|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لغز بقاء الذين يشتهون الموت في دهشة يتطلع أيوب إلى الذين يشتهون الموت فلا يجدونه، فإن الله يحوط حولهم كما بسياجٍ، ليمارسوا حياة الألم دون إدراك خطة الله من نحوهم. عندما وجد أيوب أنه لا يجديه أن يتمنى لو لم يولد، أو لو كان قد مات حالما وُلد، نراه يشكو هنا من أن حياته استمرت باقية دون أن تُقطع، صرخ لطول فترة التجربة. وقد برر رغبته الشديدة في الموت بالآتي: 1- كان يحس بصفة مستمرة بالتعب وسط ضيقاته الشديدة التي كانت تبدو إنها ستظل مستمرة. 2- حتى في أيام رخائه الأولى كان دومًا يخاف من المتاعب، ولذلك لم يكن قط يحس بالراحة، ولذلك قال "لم أطمئن، لم أسكن، لم استرح". مع شهادة يعقوب الرسول لأيوب "قد سمعتم بصبر أيوب" (يع 5: 11)، ومع احتماله كل هذه التجارب دون أن يخطئ، ومع ما رآه على ملامح أصدقائه من حزنٍ شديدٍ على حاله فتح فاه لينطق. بدأ يشتكي من أنه وُلد، وأنه لم يمت حين وُلد، وأن حياته طالت في محنته. لقد صبر طويلًا، لكن لم يعد بعد يحتمل. فإنه مهما بلغ صبر الإنسان فليدرك أنه ضعيف ومعرض للسقوط. وكأن السفر ينذرنا مع الرسول بولس: "من يظن أنه قائم فلينظر لئلا يسقط" (1 كو 10: 12). لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ، وَحَيَاةٌ لِمُرِّي النَّفْسِ؟ [20] يشكو أيوب هنا من أن حياته استمرت ولم تنقطع. إنه يتعجل الموت مرحبًا بقدومه. مع أن النور عطية صالحة، لكن في وسط مرارته حسب هذا النور يزيد من شقائه. شمعة حياته، وُهبت له لكي يرى ما عليه من شقاء، وكان خير له لو لم يكن له هذا النور. * كل الأبرار في أحزان في هذه الحياة (مز 19:34)، هؤلاء الذين قيل عنهم: "بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله" (أع 21:14). "أكلوا الرماد مثل الخبز، ومزجوا شرابهم بالدموع" (راجع مز 9:102). يرغبون في العبور خلال التجارب هنا شاكرين هذه الوسائل. إنهم هكذا في حزنٍ كداود يعلنون بمثل هذه العبارات: "أعوم في كل ليلة سريري، بدموعي أذوب فراشي" (مز 6:6). أما أن الأبرار يشتهون الموت، إذ "ينقبون عنه كما عن كنوز"، فإن إيليا يؤكد لي ذلك بالعبارات: "كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيرًا من آبائي" (1 مل 4:19). أيضًا صادق بولس على هذا عندما أراد تلاميذ قيصرية أن يمنعوه من الصعود إلى أورشليم، إذ قال: "ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي، لأني مستعد ليس أن أربط فقط، بل أن أموت أيضًا في أورشليم (أع 13:21). الأب هيسيخيوس الأورشليمي * الذين يعيشون في الملذات يهابون الموت، أما الحزانى فيترجونه لكي يرحلوا سريعًا.الأغنياء يهابون الموت، والفقراء يشتهونه لكي يستريحوا من أتعابهم. الأقوياء يرتعبون عندما يذكرونه، والمرضى يتطلعون إليه في رجاء ليستريحوا من آلامهم . الأب أفراهات * عندما يُصاب الصالحون بشرورٍ والأشرار بالخيرات، هذا ربما لأجل نفع الصالحين كي ينالوا عقوبة (تأديبًا)هنا إن كانوا قد أخطأوا في شيء، حتى يتحرروا تمامًا من الدينونة الأبدية. ويجد الأشرار خيرات هنا تُقدم خلاصًا لهم في هذه الحياة حتى يُسحبوا إلى العذابات القادمة الكاملة. لهذا قيل للغني وهو يحترق في جهنم: "يا ابني اذكر إنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا" (لو 16: 25)... يسير القديسون في رعبٍ أعظم خائفين من ترف هذا العالم أكثر من المخاطر. البابا غريغوريوس (الكبير) * من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حربًا دائمة مع الشيطان، وصراعًا في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر على حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد وفاقه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته. هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلًا: "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلى فرح" (يو20:16). من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟! من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟! لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلى فرح بقوله: "ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم" (يو 20:16). مادام فرحنا يكمن في رؤية المسيح... فأي عمى يُصيب فكرنا، وسخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا ينزع عنا؟! * يا له من نفع نقتنيه بخروجنا من هذا العالم! لقد حزن التلاميذ، عندما أعلن لهم المسيح أنه سينطلق، فقال لهم: "لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب" (يو 28:14)، معلِّمًا إيانا أن نفرح عند رحيل أحد أحبائنا من هذا العالم ولا نحزن، متذكرين حقًا قول الرسول الطوباوي بولس: "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" (في 21:1). نحسب في الموت أعظم ربح، الأمر الذي لا نقدر أن نقتنيه بواسطة شباك هذا العالم أو نجتنيه بواسطة خطايا الجسد ورذائله. فبالموت نترك الأتعاب المؤلمة ونتخلص من أنياب الشيطان السامة، لنذهب إلى دعوة المسيح لنا متهللين بالخلاص الأبدي. الشهيد كبريانوس الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ،وَيَحْفُرُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكُنُوزِ [21] بقوله: "يحفرون عليه أكثر من الكنوز" يكشف عن استعداده لبذل كل إمكانية للبحث عن الموت كمن يبحث عن أعظم كنز يقتنيه. لم يفكر أيوب قط في الانتحار بالرغم من بحثه عن الموت بأية تكلفة، فإن حياته في يد إلهه، ليس له أن ينهيها بنفسه. *أولئك الذين يطلبون الإماتة بكمال يبحثون عنه كمن ينقبون عن كنوز خفية، فكلما اقتربوا بالأكثر إلى هدفهم أظهروا غيرة أعظم في العمل. البابا غريغوريوس (الكبير) * إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة. القديس باسيليوس الكبير * موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 22:12، 23)... التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء... * كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئًا وراءها سوى جسدها. لقد فارقت كل شيء من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الإقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته. * هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذٍ لأوفيها حقّها... اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في 23:1). تاقت هذه القديسة إلى التحرر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنها تذوقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمل فيه. كانت تعلم مسبقًا ساعة رحيلها عن هذا العالم، الأمر الذي ضاعف من فرحتها. ويبدو أن الله أعلمها به حتى تستعد ولا تضطرب حينئذٍ. قضت كل حياتها لتغتسل من الخطية وتسعى لإدراك الكمال. ونالت موهبة التجديد المستمر بالروح القدس وصارت ثابتة فيه بحسب استحقاق حياتها الأولى.. لم تغفل عن التضرع من أجل زوجها أيضًا حتى يُدرك الكمال، وقد استجاب الله لطلبتها إذ أرادت أن يكون كل ما يمت لها بصلة في حالة الكمال الذي يريده الله منا، فلا يكون شيء ناقصًا أمام المسيح من جهتها. وإذ جاءت النهاية أدلت بوصيتها لزوجها وأولادها وأصدقائها كما هو المتوقع من مثل هذه القديسة المحبة للجميع. كان يومها الأخير على الأرض يوم احتفال مهيبًا، ولا نقول أنها ماتت شبعانة من أيام بني البشر، فلم تكن هذه رغبتها، إذ عرفت أنها أيام شريرة تلك التي بحسب الجسد وما هي سوى تراب وسراب. وبالأحرى كانت شبعانة من أيام الله... وهكذا تحررت، بل الأفضل أن نقول أنها أُخذت إلى إلهها أو هربت أو غيرت مسكنها أو أسلمت وديعتها عاجلًا. في وقت نياحتها خيّم صمت مهيب، وكأن مماتها كان بمثابة مراسيم دينية. رقد جسدها وكأنه في حالة شلل بعد أن فارقته الروح، فصار بلا حراك. لكن أباها الروحي الذي كان يلاحظها جيدًا أثناء هذا المنظر الرائع شعر بها تتمتم واسترق السمع، وإذ به يسمعها تتلو كلمات المرتل: "بسلامة اضطجع أيضًا وأنام" (مز 8:4). مبارك هو من يرقد وفي فمه هذه الكلمات. هكذا ترنمتِ أيتها الجميلة بين النساء، وصارت الترنيمة حقيقة. ودخلتِ إلى السلام العذب بعد الألم، ورقدتِ كما يحق للإنسانة المحبوبة لدى الله التي عاشت وتنيحت وسط كلمات الصلاح. كم ثمين هو نصيبكِ! إنه يفوق ما تراه العين في وسط حشدٍ من الملائكة والقوات السمائية، إنه مملوء بهاءً ونقاوة وكمالًا! يفوق كل هذا رؤيتها للثالوث القدوس، فلم يعد ذلك بعيدًا عن الإدراك والحس اللذان كانا قبلًا محدودين تحت أسر الجسد. أرجو أن تقبل روحك هذا المديح مني كما فعلت مع أخي قيصريوس. فقد حرصت على النطق بالمديح لإخوتي. القديس غريغوريوس النزينزي * الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أما بالنسبة للبلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت.يجب علينا ألا نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذي هو عدم معرفة الله. هذا هو ما يرعب النفس بحق! * يستحيل علينا أن نهرب من الموت بأية وسيلة. وإذ يعرف العقلاء بحق هذا، يمارسون الفضائل ويفكرون في حب الله، ويواجهون الموت بلا تنهدات أو خوف أو دموع، مفكرين في أن الموت أمرٌ محتم من جهة، ومن جهة أخرى أنه يحررنا من الأمراض التي نخضع لها في هذه الحياة. القديس أنطونيوس الكبير الْمَسْرُورِينَ إِلَى أَنْ يَبْتَهِجُوا الْفَرِحِينَ عِنْدَمَا يَجِدُونَ قَبْرًا [22].*هكذا كان بولس يرى أولئك التلاميذ كأموات وكمن دُفنوا في قبر التأمل،هؤلاء الذين قال لهم: " قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3:3).من يبحث عن الموت يبتهجعندما يجد القبر،لأن من يرغب في الإماتة يتهلل بالأكثر عندما يجد راحة التأمل،فإنه إذ يموت عن العالم، يستتر ويخفي نفسه في حضن الحب الداخلي عن كل اضطرابات الأمور الخارجية. البابا غريغوريوس (الكبير) لِرَجُلٍ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ، وَقَدْ سَيَّجَ اللهُ حَوْلَهُ [23]. لم يكن له أمل في تحسين حاله؛ لم يرَ بابًا للنجاة، ولا طريقًا يسلكه، إذ كان الله قد سيَّج حوله، فصار كمن في موضعه عاجزًا عن الحركة. وكما قيل في هوشع: "هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها" (هو 2: 6). وكما صرخ إرميا: "سيَّج طرقي بحجارة منحوتة، قَلَبَ سبلي" (مرا 3: 9). * حتى الموت دخل كثمرة للخطية، ومع هذا فإن سمو الله وحنوه وعنايته الفائقة حولت هذا لصالح جنسنا. أي ثقل يحمله الموت، أخبرني؟ أليس هذا هو تحرر من المتاعب؟ أليس الموت تحررًا من الاهتمامات؟ أما تسمع أيوب يمدحه بالكلمات: الموت هو نجدة للإنسان، طريقة مخفية. القديس يوحنا ذهبي الفم * "قد خفي عليه طريقه"، بمعنى سوف لا يعرف متى أو بأية وسيلة يكون رحيله من هنا. فإن الله يخفي عنه هذه المعرفة. بمعنى أنه لا يسمح له بالمعرفة، حتى ينتظر البشر الموت كل أيامهم. وبهذا يستعدون. يخفي الله هذا لأجل نفعنا العظيم، لكي يهبنا الفرصة أن نتمم ما أمر به تلاميذه: "اسهروا إذا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم" (مت 42:24). الأب هيسيخيوس الأورشليمي *أعزائي الإخوة الأحباء ... يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أننا نتأمل إلى ما شاء الله لنا أن نترك العالم، فإننا نعيش الآن كضيوفٍ وغرباءٍ.ليتنا نحب اليوم المعين لنا، الذي فيه نتحرر من فخاخ العالم، ونعود إلى الفردوس والملكوت ... لأنه أي إنسان وُضع في بلدٍ غريبٍ أما يريد أن يسرع في العودة إلى بلده؟! ومن من الذين يسرعون في العودة (بحرًا) إلى أصدقائهم لا يرغبون في ريح موافقة حتى يلتقوا سريعًا بأولئك الذين هم أعزاء عليهم؟! إننا نتطلع إلى الفردوس كبلدنا... والآباء (البطاركة) كآباء لنا، فلماذا لا نسرع بل ونجري، لكي ننظر مدينتنا ونحيي آباءنا؟! فإن لنا أعزاء كثيرين جدًا ينتظروننا. لذلك أية سعادة تغمرنا وإياهم عندما نجتمع سويًا؟! أي سرور في الملكوت السماوي حيث لا نعود نرهب الموت؟! وأية سعادة لذيذة دائمة بحياة أبدية؟! هناك توجد الشركة المجيدة مع الرسل، هناك يوجد جوقة الأنبياء المتهلّلين، هناك جموع الشهداء غير المحصيّين، المتوجين بالنصرة في صراعهم ضد الشهوات، هناك جموع البتوليّين الفائزون الذين قهروا شهوات الجسد بعفتهم... هناك الرحماء مكلّلين، هؤلاء الذين صنعوا البرّ بإطعامهم الفقير ومساعدتهم له، وقد حفظوا وصايا الرب، وحوّلوا ممتلكاتهم الأرضية إلى كنوز سمائية. إذن لنسرع إلى هؤلاء الإخوة الأحباء بشوقٍ عظيمٍ. ليتنا نود الوجود معهم ونسرع بالمجيء إلى المسيح. لينظر الله إلى شوقنا العظيم، وليتطلع المسيح الرب إلى هدف ذهننا وإيماننا، هذا الذي يقدم الجزاء العظيم الذي لمجده للذين لهم رغبة عظيمة في تكريمه. الشهيد كبريانوس لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي، وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي [24] صار أنين أيوب الخبز اليومي الضروري، لا يعيش بدونه. أحزانه تتكرر بانتظام وكأنها وجبات طعام يقتاتٍ بها. صارت تنهداته أشبه بنهرٍ ممتلئٍ يفيض بالأحزان بلا توقف. * إن كانت كل الخليقة ستنحل وهيئة هذا العالم تتغير، فلماذا نتعجب ونحن جزء من الخليقة أن نشعر بألمٍ عامٍ شديدٍ ونُسلم لأحزان يسمح لنا بها إلهنا حسب قياس قوتنا، ولا يسمح لنا أن نُجرب فوق ما نستطيع، بل مع التجربة يعطينا المنفذ لنستطيع أن نحتملها؟ * يأمر الرب: "لكل شيء مقاييس وأوزان" (حكمة 11: 20)، ويجلب علينا تجارب لا تزيد عن قوتنا في الاحتمال، إنما يجرب كل الذين يحاربون في طريق الدين الحقيقي بالحزن، ولا يسمح لهم بالتجربة فوق ما يقدرون أن يحتملوا. يعطي دموعًا للشرب بمقياس عظيم (مز 80: 5) لكل الذين ينبغي أن يظهروا أنهم وسط أحزانهم يحفظون شكرهم له. * إني مقتنع أنه إن وُجد صوت يحرك الله الصالح فإنه لن يجعل رحمته بعيدة، بل يعطي مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوها. القديس باسيليوس الكبير لأَنِّي ارْتِعَابًا ارْتَعَبْتُ فَأَتَانِي، وَالَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ [25]. يبدو أنه كان في أيام رخائه يخشى أن تحل به الكوارث، لذا يقول: "ارتعابًا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء علّي" [25]. * ما دُمت أنا هنا، مادمت في هذا العالم، مادمت أحمل جسدًا مائتًا، مادمت أتنهد بين علل العصيان، مادمت وأنا واقف أكون "في خوف لئلا أسقط"، مادام صلاحي وشروري مهددة بعدم الاستقرار، فإن حياة الإنسان كلها معًا باطلة . القديس أغسطينوس * لو حُصر رجاء المسيحيين في حدود هذه الحياة لكان نصيبنا مرًا بحقٍ، إذ يحصر في الجسد قبل الأوان (أوان الأبدية)، أما إن كانت لهم محبة الله وتعتزل نفوسهم قيود الجسد، فإنهم يحسبون ذلك بداية الحياة الحقيقية، فلماذا تحزن كمن لا رجاء لهم؟ إذن فلتسترح ولا تسقط تحت متاعبك، وإنما لتظهر نفسك أسمى من المتاعب ومترفع فوقها.* أيها الأحباء، هل التجربة صعبة؟ دعونا نحتمل المصاعب، لأنه ليس أحد يتجنب الرماح وتراب المعركة يفوز بالإكليل. هل العدو يخدعكم، وحربه بلا فائدة...؟ * هذه التجارب متعبة، لأنها تخدم الرب. إنها ضعيفة، لأن الرب قد مزج شرهم بالضعف. لكن دعونا نحذر من صراخنا بصوت عالٍ بسبب ألم قليل. إننا بهذا نكون مدانين. إذ تحرمون أنفسكم من المكافأة الأبدية التي تُعطى للأبرار. أنتم أبناء الذين اعترفوا بالمسيح. أنتم أبناء الشهداء. لقد قاوموا حتى الدم ضد الخطية. لذلك اجعلوا أمثلة من هؤلاء قريبة وعزيزة لديكم لتصبحوا شجعان لأجل مسيحيتكم. ليس فينا من يُقطع جسده من الجلد... لم يعانِ أحد منا من مصادرة مسكنه... لم نُسق إلى المنفى، لم نسجن... إذن ما حجم المعاناة التي تكبدناها... حقيقة ربما نعتبر مصدر ألمنا هو أننا لم نعانِ شيئًا. وأننا غير مستحقين لآلام المسيح. القديس باسيليوس الكبير لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ، وَقَدْ جَاءَ الْغَضَبُ [26]. يرجع بذاكراته إلى ما قبل التجربة ليرى أنه لم يكن مطمئنًا، إذ كان يخشى أن تحل به كارثة، لكن هذا لم يدفعه إلى الاستكانة ولا إلى الخمول، بل كان يعمل ساهرًا في جدية. * الإنسان غير الحذر الذي يتمتع بالرخاء، ويسود على أعدائه، ويُمتدح ويُعجب منهم، يحتاج إلى من يشفق عليه أكثر من أي إنسان آخر. في الحقيقة إذ لا يتوقع أي تغير لا يقدر أن يواجه حتى مشكلات الرخاء بلياقة. فعندما تحل به أوقات صعبة يرتبك ويحبط بسبب عدم حذره ولأنه غير عملي. أما أيوب فعلي العكس لم يكن هكذا، بل حتى في رخائه كان يتوقع كل يوم الأوقات الصعبة... يقول آخر: "في وقت الشبع أذكر وقت الجوع، وفي أيام الغنى أذكر الفقر والعوز". (سيراخ 18: 25). القديس يوحنا الذهبي الفم * ما حزن عليه أيوب ليس الأمور التي تخيلها أصحابه، إنما كانت نفسه في رعبٍ آخر، من عدم معرفة إن كان العدو يسلبه غناه الداخلي، إن كان قد استطاع أن ينهب منه الأمور الصالحة، التجريد الذي يُحسب كارثة عظمى. من أجل هذا اشهد أيوب علانية: "لم اطمئن ولم أسكن، ولم أسترح، وقد جاء الزجر عليٌ" [26]. إنه لم يعرف السلام، إذ كان مضطربًا بسبب أولاده. "لم يكن في هدوءٍ (سكونٍ)" إذ قدم كل يومٍ ذبائح عنهم (أي 5:1). لقد حل الزجر (السخط) عليه، إذ فقد أبناءه في وقت واحد وثروته وصحته الجسدية. فإنه حتى عندما يكون البار بارًا جدًا، إن كان يُسر الله في كل الأمور، يستحيل عليه أن يعيش دون أن يتعرف على التجارب في هذا العالم (يع 2:1). لا يقدر أن يوجد دون أن يعرف حزن هذا العالم، وذلك كما قال الرب لرسله (يو 6:16-22). يقول بولس نفسه: "جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون" (2 تي 12:3).. وقال المسيح من جانبه: "ثقوا، أنا قد غلبت العالم" (يو 33:16). مرة أخرى قال: "من يصبر إلى المنتهى يحيا" (راجع مت 22:10، 23:24)، بقوة الآب والابن والروح القدس. الأب هيسيخيوس الأورشليمي لم تعد شهوة الموت صادرة عن الهروب من الضيق والتجارب. فالمسيحي الحقيقي كعضوٍ حيّ مرتبط بالرأس يسوع المسيح، يقبل سمات المسيح المصلوب الذي قبل الموت بإرادته، فيعشق الألم ويبحث عنه ويشتهيه حتى الموت، لا لأجل الألم في ذاته، ولا هروبًا من العالم، بل لأنه علامة شركة الحب الحقيقي والوحدة بين العريس المتألم المصلوب وعروسه. هكذا انطلق الصليب بالألم كما بالموت بالنسبة للمؤمن الحقيقي من كونه علامة الخطية ودلالة حجب الإنسان وحرمانه من الله مصدر السعادة ليصير علامة حب وشركة. فيقول الرسول بولس: "حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع" (2 كو 10:4). ويؤكد أنها آلام المسيح: "لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا" (2 كو 5:1).* إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2:2)، مهيئًا لنا طريق السماوات. * حين رُفع جسده إلى العُلا ظهرت الأمور التي في السماء. * بعد قيامة مخلصنا الجسدية، لم يعد يوجد سبب للخوف من الموت. الذين يؤمنون بالمسيح يطأون على الموت كأنه لا شيء، مفضلين أن يموتوا بالحري عن أن ينكروا الإيمان بالمسيح. فإنهم مقتنعون أن الموت لا يعني دمارًا بل حياة، خلال القيامة يصيرون غير قابلين للدمار... الدليل الواضح على هذا هو أنه قبل الإيمان بالمسيح كان الناس يتطلعون إلى الموت كموضوعٍ مرعبٍ، كشيءٍ يجعلهم جبناء. وما أن قبلوا الإيمان وتعليم المسيح، حتى صاروا على العكس يحسبون الموت أمرًا صغيرًا يدوسون عليه، ويجعلهم شهودًا للقيامة التي حققها المخلص ضد الموت. البابا أثناسيوس الرسولي * بعد أن جاء المسيح ومات لأجل حياة العالم لم يعد ُيدعى الموت موتًا بل نومًا ونياحًا. * أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟ *من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز 2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا. ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنودٍ أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟" (1كو 54:15-55) . القديس يوحنا الذهبي الفم |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|