غوغاء وعبيد
عودة إلى قصر رئيس الكهنة.. عاد قيافا إلى قصره، حيث حنان وشيوخ اليهود في لهفة من أمره.. أخبرهم بما كان وكيف تحمَّل صلافة بيلاطس الذي تركه منتظرًا أسفل القلعة لمدة طويلة، وهو عاجز عن دخول القلعة حتى لا يتنجس، وبيلاطس يهمله وكأنه كم مهمل، وبعد أن استمعوا إلى قيافا تساءلوا: هل سيقبضون على يسوع بمفرده أم سيقبضون على الجماعة كلها؟
حنان: إن الوقت مُقصّر، ولو قدمنا اثني عشر شخصًا للمحاكمة بقصد قتلهم أو قتل بعضهم، فلابد أن المحاكمة ستستغرق وقتًا طويلًا، ونحن نريد أن ننجز.
قيافا: إذًا لنقبض على التلاميذ ونودعهم السجن، وبعد الخلاص من معلمهم نؤدّبهم ونطلقهم، ومتى ضربنا الراعي فلابد أن تتشتَّت الرعية.
وأقبل بعض جنود الهيكل، وألحَقَ قيافا بهم أشد وأقوى عبيده وخدامه، وبعد قليل حضر قائد المئة الروماني مع عدد ليس بقليل من الجنود، وحملة المشاعل، لكيما يكبح جماح الثورة المسلحة التي يقودها يسوع مع تلاميذه ضد روما كما نما إلى علمه، وانضم إلى الموكب بعض شيوخ الشعب، وأولاد حنان رؤساء الكهنة، وتحرَّك الموكب الذي جمع المتناقضات معًا، فالصدوقيون جنبًا إلى جنب مع بقية الفريسيين رغم التطاحن والاختلاف العقيدي بينهما (فمعظم الفريسيون فضلوا ترك عملية القضاء على يسوع للصدوقيين) والسادة مع العبيد، والشيوخ مع الغوغاء، واليهود مع الرومان.. اجتمع الكل على هدف واحد، ألا وهو موت يسوع.. تسلَّحوا بسيوف وعصي، وأحاط بهم حملة المشاعل والمصابيح، وتقدمهم يهوذا الإسخريوطي قاصدًا بيت أرسطوبولس حيث يسوع هناك. بينما لبث قيافا وحنان وبقية الأعضاء يتشاورون، ويتأسون لأنهم لم يقبضوا على يسوع منذ بدء كرازته وقبل أن يذهب العالم كله وراءه وقال قيافا: أتصدق أن بعض الفريسيين، بل وبعضهم من أعضاء مجلس السنهدريم يتعاطفون معه ويصدقون تجاديفه.
حنان: ملعون هو الشعب الذي لا يفهم الناموس.
وسار الموكب يضم نحو خمسمائة شخصًا على امتداد عشرات الأمتار، يتقدمهم حملة المشاعل إلى بيت أرسطوبولس، ولبث يهوذا يقرع الباب في هذه الساعة المتأخرة من الليل، بل هي الساعة الأولى بعد منتصف الليل، يحيط به موكب الموت، واندفع أحد الجنود يدك باب العلية دكًا، وما أن فتح أحد الخدم الباب إلاَّ واندفع الخائن، يصحبه قائد الجند الروماني، ورئيس حرس الهيكل اليهودي إلى العلّية.. تطلعوا فإذ بالعليّة خاوية.. تبادلوا النظرات لبرهة.. أصبح الصمت سيد الموقف.. يسوع ليس في العلّية، فأين هو؟!
أتُرى انطلق إلى بيت عنيا مثل كل ليلة؟!
أيعقل أن يكون قد هرب من أورشليم وعاد إلى الجليل؟!
وأحس يهوذا بخطورة الموقف، إذ بعد أن قلب الدنيا رأسًا على عقب، لم يجد يسوع.. هل علم يسوع بالمؤامرة فذهب إلى مكان لا يعلمه أحد؟..!! إذًا لقد فشل في مهمته، وعلم في نفسه أن الموقف لن يتوقف عند رد الفضة، بل سيجر عليه إهانات كثيرة، ولا يستبعد أن ينتقموا منه عوضًا عن يسوع، فهذه نفوس متعطشة للدماء.. فليكن أي دم يُسفك!! ودارت الدنيا به، وغاص يهوذا في تفكير عميق. ثم تصنع الشجاعة قائلًا: لنذهب إلى جبل الزيتون، ربما يكون قد ذهب هناك ليصلي كعادته.
صمت قليلًا، ثم أردف قائلًا: إن لم نجده نسرع إلى بيت عنيا حيث يبيت هناك.
وصمت برهة وقد تاه صوته، وكأنه يحادث نفسه: فإن لم نجده، فسأذهب وراءه إلى الجليل وأقنعه بالعودة إلى أورشليم، ولو بعد فوات العيد.
وقال يهوذا في نفسه: إن لم أقدر أن أقنعه بالعودة، فعلى الأقل أنجو بجلدي من هذا الموقف الخطير الذي وضعتُ نفسي فيه.
وحدث هرج ومرج في بيت أرسطوبولس، واستيقظ الجميع يستطلعون الأمر، وأدركوا أن الأوامر قد صدرت للقبض على يسوع، ولكنهم لم يفهموا سر تواجد يهوذا معهم..؟! انطلق مرقس، وقد هبَّ لوقته من النوم متسربلًا بإزارًا يستر عريه كما يفعل بعض أهل الشرق، انطلق كالسهم إلى البستان ليحذر المعلم.
وتحرك يهوذا ولم ينطق ببنت شفة، وخلفه قائد المئة وقائد حرس الهيكل، والموكب كله يتبعهم.. انطلق يهوذا صوب جبل الزيتون، ولم يكتفِ بدور المرشد السري، إنما إذ ملأ الشيطان قلبه حقدًا على يسوع من جانب، ولكيما يؤكد للجميع ولاءه لهم من جانب آخر، التفت إلى الجمع قائلًا: عليكم باليقظة يا إخوة، والهجوم المباغت على يسوع، وتوخي الحذر أثناء القبض عليه لئلا يفلت منكم.. وأما أنا فسأسهل عليكم هذه المهمة الشاقة.. سأقبّله وأحيطه بذراعيَّ، فأعطل حركته، حتى تحيطوا به سريعًا..
وأوصاهم كثيرًا ألا ينسوا العلامة مؤكدًا لهم: الذي أُقبّله هو هو أمسكوه وأمضوا به بحرص..
كل هذا الحقد وهذا الغل في قلبك يا يهوذا؟.. ولماذا..؟!
إنه غل الشيطان الذي سمحت له أن يسكنك يا مَنْ كنت تلميذًا للعَلِيّ!!
قاد يهوذا الموكب عبر وادي قدرون إلى جبل الزيتون، يتقدمهم حملة المشاعل، ويحيط بهم حملة المصابيح، ولم يكتفوا بضوء القمر الذي يرخي سدوله، بل حملوا المشاعل بنورها الوهاج المتراقص، والمصابيح بإضاءتها الثابتة، لئلا يختبئ يسوع في كهف أو حديقة، فمن خلال هذه وتلك يكشفون ستار الظلام، والحقيقة إنه لا ضوء القمر، ولا نور المشاعل، ولا ضوء المصابيح، استطاع أن يبدد ظلمة القلوب ولا دجى النفوس، فالكل يسعى بجد واجتهاد للقبض على يسوع نور العالم.. الجنود بسيوفهم يسعون لإرضاء قادتهم والعبيد بعصيهم يسعون لإرضاء سادتهم على حساب يسوع الذبيح.. لم يعد الأبالسة يتحملون رؤية يسوع الوديع البريء متواضع القلب، ولم تعد البشرية الساقطة تحتمل يسوع الطاهر القدوس الرقيق، فاجتمعت البشرية مع الأبالسة.. اجتمع الأشرار مع الوحوش الضارية لينقضوا على الحمل الوديع الهادئ..
وصار رؤساء الكهنة ينفثون سمومهم في الجمع، مُشوّهين صورة يسوع البار.. إنه عدو الله وعدو روما، ورغم أن الكل في حالة تحفز، ولكن بعض الهمسات تفلت من أفواه بعض الخدم! أتدرون قوة يسوع وجبروته؟!.
طرد من ساكن القبور آلاف الشياطين.. شفى المفلوج منذ 38 عام..
أسكت البحر الهائج.. أقام الميت بعد أربعة أيام..
احذروه يا سادة، فالأمر ليس سهلًا والمهمة شاقة..
ألعلك يا يهوذا تقودنا إلى الهلاك؟!!
وفي الجانب الآخر كان التلاميذ الثمانية يجلسون في البيت الريفي بالبستان، وسرى الحديث بينهم عن الأيام السالفة الصعيبة منذ دخولهم أورشليم، وكيف تردت الأحوال وساءت. فالمؤامرات تُحبك، والمشاورات تتم في الخفاء، واجتماعات السنهدريم في يقظة ونشاط، وحديث المُعلّم في هذه الليلة الليلاء كم كان مرًا، وكيف أن أحدهم سيسلمه، وبطرس سينكره، وإنهم سيشكَّون فيه ولن يروه مجددًا.
وكان التلاميذ يتوقعون أن السيد سينهي صلاته، ويعود إليهم لينطلقوا جميعًا إلى بيت عنيا، فإذ بهم يفاجئون بشاب يجري لاهثًا نحوهم، وبصوت متهدج وكلمات متقطعة يسألهم أين المُعلّم؟.. أين هو؟.. إن الأمر جد خطير.
توما: ما الخبر يا مرقس.. استرح قليلًا، ثم أخبرنا ما الذي أتى بك إلى هنا في مثل هذه الساعة؟!
مرقس: جنود الرومان.. حرس الهيكل.. رؤساء الكهنة.. خدم وعبيد وغوغاء يبحثون عن يسوع، يريدون القبض عليه.. يطلبون القضاء عليه..
فيلبس: أجلس يا مرقس.. استرح.. فإن أحدًا لا يقدر أن ينال من يسوع شيئًا.
مرقس: سيقبضون عليه، ويقودونه للموت..
توما: أن السيد ذهب ليصلي، فلماذا نزعجه..؟! اجلس يا مرقس.. إن الصباح رباح، فإنهم لن يعرفوا مكاننا.
مرقس: لقد لمحت يهوذا بينهم.
صاح التلاميذ: إذًا يهوذا هو الخائن.. هو الذي سيُسلّم سيده.. تبًا لكَ يا يهوذا.. تبًا لكَ يا يهوذا..
وإذ بيسوع يقف أمامهم وخلفه بطرس وابني زبدي، وقبل أن ينطق أحدهم بكلمة تحذير، قال يسوع لمرقس: أنا عالم يا حبيبي بكل شيء.. هوذا الذي يسلمني قد أقترب.. قوموا ننطلق من هنا..
وكانت الساعة الواحدة من صباح يوم الجمعة، ووصل موكب الغوغاء والعبيد في هياج عظيم (في هيصة وزيطة وفرح العمدة) حطموا باب الحديقة مندفعين تجاه البيت، ويهوذا دليلهم، فهو الخبير بكل شبر في المكان، وإذ بالموكب يفاجأ بظهور إنسان جليل يخطو خطوات ثابتة تجاههم، وفوجئ الجمع بيهوذا يسرع نحو هذا الشخص، فاردًا جناحيه، محتضنًا إياه، مرحبًا به: السلام يا سيد.. وطبع على وجهه قبلته الغاشة، كما ذكرنا أيضاً هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى، فهكذا تعود التلاميذ عند غياب أحدهم ولو لفترة بسيطة، أن يُقبّل المُعلّم عند رجوعه كنوع من الدالة. أما يهوذا فقد أساء استخدام هذه الدالة.
وتفرَّس يسوع في وجه يهوذا مليًا: لِمَ جئت يا صاحب..؟! أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!
وكم من معاني عميقة تخبئها تلك الكلمات بين طياتها؟!
كيف جئت؟!..
أجئتَ كصاحب..؟! فما هذه الجلبة والسيوف والعصي؟!..
أجئتَ كعدو..؟! فما معنى هذه القبلة..؟!
ألم تقرأ من قبل " غاشة هي قبلات العدو" (أم 27: 6).
فلماذا يا صاحب صارت قبلاتك غاشة هكذا؟!.. ألم أحذرك..؟!
أتستخدم القبلة وهي أسمى معاني الحب والإخلاص والوفاء والصداقة في أدنى مظاهر الغدر والخيانة والجحود والتآمر والإغتيال..؟!
إن قبلتك يا يهوذا لهي انتهاك لحرمة التلمذة، وحرمة الصداقة، وحرمة الأمانة، وحرمة الحب والوفاء..
أتريد أن تؤكد يا يهوذا أن أعداء الإنسان أهل بيته؟!
لم يكن هناك ثمة سببًا واحدًا حقيقيًا يدعوك لتسليمي، بينما يا يهوذا عديدة هي الأسباب التي تحتم عليك أن تكون أمينًا..
ألم أختارك من الاثني عشر..؟!
ألم أصادقك..؟! ألم أُقدم لك كل حب وإخلاص..؟!
ألم أُوكل لك أمانة الصندوق..؟!
ألم أحافظ على مشاعرك..؟!
ألم أغسل رجليك يا يهوذا؟!..
عجيب أنت يا صاحب " لأنه ليس عدو يعيّرني فاحتمل. ليس مبغضي تعظَّم عليَّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب إلى الجمهور." (مز 55: 12 - 14).. عجيب أنت يا يسوع في دعوتك ليهوذا بالصاحب.. إنك في أشد اللحظات ضراوة تُعلّمنا ألاَّ نقذف من أفواهنا حممًا وجمر نار.
حقًا إن هذه القبلة الغاشة لهي أشد إيلامًا عليك يا يسوع الرقيق اللطيف لطف نسمة الربيع.. حقًا إنها أشد إيلامًا من طعنة الخنجر " ألين من الزيت كلماته وهي سيوف مسلولة" (مز 55: 21) " من هو الخروف الذي قَلَبَ نفسه ذئبًا، وبدأ يعض الراعي الصالح" (5).. ألا ترى يا يهوذا إن قبلتك الغاشة ينطبق عليها المثل اليوناني " التقبيل شيء والمحبة شيء آخر " والمثل اللاتيني " في الفم عسل وفي القلب مرارة " والمثل المصري العامي " في الوش مرآية وفي القفا سلاية".. الأمر العجيب رغم أن المُعلّم وهو يعلم أن يهوذا لن يستفيد من نصائحه هذه، إلاَّ أنه لم يكفَّ عن إسداء النصح له، فما لم يستفد منه يهوذا يستفد منه الآخرين عبر السنين والأيام.. ألا تدرك يا يهوذا أن كل كلمات الحب والإخلاص والوفاء التي بذلها المُعلّم لك، وأنت تقابلها بجحود وبلادة، ستشتعل نارًا في صدرك!!
"فإن البعض يعتقدون أن يهوذا أراد بفعلته هذه أن يدفع السيد المسيح إلى مغامرة وطنية. فلقد كان يعتقد أن يسوع هو حقًا المسيا المنتظر القادر على سحق الأعداء وطرد الغزاة. لهذا كانت توقعاته من شمشون عصره، عندما يلتف حوله الأعداء، إنه يقوم ويبددهم أو يطلب أن تنزل نار من السماء فتهلكهم. كان يهوذا واثقًا من نجاح خطته وأنه بهذه الطريقة يصل إلى السلطة والغنى والجاه. لكن سرعان ما تحطمت آماله عندما أسلم يسوع يديه في هدوء للقيود.
ما أعجب يسوع.. أنه أعظم من أن يُقحَم في مغامرة ما أو أن يستغله إنسان.. كان يهوذا في ذهول، لا يستطيع أن يدرك السر الذي دفع يسوع ليسلم نفسه، لكن هل كان لذلك القلب الأثيم أن يعرف أهداف تلك المحبة السامية وطرقها؟!!!
هكذا جاء الصليب مفاجأة ليهوذا، بل أن المفاجأة شملت الشياطين أنفسهم. لم يتخيلوا أن يسوع قد أحب البشرية إلى هذا الحد. كانت كل توقعاتهم أنه عندما يواجه الصليب لابد وأن يهرب..
إستيقظ يهوذا من غفلته ورأى يسوع كما لم يرى من قبل.. وإذا بيسوع يناديه بصوت كله رقة وحب قائلًا " يا صاحب لماذا جئت.. أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟! " كان صوت يسوع رقيقًا ومع ذلك كان له وقع السياط، فالمحبة مهما كانت لطيفة في أسلوبها لكنها لابد وأن تبرز الحقيقة كما هي. هناك رأى يهوذا سيده يشع بالحب والطهر، وفي نفس اللحظة رأى نفسه في أعماق الشر والنفاق" (6).
وجرت الأحداث بطريقة غير متوقعة وغير مألوفة، فعوضًا عن أن تبحث الشرطة عن المتهم، سعى يسوع البار نحوهم.. فوجئوا جميعًا بوقوفه أمامهم رابط الجأش مرفوع الهامة في جلال ملوكي، فتسمروا في مكانهم برهة، وتداعي إلى خاطرهم يسوع رجل المعجزات، ونسوا وصية يهوذا لهم بالهجوم المباغت، أو قل إن اللحظة التي سيُسلّم فيها السيد نفسه لم تحن بعد.
وإذ بيسوع يلتفت إليهم، ويسألهم بصوت قوي، ردَّد صداه الآبد: من تطلبون؟
ورغم أنهم تأكدوا من قبلة يهوذا أن السائل هو هو المطلوب، ولكن الربكة والخشية أصابتهم، فلم تمهلهم الجرأة ليقولوا له: إننا نطلبك أنتَ.. لم يجرؤ أشجعهم أن يهمَّ بالقبض عليه، إنما جاءت الإجابة غريبة، تنم عن مدى هذه الربكة وتلك الخشية، فقالوا: يسوع الناصري.
وإذ بيسوع يزيح الستار قليلًا عن عظمة ومجد لاهوته، مُعلنًا عن ذاته: أنا هو..
فإذ بالجمع، كل الجمع يرتبك ويجزع.. والذين في المقدمة تقهقروا مرتعدين، وشلتهم المفاجأة فلم يتمكن أحدهم من أن يركض، مُطلقًا ساقاه للريح. بل انطرحوا على بعضهم البعض.. سقطوا على الأرض من صغيرهم إلى كبيرهم، بما فيه رؤساء كهنتهم، وقائد حرس الهيكل، وحتى قائد المئة الروماني المغوار الذي طالما خاض غمار الحرب الضروس سقط، لأن رهبة يسوع غشتهم.. " وإذ قال إنه هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض، لا حول لهم ولا قوة، كمن هزهم رعد شديد أو صعقهم برق. كان يمكنه أن يأمر الأرض فتنشق وتبتلعهم كما حدث مع قورح وواثان وجماعتهما (عد 16: 49).. بهذا أكد للكل أنه سلَّم نفسه للموت بكامل إرادته" (7) ويقول القديس أغسطينوس " إنه إن كان قد فعل ذلك عندما أُلقي القبض عليه ليُحاكَم، فماذا يفعل عندما يأتي لكي يُحاكِم" (8).
جاء الباطل يقبض على الحق فانكفأ على وجهه مثلما سقط داجون أمام تابوت العهد، لأن الحق لم يسمح للباطل حتى هذه اللحظة أن يتمكَّن منه..
أما آلاف الشياطين الذين صاحبوا الموكب في جلبة وضوضاء، وكأنهم جنود أغوار في حلبة القتال، فإنهم فروا هاربين سريعًا، ولم تنجح أوامر سطانئيل الصارمة وصيحاته وصرخاته في لمْ شملهم.
وكانت الفرصة سانحة تمامًا لكي تهرب لحياتك يا يسوع لو أردتَ.. لكنك لم تفعل، لأنه لأجل هذه الساعة قد أتيتَ، فظلَّلت واقفًا بجلالك وجمالك.. بشموخك وكمالك..
إذًا.. هل ستُسلّم نفسك إليهم يا يسوع؟
نعم..
إذًا.. لماذا أسقطتهم تحت قدميك؟!
لكي لا يفتكوا بأولادي التلاميذ، ولا يقبضون عليهم بحسب مشورة قيافا.
وظل يسوع واقفًا حتى نهضوا ولملموا شتات أنفسهم وجمعوا شملهم، ولكيما لا يظن أحد أن يسوع ارتفع في هذه اللحظة إلى السماء وأسقط شبهه على آخر، أعاد ذات السؤال: من تطلبون؟
وإذ وطأة يسوع خفت عليهم هذه المرة فأجابوه: يسوع الناصري.
يسوع: قد قلت لكم أنا هو.. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون.
لم يتحدث إليهم يسوع بلهجة التوسل والرجاء، إنما بلهجة القوة والأمر ووضع الأمور في نصابها، ولم يكن لأحد خيار آخر، بالرغم من أنهم مكلفون بالقبض على الجماعة كلها، لكنهم أطاعوا بلا جدال ولا نقاش، خشية يسوع الذي كشف منذ لحظات عن قوته وسطوته، فلا الجنود الذين تعودوا الطاعة العمياء لقادتهم، ولا العبيد الذين يلتزمون بأوامر أسيادهم، جرأ أحد من هؤلاء أو أولئك أن يخالف أوامر الملك المسيح الذي يحفظ قطيعه الصغير.. إنه الراعي الصالح المتكفل بسلامتهم، ومن أجلهم يبذل ذاته.
عجبًا يا ربي وإلهي ولماذا تركت الباطل يتمكَّن منك..؟! عندما أرادوا أن يخطفوك ليجعلوك ملكًا انصرفت عنهم والآن تُسلم لهم ذاتك لكيما يذبحونك!!
وهمس يسوع: لكيما أطلق الذين قبض عليهم الموت من أولادي، وأرسلهم إلى الحرية.. من أجلهم سأسلم الآن نفسي، فيظن الموت أنني مثلهم فيبتلعني، وحينئذ سأشق بطنه وأقوم، وفي يدي أولادي الذين سبق وأبتلعهم بل والذين يتجرأ ويبتلعهم فيما بعد..
وكان ملخس هو أول من اندفع وأمسك بيسوع بكل وحشية، فهو عبد ضخم البنية مفتول العضلات، ولم يتمالك بطرس نفسه، ولاسيما أنه عاين من لحظات قوة يسوعه، فاستل سيفه وضرب ملخس ضربة هوجاء بغية الإطاحة برأسه، ولكن ملخس أشاح برأسه بعيدًا عن سيف بطرس الذي أطاح بأذنه اليمنى..
بينما صاح بقية التلاميذ: يا رب.. أنضرب بالسيف؟
وفي هذه اللحظة كان من الممكن أن تحدث مذبحة يتحول فيها التلاميذ الأحد عشر إلى أشلاء متناثرة، ولكن مازال يسوع - وكما هو دائمًا - سيد الموقف وضابط الكل، فأمر بطرس: رد سيفك يا بطرس إلى غمده، فأنا لم آتِ لأهلك وأقتل وأذبح إنما جئت لأخلص.. ألاَّ تعلم أن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يهلكون.
إنها وصية يسوع الأبدية لأتباعه في كل آن ومكان، ولذلك يستشهد شهداء يسوع ويُذبحون، لكنهم سيفًا لا يحملون، وبغضة لا يكنون، ودمائهم تأتي بثمر كثير.. حقًا وحقيقة، لم يكن يسوعنا يومًا غازيًا فاتحًا يفرض دينه بقوة السيف، ولم يفرض إتاوة ولا جزية على أحد، ويقول المثل اللاتيني "لا يمكن أن تُفرض الديانة بالقوة، لكنها تتطلب الدفاع عنها لا بالقتل بل بالموت".
ثم أردف يسوع القول لبطرس: الكأس التي أعطانيها الآب ألاَّ أشربها.. أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدّم لي أكثر من أثنى عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب أنه ينبغي أن يكون.
أُنظر يا بطرس أنت لك فكرك وأنا لي فكري.. لك نظرتك ولي نظرتي..
أنت تظن أنني قُهرت أمام هذه الوحوش. أما أنا فإنني أتسلّم هذه الكأس من يد الآب الذي سرَّ أن يسحقني بالحزن.. أنهم لا يرون يا بطرس صورتي الإلهية، إنما يرون الآن خطايا البشرية وآثامها التي حملتها على منكبيَّ..
ألا تذكر يا بطرس أن ملاكًا واحدًا قتل كل أبكار مصر، وملاكًا واحدًا قتل مائة خمسة وثمانين ألفًا من جيوش سنحاريب..؟! فما بالك بجيش كامل من الملائكة..؟! وما بالك بإثنى عشر جيشًا من هؤلاء الملائكة..؟! وأعلم يا بطرس، إنه لو هبط إلى أرضنا هذا العدد المهول فإن السماء ستظل عامرة بالملائكة.. فكم هو عدد الملائكة يا بطرس؟!..!! أنا هو رب الملائكة ولا أشأ أن أدافع عن نفسي بغية خلاصك وخلاص إخوتك، وأرفض أن يدافع أحد عني لينصر دين الله..
يا ملائكة السماء.. أتصفون لي مشاعركم حينذاك؟..!!
بلا شك أنكم أردتم الاندفاع كبطرس، ولكن ليس الملاك الخاضع الملتزم بأوامر سيده مثل بطرس، ولذلك التزمتم بأوامر بارئكم..
أي آلام جُزتم فيها يا ملائكة السماء وأنتم ترون سيدكم في هذه الصورة المذرية من أجل خلاص البشرية؟..!!
حقًا إنكم تفرحون بخاطئ واحد يتوب، ولكن كان لابد أن يجوز سيدكم هذه الساعات الحالكة لكيما يهيئ للخاطئ إمكانية العودة.
كان ملخس القوي الجبار يركع ويتلوى من الألم محاولًا وقف النزيف المتدفق، وإذ بيسوع الحاني يتحنَّن وينحني ويلتقط أذن ملخس ويضعها مكانها، حتى إن أعظم جراح في العالم يستحيل عليه أن يكتشف أن هذا الجرح ابن ليلته، بينما أخذ رؤساء الكهنة يردّدون بلا وعي: إنه ساحر.. ساحر عظيم.. مهما كان سحره، فإن القانون سيأخذ مجراه.. لن تقف العدالة مكتوفة الأيدي.
وإذ بقائد المئة ورئيس جند الهيكل يتجرأن ويمسكا بذراعي يسوع بعنف ويلويانهما خلف ظهره، وتتشابك أيدي الغوغاء تجذب ملابسه بفظاظة، بينما قدم أحدهم الحبال التي أحضرها فربطوا يسوع الذبيح وأوثقوه حتى لا يستطيع فكاكًا.. لم يفهم هؤلاء العصاة أنه سلَّم نفسه بإرادته..
والحقيقية أن فزعهم وذعرهم قد انعكسا على عنفهم وقسوتهم في شد الوثاق.. أوثقوه كمن نالوا نصرة عليه، ولعلهم خشوا أن يصنع معجزة فيفلت من أيديهم، لذلك أحكموا الوثق جدًا. يقال أنه إذ سلم نفسه أرادوا ضمان السيطرة عليه فقيدوه بعنفٍ شديدٍ، حتى كاد الدم يخرج من أطراف أصابعه. أوثقوا يديه خلفه، ووضعوا قيودًا حديدية في رقبته وصاروا يجرونه. بدأت سلسلة العذابات والإهانات بكل وسيلة ممكنة.. ما كان يمكنهم أن يوثقوه لو لم يوثق نفسه بقرون المذبح بحبال الحب الفائق، كحمل ليُقدَم ذبيحة عن العالم. لم يدركوا أنه قد رُبط عوضًا عنا نحن الذين تربطنا حبال آثامنا (أم 5: 22) ونير العصيان (مرا 1: 14).. وإذ صار مسيحنا خطية من أجلنا قبِل أن يُربط بالحبال لكي يحررنا من قيودنا. صار تحت القيود لننعم نحن بالحرية" (9).
وتنهد يوحنا: اليدان اللتان أشبعت الآلاف.. اليدان اللتان شفتا الأمراض، وفتحتا أعين العميان، وأخرجتا الشياطين، وأراحتا التعابى تشدُّ بالوثق هكذا..!!
لماذا يا رب.. لماذا؟..!!
لأجل محبتي لك يا يوحنا أنت وإخوتك.. لأجل حبي للبشرية في كل مكان وزمان..
وبعد أن تمكن الحشد من الأسد الخارج من سبط يهوذا استأسدوا، وتذأبوا وتنمَّروا، فصاروا وحوشًا كاسرة تحتقن عيونهم بنظرات الشر والغل والغدر، وتناسوا ما كان منذ لحظات، ولو شاء يسوعك لجعلهم مثل العصافة في وجه الريح العاصف، ولجعل سيوفهم قشًا، وعصيهم كلا شيء..
وانطلقت تعليقاتهم في سخط وسخرية: هوذا الذي فتن المسكونة كلها.. هوذا الذي طرد الشياطين ببعلزبول..
أما بالنسبة للتلاميذ فكأن الحياة كلها توقفت عند هذه اللحظة الرهيبة.. وتسللوا سريعًا، وفي خضم الأحداث أطلقوا سيقانهم للريح لا يلوون على شيء.. تبعثروا، وهرب كل منهم في اتجاه، هذا من اتجاه، وذاك من آخر، ورعبة الموت تطاردهم، أما أشجار الزيتون الكثيفة فقد سترت عليهم، وفلول الشياطين الذين فروا هاربين من ميدان الصراع منذ لحظات، عادوا غازين يكرون ويزعجونهم، ونجح بعضهم في تشكيك التلاميذ في شخصية وهوية يسوع، وتساءل التلاميذ: تُرى ماذا يجري في هذه الليلة الغبراء؟!
كيف يترك المُعلّم نفسه للغوغاء ليقبضوا عليه؟!
أليس هو المسيا الذي سيمكث معنا؟!
ولو كان هو المسيا لماذا لم يُنزِل نارًا من السماء ويحرقهم كما فعل إيليا؟!
لماذا لم يخسف بهم الأرض خسفًا؟!
وتحقق فيهم القول الإلهي " كلكم تشكُّون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أضرب الراعي فتتبدد الرعية"..
ألم يقل لهم المعلم منذ قليل: هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركوني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي؟!
وهرب التلاميذ في طريق مخالف للطريق الذي أتى منه الجنود.. لقد أقبل الجمع من وادي قدرون. أما التلاميذ المذعورين فقد فروا في الاتجاه الصاعد إلى جبل الزيتون، حيث يقع بيت عنيا على أكتافه، ولاحظ بعض الشباب مرقس وهو يسرع بالهرب، فأسرعوا يمسكون بتلابيبه، فأفلت من الآزار وجرى عريانًا وسط ضحكات وصيحات الجمع التي اختلطت بضحكات الشياطين.
أما يسوع فعاتب رؤساء الكهنة وأتباعهم: كأنه على لصٍ خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلم ولم تمسكوني. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
وكأنه يريد أن يقول لهم: يا جند الهيكل وقائدهم.. ألم أكن معكم كل يوم في الهيكل أُعلم ولم تلقوا عليَّ الأيادي؟!
لو كان هناك خطأ في تعليمي، أو في سلوكي، فكيف تركتموني يا رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب إلى هذه اللحظة؟!
إن تعليمي يشهد لي أنني لم أكن يومًا لصًا ولا شريرًا ولا مثير فتنة.. فعلآم كل هذا؟!
لم أخرج إلى البراري لأتزعم جماعة ثائرة إنما كنتُ تحت أبصاركم في الهيكل وأمام الكل.. فلماذا لم تلقوا عليَّ الأيادي نهارًا جهارًا؟! ولماذا مجيئكم إليَّ في هذه الساعة من الليل؟!
ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة..
حدث من قبل في مدينة الناصرة أنهم قاموا وأخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه حتى يطرحوه إلى أسفل. أما هو فجاز في وسطهم ومضى.. وحدث ذات مرة أن رؤساء الكهنة أرسلوا بعض الخدام ليمسكوه فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين وقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان.. وحدث ذات مرة أنهم رفعوا حجارة ليرجموه. أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا.. وكان يعلم كل يوم في الهيكل وكان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه. ولم يجدوا ما يفعلون لأن الشعب كله كان متعلقًا به يسمع منه.. أما الآن فهو يسلم نفسه بإرادته لأيدي الخطاة..
من قبل تقدم إبليس ليجرب ابن الإنسان وهو على جبل التجربة، فهزمه ابن الإنسان هزيمة ساحقة، فماذا فعل إبليس؟.. لقد تركه إلى حين.. فما هو مقدار هذا الحين؟ أنه أكثر من ثلاث سنوات. أما الآن فقد عاد إبليس بعد أن أعدَّ العدة ورتب أوراقه..
نجح في إثارة حقد وغل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب وكل القيادات الدينية بلا استثناء..
ونجح في غزو قلب يهوذا تلميذه..
ونجح في تأليب الشعب ضده..
ونجح في زرع الخوف في قلب بيلاطس البنطي..
فجاءت ساعة الشر، وسلَّم يسوع ذاته لسلطان الظلمة، ولكن ليس لوقت طويل، فلن تستمر الظلمة على الصليب أكثر من ثلاث ساعات، ولن يُوسد جسده الطاهر في القبر أكثر من ثلاثة أيام ثم تأتي النصرة الباهرة، وتتلألأ أضواء القيامة بلا توقف إلى أبد الآبدين.. فصبرًا يا قلبي صبرًا.