|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الرقة البالغة ، والصلاة الفولاذية وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا ، إلا بهذه الصورة العجيبة ، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح : « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1 : 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره ، وهو بطبعه حيى خجول متضع ، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث ، وهو الرقيق إلى حد الدموع ، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى ، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب ، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة ، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة ، ... وهو يقف مع موسى الذى رفض ، فى مطلع الأمر ، الدعوة ، وهو يقول للّه : « أرسل بيد من ترسل » " خر 4 : 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة ، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية ، يهرب إلى ترشيش ، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته ، ... إن هذا النوع من الخدام ، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول : « ها أنذا أرسلنى " إش 6 : 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل ، » " أع 9 : 6 ".. ولكنه مع ذلك ، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض » .. " إر 1 : 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم !! ... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه ، وهل تكلم إليه بصوت مسموع ، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما ، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة ، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق !! .. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد ، ... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه ، لم يكن يعرفها من قبل ، هى قوة روح اللّه فيه ، ولمس اللّه شفتيه ، وجعل كلامه فى فمه !! .. فإذا قيل ، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره ، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس ، قبل وبعد ، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة ، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة ، أو كما صوره أحدهم : نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة ، كمن يهرب من أسد يطارده ، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه ، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك : إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم ، وإلى العواطف التى تملكهم ، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها ، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث ، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر !! .. وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة ، والضيق ، والأضطهاد ، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته ، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس ، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى : « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت . صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى ... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار . فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه . فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20 : 7 - 9 " ... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه . اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً . ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا : قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً . وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد . لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20 : 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة ، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد ، ومن سجن إلى سجن ، وغاص فى حمأة الجب ، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر !! ... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب ، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً ، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب ، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح ، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال ، ... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا ، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة !! ... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ !! ... |
|