عبارة "حَتَّى الْمَوْتَ" قد تكررت في قول الكتاب عن حزن السيد المسيح "حَتَّى الْمَوْتَ" (مت26: 38)، وعن طاعة المسيح "حَتَّى الْمَوْتَ" (فى2: 8).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا

نلاحظ أن النبي إشعياء قد ميّز في نبوته بين الحزن والألم بقوله: "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا" (إش53: 4) مميزًا في كلامه بين "أَحْزَانَنَا" و"أَوْجَاعَنَا".
فالسيد المسيح كما أنه أوفى الدين في الحزن على الخطية، كذلك أوفى الدين في احتمال الآلام المستوجبة على الخطية وأهم هذه الآلام العذاب الأبدي.
الحزن مسألة تخص النفس، أما الألم فيخص الجسد. ومن جانب ثالث فإن الموت يخص الروح في مفارقتها للجسد. وهذا الجانب الثالث أيضًا قد ذكره القديس إشعياء النبي في كلامه عن آلام السيد المسيح وموته "وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (إش53: 8، 9).
وأشار القديس بولس الرسول إلى ألم الموت بالنسبة للسيد المسيح بقوله: "وَلَكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ" (عب2: 9).
وسوف نتكلم عن قضية الموت بالتفصيل بمشيئة الرب فيما بعد.
ونعود إلى الحديث عن الأوجاع التي تحمّلها السيد المسيح من أجل خلاصنا، فنجد أن القديس بولس يقول: "لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إلى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ" (عب2: 10).
كذلك يقول معلمنا بطرس الرسول في نفس المجال: "فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهَذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ" (1بط4: 1).
ويقول: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا.. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 21، 24).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
نَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ

فى قوله: "وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا.." (إش53: 4) يتكلم بلسان الأمة اليهودية ليوضّح كيف انحرف اليهود في فهمهم لصليب السيد المسيح.
المسألة ترجع أساسًا إلى ما ورد في سفر التثنية عن المصلوب أو المعلق على خشبة:
"وَإِذَا كَانَ عَلى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا المَوْتُ فَقُتِل وَعَلقْتَهُ عَلى خَشَبَةٍ. فَلا تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلى الخَشَبَةِ بَل تَدْفِنُهُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَنَّ المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلا تُنَجِّسْ أَرْضَكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا" (تث21: 22، 23).
لقد أصّر رؤساء الكهنة وقيادات اليهود على أن يتم قتل السيد المسيح صلبًا.
وعندما قال لهم بيلاطس الوالي الروماني: "خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ". قال له اليهود: "لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا" وعلّق إنجيل يوحنا على هذه المناقشة "لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيرًا إلى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ" (يو18: 31، 32).
لقد رفض اليهود أن ينفّذوا حكم الموت في السيد المسيح، لأنهم كانوا يرجمون المحكوم عليه بالموت مثلما فعلوا مع القديس إستفانوس رئيس الشمامسة وأول الشهداء (انظر أع 7: 59).
وكانوا كاذبين في كلامهم مع بيلاطس عندما قالوا: "لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا" لأنهم قتلوا إستفانوس بحكم من مجمعهم وليس بحكم من السلطة الرومانية بعد ذلك بسنوات قليلة.
ولكن كان غرضهم هو أن يموت السيد المسيح مصلوبًا ليثبتوا عليه اللعنة حسبما ورد في سفر التثنية أن "المُعَلقَ مَلعُونٌ مِنَ اللهِ" (تث 21: 23).
وبناءً على ذلك كانوا يعيّرون السيد المسيح وهو معلّق على الصليب ويسخرون منه "وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضًا مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ" (لو23: 35).
تحققت كلمات إشعياء النبي "وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).
وفى الحقيقة إن السيد المسيح قد حمل لعنة خطايانا، لذلك قال معلمنا بولس الرسول عن الآب السماوي: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2كو5: 21).
لقد محا السيد المسيح لعنة الخطية كقول الكتاب "إذ محا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدًّا لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّرًا إيَّاهُ بِالصَّلِيبِ" (كو2: 14)،"وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثنيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثنيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ" (أف2: 16). ويتضح الأمر تمامًا في قوله: "الْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ" (غل3: 13).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
بين الصليب والحية في البرية

لماذا رفع موسى الحية في البرية كرمز للصليب؛ مع أن الحية ترمز إلى الشيطان..؟!
المسألة أن السيد المسيح قد حمل خطايانا في جسده، وارتفع إلى الصليب، وسمّر الخطية هناك ونزل عن الصليب وتركها مسمّرة.
وبعد قيامته ظهر في البستان لمريم المجدلية. ليكون البستان هو بمثابة الفردوس الجديد بدون الحية القديمة التي سمّرت على الصليب.
بمعنى أن تعليم إبليس لا وجود له داخل كنيسة المسيح، والسيد المسيح هو المعلّم الوحيد. لذلك قالت له مريم المجدلية: "رَبُّونِي الَّذِي تَفْسِيرُهُ يَا مُعَلِّمُ" (يو20: 16).
كيف أزال الآب السماوي شُبهة اللعنة عن ابنه المحبوب؟
لقد "أقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ" (أع2: 24)، وقال بطرس الرسول لليهود: "إِنَّ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ إِلَهَ آبَائِنَا مَجَّدَ فَتَاهُ يَسُوعَ الَّذِي أَسْلَمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَأَنْكَرْتُمُوهُ أَمَامَ وَجْهِ بِيلاَطُسَ وَهُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلاَقِهِ. وَلَكِنْ أَنْتُمْ أَنْكَرْتُمُ الْقُدُّوسَ الْبَارَّ وَطَلَبْتُمْ أَنْ يُوهَبَ لَكُمْ رَجُلٌ قَاتِلٌ. وَرَئِيسُ الْحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذَلِكَ" (أع 3: 13-15).
إذن حينما مات السيد المسيح فإنه مات لأجل خطايانا، وحينما قام من الأموات في اليوم الثالث فإنه قام لسبب بره الشخصي، ولكي يعلن الآب أن اللعنة لم تكن لعنته الشخصية بل لعنتنا نحن التي حملها نيابة عنا ومحاها بالصليب. وقد مجّد الآب ابنه بالقيامة من الأموات. وركّز الآباء الرسل على عمل الآب في إقامة الابن المتجسد مع أن الابن قد قام بسلطان لاهوته. ولكن نظرًا لأن قدرة واحدة هي للآب والابن والروح القدس. لذلك أمكن أن يقال أن الآب أقامه، أو أن الروح القدس أقامه، كما أنه هو أقام نفسه كقوله لليهود: "انْقُضُوا هَذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هَذَا الْهَيْكَلُ أَفَأَنْتَ فِي ثلاَثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ" (يو2: 19-21).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
حَسِبْنَاهُ.. َمَذْلُولًا

"وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا" (إش53: 4).. لنتأمل في المذّلة ومعانيها. وهو الذي قيل عنه في نفس الإصحاح من سفر إشعياء "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
يلزمنا أن نقطع رحلة مع كلمة "المذّلة" لندرك أبعاد وأعماق ما عاناه السيد المسيح من المذّلة وما ذلل هو به نفسه من أجلنا ومن أجل خلاصنا.
فعندما أذل فرعون شعب إسرائيل في العبودية في أرض مصر قال الرب لموسى النبى: "إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ. فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ" (خر3: 7، 8).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
المزامير وكلمة "المذلة"

وردت كلمة "المذّلة" في صلوات المزامير كثيرًا لتعبّر عن مشاعر الإنسان الذي يطلب المعونة والخلاص من الله، كما أنها تحمل أحيانًا العديد من النبوات عن السيد المسيح الذي احتمل المذّلة ومن أمثلة ذلك:
* "اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. انْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ الْمَوْتِ. لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابنةِ صِهْيَوْنَ مُبْتَهِجًا بِخَلاَصِكَ" (مز 9: 13، 14).
* "أَبْتَهِجُ وَأَفْرَحُ بِرَحْمَتِكَ لأَنَّكَ نَظَرْتَ إلى مَذَلَّتِي وَعَرَفْتَ فِي الشَّدَائِدِ نَفْسِي" (مز31: 7).
* "أَمَّا أَنَا فَفِي مَرَضِهِمْ كَانَ لِبَاسِي مِسْحًا. أَذْلَلْتُ بِالصَّوْمِ نَفْسِي. وَصَلاَتِي إلى حِضْنِي تَرْجِعُ" (مز35: 13).
* "لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ الأَوَّلِينَ. لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعًا لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدًّا" (مز79: 8).
* "فَرِّحْنَا كَالأَيَّامِ الَّتِي فِيهَا أَذْلَلْتَنَا كَالسِّنِينِ الَّتِي رَأَيْنَا فِيهَا شَرًّا" (مز90: 15).
* "الرَّبُّ حَافِظُ الْبُسَطَاءِ. تَذَلَّلْتُ فَخَلَّصَنِي" (مز115: 6).
* "آمَنْتُ لِذَلِكَ تَكَلَّمْتُ. أَنَا تَذَلَّلْتُ (اتضعت) جِدًّا" (مز116: 10).
* "هَذا الذي عَزّاني فِي مَذَلَّتِي لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي" (مز118: 50).
* "خَيْرٌ لِي أنك أذللتنى حتى أَتَعَلَّمَ حقوقك" (مز118: 71).
* "قَدْ عَلِمْتُ يَا رَبُّ أَنَّ أَحْكَامَكَ عَدْلٌ وَبِحَقِّ أَذْلَلْتَنِي" (مز118: 75).
* "تَذَلَّلْتُ جدًا إلى الْغَايَةِ. يَا رَبُّ أَحْيِنِي كقولك" (مز118: 107).
* "أنصت إلى طلبتي، فإني قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا" (مز141: 6).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مراثى أرميا وكلمة "المذلة"

وفى سفر مراثى أرميا وردت كلمة المذّلة كثيرًا. ويُقرأ جزء كبير من هذا السفر في بداية الساعة الثانية عشر من يوم الجمعة العظيمة. ونورد أمثلة لما ورد في هذا السفر:
* "قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ" (مرا 1: 3).
* "أمَا إِلَيْكُمْ يَا جَمِيعَ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ تَطَلَّعُوا وَانْظُرُوا إِنْ كَانَ حُزْنٌ مِثْلُ حُزْنِي الَّذِي صُنِعَ بِي الَّذِي أَذَلَّنِي بِهِ الرَّبُّ يَوْمَ حُمُوِّ غَضَبِهِ" (مرا 1: 12).
* "أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ" (مرا 3: 1).
* "ذِكْرُ مَذَلَّتِي وَتَيَهَانِي أَفْسَنْتِينٌ وَعَلْقَمٌ" (مرا 3: 19).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وصايا الرب وكلمة "المذلة"

ووردت في وصايا الرب في ناموس موسى مثل يوم الكفارة العظيم:
* "أَمَّا الْعَاشِرُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ السَّابِعِ فَهُوَ يَوْمُ الْكَفَّارَةِ. مَحْفَلًا مُقَدَّسًا يَكُونُ لَكُمْ. تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ وَتُقَرِّبُونَ وَقُودًا لِلرَّبِّ" (لا23: 27).
* "إِنَّ كُلَّ نَفْسٍ لاَ تَتَذَلَّلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ عَيْنِهِ تُقْطَعُ مِنْ شَعْبِهَا" (لا23: 29).
ونادي عزرا الكاتب بالتذلل أمام الرب لسبب السبي وما تبعه من أحداث فقال:
* "وَنَادَيْتُ هُنَاكَ بِصَوْمٍ عَلَى نَهْرِ أَهْوَا لِنَتَذَلَّلَ أَمَامَ إِلَهِنَا لِنَطْلُبَ مِنْهُ طَرِيقًا مُسْتَقِيمَةً لَنَا وَلأَطْفَالِنَا وَلِكُلِّ مَالِنَا" (عز8: 21).
* وقال أيضًا: "وَعِنْدَ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ قُمْتُ مِنْ تَذَلُّلِي وَفِي ثِيَابِي وَرِدَائِي الْمُمَزَّقَةِ جَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَبَسَطْتُ يَدَيَّ إلى الرَّبِّ إِلَهِي" (عز9: 5).
أما باروخ الكاتب فقد أشار إلى الخلاص والقيامة في أورشليم بقوله الرائع:
* "اخلعي يا أورشليم لباس النوح والمذلة والبسي بهاء المجد من عند الله إلى الأبد" (با 5: 1).
لقد احتمل السيد المسيح مذلة بني البشر، وتذلل في آلامه وما وقع عليه من تعييرات كنائب عن البشرية لكي يحمل مذلتنا ويوفى دين المذلة الأبدي الذي جلبناه على أنفسنا وذلك لكي يرفع عن شعبه حلة النوح والمذّلة ويلبس كنيسته بهاء المجد من عند الله إلى الأبد.
إن مذّلتك يا ربي يسوع المسيح هي التي أعدت لي حلة المجد الأبدي، فاجعلني أهلًا لهذه المواعيد الثمينة والعظمى بنعمتك القادرة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا

يقول النبي بوحي من الروح القدس عن آلام المخلّص: "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5).
لا ينطبق هذا الكلام إلاّ على السيد المسيح، لأنه هو الذي بلا خطية وحده بين جميع البشر والذي يمكنه أن يشفى بجراحه خطايا غيره. وقد عبّر بنفس الأسلوب أيضًا اللص اليمين حينما وبّخ زميله اللص الشمال على تعييره للسيد المسيح بقوله: "أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟. أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ" (لو23: 40، 41).
إن تعبير "مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا" لا يُعبّر فقط عن أن السيد المسيح قد تألّم عوضًا عن الخطاة ليوفى دين خطاياهم، بل إنه يعبّر عن جراح المحبّة.. كيف تألّم السيد المسيح، لأن الخطية تفسد حياة الإنسان.. إنها مشاعر الراعي الذي يتألّم حينما يرى الذئب وهو يفترس إحدى خرافه المحبوبة. بل هي مشاعر الأب الذي يرى أحد أولاده وهو يلقى بنفسه من برج عال ليسقط مهشمًا. كما أن العصيان يجرح قلب الأب العطوف، والتمرد يجرح مشاعره الرقيقة.
قد يقول قائل ما الذي يخسره الله لسبب خطاياي؟ مضيفًا أن الله غير محتاج إلينا. ولكن السيد المسيح بتجسده قد جسّد مشاعر قلب الله. ووصل تجسيد الموقف في الحوار المذكور في سفر زكريا النبي "فَيَقول لَهُ: مَا هَذِهِ الْجُرُوحُ فِي يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: هِيَ الَّتِي جُرِحْتُ بِهَا فِي بَيْتِ أَحِبَّائِي!" (زك13: 6).
إننا نقف في ذهول أمام جراحات الصليب. أهذا كلّه من أجل الحب؟! أو "هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ الجنس!" (يو3: 16).
وفى الوقت نفسه نشاهد قداسة الله وكراهيته للخطية -وليس للخاطئ- إذ أنه حينما نقل خطايانا على ابنه الوحيد صار الابن "يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤ19: 15). لكي تنال الخطية قصاصًا عادلًا ويُعلن صلاح الله وقداسته..
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أمينة هي جراح المحب

ورد في سفر الأمثال أنها "أَمِينَةٌ هِيَ جُرُوحُ الْمُحِبِّ، وَغَاشَّةٌ هِيَ قُبْلاَتُ الْعَدُوِّ" (أم27: 6)، أي أن المحب الذي يحرص على مصلحة من يحبه قد يسبب له جراحًا عند توبيخه، أو تأديبه، أو مقاومة بعض رغباته التي قد تضره. أما قبلات العدو فهي تتظاهر بالمحبة، بينما لا تنبّه الشخص إلى المخاطر المحيطة به، وتشعره بالأمان إلى أن يضيع. أو هي تحمل الخيانة مثل قبلة يهوذا الإسخريوطى للسيد المسيح، والتي كانت العلامة لتسليمه للذين قبضوا عليه، فكانت قبلة غاشة.
فإن كان من يجرح حبيبه لأجل خيره وصالحه يُحسب أمينًا، فكم يكون من ينجرح هو نفسه لأجل من يحب؟! وكم يكون من يحمل ذنوب غيره ويحمل عقوبتها؟! كم يكون من يحمل الجراحات لكي يبين لأحبائه بشاعة الخطية وعواقبها؟! كم يكون لو أن القاضي أخذ مكان المتهم لكي يوفى ما عليه من ديون؟! وكم يكون من يتحمل القبلة الغاشة من أحد تلاميذه وأصدقائه الذي يقول هو عنه في المزمور "إِنْسَانٌ عَدِيلِي إِلْفِي وَصَدِيقِي. الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ" (مز55: 13، 14)؟! لقد مضى يهوذا وشنق نفسه؛ ربما لأنه لم يحتمل الرقة التي عامله بها السيد المسيح في مقابل خيانته الرديئة وعدم محبته. ولم يمنعه من تقبيله، بل قال له: "يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟" (مت26: 50) ثم أردف قائلًا: "يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابن الإِنْسَانِ؟!" (لو22: 48). لقد قيل عن يهوذا في المزمور: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ.. فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ" (مز109: 17، 18). لقد أسلم يهوذا قلبه للشيطان الذي قاده من الندم إلى اليأس والهلاك.
إن الإنسان يقف مبهورًا أمام هذا الحب الكبير الذي لم يجرح أحدًا، بل احتمل الجراحات "وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا". بل وصل به الأمر أن يلتمس المغفرة معطيًا عذرًا لصالبيه بقوله للآب: "يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو23: 34). وقال معلمنا بولس الرسول عن عظماء هذا الدهر: "لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ" (1كو2: 8).
ولكن القديس بطرس وقف في يوم الخمسين ليوبّخ اليهود وقال لهم عن السيد المسيح: "بِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ.. تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسم يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِغُفْرَانِ الْخَطَايَا، فَتَقْبَلُوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. لأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ ولأَوْلاَدِكُمْ وَلِكُلِّ الَّذِينَ عَلَى بُعْدٍ كُلِّ مَنْ يَدْعُوهُ الرَّبُّ إِلَهُنَا" (أع2: 23، 38، 39). واعتمد في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس لأن الآب طبعًا قد قبل ما طلبه السيد المسيح لمن صلبوه ثم تابوا "لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ" (لو23: 34).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا

"هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5).
الجراحات تخص اللحم أما السحق فيخص العظام. وكأن الرب يريد أن يوضح لنا أن السيد المسيح قد تألم بكل ما فيه من لحم وعظام سواء من الناحية الجسدية أو من الناحية النفسية. فهناك موقف يجرح مشاعر الإنسان وموقف آخر يسحقه سحقًا. لذلك ورد في نفس الإصحاح "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ" (إش53: 10). وورد على لسان أيوب في جداله مع زملائه الثلاثة "حَتَّى مَتَى تُعَذِّبُونَ نَفْسِي وَتَسْحَقُونَنِي بِالْكَلاَمِ" (أى19: 2).
السيد المسيح حينما حمل خطايانا أخذ كل ما تستوجبه الخطية من مشاعر الحزن والانسحاق عند التوبة. أي أنه قد حزن بما يكفى لخلاصنا من الحزن الأبدي، وانسحق بما يوازى انسحاق كل الخطاة التائبين إلى أبد الدهور.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ

"هُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش53: 5)، السيد المسيح هو صانع السلام. وكان ينبغي أن يصالح الله مع الإنسان، والسمائيين مع الأرضيين، والروح مع الجسد، واليهود مع الأمم.
لذلك قال معلمنا بولس الرسول: "وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعًا فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ" (2كو 5: 18، 19).

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وقال أيضًا مخاطبًا أهل أفسس: "الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثنيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثنيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثنيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ" (أف2: 13-16).
كان صنع السلام مرتبطًا بالمصالحة، والمصالحة بُنيت على الصليب. فصار تأديب سلامنا على السيد المسيح. أي أنه أوفى الدين الذي علينا وحمل عقوبة خطايانا وصالحنا مع أبيه السماوى، وأدان الخطية بالصليب معلنًا قداسة الله كرافض للشر، ومعلنًا محبة الله كمعتنى ومخلّص من الهلاك الأبدي. كان السلام يحتاج إلى تأديب الإنسان الذي عصى وتمرد. فجاء آدم الجديد وقدّم طاعة كاملة أرضت قلب الآب وأعادت إلى الإنسان علاقته المفقودة مع الله.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا

كانت جراحات السيد المسيح هي شفاء للبشرية الخاطئة. وقد وقف القديس بطرس الرسول مبهورًا أمام حقيقة جلد السيد المسيح الذي التهب جسده القدوس بالسياط المحرقة ومزقه تمزيقًا فقال عن السيد المسيح: "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 24).
كانت جراحات الجلد الروماني هي السبب المباشر لموت السيد المسيح السريع على الصليب. لأن ضربات الكرابيج المصنوعة من عصب البقر والتي في نهاية كل سير منها قطعتين من العظم أو من المعدن الصلب، كانت قد مزقت الشرايين المحيطة بالقفص الصدري وسببت نزيفًا حادًا حتى ملأت الدماء التجويف الصدرى للسيد المسيح.
ما أعجب هذا الارتباط بين نبوة إشعياء "وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" وكلام بطرس الرسول "بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ".
إن آلامك يا رب تشفى محبتنا للذة الخطية. نحن نتلذذ وأنت جسدك يحترق بالآلام!
فكيف نطيق الخطية مهما كانت لذتها الوقتية؟! جلداتُك.. حُبُرك.. جراحاتُك، تشفينا.. تنادينا.. تأسرنا؛ لأنك اقتحمت قلوبنا بمحبتك.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا

يكمل إشعياء النبي نبوءته بقوله: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (إش53: 6).
بمهارة فائقة ربط الوحي على فم إشعياء النبي بين وضع السيد المسيح باعتباره هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم، ووضعه كراعي الخراف العظيم: فهو الحمل والراعي.
فحينما يشبّه إشعياء النبي البشر بالغنم: يضع الله في موقف الراعي. وفي نفس الوقت يشير إلى نيابة السيد المسيح عن البشرية، إذ أنه هو الذبيحة الحقيقية التي أشارت إليها ذبائح الأغنام الكثيرة في العهد القديم بما في ذلك ذبيحة أبينا إبراهيم.
من أهم اختصاصات راعى الأغنام أن يبحث عن الخراف الضالة، وأن يحميها من الذئاب الخاطفة ثم أن يقودها إلى المراعى الخضراء ومياه الراحة.
ومن عادة الخراف أنها تنطلق في المسير بلا وعى ولا تدرك أبعاد الطريق الذي رسمه لها الراعي.
لذلك يقول: "كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ". أن يضل أحد الخراف أو بعضها فهذا أمر طبيعي، ولكن أن يضل جميع الخراف فهذا أمر صعب ومؤسف وخطير.
ولكن هذا ما حدث بالفعل إذ يقول معلمنا بولس الرسول: "منْ أَجْلِ ذَلِكَ كَأَنَّمَا بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ الْخَطِيَّةُ إلى الْعَالَمِ، وَبِالْخَطِيَّةِ الْمَوْتُ، وَهَكَذَا اجْتَازَ الْمَوْتُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ الْجَمِيعُ" (رو5: 12).
وصار الجميع في احتياج إلى الخلاص. ولم يوجد بين البشر من يستطيع أن يصنع الخلاص..
وهذا ما عبّر عنه إشعياء النبي بالروح عن نظرة الرب للأوضاع فقال: "فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ. فَخَلَّصَتْ ذِرَاعُهُ لِنَفْسِهِ وَبِرُّهُ هُوَ عَضَدَهُ. فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ" (إش59: 16، 17).
كان تجسُّد الابن الوحيد الجنس ضروريًا لخلاص البشرية. وهكذا تجسَّد الله الكلمة بنفسه، وصار إنسانًا لأنه لم يوجد بين البشر ولا الملائكة من يمكنه إتمام الفداء.
لقد مال البشر جميعًا كل واحد إلى طريقه. ولكن قد جاء من هو نفسه "الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ" (يو14: 6). وقدّم نيابة عن البشرية طاعة كاملة لله أبيه وهو موضوع سروره منذ الأزل وإلى الأبد.
لم يكن السيد المسيح في طاعته لأبيه السماوي بلا خطية فقط، بل ارتضى أن يحمل خطايا غيره وأن يوفى ديونها بالكامل. وبذلك وصل بالطاعة إلى ذروتها.
"رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رو5: 7، 8).
إن الطاعة الكاملة التي يقدمها أي ابن لأبيه هو ألا يخالف وصيته؛ مثلما قال الابن الأكبر لأبيه في مَثل الابن الضال: "وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ ابنكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ" (لو15: 29، 30).
لم يحتمل الابن الأكبر محبة أبيه لأخيه الذي "كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ" (لو15: 32)، وبالأكثر لم يحتمل أن يأخذ هذا الأخ تكريمًا اعتبره هو أنه يليق به وليس بأخيه. ولكن هل كان يقبل أن يحمل خطايا أخيه ويوفى ديونها..؟! طبعًا الذي احتمل هو الأب.. احتمل تعيير ابنه في قبوله للابن الآخر. ولم يقل الابن الأكبر "لما جاء أخي" ولكنه قال: "لَمَّا جَاءَ ابنكَ هَذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي". والعجيب أن الأب حينما علم أن الابن الأكبر قد غضب ولم يرد أن يدخل إلى الحفل "خَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ" (لو15: 28).
لقد تمرّد اليهود على الله، وتمرّد الأمم على الله "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو3: 23). وحينما بدأ الرب يقبل الأمم في الإيمان بعد إتمام الفداء بدأ اليهود يتعبون. ولكن الكنيسة قاومت تيار التهوّد في المسيحية لجهود بولس الرسول وانتهى الأمر بقرار من مجمع الرسل في أورشليم بحسم هذه المسألة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الموت النيابي

إن عبارة "الرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا" (إش53: 6) تحسم الجدل الذي يدور بين البعض حول مسألة "الموت النيابي". فمن الواضح أن السيد المسيح حسب تعليم الكتاب المقدس وحسب تعاليم الآباء القديسين مثل القديس أثناسيوس الكبيروالقديس كيرلس عامود الدين، قد دفع ثمن خطايا البشرية وهو برئ،ولكنه ارتضى ذلك وكرّمه الآب بقيامته المجيدة من الأمواتفقد شرح القديس أثناسيوس الرسولي في كتابه عن "تجسد الكلمة" أهمية التجسد الإلهي في خلاص البشرية؛ فقال في الفصل التاسع:
[إن كلمة الله إذ لم يكن من الممكن أن يموت (بحسب لاهوته) أخذ جسدًا قابلًا للموت. لكي باتحاده بالكلمة الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا بأن يموت نيابةً عن الكل].
وبذلك شرح القديس أثناسيوس فكرة الموت النيابي. فالسيد المسيح إذ حمل خطايا العالم، قد مات نيابة عن الكثيرين. وكما قال القديس كيرلس الكبير عامود الدين: [كان موته هو وحده مساويًا لحياة الكثيرين] (الرسالة إلى فاليريان أسقف أيقونية - الفقرة 13).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ

يستكمل إشعياء النبي نبواته عن آلام السيد المسيح بمنتهى الدقة فيقول: "ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
أشار معلمنا بطرس الرسول إلى مسألة الظلم بقوله: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالًا لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ. الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ. الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط2: 21-24).
ويتضح من كلام معلمنا بطرس الرسول أن الظُلم الذي وقع على السيد المسيح كان من الناس الأشرار الذين تآمروا عليه، والذين شتموه، والذين عذّبوه، إذ ضربوه ولطموه وجلدوه وسمروه على الصليب.
اشترك في تعذيب السيد المسيح قيادات اليهود والعسكر الرومان. واشترك أيضًا الحاكم الروماني بونتيوس بيلاطس، الذي أمر بجلده، ثم أمر بصلبه خضوعًا للضغط الشعبى وخوفًا على منصبه.
بالطبع لم يقع الظُلم على السيد المسيح من قِبَل الآب السماوي وإن كان قد سمح بذلك لتكميل عمل الفداء وإدانة الشر والخطية. والدليل على أن الظلم لم يقع من جهة الآب السماوي هو قول الكتاب عن السيد المسيح: "وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ" (1بط2: 23)، بمعنى أن السيد المسيح قد اعتبر الآب قاضيًا عادلًا فكان يُسلّم له الحكم "يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لماذا سَمح الرب أن يُظلم؟

يتساءل البعض: هل من العدل أن يموت البار عوضًا عن الخطاة؟ ولماذا يسمح الآب بأن يقع الظلم على ابنه الوحيد المتجسد؟!
ونجيب على ذلك بالأسباب التالية:
أولًا: إن الفادي قد تطوّع لخلاص البشرية. فهو لم يكن مجبرًا على قبول الآلام والموت جسديًا.
ثانيًا: إن الآب قد أقامه من الأموات سريعًا ولم يستطع الموت أن يمسكه. وبذلك فقد تم التعويض عن الموت.
ثالثًا: إنه قام بجسد ممجد لا يقوى عليه الموت.
رابعًا: إنه قد تمجّد بقيامته وبصعوده إلى السماء جسديًا وبانتصاره على الموت وعلى الجحيم وعلى مملكة الظلمة الروحية. واحتفل السمائيون بهذا الدخول الانتصاري لملك المجد ورفعوا الأبواب الدهرية ليدخل الرب العزيز القاهر في الحروب. وبهذا يكون قد أحيط ناسوتيًا بأمجاد هي أضعاف ما أحاط به من إهانات في جسم بشريته. وبهذا يكون الآب قد أكرمه في مقابل ظلم الأشرار.
خامسًا: إن الشر قد افتضح وأُدين كما قال الكتاب: "إِذْ أَرْسَلَ ابنهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رو8: 3).
لذلك فإن الرسول بطرس حينما تكلم عن الإهانات التي لحقت بالسيد المسيح وإنه إذ تألم كان يُسلّم لمن يقضى بعدل أي لمن سيحكم له في مقابل الظلم الذي وقع عليه، إلا أن الرسول بطرس قد ربط ذلك بالسبب الرئيسي فقال: "الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ" (1بط2: 24)، أي أن آلام المسيح كانت عوضًا عن آلامنا الأبدية. وموته كان عوضًا عن موتنا الأبدي. إنها قصة حب فائق من قِبَل الله؛ جعلت القاضي يأخذ مكان المتهم، ويوفى عنه الدين.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ

لماذا تذلل السيد المسيح؟
* لقد تذلل عوضًا عن الخطاة؛ لكي ينوب عن البشرية في ممارسة الاتضاع ونبذ الكبرياء.
* وتذلل لكي يحتمل ظلم الأشرار؛ كما ورد في القداس الغريغورى {احتملت ظُلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط، وخدّيك أهملتهما للّطم. لأجلى يا سيدي، لم ترد وجهك عن خزي البصاق}.
* وتذلل لكي يعلّمنا كيف نواجه المواقف الصعبة.. كيف نواجه الإهانات.. كيف نواجه الظلم.. كيف نواجه الآلام.. هل نواجهها بروح الكبرياء أو التذمر، أم بروح الاتضاع والطاعة والتسليم لإرادة الله؟ لهذا قال معلمنا بطرس الرسول: "فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكًا لَنَا مِثَالًا لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ" (1بط2: 21) أي لكي نسلك باتضاع.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ

· صمت السيد المسيح؛ لأنه إذ حمل خطايا البشرية لم يرغب في الدفاع عن نفسه.
· وصمت؛ لأن صمته في مواجهة الشر كان أقوى من الكلام. وكان قد علّم كثيرًا في الهيكل وانبهر الجميع من كلمات النعمة على شفتيه. ولأن للصمت وقت وللكلام وقت.
· وصمت؛ لكي يتمم النبوات التي قيلت عنه: "تَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7)، "كَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7).
· وصمت؛ لكي يترك الآب يدافع عنه إذ أقامه من الأموات بمجدٍ عظيم.
· وصمت؛ لكي يعلّمنا أن نحتمل ونصمت ونترك الله يعمل مثل قول موسى للشعب عند البحر الأحمر: "قِفُوا وَانْظُرُوا خَلاَصَ الرَّبِّ.. الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ" (خر14: 13، 14).
ليتنا نتعلم من صمت مسيحنا في وقت يكثر فيه الكلام وكتابة الأقلام.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ

جانب أساسي أراد الوحي أن يبرزه في عبارة "كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) وهو وداعة السيد المسيح في طريقه إلى الجلجثة.
أي أنه كان لا يقاوم الذين اقتادوه إلى الصليب، بل كان حملًا وديعًا يفعل الناس به ما يريدون. وكأنه مثل الحمل لا يعرف أنه يساق إلى الذبح. أو حتى لو عرف الحمل فإنه لا يقاوم.
كان بإمكان السيد المسيح بإشارة منه، أو حتى بمجرد الإرادة الباطنية أن يبدد كل الذين ساقوه إلى الذبح. ولكنه لم يفعل لأنه قد جاء لخلاص العالم.
كان الأسد الخارج من سبط يهوذا يتصرف كشاة!! الأسد الوديع.. الأسد الذي استهزأوا به.. الأسد الذي لطموه.. الأسد الذي جلدوه.. الأسد الذي استاقوه وهو يحمل الصليب.. الأسد الذي سمروه.. الأسد الذي طعنوه بعدما سلّم الروح.
هذا الأسد قد سلّم نفسه إلى أيدي الأشرار واحتمل ظلمهم، قد فعل ذلك حُبًا لنا لأنه لم يكن ممكنًا أن يتم الخلاص إلا به هو، وبتضحيته هو، وبقوته هو، إذ غلب الجحيم والموت وقام منتصرًا من الأموات.
لذلك ففي المشهد السماوي رآه يوحنا الرسول في وسط العرش كحمل قائم كأنه مذبوح (انظر رؤ5: 6). ولكن قيل ليوحنا: "لاَ تَبْكِ. هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، أَصْلُ دَاوُدَ، لِيَفْتَحَ السِّفْرَ وَيَفُكَّ خُتُومَهُ السَّبْعَةَ" (رؤ5: 5).
فهل هو شاة أم أسد؟ يا للعجب!! هو أسد في صورة حمل.. وهو حمل وفي قدرته أسد.. وكيف لا: ألم يتخذ اللاهوت القوى ناسوتًا من العذراء مريم وجعله واحدًا مع لاهوته؟ فمن حيث لاهوته هو أسد ومن حيث ناسوته هو حمل. وكان ينبغي أن يصير الأسد حملًا ليخلّص باقي الحملان. لذلك فإن الله الكلمة "صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا" (يو1: 14).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ

"كَشَاةٍ تُسَاقُ إلى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) من المعروف أن النعجة تقف في هدوء أثناء جز الصوف من على جسمها، لينتفع به أصحابها، وهكذا لم يقاوم السيد المسيح مَن خلعوا عنه ثيابه عند الجلد وعند الصلب.
وقد تكررت عبارة "لَمْ يَفْتَحْ فَاهُ" (إش53: 7) في هذه الآية، مع عبارة "الصمت" ولذلك نعود إلى نفس السؤال في شيءٍ من التفصيل:
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لماذا صمت السيد المسيح؟

قد يتساءل البعض: لماذا صمت السيد المسيح؟.. لماذا لم يدافع عن نفسه أمام مجمع اليهود، وأمام بيلاطس البنطي؟.. ولماذا لم يظهر أمام الوالي الروماني بيلاطس كذب رؤساء كهنة اليهود ورياءهم في قولهم: "لَيْسَ لَنَا مَلِكٌ إِلاَّ قَيْصَرُ" (يو19: 15) في الوقت الذي كانوا فيه يجهزون العدّة للثورة ضد قيصر باعتباره المستعمر الروماني الوثني؟ لقد حاولوا أن يظهروا السيد المسيح كمقاوم لقيصر، بينما سبق أن قال رؤساء الكهنة والفريسيين في مجمع اليهود عن السيد المسيح: "إِنْ تَرَكْنَاهُ هَكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا" (يو11: 48)، وقال لهم قيافا رئيس الكهنة في تلك السنة: "خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا" (يو11: 50). وكانوا يقصدون أن تعاليم السيد المسيح عن السلام ومحبة الأعداء تتعارض مع رغبتهم في محاربة الرومان. أي محاربة قيصر.
وكان هذا هو المنطلق الذي اعتمد عليه المجمع اليهودي في إصدار حكم المجمع المسبّق بقتل السيد المسيح قبل القبض عليه.
ولماذا لم يحتج السيد المسيح على إطلاق باراباس المجرم المُدان في مقابل الحكم عليه بالصلب وهو برئ؟ إذ لم يكن هناك وجهًا للمقارنة بينهما، ولم يكن من حق الوالي أن يطلب من اليهود أن يختاروا مَن يطلق لهم؛ يسوع أم باراباس! لأن الاختيار لا يكون بين بارٍ ومجرمٍ أو بين برئٍ ومُدانٍ.
ولماذا لم يشرح السيد المسيحلبيلاطس رسالته الخلاصية، وحقيقة لاهوته، وولادته الأزلية من الآب، والهدف من تجسده وصلبه وقيامته؟ مع أن بيلاطس سأله: "مَا هُوَ الْحَقُّ؟" (يو18: 38)، ولم يجبه السيد المسيح على سؤاله.
ونجيب على هذه التساؤلات كما يلى:
أولًا: إن السيد المسيح لم يدافع عن نفسه لأنه كان مزمعًا أن يقدّم نفسه ذبيحة إثم، أي أن يحتمل موت الصليب كحامل لخطايا العالم وذلك عوضًا عن البشر ليوفى العدل الإلهي حقه. ولكنه في نفس الوقت نفى ما يمكن أن يمس تعاليمه لئلا يُساء فهم المسيحية؛ وذلك مثل قوله لبيلاطس: "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ" (يو18: 36) في إجابته على سؤال بيلاطس إن كان هو ملك اليهود.
ثانيًا: لم يحتج السيد المسيح على إطلاق باراباس والحكم عليه بالموت صلبًا، لأنه أراد أن يقدّم صورة واضحة للمبادلة التي حدثت بين الإنسان الخاطئ والبار القدوس؛ كلمة الله الذي تجسد وتأنس ليأخذ محل الخطاة.
ثالثًا: لم يشرح السيد المسيح لبيلاطس "ما هو الحق؟" لأن بيلاطس كان مطالبًا بقبول الحق الأصغر قبل أن يُعلن له الحق الأكبر أو الحق الكامل. وقد رسب بيلاطس في الامتحان لأنه لم يحكم بالحق إذ حكم على البريء بالموت صلبًا بالرغم من قوله المشهور: "إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ" (مت27: 24)، ولم ينفعه بالطبع إنه غسل يديه بالماء لأنه اشترك مع اليهود في مسئولية صلب السيد المسيح. فالاغتسال بالماء يفيد إذا كان مقترنًا بالتوبة والسلوك في الحق وهذا ما فعله يوحنا المعمدان عند ممارسته لمعمودية التوبة بالماء؛ إذ كان ينذر الجميع لإصلاح طرقهم والاعتراف بخطاياهم (انظر مر1: 5)، ويصرخ في الجموع الذين أقبلوا إلى معموديته: "اصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ.. وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ" (مت3: 8، 10).
ومن جانب آخر كان الرب قد حرّك قلب زوجة بيلاطس في حلم وأرسلت إلى زوجها تحذيرًا قبل محاكمته للسيد المسيح مباشرة بقولها "إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَارَّ لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ" (مت27: 19). ولكن بيلاطس لم يحكم بالحق خوفًا من ثورة اليهود ومن سلطان القيصر الروماني. وبذلك لم يكن من حقه أن يؤتمن على معرفة مَن هو المسيح، لأن السيد المسيح قال في مَثل وكيل الظلم: "إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى الْحَقِّ؟" (لو16: 11). إن الروح القدس يعمل في جميع البشر ولكنه لا يعلن لهم ألوهية السيد المسيح ويدعوهم إلى معمودية الخلاص إلا إذا شعر أنهم يبحثون عن الحق بإخلاص. ولذلك يقول الكتاب "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كو12: 3).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ

وأكمل إشعياء النبي نبواته وقال: "مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ" (إش53: 8)، لماذا كان عرق السيد المسيح يتساقط كقطرات الدم أثناء جهاده في الصلاة في البستان (انظر لو22: 44)؟!
لاشك أن ضغط الدم كان مرتفعًا جدًا بصورة محسوسة لأننا لا يمكننا أن نفصل المعنوية عن العوامل الطبيعية في الجسد.
وكان السيد المسيح قد "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ" (مت26: 37)، ويقول لتلاميذه: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مت26: 38).
كان الآب قد بدأ ينقل خطايا العالم على فادينا الذي قال عنه يوحنا المعمدان: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو1: 29).
كانت الساعة قد جاءت التي يبدأ فيها إيفاء العدل الإلهي حقه من خلال جسم بشريته حيث بدأ المخلص يجوز "مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ" (رؤ19: 15).
وقد أشار السيد المسيح إلى مجيء هذه الساعة بعدة عبارات مثل قوله: "اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ" (يو12: 27)، وقوله لليهود: "هَذِهِ سَاعَتُكُمْ وَسُلْطَانُ الظُّلْمَةِ" (لو22: 53)، وقوله لتلاميذه: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ" (يو12: 23)، وقول يوحنا الإنجيلي عنه: "أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ إلى الآبِ إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إلى الْمُنْتَهَى" (يو13: 1)، وفي قول السيد المسيح في مناجاته مع الآب: "أيُّهَا الآبُ قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يو17: 1).
كان الهدف في إيفاء العدل الإلهي حقه هو إظهار قداسة الله كرافض للشر والخطية في حياة البشر.. وإنه لا يمكن مغفرة خطايا البشرية دون أن تدان الخطية وتظهر بشاعتها لأن "اللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ" (رو8: 3).
وقد تجلّت بشاعة الخطية فيما سببته للسيد المسيح البار حينما أوفى الدين الذي علينا، وهو الهلاك الأبدي، وكما قال القديس كيرلس الكبير: [كان موته هو وحده مساويًا لحياة الجميع] (الرسالة إلى فاليريان أسقف أيقونية).
إننا نرى بشاعة خطايانا حينما نرى حبيبنا ومخلصنا البار وهو يقاسى مرارة حملها، ويلتهب جسده المقدس بسياطها، بينما قد تلهّينا نحن بلذتها العابرة, معرّضين أبديتنا للضياع.
لذلك تتحرك قلوب المصلّين مع الأب الكاهن في قداس القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات وهو يقول: {أنت يا سيدي حوّلت لي العقوبة خلاصًا.. احتملت ظلم الأشرار، بذلت ظهرك للسياط وخدّيك أهملتهما للطم. لأجلى يا سيدي لم ترد وجهك عن خزي البصاق}.
إذن نستطيع فهم عبارة "مِنَ الضُّغْطَةِ وَمِنَ الدَّيْنُونَةِ أُخِذَ" (إش53: 8)؛ بمعنى أن السيد المسيح قد وقع عليه ضغط شديد بسبب أنه حمل خطايا البشرية، وأوفى دينها، وصار في موقف الدينونة إذ أن الله الآب قد "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً - خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2كو5: 21).
لقد أُخذ السيد المسيح إلى الحزن حتى الموت، وأُخذ إلى مشاعر الكآبة التي ينبغي أن يشعر بها الخاطئ بعد ارتكابه للخطية، وأُخذ إلى أن يتذوق الموت بنعمة الله لأجل كل واحد (انظر عب2: 9).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ألياقيم بن حلقيا

وردت نبوة عن السيد المسيح في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر إشعياء كما يلي:
"فَيَكُونُ أَبًا لِسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ وَلِبَيْتِ يَهُوذَا. وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ. وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 21-24).
وقد قيلت هذه النبوة منسوبة إلى شخص يدعى "أَلِيَاقِيمَ بْنَ حَلْقِيَّا" (إش22: 20). ولكن لو تأملنا معنى هذا الاسم نجد أنه إشارة إلى السيد المسيح حيث إن:
"أَلِيَاقِيمَ" كلمة عبرية معناها "الله يقيم أو من يثبّته الله".
"حَلْقِيَّا" كلمة عبرية معناها "يهوه حماية، أو يهوه قسمتي، أو يهوه نصيبي" (مع ملاحظة أن يهوه هو الاسم الخاص لإله إبراهيم).
ولا يخفى بالطبع أن اسم "أَلِيَاقِيمَ" يشير إلى السيد المسيح الذي أقامه الله الآب وثبّته. واسم "حَلْقِيَّا" يشير إلى الآب السماوي؛ الذي يدعوه السيد المسيح (ابن الله المتجسّد والنائب عن البشرية) "يهوه حماية أو يهوه قسمتي أو يهوه نصيبي"؛ لأن السيد المسيح جعل في الآب حمايته وجعل الآب قسمته، ونصيبه إذ قدَّم نفسه لله بلا عيب وكنائب عن البشرية إذ "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ" (فى2: 7)، احتمى بالآب وأسلم روحه بين يديه.
ومما يؤكّد أن هذه النبوة تخص السيد المسيح هو ما ورد على لسان السيد المسيح نفسه عندما ظهر لتلميذه يوحنا الرسول الإنجيلي وتم تدوينه في سفر الرؤيا كما يلي:
"اكْتُبْ إلى مَلاَكِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي فِيلاَدَلْفِيَا: هَذَا يَقُولُهُ الْقُدُّوسُ الْحَقُّ، الَّذِي لَهُ مِفْتَاحُ دَاوُدَ، الَّذِي يَفْتَحُ وَلاَ أَحَدٌ يُغْلِقُ، وَيُغْلِقُ وَلاَ أَحَدٌ يَفْتَحُ" (رؤ3: 7)، فهي نفس الكلمات التي وردت في سفر إشعياء على لسان الآب السماوي "وَأَجْعَلُ مِفْتَاحَ بَيْتِ دَاوُدَ عَلَى كَتِفِهِ فَيَفْتَحُ وَلَيْسَ مَنْ يُغْلِقُ وَيُغْلِقُ وَلَيْسَ مَنْ يَفْتَحُ. وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ" (إش22: 22، 23).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الصليب ومفتاح داود

والآن يلزمنا أن نتأمل في معنى "مفتاح داود" الذي ورد في هذه النبوة وتأكد في كلام السيد المسيح في سفر الرؤيا.
نلاحظ أن ما ورد في سفر إشعياء قد جعل المفتاح على كتف السيد المسيح. ولا يخفى أن السيد المسيح قد حمل الصليب على كتفه وهو خارج ليصلب كما ورد في إنجيل يوحنا "فَأَخَذُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ. فَخَرَجَ وَهُوَ حَامِلٌ صَلِيبَهُ إلى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ مَوْضِعُ الْجُمْجُمَةِ وَيُقَالُ لَهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ جُلْجُثَةُ" (يو19: 17).
ونفهم من ذلك أن مفتاح داود هو صليب السيد المسيح في أحد معانيه الأساسية والذي بواسطته قد تم الفداء والخلاص، واقتحام الجحيم وفك المأسورين، وفتح الفردوس وإدخال الذين رقدوا على رجاء الخلاص إليه، وكل ذلك بقوة الصليب "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (1كو1: 18).
والعجيب أن النبوة في إشعياء تشير إلى الصليب بوضوح فتقول عن مفتاح داود: "وَأُثَبِّتُهُ وَتَدًا فِي مَوْضِعٍ أَمِينٍ وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 23، 24).
ما أعجب هذا الصليب الذي دخل في حجارة الجلجثة وصار وتدًا ثابتًا إلى أبد الدهور وفيه الخلاص وفيه الأمان إذ هو قوة الله للخلاص. وصار عرشًا للملك المسيح "كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ" ملك به على قلوب المفديين الذين اشتراهم بدمه الثمين. وعليه تم تعليق كل مجد بيت الآب. فعلى الصليب تألقت المحبة في أجلى معانيها.
تتغنى الكنيسة بالصليب في يوم الجمعة العظيمة وتردد المزمور "كُرْسِيُّكَ يَا اَللهُ إلى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ الاسْتِقَامَةٍ هو قَضِيبُ مُلْكِكَ" (مز44: 6، عب1: 8). قيل هذا الكلام عن الابن الوحيد الجنس إنه هو الله الذي ملك على كرسيه وهو عرش الصليب.
وعن عبارة "وَيَكُونُ كُرْسِيَّ مَجْدٍ لِبَيْتِ أَبِيهِ وَيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 24)، ورد أيضًا في سفر إشعياء عن السيد المسيح "وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا" (إش11: 10). هذا هو مجد المحبة، ومجد الخلاص، ومجد أبوة الله للبشرية، ومجد الكنيسة. هذا هو مجد المصلوب المعلّق على الصليب الذي "َيُعَلِّقُونَ عَلَيْهِ كُلَّ مَجْدِ بَيْتِ أَبِيهِ" (إش22: 24).
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:44 PM   رقم المشاركة : ( 7 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب السادس: نبوات عن موت المسيح المحيي وقبره

الموت المحيي

حمل السيد المسيح أحزاننا وأوجاعنا الجسدية التي استحققناها بسبب خطايانا، بل وصل الأمر من تخطى الحزن والوجع إلى الموت الجسدي الذي اجتمعت فيه الأحزان مع الآلام المبرحة والجراحات الجسدية والنزيف الحاد الذي أدّى إلى الموت السريع حينما سلّم روحه في يدي الآب بعد أن أكمل شُرب الكأس إلى النهاية.
وبالرغم من أن الموت قد أخذ روحه من الجسد؛ إلا أن روحه المتحد باللاهوت قد هزم الموت. مثلما قال القديس مار أفرام السرياني: {ذبح الموت الحياة العادية، ولكن الحياة فوق العادية ذبحته} وهو يقصد بالحياة العادية أي حياة الجسد، وبالحياة فوق العادية أي الحياة الإلهية التي للسيد المسيح بحسب لاهوته.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ

كان السيد المسيح هو الوحيد بين البشر الذي بلا خطية، لذلك قال لليهود: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يو8: 46). ولذلك لم يكن من المتوقع أن يموت السيد المسيح لأنه لم يرث حكم الموت ولا الميل الطبيعي للخطية، لأنه لم يرث الخطية الأصلية. وبالرغم من أنه أخذ جسدًا قابلًا للموت إلا أن اتحاد اللاهوت بالناسوت قد منع عنه الفساد بعد الموت، كما أنه قد أعطاه قوة التحرر من الموت بالقيامة من الأموات. ولكن اللاهوت لم يتدخل ليمنع عن السيد المسيح الألم والموت عندما حمل خطايا العالم لأنه كالتدبير قد ذاق بنعمة الله الموت لأجل كل أحد ليوفى دين جميع الذين مات من أجلهم.
لذلك يقول إشعياء النبى: "وَفِي جِيلِهِ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ" (إش53: 8) أي أنه كان فوق تصور التلاميذ الذين آمنوا أنه هو "الْمَسِيحُ ابن اللَّهِ الْحَيِّ" (مت16: 16) أنه من الممكن أن يموت.
كان التلاميذ يتعجبون: كيف يموت من أقام لعازر من الأموات بعد موته بأربعة أيام بكلمة من فمه القدوس؟!!
وكانوا يتعجبون أيضًا: كيف من كان له سلطان على الطبيعة تأتمر بأمره، أن ينحدر إلى الموت؟!!
كيف يموت رب الحياة ورئيس الحياة..؟! كيف يموت من قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يو11: 25). ومن قال: "خُبْزَ اللَّهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ" (يو6: 33). ومن قال: "أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ" (يو6: 35). ومن قال: "كمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ" (يو6: 57). ومن قال: "كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الابن أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ" (يو5: 26). كيف لمن قال كل ذلك أن يموت؟!!
ولكن التلاميذ فهموا فيما بعد أنه لم يمت طبعًا بحسب لاهوته ولكنه مات بحسب التدبير جسديًا فقط لكي يوفى الدين ويرفع الغضب الإلهي ويقتل العداوة ويدين الخطية بالجسد.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لقد انحدر السيد المسيح إلى الموت ليبيد الموت، وكانت هذه هي الوسيلة، كما ورد في قداس القديس يوحنا ذهبى الفم هذا النشيد للسيد المسيح: {عندما انحدرت إلى الموت أيها الحياة الذي لا يموت. حينئذٍ أمتّ الجحيم ببرق لاهوتك. وعندما أقمت الأموات من تحت الثرى صرخ نحوك جميع القوات السماويين أيها المسيح الإله معطى الحياة المجد لك}.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي

وقد أكمل القديس إشعياء النبي نبوته بقوله: "أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي" (إش53: 8)، أي أنه أجاب على التساؤل الوارد في بداية هذا النص "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ؟"؛ بقوله "أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي". أي أن موته كان فداءً عن الجميع. لأن موته هو وحده كما قال القديس كيرلس الكبير كان مساويًا لحياة الجميع، وقال ذلك في شرحه لقول معلمنا بولس الرسول: "إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا" (2كو5: 14).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ

كان من الطبيعي أن تنتقل نبؤة إشعياء النبي من الحديث عن موت السيد المسيح بحسب الجسد بقوله: "أَنَّهُ قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ"، إلى الحديث عن مسألة دفنه بعد الموت الجسدي "وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (إش53: 9).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الاستعداد للدفن

كانت مقبرة المجرمين قد تم إعدادها للمصلوبين. وكان السيد المسيح قد "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" (إش53: 12)، لأنه صُلب في وسط لصين. وكان من المفترض أن يتم دفنه معهما في هذه المقبرة الكبيرة الجماعية مثلما صُلب معهما صلبًا جماعيًا على جبل "الجلجثة" وهو موضع الإعدام، وسُمى بجبل "الجمجمة" لهذا السبب.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
تغيير المسار

ولكن كيف كان يمكن إثبات قيامة المسيح لو كان قد دُفن في وسط أجساد اللصين وأجساد المجرمين السابق إعدامهم؟!
لذلك حرّك الروح القدس يوسف الرامى ليذهب مع نيقوديموس ويطلبان من الوالي بيلاطس أن يعطيهما جسد يسوع، وجعل الوالي يستجيب لهذا الطلب مع أنه قبلها قد ظلم السيد المسيح وحكم عليه بالإعدام بعد أن شهد له أنه برئ وبار وذلك لأنه خاف على نفسه.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
في قبر يوسف الرامي

كان القبر الذي دُفن فيه السيد المسيح بالفعل منحوتًا في صخرة، وليس له منفذ سوى الفتحة أو الباب الذي وُضع عليه حجر كبير، وختمه اليهود والرومان بعد ذلك بعد أن تأكّدوا من وجود الجسد بداخله، ووضعوا عليه الحراس إلى اليوم الثالث من الدفن.
كان قبرًا بكرًا لم يُوضع فيه أحد قط من الناس، وليس فيه عظام أموات ولا رائحة الموت. بل فاحت منه رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن الذي سكبته النسوة على جسده المبارك وهو بعد حي في مساء السبت، ومساء الثلاثاء السابق لجمعة الصلبوت.
كانت رائحة الحب ورائحة الحياة تفوح من قبر السيد المسيح، إذ صار هو باكورة الراقدين.
فهو البكر من الآب قبل كل الدهور، والبكر من العذراء في ملء الزمان، والبكر في طاعته الكاملة للآب، والبكر في دخوله إلى الفردوس، والبكر في قيامته من الأموات، والبكر في صعوده إلى سماء السماوات، والبكر في دخوله إلى قدس الأقداس السماوي في الملكوت.
كذلك كان قبره بكرًا لم ولن يوضع فيه أحد من الناس مثل رحم السيدة العذراء الذي كان بكرًا ولم يعبر فيه إنسان بعد ولادة السيد المسيح بل نؤمن أن العذراء دائمة البتولية.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ

إن عبارة "وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (إش53: 9) تحمل أيضًا كثير من المعاني إلى جوار أنها نبوة عن دفن السيد المسيح في قبر الرجل الغنى يوسف الرامي.
فهي تشير إلى قول السيد المسيح عندما سلّم الروح على الصليب "يَا أَبَتَاهُ فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي" (لو23: 46).
فبالرغم من أن السيد المسيح قد أُحصى مع أثمة بصلبه وسط لصين، إلا أنه قد سلّم روحه الطاهرة في يدي الآب الغنى.
لقد تنازل إلى تواضعنا ليرفعنا إلى أحضان أبيه،شاركنا في فقرنا ليشركنا في غناه. احتمل الموت المقضي به علينا ليمنحنا أن نرث الحياة الأبدية.
كذلك فإن عبارة "وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" تشير إلى أن السيد المسيح قد ذهب فكرز لأرواح الأبرار الذين رقدوا على رجاء القيامة، ومنهم الآباء البطاركة الأول إبراهيم وإسحق ويعقوب. ومنهم الملوك والرؤساء مثل يوسف الصديق، وداود النبي والملك، وسليمان أغنى ملوك الأرض، وحزقيال، ومردخاى مربى أستير الملكة الذي كرّمه الملك أحشويرش، ودانيال النبي كبير المجوس، والمجوس الذين جاءوا من المشرق وسجدوا له وهو طفل وقدّموا ذهبًا في هداياهم إشارة إلى ملكه.
لقد رحّب به الآباء البطاركة والملوك والرؤساء والأنبياء الذين حررهم من الجحيم وأصعدهم إلى الفردوس، وكان في هذا كله هو ملك الملوك ورأس الرئاسات وقائد مسيرة المفديين.
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:48 PM   رقم المشاركة : ( 8 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب السابع: نبوات عن ذبيحة الابن الوحيد وقبولها لدى الآب


فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا

هذه العبارة أوردها القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (1كو5: 7). وهو يعتبر أن السيد المسيح هو الفصح الجديد الذي كان يرمز إليه قديمًا الحمل الذي كان يذبحه شعب إسرائيل كل عام ما بين العشائين في عيد الفصح تذكارًا لعبور الملاك المهلك عن أبكار بنى إسرائيل عندما صنعوا الفصح في مصر ووضعوا علامة الدم على العتبة العليا والقائمتين (انظر خر12: 7)، كرمز للدم الذي سفك على الصليب لأن الإناء الذي فيه الدم كان أسفل العتبة العليا صانعًا صليبًا مع الثلاث علامات الأخرى.
إن دم الصليب هو الذي ينقذنا من الملاك المهلك؛ أي ينقذنا من الهلاك الأبدي. ويلاحظ أن الفصح لم يكن بعلامة الدم فقط بل بأكل الفصح، إذ أن الخروف المذبوح أكله الشعب مشويًا في ليلة خروجهم من أرض العبودية.
لذلك فإن العشاء الرباني بالنسبة لنا هو أن نصنع ذكرى حقيقية للفصح، ونأكل جسد الرب تحت أعراض الخبز ونشرب من الكأس التي للعهد الجديد دمًا حقيقيًا تحت أعراض الخمر.
إننا نعيش الذكرى ونتمتع ببركات الخلاص في سر الافخارستيا ونستعد لذلك بالتوبة والاعتراف ونتحرر من عبودية الخطية. لذلك نقول في الاعتراف الأخير في القداس الإلهي أنه يُعطى عنا [خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه].
إننا نتحد بالحياة الأبدية الممنوحة لنا في المسيح وهذا هو معنى الاتحاد بالمسيح في سر الافخارستيا. لا يمكن أن نتحد بالجوهر الإلهي ولكن نتحد بالطاقة الممنوحة من الله وهي طاقة فائقة للطبيعة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ

"أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 10)، مقصود هنا أن الآب قد سُرَّ بأن يسحق السيد المسيح بالحزن؛ لأنه حمل خطايا العالم، وقدَّم كفّارة عنها. والكتاب يقول: "الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ"ً (2كو7: 10)
عن هذه المسألة تكلّم معلمنا بولس الرسول وقال عن الآب الذي سمح بأن يوفى ابنه الوحيد الجنس كل ديون الخطية نيابة عن البشر: "الَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابنهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟" (رو8: 32).
وذكر القديس يوحنا الإنجيلي قول السيد المسيح لنيقوديموس: "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ الجنس لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو3: 16).
ولكن هل الآب فقط هو الذي سُرَّ بسحق ابنه الوحيد المتجسد بالحزن؟! إننا نقرأ عن السيد المسيح في صنعه الفداء أنه "مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ" (عب12: 2). وهذا يعنى أن السيد المسيح هو أيضًا كان له سرور بخلاص البشرية. ولكنه من الناحية الإنسانية قد نال هذا السرور بعدما أكمل أحزانه وآلامه المختصة بالصليب. أي أن سرور السيد المسيح المقصود (إنسانيًا) قد حدث عندما حرر المسبيين من الجحيم، وعندما فتح الفردوس، وعندما قام من الأموات منتصرًا على الموت إذ "َأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُود" (2 تي1: 10).
إن الآب لم يَظلم ابنه الوحيد المتجسد حينما تركه يتألم على الصليب "لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ" (عب2: 9).. لم يظلمه: لأنه قد رفعه إلى أعلى السماوات وأدخله إلى المجد السمائى ومجّده عند ذاته بالمجد الذي أخلى منه نفسه حينما تجسد؛ وهو المجد الذي كان له عند الآب قبل تأسيس العالم (انظر يو17: 5).
ولم يظلمه أيضًا لأنه "أَعْطَاهُ اسمًا فَوْقَ كُلِّ اسم. لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسم يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآب"ِ (فى 2: 9-11).
إن كل ما ذكرناه قد تم بقدرة إلهية واحدة هي قدرة الآب والابن والروح القدس، ولكن كل طاقة صادرة من الثالوث لها أصلها في الآب وتتحقق بالابن في الروح القدس كما قال الآباء القديسون.
وما يعنينا هنا هو أن نؤكّد أن الآب لم يظلم ابنه المتجسد عندما تطوّع الابن لخلاص البشرية بل على العكس لقد نال في الجسد تمجيدًا وتكريمًا يفوق بمراحل ما لحق به من إهانات بما لا يقاس.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
السحق والانسحاق

حينما يسحقون شيئًا يحولونه من شيء متماسك إلى مسحوق غير متماسك. يتحول من الجماد إلى السيولة، ولا يكون له شكل محدد بل يتشكل بحسب الحيّز الموضوع فيه. والمسحوق لا يقاوم بل يخضع في كل شيء.
السحق هو أعلى درجات الإخضاع لذلك يقول المزمور عن الرجل الشرير الذي يظلم المساكين "فَمُهُ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَغِشًّا وَظُلْمًا.. يَكْمُنُ لِيَخْطُفَ الْمِسْكِينَ. يَخْطُفُ الْمِسْكِينَ بِجَذْبِهِ فِي شَبَكَتِهِ. فَتَنْسَحِقُ وَتَنْحَنِي وَتَسْقُطُ الْمَسَاكِينُ بِبَرَاثنهِ. قَالَ فِي قَلْبِهِ: إِنَّ اللهَ قَدْ نَسِيَ. حَجَبَ وَجْهَهُ. لاَ يَرَى إلى الأَبَدِ" (مز10: 7. 9-11).
ومن الجانب الآخر فإن أفضل شيء في الصلاة هو الانسحاق. والانسحاق في الصلاة والتواضع أمران متلازمان، فالقلب المنسحق هو نفسه القلب المتواضع، والقلب المتواضع لابد أن ينسحق أمام الله في الصلاة.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
فالسحق هو تعبير عن انسحاق السيد المسيح بالحزن، الانسحاق الضروري لكل إنسان تائب عن خطاياه. والسيد المسيح كحامل لخطايا العالم قد قدّم انسحاقًا يوفى كل انسحاق البشرية، وقد قدّم طاعة توفى كل طاعة البشر اللائقة للآب، بعد تمرد الإنسان بالمعصية؛ وهو سبب السقوط المؤدى إلى الهلاك الأبدي.
فكما أن موت السيد المسيح كان عوضًا عن موت الجميع كقول بولس الرسول: "إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لأَجْلِ الْجَمِيعِ. فَالْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا" (2كو5: 14)؛ هكذا أيضًا كان السحق هو عوضًا عن سحق الجميع، والحزن عوضًا عن حزن الجميع.
ما أجمل سيمفونية الحب هذه أن السيد المسيح قد ناب عنّا في كل شيء وأرضى قلب أبيه السماوي من حيث إنه كان هو آدم الثاني.. آدم الجديد.. رئيس الخلاص.. رئيس الكنيسة ورأسها وينبوع خلاصها ومجدها "لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إلى الْمَجْدِ أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ" (عب2: 10).
إن الكتاب المقدس يدعونا إلى الانسحاق في كل شيء إذ يقول المزمور "الْقَلْبُ الْمُنْكَسِرُ وَالْمُنْسَحِقُ يَا اللهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ" (مز51 (50): 17).
وأيضًا يقول المزمور "الذَبيحة للهِ رُوحٌ مُنْسِحق" (مز50 (51): 17).
كذلك يقول في سفر الأمثال "بِحُزْنِ الْقَلْبِ تَنْسَحِقُ الرُّوحُ" (أم15: 13).
وفى سفر إشعياء "لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ سَاكِنُ الأَبَدِ الْقُدُّوسُ اسمهُ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ" (إش57: 15). ويبدو أن هذا القول هو الأصل الذي أخذ منه القداس الباسيلي عبارة [الساكن في الأعالي والناظر إلى المتواضعين].
ويقول أيضًا في سفر إشعياء "وَكُلُّ هَذِهِ صَنَعَتْهَا يَدِي فَكَانَتْ كُلُّ هَذِهِ يَقُولُ الرَّبُّ. وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إلى الْمِسْكِينِ وَالْمُنْسَحِقِ الرُّوحِ وَالْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلاَمِي" (إش66: 2).
كل هذه الأقوال الكتابية تدلنا على أن الانسحاق هو أحد الركائز الرئيسية في العلاقة مع الله: في التفكير، في الصلاة، في الخدمة، في تنفيذ الوصية الإلهية، في محاربة الشياطين، في مواجهة خطية الكبرياء. لأن الكتاب يقول "قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ" (أم 16: 18).
ليعطنا الرب انسحاقًا حتى تكون عبادتنا مقبولة أمامه إذ نصلى ونقول: نحن غير مستحقين، "ولكن لانسحاق نفوسنا وتواضع أرواحنا اقبلنا" (دا 3: 39).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ

عبارة "إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 10)، وأيضًا عبارة "إِلَى الذَّبْحِ" (إش53: 7) التي قالها إشعياء النبي، وعبارة "ذُبِحَ لأَجْلِنَا" (1كو5: 7) التي قالها معلمنا بولس الرسول، كما ورد في سفر الرؤيا "خَرُوف قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ" (رؤ5: 6)، نلاحظ أن هذه العبارات كلها تشير إلى أن السيد المسيح قد ذُبح على الصليب ولم يمت مخنوقًا مثل اللصين اللذين صُلبا معه.
وذلك لأن اللصين قد كُسرت سيقانهما فتعلقا من أيديهما ولم يمكنهما التنفس، فماتا بعد ذلك مباشرةً. أما السيد المسيح فقد مات نتيجة للنزيف الحاد الذي نتج عن الجلد الروماني والصلب التالي له.
فالسيد المسيح هو ذبيحة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. وكان صدره مملوءًا بالدماء (الهيموجلوبين + البلازما + بعض المياه). وحينما طعنه الجندي بحربة في جنبه؛ جرى منه دم وماء، ليظهر لنا أنه مات بنزف دمه مذبوحًا من الداخل.
كان هناك خمسة أنواع من الذبائح والقرابين في شريعة موسى وهي التي أمر بها الرب:
1- ذبيحة المحرقة.
2- ذبيحة السلامة أو ذبيحة شكر السلامة.
3- ذبيحة الخطية.
4- ذبيحة الإثم.
5- تقدمة القربان.
كان من الصعب أن يعبّر نوع واحد من الذبائح والتقدمات عن الجوانب المتعددة لذبيحة الصليب العظيمة، لهذا تعددت الأنواع بهذه الصورة لكي تعبّر في مجموعها عن المعاني المذخرة في ذبيحة الصليب.

* فذبيحة المحرقة: تشير إلى طاعة المسيح الكاملة لله أبيه بقبوله الموت على الصليب إذ "وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فى2: 8).
وقيل عن هذا النوع من الذبائح: "وَيُوقِدُ الْكَاهِنُ الْجَمِيعَ عَلَى الْمَذْبَحِ مُحْرَقَةً وَقُودَ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ" (لا1: 9).
كانت الذبيحة بعد سلخها وتقطيعها وغسل أحشائها، يُقدّم لحمها وشحمها وأحشاؤها كاملة على المذبح فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح. أي تحرق بكاملها وتتحول إلى رماد وتتصاعد أبخرتها رائحة سرور للرب.

* وذبيحة السلامة أو شكر السلامة: وهي ترمز إلى سر الشكر أو سر الإفخارستيا، ويشترك في أكلها الكهنة ومقدم الذبيحة (صدر الترديد والساق اليمنى للكهنة). ويقدم معها أقراص فطير ملتوتة بزيت ورقائق فطير مدهونة بزيت مع أقراص خبز خمير،ولا يقرب من كل ذلك على المذبح سوى شحم الذبيحة الذي يوقد على المذبح (انظر لا 7: 11- 34).
فالفطير الملتوت بالزيت يشير إلى جسد يسوع الذي حبل به في العذراء مريمبالروح القدس، والرقائق المدهونة بالزيت تشير إليه عند مسحه في نهر الأردن بالروح القدس، والفطير يشير إلى خلوه من الخمير الذي يرمز إلى الخطية. أما أقراص خبز الخمير فتشير إليه حينما حمل خطايا العالم على الصليب، مثلما قال بولس الرسول عن الآب في بذله للابن على الصليب: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2كو5: 21).

* وذبيحة الخطية: ترمز إلى التكفير عن خطايا السهو "إِذَا أَخْطَأَتْ نَفْسٌ سَهْوًا فِي شَيْءٍ مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَعَمِلَتْ وَاحِدَةً مِنْهَا" (لا 4: 1). وقيل عن ذبيحة خطية الكاهن الممسوح وخطية كل جماعة إسرائيل أن الذبيحة تكون ثورًا، وعن خطية رئيس أن الذبيحة تكون تيسًا من الماعز ذكرًا صحيحًا، وعن خطية أحد من عامة الأرض (أي عامة الشعب) أن الذبيحة تكون عنزًا من الماعز أنثى صحيحة. وعلى سبيل المثال قيل عن خطية الجماعة ما يلي:
"وَإِنْ سَهَا كُلُّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ وَأُخْفِيَ أَمْرٌ عَنْ أَعْيُنِ الْمَجْمَعِ وَعَمِلُوا وَاحِدَةً مِنْ جَمِيعِ مَنَاهِي الرَّبِّ الَّتِي لاَ يَنْبَغِي عَمَلُهَا وَأَثِمُوا. ثُمَّ عُرِفَتِ الْخَطِيَّةُ الَّتِي أَخْطَأُوا بِهَا يُقَرِّبُ الْمَجْمَعُ ثَوْرًا ابن بَقَرٍ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ. يَأْتُونَ بِهِ إلى قُدَّامِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَيَضَعُ شُيُوخُ الْجَمَاعَةِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى رَأْسِ الثَّوْرِ أَمَامَ الرَّبِّ وَيَذْبَحُوا الثَّوْرَ أَمَامَ الرَّبِّ. وَيُدْخِلُ الْكَاهِنُ الْمَمْسُوحُ مِنْ دَمِ الثَّوْرِ إلى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَيَغْمِسُ الْكَاهِنُ إِصْبِعَهُ فِي الدَّمِ وَيَنْضِحُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَمَامَ الرَّبِّ لَدَى الْحِجَابِ. وَيَجْعَلُ مِنَ الدَّمِ عَلَى قُرُونِ الْمَذْبَحِ الَّذِي أَمَامَ الرَّبِّ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَسَائِرَ الدَّمِ يَصُبُّهُ إلى أَسْفَلِ مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ الَّذِي لَدَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. وَجَمِيعَ شَحْمِهِ يَنْزِعُهُ عَنْهُ وَيُوقِدُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَيَفْعَلُ بِالثَّوْرِ كَمَا فَعَلَ بِثَوْرِ الْخَطِيَّةِ. كَذَلِكَ يَفْعَلُ بِهِ. وَيُكَفِّرُ عَنْهُمُ الْكَاهِنُ فَيُصْفَحُ عَنْهُمْ. ثُمَّ يُخْرِجُ الثَّوْرَ إلى خَارِجِ الْمَحَلَّةِ وَيُحْرِقُهُ كَمَا أَحْرَقَ الثَّوْرَ الأَوَّلَ. إِنَّهُ ذَبِيحَةُ خَطِيَّةِ الْمَجْمَعِ" (لا4: 13- 21).
ومقصود بالثور الأول أو "ثور الخطية" أي الذي ذُكر قبل ذلك وهو ثور خطية الكاهن الممسوح. أما باقي ذبائح الخطية سواء لأحد الرؤساء أو لواحد من عامة الشعب فلها طقوس مشابهة لذلك للتكفير عن الخطية.

* وذبيحة الإثم: لها بُعدان: فهي تخص الخطأ سهوًا في أقداس الرب، أو الخطأ عمدًا في خطية مثل السرقة وفي كلتا الحالتين عليه التعويض عن الخطأ أو إعادة المسلوب. وقيل عنها ما يلي:
"إِذَا خَانَ أَحَدٌ خِيَانَةً وَأَخْطَأَ سَهْوًا فِي أَقْدَاسِ الرَّبِّ، يَأْتِي إلى الرَّبِّ بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ.. وَيُعَوِّضُ عَمَّا أَخْطَأَ بِهِ مِنَ الْقُدْسِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ وَيَدْفَعُهُ إلى الْكَاهِنِ، فَيُكَفِّرُ الْكَاهِنُ عَنْهُ بِكَبْشِ الإِثْمِ فَيُصْفَحُ عَنْهُ" (لا5: 15، 16).
وأيضًا "إِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَخَانَ خِيَانَةً بِالرَّبِّ وَجَحَدَ صَاحِبَهُ وَدِيعَةً أَوْ أَمَانَةً أَوْ مَسْلُوبًا أَوِ اغْتَصَبَ مِنْ صَاحِبِهِ. أَوْ وَجَدَ لُقَطَةً وَجَحَدَهَا وَحَلَفَ كَاذِبًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الإِنْسَانُ مُخْطِئًا بِهِ. فَإِذَا أَخْطَأَ وَأَذْنَبَ يَرُدُّ الْمَسْلُوبَ الَّذِي سَلَبَهُ، أَوِ الْمُغْتَصَبَ الَّذِي اغْتَصَبَهُ، أَوِ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ، أَوِ اللُّقَطَةَ الَّتِي وَجَدَهَا، أَوْ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِبًا. يُعَوِّضُهُ بِرَأْسِهِ وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ. إلى الَّذِي هُوَ لَهُ يَدْفَعُهُ يَوْمَ ذَبِيحَةِ إِثْمِهِ. وَيَأْتِي إلى الرَّبِّ بِذَبِيحَةٍ لإِثْمِهِ كَبْشًا صَحِيحًا مِنَ الْغَنَمِ بِتَقْوِيمِكَ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ إلى الْكَاهِنِ. فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ أَمَامَ الرَّبِّ فَيُصْفَحُ عَنْهُ فِي الشَّيْءِ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَهُ مُذْنِبًا بِهِ" (لا6: 1- 7).

وقد ادّعى البعض أن خطايا العمد لا يكفّر عنها بذبيحة، ونشروا ذلك في كتاب عن القديس بولس الرسول. وهم في هذا يتجاهلون أن خطايا السرقة، والاغتصاب، والقسم الكاذب المذكورة في شريعة ذبيحة الإثم، هي جميعها خطايا عمد ويلزم للتكفير عنها تقديم ذبيحة كبش صحيح من الغنم. أما خطايا السهو فيقدّم عنها عنزًا من الماعز أنثى صحيحة. كما أن خطايا العمد يلزم التعويض فيها للمجني عليه بنفس المقدار ويزيد عليه الخُمس.
لهذا قال إشعياء النبي عن السيد المسيح: "إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ" (إش53: 10). بمعنى أن السيد المسيح قد كفّر عن خطايا العمد كما كفّر عن خطايا السهو، وأنه قد سدد الدين الذي علينا، وزاد على ذلك أيضًا لمن يسلك مثل الخمس العذارى الحكيمات ويقتنى الفضائل الروحية وثمار النعمة. وقد عبّر عن ذلك معلمنا بولس الرسول بقوله: "وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْخَطِيَّةِ هَكَذَا أَيْضا ًالْهِبَةُ" (رو5: 15).
وما أجمل دقة النبوة في أن السيد المسيح هو حمل الله الذي يحمل خطايا العالم.

* أما تقدمة القربان: فكانت تشير إلى كهنوت السيد المسيح وإلى نقاوة طبيعته الإنسانية وخلوّها من الخطية. وكانت من الدقيق والزيت واللبان (البخور) أو أقراصًا من دقيق فطيرًا ملتوتة بزيتٍ ورقاقًا فطيرًا مدهونة بزيت بدلًا من الدقيق العادي (انظر لا2: 1-16).
فالفطير أو الدقيق خالي من الخمير، واللبان رمز للبخور الكهنوتي.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ

وردت هذه العبارة في (إش53: 10)؛ فلم ينجح أحد قبل السيد المسيح في إتمام مسرة الرب بالكامل. فجميع البشر كانوا محتاجين إلى الخلاص من فساد الطبيعة ومن حكم الموت الأبدي ولم يفلت أحد قبل مجيء السيد المسيح من هذا الوضع المحزن.
وقد وردت عبارات أخرى تشير إلى أن مسرة الرب كانت وسوف تكون على الدوام بواسطة الابن الوحيد الجنس ربنا يسوع المسيح.
فقد ورد في سفر إشعياء عن السيد المسيح قول الآب: "مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي" (إش42: 1). وأثناء عماد السيد المسيح في نهر الأردن بيد يوحنا المعمدان جاء صوت الآب من السماء: "هَذَا هُوَ ابني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت3: 17، انظر مر1: 11).
وعن ميلاد الرب يسوع المخلّص سبّحت الملائكة قائلة: "الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ" (لو2: 14).
أي أن مجيء السيد المسيح قد حقق المسرة للآب السماوي وكذلك قد جلب المسرّة للبشر الذين آمنوا به وقَبِلوه.
وقد وردت أيضًا عبارة: "أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحُزْنِ" (إش53: 10) وذلك في نفس الآية من سفر إشعياء. فهل سُرَّ الآب فقط بأن يسحقه بالحزن في جثسيمانى، وفي القبض عليه مع خيانة يهوذا، وفي المحاكمة أمام مجمع اليهود، وفي سجنه، وفي محاكمته أمام الحاكم الروماني، وفي جلده، وفي حمله الصليب، وفي آلامه على الصليب، وفي ذوقه الموت لأجل كل واحد؟!!
لقد سُرَّ الرب أيضًا بنزوله إلى الجحيم وتحريره لأرواح القديسين المسبيين الذين رقدوا على الرجاء، وفي فتحه للفردوس وإدخاله لهذه الأرواح هناك، وفي انتصاره الساحق على الموت وقيامته المجيدة من الأموات، وفي ظهوراته المفرحة لتلاميذه بعد القيامة، وفي صعوده الانتصاري إلى أعلى السماوات حيث دخل ملك المجد وجلس عن يمين الآب، وفي فرح السمائيين به وبخلاصه للبشرية وإعلان حب الله الآب للخليقة بصورة جردت الشياطين من دعاويهم الباطلة ضد الله. لدرجة أن تسابيح السمائيين قد تطورت من شكر الآب على خلقه للعالم إلى شكره على إرساله لابنه الوحيد الجنس فاديًا ومخلّصًا. وكأن "سر الشكر" الذي نمارسه نحن في القداس الإلهي هو تجسيد لحالة "الشكر" التي يترنم بها السمائيون في وجود الحمل القائم كأنه مذبوح وهو مستحق لكل المجد والكرامة والتسبيح مع أبيه الصالح والروح القدس.
هذا ما عبّر عنه القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في قداسه العظيم عن تسابيح الشاروبيم والسرافيم أمام العرش الإلهي {يرسلون تسبيح الغلبة والخلاص الذي لنا}. إذن فهم يترنمون بترانيم الخلاص. إنها سيمفونية الحب الإلهي ترددها الخليقة إلى أبد الدهور.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
بيده تنجح

يقول الكتاب "يمين الرب صنعت قوة" (مز117: 15). وقيل عن السيد المسيح إنه هو "قُوَّةِ اللهِ" (1كو1: 24). وقيل عنه أيضًا إنه "جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عب1: 3). واليمين هنا إشارة إلى موضع القوة والتقدير والإكرام.
إن عبارة "مَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (إش 53: 10) تشير أيضًا إلى أن يد السيد المسيح قد حققت ما أراد الرب أن يصنعه بيمينه وذراعه القوية.
عندما لمس السيد المسيح الأبرص بيده للوقت طهر برصه (انظر مت8: 1-4)، وعندما لمس نعش الشاب ابن أرملة نايين الوحيد لأمه وناداه قام الشاب من الموت ودفعه إلى أمه الحزينة (انظر لو7: 11- 17). وعندما طلى عينيّ المولود أعمى بيده بالطين وأمره أن يغتسل في بركة سلوام، أتى المولود أعمى بصيرًا. وعند مد يده الطاهرة على خشبة الصليب وسمّرها الجنود، مزّق صك خطايانا وسمّر خطايا البشرية بالصليب. لذلك نصلى ونقول في قطع صلاة الساعة السادسة {صنعت خلاصًا في وسط الأرض كلها أيها المسيح إلهنا عندما بسطت يديك الطاهرتين على عود الصليب}.
بيده الطاهرة بارك السيد المسيح الخمس خبزات والسمكتين وأشبع الجموع. وبيده الطاهرة بارك الخبز والخمر في ليلة آلامه وحوّلهما إلى جسده ودمه الأقدسين وأعطاهما لتلاميذه صانعًا عهدًا جديدًا في كأس الافخارستيا.
وحتى بعد قيامته من الأموات كشف آثار الجراحات في يديه لإثبات حقيقة القيامة ثم قال لتوما في الأحد التالي: "هَاتِ إِصْبِعَكَ إلى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي" (يو20: 27) ليؤكّد له أنه قد قام حقًا. وعندما ظهر لتلميذيّ عمواس في يوم قيامته عرفاه عندما بارك الخبز في المنزل. وعند صعوده إلى السماء رفع يديه وبارك التلاميذ "وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إلى السَّمَاءِ" (لو24: 51)
كم من الأمور صنعتها يد السيد المسيح؟ كم من الخير؟ كم من المعجزات؟ كم من العطاء؟ كم من أعمال الشفاء؟ كم من علامات الحنان والرفق بالأطفال؟ كم من البركات الإلهية؟
كانت يد السيد المسيح تمتد بالخير للجميع، وتدعو الجميع إلى التوبة والخلاص كقول الكتاب "الْتَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ" (إش45: 22).
فما أجمل هذه العبارة التي تغنّى بها إشعياء النبي: "وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ" (إش53: 10).
حقًا لقد نجحت جميع المقاصد الإلهية بما فعله السيد المسيح وفرح قلب الآب وامتلأ سرورًا بكل ما فعله ابنه الوحيد الجنس الحبيب.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ

"مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إش53: 12) لقد رأينا كيف وعد الآب السماوي بأن تكون ثمار ذبيحة الصليب مفرّحة للأعزاء وغنية جدًا، والآن سنرى أن الآب يقدّر لابنه الوحيد الجنس أنه "سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
السَكيب والانسكاب

عبارة "سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ" توضّح أن السيد المسيح لم يقبل الموت فقط، ولكنه بذل نفسه مثل الطيب المنسكب والخمر المنسكب "لأَنَّنَا رَائِحَةُ الْمَسِيحِ الذَّكِيَّةِ لِلَّهِ، فِي الَّذِينَ يَخْلُصُونَ.. رَائِحَةُ حَيَاةٍ لِحَيَاةٍ" (2كو2: 15، 16). وهذا الانسكاب يدل على الطاعة والانسحاق أمام الآب السماوي من جهة، ويدل على تكريس الذات لخلاص البشرية من ناحية أخرى.
وقد اقتبس القديس بولس الرسول هذا المفهوم في حديثه مع مخدوميه فقال: "أَنْسَكِبُ أَيْضًا عَلَى ذَبِيحَةِ إِيمَانِكُمْ" (فى2: 17). وعند انتقاله من هذا العالم قال: "أنَا الآنَ أسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ" (2تى4: 6).
فالانسكاب في الصلاة، والانسكاب في الخدمة، والانسكاب في التضحية مقتبسة من سكيب الخمر الذي كان الكاهن يسكبه على ذبيحة المحرقة أو ذبيحة السلامة (انظرعد6: 17)، الموضوعة على المذبح قبل أن تتقد فيها النار.
وقد ورد ذلك في أسفار التوراة كقول الرب لموسى النبى: "وَهَذَا مَا تُقَدِّمُهُ عَلَى الْمَذْبَحِ: خَرُوفَانِ حَوْلِيَّانِ كُلَّ يَوْمٍ دَائِمًا. الْخَرُوفُ الْوَاحِدُ تُقَدِّمُهُ صَبَاحًا وَالْخَرُوفُ الثَّانِي تُقَدِّمُهُ فِي الْعَشِيَّةِ. وَعُشْرٌ مِنْ دَقِيقٍ مَلْتُوتٍ بِرُبْعِ الْهِينِ مِنْ زَيْتِ الرَّضِّ وَسَكِيبٌ رُبْعُ الْهِينِ مِنَ الْخَمْرِ لِلْخَرُوفِ الْوَاحِدِ. وَالْخَرُوفُ الثَّانِي تُقَدِّمُهُ فِي الْعَشِيَّةِ. مِثْلَ تَقْدِمَةِ الصَّبَاحِ وَسَكِيبِهِ تَصْنَعُ لَهُ. رَائِحَةُ سُرُورٍ وَقُودٌ لِلرَّبِّ. مُحْرَقَةٌ دَائِمَةٌ فِي أَجْيَالِكُمْ عِنْدَ بَابِ خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ أَمَامَ الرَّبِّ. حَيْثُ أَجْتَمِعُ بِكُمْ لأُكَلِّمَكَ هُنَاكَ. وَأَجْتَمِعُ هُنَاكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَيُقَدَّسُ بِمَجْدِي" (خر29: 38-43).
وأيضًا "وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: قُل لِبَنِي إِسْرَائِيل: مَتَى جِئْتُمْ إلى أَرْضِ مَسْكَنِكُمُ التِي أَنَا أُعْطِيكُمْ. وَعَمِلتُمْ وَقُودًا لِلرَّبِّ مُحْرَقَةً أَوْ ذَبِيحَةً وَفَاءً لِنَذْرٍ أَوْ نَافِلةً أَوْ فِي أَعْيَادِكُمْ لِعَمَلِ رَائِحَةِ سُرُورٍ لِلرَّبِّ مِنَ البَقَرِ أَوْ مِنَ الغَنَمِ. يُقَرِّبُ الذِي قَرَّبَ قُرْبَانَهُ لِلرَّبِّ تَقْدِمَةً مِنْ دَقِيقٍ عُشْرًا مَلتُوتًا بِرُبْعِ الهِينِ مِنَ الزَّيْتِ. وَخَمْرًا لِلسَّكِيبِ رُبْعَ الهِينِ. تَعْمَلُ عَلى المُحْرَقَةِ أَوِ الذَّبِيحَةِ لِلخَرُوفِ الوَاحِدِ. لكِنْ لِلكَبْشِ تَعْمَلُ تَقْدِمَةً مِنْ دَقِيقٍ عُشْرَيْنِ مَلتُوتَيْنِ بِثُلثِ الهِينِ مِنَ الزَّيْتِ. وَخَمْرًا لِلسَّكِيبِ ثُلثَ الهِينِ تُقَرِّبُ لِرَائِحَةِ سَرُورٍ لِلرَّبِّ" (عدد15: 1-7).
وقد وبخ الرب شعب إسرائيل على سكائبهم لعبادة الأصنام عندما زاغوا عن عبادته: "وَيْلٌ لِلْبَنِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ يَقُولُ الرَّبُّ حَتَّى أَنَّهُمْ يُجْرُونَ رَأْيًا وَلَيْسَ مِنِّي، وَيَسْكُبُونَ سَكِيبًا وَلَيْسَ بِرُوحِي لِيَزِيدُوا خَطِيئَةً عَلَى خَطِيئَةٍ" (إش30: 1). وأيضًا "أَمَا أَنْتُمْ أَوْلاَدُ الْمَعْصِيَةِ نَسْلُ الْكَذِبِ؟ الْمُتَوَقِّدُونَ إلى الأَصْنَامِ تَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ الْقَاتِلُونَ الأَوْلاَدَ فِي الأَوْدِيَةِ تَحْتَ شُقُوقِ الْمَعَاقِلِ. فِي حِجَارَةِ الْوَادِي الْمُلْسِ نَصِيبُكِ. تِلْكَ هِيَ قُرْعَتُكِ. لِتِلْكَ سَكَبْتِ سَكِيبًا وَأَصْعَدْتِ تَقْدِمَةً. أَعَنْ هَذِهِ أَتَعَزَّى؟ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَضَعْتِ مَضْجَعَكِ وَإِلَى هُنَاكَ صَعِدْتِ لِتَذْبَحِي ذَبِيحَةً" (إش57: 4-7).
إذن فسكب الخمر مع تقدمة الذبيحة كان أمرًا يمارس في تقديم الذبائح للإله الحقيقي في شريعة موسى. كما استخدمه البنون العصاة أيضًا في تقديم الذبائح للأوثان.
وبالنسبة لتقديم ذبيحة المحرقة أو السلامة للرب مع سكيب الخمر فإن هذا يوضح لنا العلاقة بين ذبيحة الافخارستيا وذبيحة الصليب. فإن الخمر في الافخارستيا هو دم السيد المسيح الذي قال عنه: "هَذَا هُوَ دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (مت26: 28).
إن موت السيد المسيح على الصليب كان ممتلئًا بالحب وعن ذلك تتغنى عروس النشيد بقولها: "أَدْخَلَنِي إلى بَيْتِ الْخَمْرِ وَعَلَمُهُ فَوْقِي مَحَبَّةٌ" (نش2: 4).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ

أما عبارة: "وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ" (إش53: 12) فهي نبوة واضحة عن صلب السيد المسيح في وسط لصّين محكوم عليهما بالإعدام في جرائم تستحق الموت فعلًا (انظر لو23: 41).
ويختم النبي إشعياء هذا الفصل عن صلب السيد المسيح (أى الإصحاح 53) بالعبارة الأساسية فيه "وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ"، وهي تلخّص كل عمل السيد المسيح الفدائي كحامل لخطايا العالم، وكشفيع أمام الآب لتبرير الخطاة الذين يقبلون شفاعته الكفارية عنهم ويسلكون في التوبة للحياة الأبدية حافظين وصاياه المحيية.
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:51 PM   رقم المشاركة : ( 9 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب الثامن: نبوات عن القيامة والصعود

قيامة السيد المسيح

قبل أن يبدأ السفر في سرد آلام السيد المسيح في الإصحاح 53 تكلم أولًا عن قيامته لكي لا يطغى الحزن على الكنيسة، مثلما وعد السيد المسيحتلاميذه أنه في اليوم الثالث يقوم، حتى أن هذا الخبر قد وصل لليهود وقالوا لبيلاطس بعد صلب المخلص: "يَا سَيِّدُ قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ" (مت27: 63).
إذن لقد أعلن السيد المسيح عن قيامته في اليوم الثالث قبل صلبه وهكذا أيضًا أوضح في سفر إشعياء كما يلي:
"اِسْتَيْقِظِي اسْتَيْقِظِي! الْبِسِي عِزَّكِ يَا صِهْيَوْنُ! الْبِسِي ثِيَابَ جَمَالِكِ يَا أُورُشَلِيمُ الْمَدِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ.. فَإِنَّهُ هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: مَجَّانًا بُعْتُمْ وَبِلاَ فِضَّةٍ تُفَكُّونَ.. لِذَلِكَ يَعْرِفُ شَعْبِيَ اسمي. لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. هاأنذا مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ الْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ: قَدْ مَلَكَ إِلَهُكِ! صَوْتُ مُرَاقِبِيكِ. يَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ. يَتَرَنَّمُونَ مَعًا لأَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ عَيْنًا لِعَيْنٍ عِنْدَ رُجُوعِ الرَّبِّ إلى صِهْيَوْنَ. أَشِيدِي تَرَنَّمِي مَعًا يَا خِرَبَ أُورُشَلِيمَ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ. فَدَى أُورُشَلِيمَ. قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا" (إش52: 1، 6-10).
حسب هذا النص من إشعياء؛ إن الكنيسة لم تلبس ثياب جمالها إلا بعد قيامة السيد المسيح. وتمتعت بخلاص مجاني. لأن السيد الرب هو الذي أوفى الدين بدم صليبه. وتقبّل الآب ذبيحة الابن الوحيد الجنس وأقامه من الأموات ناقضًا أوجاع الموت.
ويقول السيد المسيح في نفس النص إن شعبه سوف يعرف معنى اسمه بعد القيامة (يهوشع = يهوه خلّص). لذلك طلب الملاك جبرائيل من العذراء القديسة مريم أن تسمّيه باسم "يسوع" (لو1: 31). فاسم يسوع (يهوشع) معناه أن الرب الإله قد صنع الخلاص.
وقد أشار السيد المسيح إلى هذه الحقيقة حينما قال لليهود: "مَتَى رَفَعْتُمُ ابن الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ" (يو8: 28). لذلك قال في إشعياء: "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَعْرِفُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ الْمُتَكَلِّمُ. هاأنذا" (إش52: 6).
وعبارة "أنا هو" في اللغة العبرية هي "אֶהְיֶה‎, أهيه". لذلك قال الرب لموسى النبي عندما سأله موسى عن اسمه الخصوصي: "أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ" بمعنى "أنا هو الذي أنا هو" (خر3: 14). وفي اللغة العبرية تأتّى "אֶהְיֶה‎, أَهْيَهِ" في صيغة المتكلم بمعنى "أنا أكون، و"יְהֹוָה، يَهْوَهْ" في صيغة الغائب بمعنى "هو يكون".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ.. الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ

عندما قام السيد المسيح كان ذلك بجوار جبل الجلجثة الذي صلب عليه، إذ كان البستان قريبًا من موضع الصلب. وكل ذلك على جبل صهيون بجوار أورشليم. حيث إن أورشليم مبنية على جبل، وبجوارها أيضًا جبل الصعود. لذلك ففي ترانيم المصاعد يقول المرنم: "رفَعتُ عَيْنَيَّ إلى الْجِبَالِ مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي" (مز120: 1).
فعن قيامة الرب يقول إشعياء النبي: "مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ" (إش52: 7).
ذهبت المريمتان باكرًا جدًا في فجر الأحد أي في أول الأسبوع وبشّرهما الملاك بقيامة المخلص، وأمرهما أن تذهبا إلى تلاميذه وتخبرانهم بأن الرب قد قام، فعند عودتهما لاقاهما السيد المسيح وقال لهما: "سَلاَمٌ لَكُمَا فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ" (مت28: 9).
وقد تكلّم معهما السيد المسيح وقال لهما: "لاَ تَخَافَا. اذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إلى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي" (مت28: 10).
إذن فالسيد المسيح هو المقصود بعبارة "مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ الْقَائِلِ لِصِهْيَوْنَ: قَدْ مَلَكَ إِلَهُكِ" (إش52: 7). لأن قدمى المبشر على الجبل كانتا قدمي السيد المسيح اللتين أمسكتا بهما المريمتان وسجدتا له وأمرهما أن يخبرا تلاميذه ببشرى القيامة.
بعد ذلك ظهر السيد المسيح للتلاميذ في عُلّية صهيون وهم مجتمعين والأبواب مغلّقة لسبب الخوف من اليهود، وبالرغم من أن المريمات قد أخبروهم بقيامة الرب. ولكن التلاميذ قد فرحوا عندما أبصروه "عينًا لعين" عندما عاد ودخل إلى المدينة المقدسة أورشليم بعد قيامته وظهر لهم. وكانوا هم يترقبون هذا الظهور. لذلك قال إشعياء النبي: "صَوْتُ مُرَاقِبِيكِ. يَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ. يَتَرَنَّمُونَ مَعًا لأَنَّهُمْ يُبْصِرُونَ عَيْنًا لِعَيْنٍ عِنْدَ رُجُوعِ الرَّبِّ إلى صِهْيَوْنَ" (إش52: 8). فعبارة "صَوْتُ مُرَاقِبِيكِ. يَرْفَعُونَ صَوْتَهُمْ" تعنى الآباء الرسل حينما فرحوا بظهور السيد المسيح لهم بعد القيامة، وأراهم يديه وجنبه وفيهم آثار المسامير والطعنة بالحربة. فرفعوا أصواتهم وترنموا معًا بقلوبهم وأفواههم بعد أن أبصروه عينًا لعين وقال عنه يوحنا الرسول: "الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا" (1يو1: 1).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ. فَدَى أُورُشَلِيمَ

ختم إشعياء الفقرة الرائعة، التي تكلم فيها عن قيامة السيد المسيح بقوله: "أَشِيدِي تَرَنَّمِي مَعًا يَا خِرَبَ أُورُشَلِيمَ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَزَّى شَعْبَهُ. فَدَى أُورُشَلِيمَ. قَدْ شَمَّرَ الرَّبُّ عَنْ ذِرَاعِ قُدْسِهِ أَمَامَ عُيُونِ كُلِّ الأُمَمِ فَتَرَى كُلُّ أَطْرَافِ الأَرْضِ خَلاَصَ إِلَهِنَا" (إش52: 9، 10).
ألم يتحقق قول الرب كما هو مكتوب "سَأَرْجِعُ بَعْدَ هَذَا وَأَبْنِي أَيْضًا خَيْمَةَ دَاوُدَ السَّاقِطَةَ، وَأَبْنِي أَيْضًا رَدْمَهَا وَأُقِيمُهَا ثَانِيَةً. لِكَيْ يَطْلُبَ الْبَاقُونَ مِنَ النَّاسِ الرَّبَّ وَجَمِيعُ الأُمَمَ الَّذِينَ دُعِيَ اسمي عَلَيْهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ الصَّانِعُ هَذَا كُلَّهُ" (أع 15: 16، 17 - انظر عا 9: 11، 12).
إن الخلاص قد أعاد خلقة البشرية الخربة من جديد؛ بالفداء لكل من يؤمن ويعتمد ويصير من شعب الله في العهد الجديد.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ولم يقتصر الخلاص على أورشليم وحدها، بل لقد شمل اليهودية والسامرة وأقصى الأرض، كما أوصى السيد المسيح. لذلك يقول المزمور عن انتشار البشارة بالإنجيل إلى جميع الأمم بواسطة الآباء الرسل "فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْطار الْمَسْكُونَةِ بَلَغَتْ أقوالهمْ. جَعَلَ في الشَّمْسِ مَظلته" (مز18: 4). وقد رأت كل أطراف الأرض خلاص إلهنا من مشارق الشمس إلى مغاربها ومن الشمال إلى الجنوب.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ

طبعًا من الواضح أن هذه النبوة تخص قيامة السيد المسيح. لأنه كيف "يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ" (إش53: 10) بعد أن قيل عنه في نفس النبوة "وَجُعِلَ مَعَ الأَشْرَارِ قَبْرُهُ وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ" (إش53: 9). وكذلك أنه "قُطِعَ مِنْ أَرْضِ الأَحْيَاءِ" (إش53: 8)؟!
كيف يرى نسلًا تطول أيامه بعد موته إلا إذا قام من الأموات وبقى حيًا إلى الأبد ليرى أولاد الله المولودين من الماء والروح بالمعمودية نسلًا روحيًا يمتد عبر الأجيال، بل وإلى أبد الدهور لوارثي الملكوت؟
قال السيد المسيح لتلاميذه الرسل القديسين: "أَنَا اخْتَرْتُكُمْ وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ" (يو15: 16)، إذن فالنسل المقصود سوف تطول أيامه "يَدُومَ ثَمَرُكُمْ".
"يَرَى نَسْلًا" تعنى رؤية السيد المسيح لأبنائه الروحيين وهم يفرحون ويتهللون بقيامته، وقد عاين القيامة "أكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ" (1كو15: 5) كان أغلبهم ما يزال حيًا إلى وقت كتابة بولس الرسول لرسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. وقد ورد في الإنجيل "فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ" (يو20: 20). وحتى عندما اختار الرسل بالقرعة أحد التلاميذ ليحل محل يهوذا الإسخريوطى الذي شنق نفسه قالوا: "َيَنْبَغِي أَنَّ الرِّجَالَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ الزَّمَانِ الَّذِي فِيهِ دَخَلَ إِلَيْنَا الرَّبُّ يَسُوعُ وَخَرَجَ.. يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِدًا مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ" (أع1: 21، 22). إذن فالرسل الاثني عشر في تكوينهم النهائي كانوا جميعًا من شهود القيامة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
النسل الروحي

ليس كل نسل مذكور في الكتاب المقدس هو نسل جسدي لأن بولس الرسول يقول: "لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ. وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ. بَلْ بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا" (رو9: 6-8). إذن فليس أولاد الجسد هم أولاد الله.
وعلى هذا القياس فإن أولاد الموعد المولودين من الله هم هذا النسل المقصود الذي يراه السيد المسيح. والسيد المسيح نفسه قال: "الْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يو3: 6). أي أن الإنسان المولود من الجسد يعيش ويسلك حسب الجسد، أما المولود من الروح فإنه يعيش ويسلك حسب الروح حتى وهو في الجسد سواء في هذا الزمان الحاضر أو بعد القيامة بجسد ممجّد في الحياة الأبدية.
إن عبارة "يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ" تذكّرنا ببشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم عن السيد المسيح الذي يولد منها "وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إلى الأَبَدِ" (لو1: 32، 33). إذن فالسيد المسيح هو ابن لداود وهو ملك إسرائيل أو ملك اليهود، وملكه إلى الأبد ولا نهاية له.
لقد ملك الرب على خشبة الصليب وظل وسيظل يملك إلى الأبد كبشارة الملاك للعذراء.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
المسيح الملك ابن داود

في الإصحاح الحادي عشر تنبأ إشعياء النبي عن السيد المسيح كابن لداود بن يسى باعتبار أن الرب قد وعد داود النبي بأن من أبنائه من يجلس على كرسي ملكه إلى الأبد "إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا فَبَنُوهُمْ إلى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ" (مز131: 12).
كان داود هو ابن يسى كما ورد مثلًا في سفر راعوث "وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى، وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ" (را 4: 18-22). وقد ولد بوعز عوبيد عند زواجه من راعوث.
تقول نبوة إشعياء "وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ. وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ.. وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقَوَيْهِ" (إش11: 1، 2، 5).
لقد قاسى إشعياء النبي وغيره من الأنبياء من اضطهاد ملوك يهوذا الذين كانوا أيضًا من نسل داود مثل آحاز الملك ومنسى الملك،ولهذا فإن كلمات هذه النبوة تعتبر تعزية لإشعياء النبي في وسط جو قاتم ممتلئ بالأحزان على ملوك يهوذا من نسل داود بن يسى.
ولكن النبوة لا تشير إلى ملك عادى من ملوك يهوذا، لأنه إلى جوار ما ذكر في الفقرة السابقة عن هذا الملك البار الذي يحل عليه روح الرب، فإن هناك أمورًا تفوق الخيال وتتخطى إمكانيات البشر العاديين قد ذكرت عنه إذ يكمل النبي كلامه فيقول:
* "فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوانِ. لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ. وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا" (إش11: 6-10).
لقد وعد السيد المسيح تلاميذه قبل صعوده إلى السماوات قائلًا: "وَهَذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ الشَّيَاطِينَ بِاسمي وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئًا مُمِيتًا لاَ يَضُرُّهُمْ وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ" (مر16: 17، 18).
لقد تحققت نبوة إشعياء في العهد الجديد حينما صار اليهود والأمم الذين آمنوا بالمسيح أعضاءً في جسد المسيح الواحد وهو الكنيسة. زالت العداوة بينهما وسكن الذئب (الأمم) مع الخروف (اليهود المؤمنين)، وصار الأسد كالبقر يأكل تبنًا حينما قبل الأمميون الذين كانوا يأكلون اللحم بشراهة، ويتصرفون بوحشية، أن يصوموا ويأكلوا طعامًا نباتيًا من الخضروات والبقول وغيرها بعدما آمنوا بالمسيح وسلكوا في طريق الزهد في شهوات العالم.
وقد أوضح القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس كيف صالح السيد المسيح اليهود (أهل الختان) مع الأمم مبطلًا العداوة بينهما بدخولهما إلى حظيرة الإيمان الواحد بالمسيح فقال: "لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلًا فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَانًا مَصْنُوعًا بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ. وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلًا بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثنيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ، أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلًا بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثنيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعًا سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثنيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ" (أف2: 11-16). وهكذا رأينا كيف يمكن أن يرعى الذئب مع الخروف.
* وهناك أيضًا ما يثبت أن نبوة إشعياء لا تنطبق على أي ملك عادى من نسل داود بن يسى عندما أشار إلى أن معرفة الرب إله إسرائيل سوف تملأ الأرض كلها، كما تغطى المياه البحر.
فالعبادة اليهودية كانت منحصرة في نطاق الشعب اليهودي ولم تكن لها قوة الكرازة والانتشار في كل العالم كما حدث في بشارة الإنجيل التي أوصى بها السيد المسيحتلاميذه قائلًا: "اذْهَبُوا إلى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا. مَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ" (مر16: 15).
إن صلب المسيح قد صالح البشر مع الله بالإيمان والمعمودية، وصالح الإنسان اليهودي مع الإنسان الأممى في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلًا العداوة به. لذلك أمكن أن يكون راية للشعوب تتطلع إليه كل شعوب الأرض "وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ أَصْلَ يَسَّى الْقَائِمَ رَايَةً لِلشُّعُوبِ إِيَّاهُ تَطْلُبُ الأُمَمُ وَيَكُونُ مَحَلُّهُ مَجْدًا" (إش11: 10).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
نبوة دانيال النبي والمُلك الأبدي

كذلك نتذكر نبوة دانيال النبي الذي قال: "كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابن إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إلى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دا 7: 13، 14).
لقد فهمت العذراء القديسة مريم بشارة الملاك لها في ضوء هذه النبوة الواضحة عن مُلك السيد المسيح الأبدي. فالنبوة تقول إنه مثل ابن إنسان ولا ينطبق هذا الكلام إلا على من يولد من امرأة ليحمل لقب ابن الإنسان. لذلك وُلد السيد المسيح في تجسده من العذراء مريم بفعل الروح القدس.
أما عن عبارة أنه "أَتَى وَجَاءَ إلى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ" في هذه النبوة؛ فتشير إلى صعود السيد المسيح إلى السماء "لِيَظْهَرَ الآنَ أَمَامَ وَجْهِ اللهِ لأَجْلِنَا" (عب9: 24). ولكي يجلس عن يمين العظمة في الأعالي. وهذا ما قاله معلمنا بولس الرسول عن السيد المسيح إنه "بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي. صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ" (عب1: 3، 4). وقال أيضًا إن السيد المسيح "إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ مساواته لله اختلاسًا، لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسمًا فَوْقَ كُلِّ اسم. لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسم يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ. وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ" (فى2: 6-11). وهذا ما عبّر عنه دانيال النبي بقوله: "فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ" (دا 7: 14).
وكيف لا والمسيح هو كلمة الله المولود من الآب قبل كل الدهور بحسب لاهوته والمولود من العذراء مريم في ملء الزمان بحسب ناسوته. ومَن يستطيع أن يفصل الله الآب عن كلمته أو أن يفصله عن روحه القدوس؛ فالآب وكلمته وروحه إله واحد بلاهوت واحد؛ نسجد له ونمجده إلى الأبد آمين.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ

ليس المقصود حديثًا عموميًا عن أي شخص لأن عبارة "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ" (إش53: 11) حسب التشكيل الموجود على الكلمات هي "مِنْ" بكسر الميم و"تَعَبِ" بكسر الباء. أي أن الحديث عن شخص السيد المسيح أنه مِنْ تعبه الخاص سوف يرى ويشبع.
إن مَنْ يزرع بالشح، فبالشح أيضًا يحصد. ومَنْ يزرع بالخيرات والبركات، فبالخيرات والبركات أيضًا يحصد.
من يزرع محبة يحصد محبة، ومن يزرع خصومة يحصد خصومة.
من يزرع غفرانًا يحصد غفرانًا، ومن يزرع انتقامًا يحصد انتقامًا.
من يزرع سلامًا يحصد سلامًا، ومن يزرع عنفًا يحصد عنفًا.
من يزرع قداسة يحصد قداسة، ومن يزرع نجاسة يحصد نجاسة.
من يزرع حكمة يحصد حكمة، ومن يزرع حماقة يحصد حماقة.
من يزرع وفاءً يحصد وفاءً، ومن يزرع خيانة يحصد خيانة.
إن الآب السماوي أراد أن يُبرز تقديره لما تعب به السيد المسيح في آلامه في ليلة صلبه في البستان، وعند تسليمه والقبض عليه، وعند محاكمته والحكم عليه في مجمع اليهود وأمام بيلاطس الوالي الروماني، وفي جلده بالجلد الروماني القاسي، وفي استهزاء الجنود به ولطمهم إياه، وفي حمله للصليب نحو الجلجثة، وفي صلبه وآلامه على الصليب والسخرية منه والاستهزاء به، وقبل ذلك في تعريته من ملابسه عند الجلد وعند الصليب، وفي شربه الخل عندما كان عطشانًا، وفي نزيفه الدمَوي الحاد الذي أدى إلى هبوط شديد في عضلة القلب، وفي ذوقه الموت بنعمة الله لأجل كل واحد. كل ذلك احتمله وهو برئ فاحتمل ظلم الأشرار، والبصق على وجهه المشرق بالنعمة، والاستخفاف بكل ما فعله من خير. واحتمل خيانة أحد تلاميذه المقربين الذي "كَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ" (يو12: 6).
لذلك قال الآب في سفر إشعياء عن الابن المتجسد: "مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ" (إش53: 11). أي أن آلام السيد المسيح سوف تكون سببًا في خلاص البشرية وفي تجديد حياة كثير من البشر ليصيروا قديسين يشبع السيد المسيح من محبتهم الفائقة التي بادلوه فيها حُبًا بحب. مثل العذراء القديسة الطاهرة مريم والرسل والشهداء والمعترفين والمبشرين وأبطال الإيمان وكل الذين كملوا في الإيمان.
قال معلمنا بطرس الرسول عن آلام السيد المسيح في الجلد: "الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ" (1بط 2: 24). أي أن آلام الجلد تشفى لذة الخطية التي تمتع بها البشر، وندموا عليها وسكبوا دموع التوبة والانسحاق عندما أدركوا الآلام الرهيبة التي سببتها الجلدات المحرقة التي مزقت ظهر السيد المسيح، والتفّت أيضًا على صدره، ومزقت الشرايين المحيطة بالقفص الصدري، ونزفت الدماء في داخل القفص الصدري حتى ملأته من آثار هذه الجلدات الكثيرة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
يَرَى وَيَشْبَعُ

لقد كرر إشعياء النبي كلمة "يَرَى" مرتين متتاليتين في قوله "يَرَى نَسْلًا تَطُولُ أَيَّامُهُ" (إش53: 10). وأيضًا في قوله "يَرَى وَيَشْبَعُ" (إش53: 11).

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وكان ذلك ليؤكّد حقيقة القيامة المجيدة. فقد رأى السيد المسيح فرحة التلاميذ بقيامته. رأى فرحة السيدة العذراء بعد أهوال الصليب، ورأى فرحة باقي المريمات ويوحنا وباقي الأحد عشر رسولًا بما في ذلك توما الرسول، وكذلك الرسل السبعين وباقي التلاميذ إذ ظهر لأكثر من خمسمائة أخ ليكونوا شهودًا للقيامة.
إن السيد المسيح من الناحية الإنسانية قد اختبر الآلام والحزن حتى إنه قال: "نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ" (مر14: 34)، وذلك في ليلة آلامه وصلبه. وقيل عنه وقتها "ابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ" (مت 26: 37). لذلك كان ينبغي من الناحية الإنسانية أيضًا أن يفرح بثمار تعبه وأن يرى بعينيه إيمان التلاميذ بقيامته ويشاركهم أفراح القيامة، بعد أن حمل بنفسه أحزان الخلاص بالصليب. لهذا استمر السيد المسيح أربعين يومًا بعد قيامته المجيدة مع كنيسته المحبوبة وهو يظهر لتلاميذه بعد أن أراهم نفسه حيًّا ببراهين كثيرة. وبعد أن شبع السيد المسيح من أفراح تلاميذه صعد إلى أعلى السماوات حيث استقبلته جماهير الملائكة باعتباره الرب العزيز القوى الجبار ملك المجد الذي تجثو له كل ركبة.
ما أروع هذا الاستقبال لمن اشترى خليقته، وأظهر محبته للخليقة، وأبطل افتراءات إبليس ضد الله. ما هذا الحب الكبير الذي ترنمت له مئات الملايين (ربواتُ ربواتِ) من الملائكة، وسوف تردد أصداءه إلى أبد الدهور.
لقد رفع السيد المسيح رأس البشرية، بل هو نفسه صار رأسًا لها بالنسبة لمن آمنوا به وصاروا أولادًا لله.
وعند صعود السيد المسيح إلى السماء صارت الكنيسة ممتدة من الأرض إلى السماء لأن رأسها قد دخل إلى المقادس السماوية، الموضع الذي لم يدخل إليه ذو طبيعة بشرية.
إن صليب السيد المسيح قد صار مثل سلم يعقوب الذي وقف الرب عليه وكان مرتكزًا على الأرض ورأسه يمس السماء.
على الصليب كانت الصعيدة المقبولة التي اشتمّها الآب للرضى والسرور.
ليس هناك أروع من هذا الإعلان عن حب الله، وعن قداسته وعدله في آن واحد لذلك صارت أنشودة السمائيين هي أنهم يرسلون تسبيح الغلبة والخلاص الذي لنا بصوت ممتلئ مجدًا.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَعَبْدِي الْبَارُّ

"وَعَبْدِي الْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا" (إش53: 11) لا نتعجب من تسمية السيد المسيح بالعبد البار بالنسبة للآب السماوي. لأن هذا اللقب هو ليس من حيث لاهوته، بل من حيث إنسانيته إذ أن الكلمة قد تجسّد من أجل خلاصنا..
وقد شرح معلمنا بولس الرسول هذه المسألة عن إخلاء الله الكلمة لنفسه بإخفاء مجده الإلهي الأزلى الذي له مع الله الآب حينما أخذ جسدًا وصار إنسانًا،فكتب في رسالته إلى أهل فيلبى يقول عن السيد المسيح: "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ مساواته لله اختلاسًا. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ" (فى 2: 6-8).
فهو يؤكّد أن السيد المسيح بالرغم من مساواته للآب من حيث لاهوته، إلا أنه لم يحسب هذا اختلاسًا لأنه شيء في صميم طبيعته الإلهية، ولذلك أمكن أن يُخلى نفسه ويأخذ طبيعة بشرية كاملة بلا خطية ويقدم بها طاعة كاملة للآب السماوي. وبهذا أخذ صورة عبد ودعى بلقب العبد البار.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ

ويقول عنه إشعياء النبي: "بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ" (إش53: 11) فهو يعرف تدبير الخلاص والفداء الذي كان في قصد الله منذ الدهور الأزلية بل وقبل الأزمنة الأزلية (انظر 2تى1: 9).
ولكن كيف سيبرر الكثيرين بهذه المعرفة؟ إن ذلك يتم عمليًا إذا حمل خطاياهم وأوفى الدين الذي عليهم. لذلك قال القديس يوحنا المعمدان عنه عندما رآه مُقبلًا بعد العماد المقدس: "هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ" (يو1: 29). وإشعياء نفسه عاد وأكّد هذا المعنى في الآية التالية لكلامه وقال: "وهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي الْمُذْنِبِينَ" (إش53: 12).
وقد عقد القديس بولس الرسول مقارنة بين آدم الأول الذي أخطأ وآدم الثاني البار الذي لم يخطئ فقال: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِخَطِيَّةِ الْوَاحِدِ قَدْ مَلَكَ الْمَوْتُ بِالْوَاحِدِ فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا الَّذِينَ يَنَالُونَ فَيْضَ النِّعْمَةِ وَعَطِيَّةَ الْبِرِّ سَيَمْلِكُونَ فِي الْحَيَاةِ بِالْوَاحِدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَإِذًا كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ الْحُكْمُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ هَكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ الْهِبَةُ إلى جَمِيعِ النَّاسِ لِتَبْرِيرِ الْحَيَاةِ" (رو 5: 17، 18).
ومن المفهوم أن خطية آدم كانت هي معصية الوصية. لذلك أطاع السيد المسيح الآب، وذلك عندما أخذ شكل العبد ووجد في الهيئة كإنسان لكي يصحح موقف الإنسان أمام الله. فالمعصية قابلتها طاعة الابن الوحيد الجنس الذي تجسد من أجل خلاصنا. لذلك قال معلمنا بولس الرسول أيضًا: "لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ الإِنْسَانِ الْوَاحِدِ جُعِلَ الْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هَكَذَا أَيْضًا بِإِطَاعَةِ الْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ الْكَثِيرُونَ أَبْرَارًا" (رو5: 19).
لذلك نستطيع أن نقول إن آدم الأول قد قاد البشرية إلى الموت، أما آدم الثاني فقد قاد البشرية التي أطاعته إلى الحياة.
لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ وَمَعَ الْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً.
أكمل إشعياء نبوته وقال: "لِذَلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ الأَعِزَّاءِ" (إش53: 12) عندما قام السيد المسيح ظهر للأعزاء مثل مريم العذراء الملكة الحقيقية وللرسل الأحد عشر الذين سوف يجلسون مع المسيح في يوم الدينونة ومعهم متياس الرسول على اثني عشر كرسيًا (عرشًا) يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر كما وعدهم السيد المسيح.
وقد ظهر الرب يسوع المسيح القائم من الأموات أيضًا لأكثر من خمسمائة أخ؛ أشار إليهم القديس بولس الرسول (انظر 1كو15: 6).
ولا شك أن شهود القيامة قد صاروا أعزاء جدًا بين جميع البشر. لهذا قال الرسل عند اختيار متياس الرسول: "يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَاهِدًا مَعَنَا بِقِيَامَتِهِ" (أع1: 22).
بين الأعزاء كان السيد المسيح بعد القيامة وأعدّهم للكرازة بالإنجيل لذلك فقد قيل إنه "بَيْنَ الأَعِزَّاءِ.. يَقْسِمُ غَنِيمَةً" بمعنى أنه سوف يغتنم نفوسًا كثيرة للإنجيل.
أما "الْعُظَمَاءِ" ففيها إشارة إلى "ملائكة السماء" الذين احتفلوا بدخول الابن الوحيد المنتصر على الموت والهاوية. إذ يخاطب بعضهم بعضًا قائلًا: "اِرْفَعوا أَيُهَا الرؤساء أبوابكم، وَارْتَفِعى أَيَّتُهَا الأَبْوَابُ الدَّهْرِيَّة، فَيَدْخُلَ مَلِكُ الْمَجْدِ. مَنْ هُوَ هَذَا مَلِكُ الْمَجْدِ؟ الرَّبُّ العزيز الْقَدِير، الرَّبُّ الْقوى فِي الحروب.. هذاِ هُوَ مَلِكُ الْمَجْدِ" (مز23: 7-10). وقد بدأت الملائكة في تسبيح الخروف المذبوح بترنيمة جديدة، لأنهم فرحوا بإتمام الخلاص لأجلنا.
  رد مع اقتباس
قديم 11 - 03 - 2014, 04:55 PM   رقم المشاركة : ( 10 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,256,893

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

الباب التاسع: المسيح هو الخلاص وهو العهد


قوتى وتسبحتى هو الرب وقد صار لى خلاصًا

اقتبست الكنيسة في تسابيح البصخة المقدسة عبارة من سفر إشعياء وهي {قوتى وتسبحتى هو الرب وصار لى خلاصًا}. وهذه العبارة تُضاف في تسبحة "Qwk te ;jom ثوك تى تى جوم" ابتداءً من ليلة الجمعة من البصخة المقدسة إذ يُقال:
tajom nem pa `cmou pe ` Psoic af]wpi nhi eucwthria
"تاجوم نيم با إسمو بى ابشويس أفشوبى نى إف سوتيريا" باللغة القبطية.
وقد وردت هذه العبارة في الإصحاح الثاني عشر من سفر إشعياء كما يلى:
"هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا" (إش12: 2). ويلاحظ أن اللغة القبطية لم تستخدم كلمة "יְהֹוָה، يهوه" العبرية ومعناها "الكائن" وهو اسم الله الخصوصى الذي أعلن لموسى، واستخدمت كلمة "الرب" (`Psoic إبشويس) في الترجمة القبطية المأخوذة من الترجمة السبعينية باللغة اليونانية للعهد القديم، وهي أيضًا لا تستخدم كلمة "يهوه" العبرية بل كلمة "κύριος كيريوس" بمعنى "الرب".
كذلك نلاحظ أن المقطع "ياه" من كلمة "يهوه" يعنى "يهوه" أيضًا، وفي كثير من الكلمات العبرية يستخدم المقطع مضافًا إلى كلمة أخرى مثل "ياه شوع" أي "يهوه خلّص"، زكريا "זְכַרְיָה زكرياه" أي "يهوه تذكر"، إرميا "יִרְמְיָה إرمياه" أي "يهوه أسس".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
المسيح هو يهوه

من ضمن الأدلة على أن السيد المسيح هو يهوه، ما ورد في (إش12: 2) لأنه يقول: "يَاهَ يَهْوَهَ.. صَارَ لِي خَلاَصًا". بمعنى أن "يهوه" صار خلاصًا. ولم يقل فقط إن يهوه قد خلصنى أو إنه هو المخلّص، بل قال إنه هو نفسه صار لى خلاصًا. وقد كرر عبارة "يهوه" فقال "ياه يهوه" لأنه يقول إنه هو نفسه صار خلاصًا.
فالسيد المسيح هو المخلص وهو الخلاص، هو الكاهن وهو الذبيحة، هو الهيكل وهو القربان، هو الراعي وهو الحمل.
إن كل كاهن يقدّم ذبيحته من الحملان، وكل راعى يرعى الحملان. ولكن السيد المسيح كان عجيبًا لأنه قدّم نفسه، وهو عجيب أيضًا لأنه هو "الراعي الصالح" وهو في نفس الوقت "حمل الله" الذي يحمل خطية العالم كله.
لا يفوتنا هنا أن نتذكر العبارة الواردة في إنجيل يوحنا "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو1: 14) ونحن نقرأ في سفر إشعياء "يَاهَ يَهْوَهَ.. صَارَ لِي خَلاَصًا"، صار لى خلاصًا لأنه صار جسدًا يمكن أن يتألم، وأن يُصلب، وأن يموت، وأن يقوم من الأموات، وأن يصعد إلى السماء، وأن يجلس عن يمين الآب..
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الأقانيم الثلاثة معًا

والجميل فيما ورد في سفر إشعياء في الإصحاح الثاني عشر، أن الآيات الثلاث الأولى من هذا الفصل من السفر تشير كل واحدة منها إلى أحد الأقانيم الثلاثة الآب والابن والروح القدس كما يلى:
1- "وَتَقُولُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ لأَنَّهُ إِذْ غَضِبْتَ عَلَيَّ ارْتَدَّ غَضَبُكَ فَتُعَزِّينِي" عن الآب.
2- "هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا" عن الابن.
3- "فَتَسْتَقُونَ مِيَاهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الْخَلاَصِ" عن الروح القدس.
فالحديث عبارة عن تسبحة ليوم الخلاص، ليوم الفداء "وَتَقُولُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ". وأى يوم يتكلم عنه إلا "يوم الرب" الذي يقول عنه المزمور "هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ" (مز117: 24). والذي قال عنه السيد المسيح لليهود: "أبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يو8: 56). والذي قال عنه ملاخي: "يَوْمِ الرَّبِّ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ" (ملا4: 5).
أ- في ذلك اليوم ارتد غضب الله الآب الذي "كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ" (2كو5: 19) "فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ.. ارْتَدَّ غَضَبُكَ فَتُعَزِّينِي" (إش12: 1)، ارتد غضب الآب لسبب طاعة الابن الوحيد الجنس الذي تجسد وتأنس من العذراء مريم وصُلب على الصليب من أجل خلاصنا. ارتد غضب الآب لأنه اشتم رائحة الرضا والسرور في الطاعة الكاملة للابن الوحيد الجنس المتجسد الذي صار إنسانًا ليقدم نفسه ذبيحة عوضًا عن جميع الذين افتداهم موفيًا دين الجميع إذ أخطأ الجميع.
ما أجمل هذه التسبحة للآب "أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ لأَنَّهُ إِذْ غَضِبْتَ عَلَيَّ ارْتَدَّ غَضَبُكَ فَتُعَزِّينِي".. ألم يقل "كَإِنْسَانٍ تُعَزِّيهِ أُمُّهُ هَكَذَا أُعَزِّيكُمْ أَنَا" يقول الرب (إش6: 13)؟
ب- ثم تأتى التسبحة الخلاصية لتخاطب الابن "هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا" (إش12: 2) وهو هنا يؤكّد أن الابن هو الله، لأنه يقول: "هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي" معلوم أن الابن هو الذي صار خلاصًا.

كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
ج- وأخيرًا تنتقل التسبحة بصورة رائعة إلى الروح القدس الذي قال عنه السيد المسيح: "مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ" (يو7: 38) "يَنْبَعُ إلى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو4: 14). لذلك تقول تسبحة الخلاص "فَتَسْتَقُونَ مِيَاهًا بِفَرَحٍ مِنْ يَنَابِيعِ الْخَلاَصِ" (إش12: 3). إن الروح القدس يروى العطشان ماء حياة يمنح الفرح، لأن الفرح هو من ثمار الروح القدس وهو يأخذ من استحقاقات جنب المسيح ويعطينا، وهذه هي ينابيع الخلاص.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
الشهود الحقيقيون

يستخدم أصحاب بدعة شهود يهوه عبارة في سفر إشعياء، ولكنها في الحقيقة ضد مزاعمهم وليتهم يفهمونها.
العبارة هى:"َأَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ (يهوه) وَأَنَا اللَّهُ" (إش43: 12). ويعتبر "شهود يهوه" أنهم يشهدون ليهوه الحقيقي وهو الآب، وأما الابن فيعتبرونه إلهًا صغيرًا آخر خلقه الله قبل خلق العالم، وبه خلق العالم، وهو أيضًا مخلّص العالم بالصليب.
ولكن علينا أن نقرأ الآية السابقة لهذه الآية لكي نفهم أن الكلام ينطبق على الابن لأن الابن هو الرب (يهوه) وهو الإله الحقيقي الواحد مع أبيه في الربوبية.
يقول الرب: "أَنَا أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ. أَنَا أَخْبَرْتُ وَخَلَّصْتُ وَأَعْلَمْتُ وَلَيْسَ بَيْنَكُمْ غَرِيبٌ. وَأَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَنَا اللَّهُ" (إش43: 11، 12).
فالمتكلم هنا يقول إنه هو الرب (يهوه) وهو الله (إلوهيم)، وأنه ليس مخلص سواه "لَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ". ومعروف للجميع أن المخلص هو يسوع المسيح. فكيف يقول المتكلم "لَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ" ويستبعد شهود يهوه الابن بينما الابن هو المخلِّص.
وإذا كان الآب هنا يتكلم عن دوره في الخلاص بقبول ذبيحة ابنه الوحيد، وبإرسال الابن إلى العالم، وإذا كان الابن (كما يدّعى شهود يهوه) هو منفصل عن الآب فكيف يقول الآب "لَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ"؟! نحن لا ننكر أن الآب يلقّب أيضًا بالمخلّص (انظر تى 3: 4-6). ولكن ليس من المقبول أن يُنسب الخلاص إلى الآب وحده مع استبعاد الابن. لذلك ففي قول الله: "أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ" إشارة إلى أن الخلاص هو عمل الثالوث القدوس، وأن الآب والابن والروح القدس لهم ربوبية واحدة ولاهوت واحد. لا يوجد مخلّص سوى هذا الإله الواحد في الربوبية والمثلث الأقانيم.
إذن فالشهود الحقيقيون هم الذين يشهدون للآب والابن والروح القدس الثالوث القدوس المساوي في الجوهر (تى إترياس إن أموأوسيوس :`triac `noumooucioc) أي الذين لهم نفس الجوهر الواحد بمساواة.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
تَكُونُونَ لِي شُهُودًا

عندما أرسل السيد المسيحتلاميذه بعد قيامته المجيدة؛ قال لهم: "وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ" (أع1: 8).
كانت الشهادة للسيد المسيح ذات أهمية قصوى لأنها هي بشارة الخلاص الذي صنعه الرب (يهوه). وقد شرح السيد المسيح بنفسه ذلك عندما ظهر لتلاميذه مجتمعين بعد قيامته "وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسمهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ مُبْتَدأً مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ" (لو24: 46-48).
ما فائدة الشهادة للآب السماوي دون الشهادة للابن؟ ألم يشهد أنبياء العهد القديم لإله إبراهيم باعتباره هو خالق العالم، والذي أعطى الوعد بالخلاص، وأعطى الناموس لموسى بكل ما فيه من رموز عن التجسد وعن الفداء.
لم يكن الابن قد تجسّد وصنع الفداء.. ولكن الأنبياء شهدوا عن مواعيد الله "كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ. وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسمهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا" (لو24: 46، 47).
وهنا نسأل أصحاب بدعة "شهود يهوه" الذين يعتبرون أنفسهم شهودًا للآب فقط معتبرين أن يهوه هو الآب وليس الابن والروح القدس أيضًا، نسألهم هل هم ينفذون وصية السيد المسيح "وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا" (أع1: 8)، أم هم ينكرون الرب الذي اشتراهم؟ مثلما قال عنهم بطرس الرسول: "وَإِذْ هُمْ يُنْكِرُونَ الرَّبَّ الَّذِي اشْتَرَاهُمْ، يَجْلِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ هَلاَكًا سَرِيعًا" (2بط2: 1).
من هو الرب الذي اشترانا إلا الرب يسوع المسيح الذي اشترانا بدمه الكريم، وهذا ما عبّر عنه الأربعة وعشرون قسيسًا في سفر الرؤيا "وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ: مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا لِلَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ" (رؤ5: 9).
إذن فالذى ذُبح واشترانا لله بدمه هو السيد المسيح. فمن ينكر ألوهية السيد المسيح -مثلما يفعل أصحاب بدعة "شهود يهوه"- ينكر الرب الذي اشترانا بدمه ويجلب على نفسه هلاكًا سريعًا.
وينبغى أن نتذكر قول معلمنا يوحنا الرسول "كُلُّ مَنْ يُنْكِرُ الابن لَيْسَ لَهُ الآبُ أَيْضًا، وَمَنْ يَعْتَرِفُ بِالابن فَلَهُ الآبُ أَيْضًا" (1يو2: 23).
هذه نصيحة نقولها لأصحاب بدعة "شهود يهوه" الذين يتمسكون بالآب وحده.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
المسيح هو الخلاص

لقد تغنى إشعياء النبي بهذه الحقيقة حينما قال: "هُوَذَا اللَّهُ خَلاَصِي فَأَطْمَئِنُّ وَلاَ أَرْتَعِبُ لأَنَّ يَاهَ يَهْوَهَ قُوَّتِي وَتَرْنِيمَتِي وَقَدْ صَارَ لِي خَلاَصًا" (إش12: 2). وهو يقصد أن الله (يهوه) قد "صَارَ خَلاَصًا".. فهو ليس فقط "المخلّص"، بل "صَارَ خَلاَصًا". مثلما كتب القديس يوحنا الرسول الإنجيلي "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا" (يو1: 14). أي أن السيد المسيح هو المخلّص وهو الخلاص نفسه.. كذلك هو صانع العهد وهو العهد نفسه، لأنه تجسد وأعطانا دمه عهدًا جديدًا.
إن الخلاص هو تدبير الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس؛ الإله الواحد المثلث الأقانيم. الله هو المخلّص، وهذا الخلاص قد تحقق بإرسال الابن إلى العالم فصار هو العهد، وتحقق بإرسال الروح القدس حسب موعد الآب ليأخذ من استحقاقات خلاص الابن ويعطينا في أسرار الكنيسة بالميلاد الفوقاني في المعمودية، وبمفاعيل الخلاص في سائر الأسرار..
إن الابن الذي هو المخلّص والخلاص في آنٍ واحد... هو موضوع اللقاء بين الله والإنسان، لأن الله الكلمة قد اتخذ طبيعة بشرية كاملة بلا خطية وجعلها خاصةً به جدًا His very own حسب تعبير القديس كيرلس الكبير. هو نفسه الله الكلمة وهو نفسه ابن الإنسان في آنٍ واحد بعد التجسد. وقد جعل لاهوته واحدًا مع ناسوته بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ولا انفصال، وذلك بالاتحاد الطبيعي الأقنومي الكامل والحقيقي. وهذا الاتحاد سوف يبقى إلى الأبد. وكما قال القديس كيرلس الكبير فإن الله الكلمة لم يتخذ إنسانًا من البشر، بل صار هو نفسه إنسانًا بالتجسّد. ولذلك فالاتحاد الأقنومي هو أمر لا يمكن أن يحدث بالنسبة لسائر البشر ولا حتى للمؤمنين كما يدّعى البعض من دعاة تأليه الإنسان.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
عمل المسيح الخلاصي

في كثير من مواضع نبوة سفر إشعياء سفر نجد أقوالًا تشير إلى عمل السيد المسيح الخلاصي..
ونراه يتنبأ عن ابتلاع الموت الذي خيّم على البشرية جمعاء فيقول "وَيَصْنَعُ رَبُّ الْجُنُودِ لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ فِي هَذَا الْجَبَلِ وَلِيمَةَ.. وَيُفْنِي فِي هَذَا الْجَبَلِ.. َالْغِطَاءَ الْمُغَطَّى بِهِ عَلَى كُلِّ الأُمَمِ. يَبْلَعُ الْمَوْتَ إلى الأَبَدِ وَيَمْسَحُ السَّيِّدُ الرَّبُّ الدُّمُوعَ عَنْ كُلِّ الْوُجُوهِ وَيَنْزِعُ عَارَ شَعْبِهِ عَنْ كُلِّ الأَرْضِ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ. وَيُقَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: هُوَذَا هَذَا إِلَهُنَا. انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا. هَذَا هُوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ" (إش25: 6-9).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لِجَمِيعِ الشُّعُوبِ

نلاحظ أن الوعد بالخلاص في هذه النبوة لا يخص شعب إسرائيل وحده، بل يمتد إلى "ِجَمِيعِ الشُّعُوبِ" وإلى "كُلِّ الأُمَمِ" وعن "كُلِّ الأَرْضِ".
كما أن عبارة "يُفْنِي فِي هَذَا الْجَبَلِ.. َالْغِطَاءَ الْمُغَطَّى بِهِ عَلَى كُلِّ الأُمَمِ. يَبْلَعُ الْمَوْتَ إلى الأَبَدِ" تشرح بوضوح أن الرب يريد إفناء الموت ومنح الحياة الأبدية.
وماذا يمكن أن يكون الغطاء الذي غطّى كل الأمم إلا الموت الذي ملك وغطّى على جميع الشعوب والأمم،ويتضّح ذلك من العبارة اللاحقة "يَبْلَعُ الْمَوْتَ إلى الأَبَدِ". فعلًا لقد "ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إلى غَلَبَةٍ" (انظر هو13: 14، 1كو15: 54) بالفداء.
كان أهم انتظار للبشرية هو في الخلاص من الموت، ولم يكن ذلك باستطاعة أي إنسان من البشر العاديين، بل استلزم الأمر أن يتجسد ابن الله الوحيد ويصير إنسانًا لكي يحمل خطايا البشرية ويتمم الفداء بالصليب.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أفراح الخلاص ونتائجه

تستطرد النبوة إلى ما بعد ابتلاع الموت فتقول إن الرب سوف يمسح الدموع من كل الوجوه، وينزع عار شعبه عن كل الأرض.
لقد عاشت البشرية في أحزان الموت.. تحت سلطانه وظلاله الكئيبة، مثلما نصلى في القداس الإلهي ونقول: [وفى آخر الأيام ظهرت لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت].
كان الوضع يدعو بالفعل إلى البكاء على حال البشرية، وما آلت إليه بعد السقوط والخروج من الفردوس والدخول إلى حالة الموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس. وقد لحق بالبشرية عار عظيم لسبب الخطية والعداوة الحادثة بين الله والإنسان، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وحتى بين الروح والجسد في الإنسان.
لقد شمت إبليس في البشرية وصار يعيّرها.. وصارت عارًا في وسط الخليقة العاقلة.. لذلك تقول النبوة عن الله وعمله في الخلاص "وَيَنْزِعُ عَارَ شَعْبِهِ عَنْ كُلِّ الأَرْضِ لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ تَكَلَّمَ".
لقد وعد الرب بالخلاص وأوفى وعده المقدس. وكما أن الوعد كان بكلام من الله تم تدوينه في الأسفار المقدسة، هكذا كان الخلاص بكلمة الله نفسه الذي تجسد وحقق العهد الخاص بالخلاص. وهناك فرق طبعًا بين كلام الله الذي أعلنه بواسطة أنبيائه القديسين وبين الله الكلمة ذاته كأقنوم إلهي، ولكن الجميل أن ما قاله الرب قد تحقق في ابنه الوحيد الذي هو الكلمة (اللوغوس).
وعن ذلك قال معلمنا بولس الرسول: "اللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابنهِ" (عب1: 1، 2).
وفى ختام هذه النبوة يتحدث عن تسابيح وأفراح الخلاص الذي انتظرته البشرية فيقول: "هُوَذَا هَذَا إِلَهُنَا. انْتَظَرْنَاهُ فَخَلَّصَنَا. هَذَا هُوَ الرَّبُّ انْتَظَرْنَاهُ. نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ بِخَلاَصِهِ" (إش25: 9).
لم يعد الله هو الخالق فقط، بل صار هو المعتنى بالخليقة وبخلاصها.. وهكذا يليق به لأنه هو إلهنا انتظرناه فخلصنا وصرنا نسبحه مع المرنم: "هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ. فلنَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيهِ. يَا رَبُّ خَلِّصْنا، يَا رَبُّ سهل سبلنا، مُبَارَكٌ الآتِي بِاسم الرَّبِّ" (مز117: 24-26).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
تسابيح البهجة الخلاصية

تزدحم الإصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بأقوال عن الخلاص وعن المسيا المنتظر وبتسابيح البهجة الخلاصية. وسوف نورد مقتطفات منها متتالية، ثم نحاول ربطها ببعضها البعض كما يلى:
* "فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ، تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ، مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ، وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا" (إش61: 10).
* "مِنْ أَجْلِ صِهْيَوْنَ لاَ أَسْكُتُ وَمِنْ أَجْلِ أُورُشَلِيمَ لاَ أَهْدَأُ حَتَّى يَخْرُجَ بِرُّهَا كَضِيَاءٍ وَخَلاَصُهَا كَمِصْبَاحٍ يَتَّقِدُ. فَتَرَى الأُمَمُ بِرَّكِ وَكُلُّ الْمُلُوكِ مَجْدَكِ وَتُسَمَّيْنَ بِاسْمٍ جَدِيدٍ يُعَيِّنُهُ فَمُ الرَّبِّ. وَتَكُونِينَ إِكْلِيلَ جَمَالٍ بِيَدِ الرَّبِّ وَتَاجًا مَلَكِيًّا بِكَفِّ إِلَهِكِ" (إش62: 1-3).
* "وَكَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلَهُكِ" (إش62: 5).
* "اُعْبُرُوا اعْبُرُوا بِالأَبْوَابِ. هَيِّئُوا طَرِيقَ الشَّعْبِ. أَعِدُّوا أَعِدُّوا السَّبِيلَ. نَقُّوهُ مِنَ الْحِجَارَةِ. ارْفَعُوا الرَّايَةَ لِلشَّعْبِ. هُوَذَا الرَّبُّ قَدْ أَخْبَرَ إلى أَقْصَى الأَرْضِ قُولُوا لاِبْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مُخَلِّصُكِ آتٍ. هَا أُجْرَتُهُ مَعَهُ وَجِزَاؤُهُ أَمَامَهُ. وَيُسَمُّونَهُمْ شَعْبًا مُقَدَّسًا، مَفْدِيِّي الرَّبِّ" (إش62: 10-12).
* "مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ؟ هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ. الْمُتَعَظِّمُ بِكَثْرَةِ قُوَّتِهِ؟
"أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ".
"مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟"
"قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ.... فَنَظَرْتُ وَلَمْ يَكُنْ مُعِينٌ وَتَحَيَّرْتُ إِذْ لَمْ يَكُنْ عَاضِدٌ فَخَلَّصَتْ لِي ذِرَاعِي وَغَيْظِي عَضَدَنِي.. لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ! مِنْ حَضْرَتِكَ تَتَزَلْزَلُ الْجِبَالُ" (إش63: 1-3، 5، 64: 1).
لماذا يقول الرب إنه سوف يعطى "أورشليم" اسمًا جديدًا يعينه فم الرب، إلاّ لأنها سيصير اسمها "كنيسة المسيح" و"عروس المسيح"، وقد لمّح الرب بقوله: "مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ، وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا"، وأيضًا "كَفَرَحِ الْعَرِيسِ بِالْعَرُوسِ يَفْرَحُ بِكِ إِلَهُكِ". وهذه العبارات تشير إلى الكنيسة المفدية والمشتراة بدم السيد المسيح، لذلك يقول عن أولادها: "وَيُسَمُّونَهُمْ شَعْبًا مُقَدَّسًا، مَفْدِيِّي الرَّبِّ".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي

وقد ارتبط الخلاص في هذه الآيات بدم المسيح بصورة واضحة إذ يقول: "أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ"، "وَخَلاَصُهَا كَمِصْبَاحٍ يَتَّقِدُ"، "هُوَذَا مُخَلِّصُكِ آتٍ"، "مَنْ ذَا الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ؟"، "مَا بَالُ لِبَاسِكَ مُحَمَّرٌ وَثِيَابُكَ كَدَائِسِ الْمِعْصَرَةِ؟"، "قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ"، "أَنَا الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ"، "خَلَّصَتْ لِي ذِرَاعِي وَغَيْظِي عَضَدَنِي".
والمقصود بعبارة: "غَيْظِي عَضَدَنِي" أن الرب على الصليب قد أعلن غضب الثالوث القدوس على الخطية. فهو لم يعلن فقط محبة الثالوث للبشرية، بل أعلن قداسة الله ورفضه للخطية.. ولهذا السبب أوفى الدين بذبيحة نفسه على الصليب حيث أخذ القاضي مكان المتهم وحمل خطايا كثيرين وشفع في المذنبين. وقد تقبّل الآب هذه الكفارة التي أصعدها الروح القدس النارى فوق الجلجثة كقول معلمنا بولس الرسول عن المسيح: "الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ" (عب9: 14).
وقد أشار يوحنا الرسول الإنجيلي في رؤياه إلى المعصرة التي اجتازها السيد المسيح، فقال عنه: "وَهُوَ يَدُوسُ مَعْصَرَةَ خَمْرِ سَخَطِ وَغَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ" (رؤ19: 15، 16). وقال عنه في نفس الموضع: "وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ كَلِمَةَ اللهِ" (رؤ19: 13).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي

يدّعى البعض في أيامنا هذه أن السيد المسيح لم يتألم عنّا، ولم يُصلب عنّا، ولم يمُت عنّا. وذلك بدعوى أننا قد تألمنا معه وصُلبنا معه ومتنا معه. ويقولون إن التعبير الصحيح هو أنه تألم لأجلنا، وصُلب لأجلنا، ومات لأجلنا. ويعتبرون "لأجلنا" أنها لا تعنى "عوضًا عنّا" أو "بدلًا منّا".
ولكن السيد المسيح يحسم الأمر بفم إشعياء النبي ويقول: "قَدْ دُسْتُ الْمِعْصَرَةَ وَحْدِي وَمِنَ الشُّعُوبِ لَمْ يَكُنْ مَعِي أَحَدٌ" (إش63: 3) أي أن السيد المسيح قد صُلب وحده. فهل يضع هؤلاء المعلمون الجدد حكمتهم فوق إعلانات الوحي المقدس؟! وبماذا يجيبون..؟
إن عبارة "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ" (غل2: 20) قد فسّرها بولس الرسول بأن هذا قد تم في المعمودية وليس على الجلجثة، فقال: "أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ. فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ.. عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ" (رو6: 3-6).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ

يخاطب الآب في سفر إشعياء الابن الوحيد المتجسد بقوله: "أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ. لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إش42: 6، 7).
الجميل في هذا النص أن الآب السماوي يقول إن السيد المسيح لم يقطع فقط عهدًا مع الشعب المؤمن باسمه مثلما ورد في سفر إرميا (إر31: 31)، بل أنه هو نفسه "العهد".
والسبب في ذلك هو أن الابن الكلمة قد صار له جسدًا يمكن أن يتألم وأن يعلّق على الصليب، وأن يقبل الموت، وأن يقوم من الأموات، وأن يصعد إلى السماوات.
عبارة "أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ" تحمل في طياتها كل هذه المعاني بداية من معنى "التجسُّد" الذي قال عنه السيد المسيح للآب في المزمور: "هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا" (عب10: 5، انظر مز40: 6 حسب الترجمة السبعينية).
فى القديم صنع الرب عهدًا مع شعب إسرائيل بيد موسى النبي ورش دم الذبائح الحيوانية، وحدث نقض لذلك العهد لسبب خطايا الشعب وزيغانهم.
وجاء السيد المسيح وقدّم نفسه ذبيحة خلاصية، وقال في ليلة آلامه لتلاميذه عن كأس دمه المقدس الذي يُسفك في جَلده وفي سائر آلامه حتى على الصليب: "هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ" (لو22: 20).
وبهذا أوضح السيد المسيح أن دمه المسفوك في آلامه والممنوح أيضًا في كأس الافخارستيا هو العهد الجديد. هو دمه الخاص، وما يُنسب إلى جسده وإلى دمه الخاص يُنسب إليه هو شخصيًا.
وبهذا صنع السيد المسيح العهد الجديد وقال لتلاميذه: "اصْنَعُوا هَذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي" (1كو11: 25).
فالسيد المسيح هو "الْعَهْدُ" لأن دمه هو "الْعَهْدُ"، وذلك لأنه "تجسّد وتأنّس وصُلب عنّا".
فما أجمل هذه الأنشودة الجديدة "أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ" التي تغنى بها الآب نفسه على فم إشعياء النبى.. هل هناك حب أعظم من هذا..؟! "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابنهُ الْوَحِيدَ الجنس لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ" (يو3: 16).
ولكن الملفت للنظر أن الرب يقول بفم إشعياء النبى: "وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ". أي أن السيد المسيح هو نفسه العهد الجديد.
· هو العهد الجديد لأن دمه في كأس الافخارستيا وكذلك هو نفسه الذي سفك على الصليب، هو العهد الجديد.
· وهو العهد الجديد لأنه لم يمكن لأية ذبيحة أن تكفّر عن خطايا العالم سوى ذبيحة المسيح.
· وهو العهد الجديد لأنه لا يمكن أن يستمر العهد إلا بضمان إلهى فلا ينقض، وهل يمكن أن ينقض أحد المسيح نفسه؟! إذن "قَدْ صَارَ يَسُوعُ ضَامِنًا لِعَهْدٍ أَفْضَلَ" (عب7: 22) كقول معلمنا بولس الرسول.
إن الله "إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْظَمُ يُقْسِمُ بِهِ، أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ" (عب6: 13)، وإذ لم يجد أعظم يقدمه، قدّم ابنه الوحيد الجنس المتجسد.
بمعنى أن الله الابن قدّم ذاته فصار هو العهد الذي لا يمكن أن يُنقض.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
أَجْعَلُكَ.. نُورًا لِلأُمَمِ

لم يصر السيد المسيح فقط عهدًا للشعب، بل صار نورًا للأمم الجالسين في الظلمة.
"كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إلى الْعَالَمِ" (يو1: 9). وكما قال قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته: السيد المسيح هو النور الحقيقى الذي يستمد منه الجميع النور، لذلك قيل عنه إنه هو "النور الحقيقي" وليس مجرد "النور".
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ

لم يفتح السيد المسيح فقط عيني المولود أعمى، بل فتح بصيرته عندما طرده اليهود من المجمع إذ وجده وقال له: "أَتُؤْمِنُ بِابن اللَّهِ؟ أَجَابَ: مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ بِهِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ. فَقَالَ: أُومِنُ يَا سَيِّدُ. وَسَجَدَ لَهُ" (يو9: 35-38) لقد انفتحت أعين قلبه وآمن بلاهوت السيد المسيح.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ

من كان يستطيع أن ينزل إلى الجحيم، ويحطم متاريسه، ويفك المأسورين سوى الله نفسه. وذلك من خلال تجسده وموته على الصليب وانطلاق روحه المتحد باللاهوت ليكرز للأرواح في السجن كقول نبوة إشعياء: "لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إش42: 7).
بالفعل تكلّم القديس بطرس الرسول عن ذلك في رسالته الأولى وقال عن السيد المسيح: "مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ، الَّذِي فِيهِ أَيْضًا ذَهَبَ فَكَرَزَ لِلأَرْوَاحِ الَّتِي فِي السِّجْنِ" (1بط 3: 18، 19).
لقد بشَّرهم بإتمام الفداء وبالمصالحة وبأن انتظارهم للخلاص لم يذهب هباءً، بل حقق الرب وعده للآباء كما تنبأ زكريا الكاهن والد يوحنا المعمدان قائلًا: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ. وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ. خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ. الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا" (لو1: 68-74).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ

"أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. هُوَذَا قَدْ جَعَلْتُهُ شَارِعًا لِلشُّعُوبِ رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ" (إش55: 3، 4)، من هو هذا داود الذي سوف تشمل مراحمه الشعوب ويقطع الله بناءً على مراحمه عهدًا أبديًا مع البشرية؟ وكيف سوف يصير داود هذا شارعًا ورئيسًا وموصيًا للشعوب؟!
من الواضح أن المقصود هنا ليس هو داود النبي والملك. ولكن المقصود هو السيد المسيح ابن داود الذي استقبلته الجموع في يوم دخوله إلى أورشليم بعبارة "مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ" (مر11: 10)، "أُوصَنَّا (هوشعنا أي خلصنا) فِي الأَعَالِي" (مت21: 9). و"مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّب" (لو13: 35).
إن إشعياء النبي قد نطق بهذه النبوة بعد رحيل داود بحوالي مائتى سنة، والنبوة تعطى وعدًا أن الرب سوف يقطع للبشر عهدًا أبديًا بقوله "اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا" (إش55: 3).
وهذا الوضع يشبه ما شرحه القديس بطرس الرسول في يوم الخمسين عن ما ورد على لسان داود النبي في المزمور من نبوات عن آلام وموت وقيامة السيد المسيح؛ مع أنه قالها بصيغة المتكلم كأنه يقول عن نفسه. وهذا نص كلام بطرس الرسول:
"لأَنَّ دَاوُدَ يَقُولُ فِيهِ: كُنْتُ أَرَى الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ أَنَّهُ عَنْ يَمِينِي لِكَيْ لاَ أَتَزَعْزَعَ. لِذَلِكَ سُرَّ قَلْبِي وَتَهَلَّلَ لِسَانِي. حَتَّى جَسَدِي أَيْضًا سَيَسْكُنُ عَلَى رَجَاءٍ. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ تَدَعَ قُدُّوسَكَ يَرَى فَسَادًا. عَرَّفْتَنِي سُبُلَ الْحَيَاةِ وَسَتَمْلأُنِي سُرُورًا مَعَ وَجْهِكَ. أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِخْوَةُ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ لَكُمْ جِهَارًا عَنْ رَئِيسِ الآبَاءِ دَاوُدَ إِنَّهُ مَاتَ وَدُفِنَ وَقَبْرُهُ عِنْدَنَا حَتَّى هَذَا الْيَوْمِ. فَإِذْ كَانَ نَبِيًّا وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ حَلَفَ لَهُ بِقَسَمٍ أَنَّهُ مِنْ ثَمَرَةِ صُلْبِهِ يُقِيمُ حَسَبَ الْجَسَدِ لِيَجْلِسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ. سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ لَمْ تُتْرَكْ نَفْسُهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَلاَ رَأَى جَسَدُهُ فَسَادًا. فَيَسُوعُ هَذَا أَقَامَهُ اللهُ وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذَلِكَ" (أع2: 25- 32).
وقد استند القديس بطرس الرسول إلى موت داود ووجود قبره عند اليهود إلى يوم الخمسين الذي تكلم فيه بطرس الرسول، إلى أن المقصود بالكلام ليس داود النبي نفسه بل ابن داود وهو السيد المسيح.
ولا يفوتنا بهذه المناسبة أن نشير إلى ما ورد في هذا النص عن رؤية داود النبي لقيامة السيد المسيح وليس فقط الإلهام بشأنها في كلمات، إذ قال بطرس الرسول عن داود النبي: "سَبَقَ فَرَأَى وَتَكَلَّمَ عَنْ قِيَامَةِ الْمَسِيحِ" (أع2: 31). ولم يكن داود فقط هو الذي رأى ذلك، بل أن السيد المسيح قد أشار إلى رؤية إبراهيم ليوم الفداء أي لصلب المسيح وقيامته إذ قال الرب يسوع لليهود: "أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ" (يو8: 56)، والمفهوم طبعًا أنه رأى ذلك عندما همّ بتقديم إسحق ابنه ذبيحة وافتداه الرب بخروف موثق بقرنيه.
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
عهدًا أبديًا

لقد أكّد إرميا النبي أنه يوجد عهد قديم وعهد جديد بين الله وشعبه. وأن العهد القديم قد نقضه شعب إسرائيل، أما العهد الجديد فهو عهد لا ينقض وبذلك يكون عهدًا أبديًا،والسبب نحن نفهمه جيدًا لأن العهد الجديد هو دم السيد المسيح الذي سفك على الصليب والمستمر في كأس الافخارستيا كقول الرب لتلاميذه: "هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ" (لو22: 20، 1كو11: 25). بل أن الآب قد قال للابن بفم إشعياء النبي: "أَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ. لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إش42: 6، 7).
أي أن السيد المسيح هو نفسه العهد الجديد لكل من اليهود والأمم لأنه قد صنع هذا العهد بدم صليبه المحيى المانح للحياة الأبدية.
نفس هذا العهد قال عنه الرب في سفر إشعياء: "عَهْدُ سَلاَمِي لاَ يَتَزَعْزَعُ قَالَ رَاحِمُكِ الرَّبُّ" (إش54: 10).

أما ما ورد في سفر إرميا عن العهدين فهو كما يلي:
"هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ يَوْمَ أَمْسَكْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. وَلاَ يُعَلِّمُونَ بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلِينَ: اعْرِفُوا الرَّبَّ لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إلى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ" (إر31: 31-34).
هذا الكلام قد قيل عن بيت إسرائيل وبيت يهوذا لأنهم نقضوا العهد القديم الذي كان بينهم وبين الرب. ولكن العهد الجديد هو لجميع المؤمنين بالمسيح من جميع الأمم وجميع الشعوب؛ لأن النبوة التي نحن بصددها في سفر إشعياء تستطرد وتقول: "هَا أُمَّةٌ لاَ تَعْرِفُهَا تَدْعُوهَا وَأُمَّةٌ لَمْ تَعْرِفْكَ تَرْكُضُ إِلَيْكَ مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ إِلَهِكَ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكَ" (إش55: 5).
كتاب المسيح في سفر إشعياء - الأنبا بيشوي
رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ

"وَيَأْتِي الْفَادِي إلى صِهْيَوْنَ، وَإِلَى التَّائِبِينَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي يَعْقُوبَ يَقُولُ الرَّبُّ. أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ قَالَ الرَّبُّ: رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ وَكَلاَمِي الَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِ نَسْلِكَ، قَالَ الرَّبُّ: مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ" (إش59: 20، 21).
يتكلم الآب في هذه النبوة موجهًا الكلام في البداية إلى شعبه بقوله: "َيَأْتِي الْفَادِي.. يَقُولُ الرَّبُّ"، ثم يتحول بالكلام إلى السيد المسيح نفسه الذي هو الفادي المقصود في عبارة "وَيَأْتِي الْفَادِي إلى صِهْيَوْنَ". فيقول الآب للابن في باقي النبوة: "أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ.. رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ وَكَلاَمِي الَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ.. مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ".
وقد سبق في نفس سفر إشعياء أن قال الآب عن الابن: "هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ" (إش42: 1). ونلاحظ التشابه بين عبارة "رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ" في (إش59: 21) وعبارة "وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ" في (إش42: 1).
عبارة "رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ" تشير إلى مسح السيد المسيح بحسب ناسوته في نهر الأردن بالروح القدس عندما حل الروح عليه بهيئة جسمية مثل حمامة واستقر على رأسه.
وقد قَبِل السيد المسيح المسحة بالروح القدس كرأس للكنيسة لكي تنحدر المسحة من الرأس إلى الأعضاء، الأمر الذي تحقق في يوم الخمسين حينما حل الروح القدس على التلاميذ.
أما عبارة "مِنْ فَمِ نَسْلِكَ" فقد سبق أن أوضحنا أن النسل المقصود في الحديث عن السيد المسيح هو النسل الروحي الذي ينال الميلاد الفوقاني أي الميلاد من الله. مثلما أوضح القديس يوحنا الرسول عن المؤمنين بالمسيح "وأمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يو1: 12).
لهذا قال معلمنا بولس الرسول: "لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا" (رو9: 6). أي أن النسل الروحي بالولادة من الله لأولاد الموعد هو بخلاف النسل الجسدي.
فلمَن يقول الآب في هذه الآية من نبوة إشعياء النبي: "كَلاَمِي الَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ، لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ.. مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ"؟! لا يمكن أن ينطبق هذا الكلام على إشعياء النبي لأن من هو الذي سوف يبقى كلام الرب في فمه إلى الأبد؟! وأين هو نسل إنسان سوف يستمر كلام الرب في فم نسله إلى الأبد؟!
إن الوعد في هذه النبوة هو خاص بالعهد الجديد لذلك قال الرب: "أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ". وأوضح الآب أن الوعد الذي يمنحه هو الوعد بحلول الروح القدس الذي سوف يقود التعليم في الكنيسة ويقود القديسين "مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ".
وقد أشار السيد المسيح بالفعل إلى هذا الموعد أو الوعد عندما أمر تلاميذه ألا يبرحوا أورشليم حتى يحل عليهم الروح القدس، إذ أوصاهم: "أَنْ لاَ يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ بَلْ يَنْتَظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ الَّذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي" (أع1: 4).
ما أجمل أن نسمع أن الوعد بالروح القدس للكنيسة المفدية هو من الآب للابن، يقول: "أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ قَالَ الرَّبُّ: رُوحِي الَّذِي عَلَيْكَ وَكَلاَمِي الَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ، وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِ نَسْلِكَ، قَالَ الرَّبُّ: مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ" (إش59: 20، 21).
لهذا قال السيد المسيح: "وَأَمَّا الْمُعَزِّي الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ" (يو14: 26). وقال أيضًا عنه: "مَتَى جَاءَ ذَاكَ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إلى جَمِيعِ الْحَقِّ.. لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ" (يو16: 13، 14).
ولهذا فقد صارت الكنيسة في العصر الرسولي تكرز بالإنجيل وتسجل كلمات السيد المسيح في الأناجيل المكتوبة وبعض أسفار العهد الجديد، حتى العظة على الجبل بكاملها. بل أن إنجيل يوحنا قد أورد حوارات طويلة حدثت بين السيد المسيح واليهود تثبت ألوهيته، إلى جوار حديثه الطويل مع المرأة السامرية الذي لم يحضره أحد من التلاميذ.
إن وعد الآب قد تحقق ولا زال يتحقق بعمل الروح القدس في الكنيسة: في أسرارها السبعة، وفي شرح الأناجيل وأسفار العهد الجديد والعهد القديم من خلال أقوال الآباء القديسين، وخاصة ما قررته المجامع المسكونية الثلاث الأولى. إلى جوار ما عمله الروح القدس في شهادة القديسين الذين نالوا أكاليل الشهادة على الإيمان المستقيم. وما زال الروح القدس يعمل في الكنيسة حتى تحفظ الإيمان الأرثوذكسي.
  رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
كتاب رحلة الصوم مع إشعياء النبي - القمص بيشوى كامل - مسموع
كتاب تأملات في القيامة - الأنبا بيشوي
كتاب أنوار القيامة - الأنبا بيشوي
كتاب راعوث الموآبية - الأنبا بيشوي
كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي


الساعة الآن 12:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024