خيمة الاجتمـــــاع – خيمة الشهادة * تمهيــــــد
نلاحظ أنه من ابتداء الإصحاح 25 من سفر الخروج يتم سرد تفاصيل عن خيمة تختص بحضور الله وسط شعبه الخاص ليُشاركهم مجده ويتقبل منهم عبادتهم بعد أن أخرجهم بذراع رفيعة من أرض العبودية بخلاص عظيم وأتى بهم إلى البرية ليقدسهم بدم العهد الذي قطعه معهم على جميع الأقوال التي سلمها لهم على يد موسى النبي، لأن من المستحيل أن يسكن الله وسط شعبه ويحدث لقاء حي وسط أرض عبودية متغربة عن الله، أو في وجود ملك آخر ذات سلطان وسيادة غير الله بشخصه وذاته !!!
ويُطلق على هذه الخيمة [المسكن]، وذلك لأنها تُعبَّر عن سكنى الله وسط شعبه، ويتم سرد تفاصيل دقيقة عن شكل الخيمة ومواصفتها ومحتويتها وكيفية تصنيعها، فنرى – بوضوح – أن الله أظهر لموسى شكل المسكن ليُقيم مثالاً له: [ بحسب جميع ما أنا أُريك من مثال المسكن، ومثال جميع آنيته هكذا تصنعون... أنظر فاصنعها على مثالها الذي أُظهر لك في الجبل ] (خر25: 9 و 40)
ولننتبه جداً لهذا الموضوع، فالخيمة لا تعد بالشيء البسيط أو يخص شعب إسرائيل في الماضي ونجمع معلومات عنها لنُزيد من محصلة معلوماتنا التاريخية، بل هي تخصنا نحن بالدرجة الأولى، لأنها تُمثل حضور الله الخاص وسط الشعب المختار ليسكن وسطهم والكل ملتف حوله بنظام وترتيب دقيق للغاية، والكل يتهيأ بالقداسة والطهارة والعفة والنقاوة ليصير شعب الله الحقيقي المؤهل لسكنى الله وحلوله في الوسط ، فكل ما يخص هذه الخيمة لنا أن ننتبه له بشدة وبكل وعي وتدقيق شديد، لندخل لجبل أسرار الله الشامخ لنأخذ من كنز عمله العظيم فنرى ونبصر وندخل ونشترك ونشبع من دسم عمل الله كخبرة في حياتنا اليومية !!!
والسؤال المطروح على كل إنسان مسيحي حقيقي: [ ما هو قصد الوحي المقدس من سرد تفاصيل هذه الخيمة التي استغرق وصف التعليمات الخاصة لإعدادها ومراحل بنائها، كل هذا الحيز من الأسفار المقدسة ؟ ]
يقول الرسول : [ لأن كل ما سبق فكُتب، كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء ] ( رو15: 4)، فموضع الخيمة عن جد خطير وهام للغاية ويحتاج ذهن مستنير وعيون مفتوحة على مقاصد الله وتدبيره، فالخيمة تخص بداية الخلق بالدرجة الأولى وتعلن تدبيره العظيم لأجل الإنسان، أي أن الله منذ البدء خلق الإنسان ليكون له شركه مقدسة معه، فيكون له إلهاً وهو يكون له ابناً خاصاً لذلك خلقه على صورته، وكان يلتقي به يومياً عند هبوب ريح النهار كما هو واضح من سفر التكوين، بمعنى أن الله خلق الإنسان ليكون له شعباً وهو يسكن وسطهم كإله حي قدوس محب والإنسان هو محبوبة الخاص !!!
ورغم سقوط الإنسان وعدم ثبوته فيما أعطاه الله، وفقد روح الشركة، ولكن قصد الله الأزلي وتدبيره لا يخيب قط، ومحبته للبشر لا تسقط أبداً، لذلك لم تعجز محبة الله وصلاح عدله أن يعطي وسيلة لخلاص الإنسان وتجديد خلقته، ورده من العبودية تحت سلطان الموت وقوة الحية القديمة التي أفسدت عليه عشرته المقدسة مع الله القدوس الحي والمُحيي، لذلك ظل الله يعمل بقوة وسلطان فائق وباستمرار وبلا توقف، على مدى الأجيال كلها لأجل تكميل تدبيره في ملئ الزمان: [ حسب مسرته التي قصدها في نفسه، لتدبير ملئ الأزمنة، ليجمع كل شيء في المسيح ] (أف 1: 9 و10...
فلنا أن نعلم ونتيقن أن الله مستحيل أن يرضى بأقل مما وضعه في قصده الأزلي، بأن يُشرك الإنسان في قداسته ومجده كما طلب ربنا يسوع المسيح من الآب في صلاته التشفعية لأجلنا: [ أيها الآب أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم ] (يو 17: 24)، وهذا بالطبع هو منتهى قصد الله لنا ...
فلنا أن ننتبه جداً ونطلب من أن يكشف الله عن أعيننا لنبصر ونُعاين تدبيره الذي كُتب لنا، فأبصروا معي وافتحوا آذان قلوبكم: ها هو الله بعد أن خلَّص شعبه من عبودية مصر وأخرجهم من أرضها بذبيحة كفارة وفداء وعبر بهم بحر الموت لحياة جديدة تماماً في البرية، أتى بهم إلى جبل سيناء واستعلن ذاته لهم بمجد عظيم ، فرأوا مجده وجبروته، وسمعوا صوته، وأعطاهم ناموسه ووصياه كقانون ودستور حياتهم الجديدة، وقدسهم وخصصهم بدم العهد الذي قطعه معهم ليكونوا له شعباً مختاراً مكرساً وقفاً لشخصه فقط، وها هو الآن يطلب منهم أن يصنعوا له مقدساً ليسكن في وسطهم، كأب يشتاق أن يُقيم وسط أبنائه الأخصاء الذين أحبهم وأحب آبائهم [ إبراهيم وإسحق ويعقوب ]، وأحب من خلالهم البشرية كلها التي خلقها على صورته ومثاله لكي يسعد بها وتسعد به بعلاقة حب متبادل لا تفتر !!!
وطبعاً الله [ العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي، كما يقول النبي: السماء كرسي لي، والأرض موطئ لقدميَّ. أي بيت تبنون لي يقول الرب، وأيٌّ هو مكان راحتي ؟ أليست يديَّ صنعتْ هذه الأشياء كلها ] (أعمال 7: 48 – 50)، ولكن الله قصد بهذا المقدس [ أمثال الأشياء التي في السماوات ] (عب 9: 23)، و [ظل الخيرات العتيدة] (عب 10: 1)، وذلك لكي يكون خطوة في سبيل تحقيق قصده النهائي بتجسُّده وحلوله بيننا في آخر الأيام [ والكلمة صار جسداً وحل بيننا (فينا) (ونصب خيمته فينا) ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً ] (يو 1: 14)، وفي نهاية الدهور يسكننا معه أورشليم السمائية المهيأة [ كعروس مزينة لرجلها ]:
+ [ هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم ... ولم أرى فيها هيكلاً، لأن الرب القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها. والمدينة لا تحتاج إلى شمس ولا إلى قمر ليًضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها. وتمشي شعوب المخلَّصين بنورها، وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها. ولن يدخلها شيء دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلاَّ المكتوبين في سفر حياة الخروف ] ( رؤ 21: 3 و 22 – 37)
ويقول القديس إيرينيئوس: [ إذاً، فإنه هو الله أيضاً الذي كلَّف الشعب (اليهودي) ببناء الخيمة وتشييد الهيكل، واختيار اللاويين، وتقديم الذبائح والقرابين وسائر مطالب الناموس التشريعية وجميع خدماته الأخرى. مع أن الله نفسه لا يحتاج بالحقيقة لأي شيء منها، لأنه مُمتلئ دائماً بكل صلاح، وينبع منه كل عبيق الجود والسخاء، وكل عطر طيب حتى قبل أن يأتي موسى إلى الوجود.
إلاَّ أنه قصد أن يوصي الشعب – الذي كان بطبعه ميَّلاً إلى عبادة الأصنام – مكرَّراً لهم تعليماته بين الحين والآخر لكي يثابروا على عبادة الله، داعياً إياهم إلى الأشياء التي لها الأهمية الرئيسية بواسطة الأمور الثانوية، أعني بذلك جذبهم إلى الأشياء الحقيقية بواسطة ما هو رمزي، وعن طريق الأشياء الزمنية يأتي بهم إلى الأبديات، وبالجسديات يقودهم إلى الروحيات، ومن الأرضيات يرفعهم إلى السمائيات، كما قال لموسى : " أنظر فاصنعها على مثالها الذي أُظهر لك في الجبل " (خر25: 40)]
Against Heresies, Book IV, Chap.XIV,3
عموماً مما فات نُدرك أن الخيمة هي مثال لمسكن الله السماوي، فقد أمر الله موسى أن يصنعها [ بحسب ما أنا أُريك من مثال المسكن، ومثال جميع آنيته (خر25: 9)، ثم عاد وقال له: " وأنظر فاصنعها على مثالها الذي أُظهر لك في الجبل "، وقد رأى إشعياء النبي في رؤياه: [ السيد (الرب) جالساً على كرسي عالٍ ومرتفع، وأذياله تملأ الهيكل (السماوي) ] (إش 6: 1)، وكذلك شهد إرميا النبي قائلاً: [ كرسي مجدٍ مرتفع من الابتداء هو موضع مقدسنا ] (إر 17: 12)
وحزقيال النبي أيضاً يصور لنا في رؤيته: السماوات مفتوحة، وشبه عرش جالس عليه إنسان وحوله كائنات مُجنَّحة ذات أوجه أربعة. والمنظر كله [ مثل منظر نار ولها لمعان من حولها، كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر، هكذا منظر اللمعان من حوله. هذا منظر شبه مجد الرب ] (حز 1: 26 – 28)، هذا هو مسكن الله السماوي .
ثم نجد ما يؤكد هذه الحقيقة في سفر رؤيا القديس يوحنا الرسول، إذ يقول واصفاً ما قد رآه: [ ثم بعد هذا نظرت وإذا قد انفتح هيكل خيمة الشهادة في السماء ] (رؤ 15: 5)
فالخيمة إذن كانت تصويراً منظوراً للمسكن السماوي الغير منظور والذي أراه الله لموسى في الجبل كمثال، فصنع كل شيء على مثاله بكل تدقيق. وهذا بالطبع يعني شيئاً واحداً وهو أن الله قد أراد أن تكون جميع تفاصيل المسكن ودقائقه ليست أموراً للزينة، بل رمزاً يُعلن حقيقة إلهية مستترة ومخفية كسر فائق سيتحقق ويُستعلن في ملئ الزمان بتجسد الكلمة