|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
قوية الشخصية إن الدراسة المتعمقة لشخصية دبورة كما جاءت في كلمة الله، تؤكد وتقطع بأنها شخصية نادرة غير عادية، أو إذا جاز التعبير على منطق الناس، فلته من الفلتات، أو نسخة من النسخ التي لا تتكرر سوى في عصور متباعدة في التاريخ قد تصل إلى المئات أو الألوف من السنين.. ولعل هذه الحقيقة تبدو بوضوح إذا أدركنا أن أية شخصية عادية، تبدو قوية في جانب من الجوانب على حساب جانب آخر، فالشخصية التي تملك عقلاً جبارًا مثلاً، قد يكون هذا على حساب العاطفة الرقيقة، أو المشاعر الحساسة التي تعوزها والعكس صحيح، فالشاعر الرقيق قل أن يكون محاربًا.. ولكن أن تكون الشخصية قاضية مفكرة وأما رقيقة، وأن تحمل في جنباتها عنف المحارب، وأغنية الشاعر، كمثل ما كانت عليه دبورة، فان هذا لا يحدث إلا على نحو نادر، وفي فترات متباعدة جدا وعلى الأغلب في عصور الأزمات والمحن القاسية والآلام الرهيبة في حياة الأمم والشعوب والممالك... كانت دبورة : جبارة التفكير وهذا يبدو من قدرتها كقاضية تجلس تحت نخلتها، ينتقل إليها المتنازعون من كل مكان للفصل بينهم، فيما استعصى عليهم حله من خصومه أو خلاف أو نزاع، ولا يمكن أن يذهب الرجال المتخاصمون إلى امرأة إلا لأن حكمتها فاقت جميع الرجال الموجودين في جيلها وعصرها، فهي من ذلك الصنف من النساء الذي يبرز في الأزمات كالمرأة التقوعية الحكيمة التي استعان بها يوآب في إرجاع أبشالوم من المنفى، أو الأخرى التي أنقذت مدينتها من الحصار عندما حاصر آبل بيت معكة، يوم فتنة شبع بن بكري، ولاشك أن شهرة أحكامها قد ذاعت في طول البلاد وعرضها وعرف عن أحكامها ما فيها من دقة وعمق وأصالة، وبعد عن التحيز والهوى والعاطفية التي جعلت بعض الدول تتردد في أن تجعل المرأة قاضية، أو على الأقل أن تجلس للحكم في ذلك النوع من القضايا الذي قد يخرج بها عن العدالة أو الإنصاف تحت تأثير العاطفة المفتعلة أو الشعور الوقتي. مرهوبة الجانب هذه الشخصية الحكيمة ولاشك مرهوبة الجانب محترمة من الجميع، وقد وصفها يوسيفوس المؤرخ اليهودي، أنها كانت موضع المهابة والاحترام، ليس في جيلها فحسب، بل في التاريخ اليهودي بأكمله، ولا يبدو هذا في قدرتها على وضع أحكامها كقاضية موضع التنفيذ، في عصر وصف أبلغ وصف بالكلمة التي جاءت في ختام سفر القضاة : «في تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل، كل واحد عمل ما حسن في عينيه». بل أكثر من ذلك في أنها وجهت الأمة ودعتها إلى الحرب، ورفض القائد أن يتحرك للقتال ألا اذا كانت هي على رأس الجيش، تسير إلى جواره خطوة فخطوة، والشيء العجيب في هذه المرأة أنها كانت تجمع بين قوة السكون، وقوة الحركة، كانت جالسة تحت نخلة دبورة، تحكم كما يحكم ملك من عرش، وعندما دعت باراق ابن أبينوعم إلى القتال، لم تذهب هي إليه، بل دعته ليأتي إليها، وفي هذا اعتزاز كبير بشخصيتها القوية، ولسلطانها الآمر، على أنها في قوة الحركة هي دبورة أو «نحلة» فهي أشبه بالنحلة المتحركة التي لا تستطيع أن تهدأ أو تسكن حتى تنفذ ما تريد، وتتمم ما ترغب!! فياضة الأنوثة على أن هذا كله لم يكن على حساب أنوثتها، أو مركزها كامرأة، لقد كانت هذه المرأة زوجة، وأما في ذات الوقت كان زوجها «لفيدوت» أو «مصباح» معروفًا ومذكورًا،.. كما أنها إلى جانب ذلك كانت أما، وأغلب الظن أنها كانت أما في بيتها، اذ كان لهما أولاد،.. ولكن أمومتها اتسعت لتشمل البلاد بأكملها، فإذا أضفنا إلى هذا كله أنها غنت شعرًا، والشاعر على الدوام إنسان مرهف الحس رقيق المشاعر، تبين إلى أي مدى كانت هذه المرأة دفاقة العاطفة، فوارة الاحساس مما يؤكد أن أنوثتها لم تذهب أدراج الرياح، وهي تفكر أو تقضي أو تعطي المشورة لشعبها. مفتوحة العينين كان عصرها عصر المأساة والنكبة، ومثل هذا العصر ليس من السهل على الإنسان أن يبصر فيه ما قد يحيط به الظلام من كل جانب، لكن هذه المرأة كانت «نبية» اخترقت عيناها الحجب الكثيفة، لترى رؤى الله، مفتوحة العينين، مكشوفة الحجاب، وقد وصلت إلى هذه الرؤيا لأنها كانت امرأة تقية، قريبة من الله، في أرض الاعوجاج والشر، ولعل من أكبر البركات في حياة الإنسان رجلاً كان أم امرأة، أن تكون له هذه الشفافية، فيرى خلف المنظور مالا يرى، ومن لا يرى، وطوبى للأتقياء القلب لأنهم يعاينون الله... شجاعة القلب ومن العجيب أن هذه المرأة، إلى جانب هذا كله كانت تحمل بين جنبيها أرق المشاعر وشجاعة الأسد، فهي لم تدع باراق إلى الحرب فحسب، لكنها سارت معه إلى الميدان، عندما طلب ذلك، ومع أنه ليس من السهل على الإنسان أن يتصور امرأة تقود أو تدفع جيشًَا إلى القتال، وأنها إذا سارت إلى ميدان القتال أو المعركة، فلكي تعمل على إيقاف نزيف الدم المنهمر بين المحاربين في أعمال الأغاثة والإسعاف والتمريض، إلا أن الذي يعنينا الآن في هذه المرأة، ونحن بصدد التعمق في تحليل شخصيتها مقدار ما كانت عليه من صلابة وشجاعة تستروح معها صيحة الحرب وقعقعة السلاح... كانت دبورة في الواقع على حظ عال كبير من قدرة الفكر، والتهاب العاطفة، وجبروت الإرادة، وتكامل الشخصية غير العادية ونادرة الوجود!!.. |
|