منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 21 - 01 - 2023, 04:16 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,268

رسالة يسوع في الجَليل ودعوة التلاميذ الأوَّلين




رسالة يسوع في الجَليل ودعوة التلاميذ الأوَّلين



الأحد الثالث من السنة: رسالة يسوع في الجَليل ودعوة التلاميذ الأوَّلين (متى 4: 12-23)




النص الإنجيلي (متى 4: 12-23)



12 وبلَغَ يسوعَ خَبرُ اعتِقالِ يُوحَنَّا ، فلَجأَ إلى الجَليل. 13 ثُمَّ تَركَ النَّاصِرة وجاءَ كَفَرْناحوم على شاطِئِ البَحرِ في بِلادِ زَبولونَ ونَفْتالي فسَكَنَ فيها، 14 لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيِّ أشَعْيا: 15 ((أَرضُ زَبولونَ وأَرضُ نَفْتالي طَريقُ البَحرِ، عِبرُ الأُردُنّ، جَليلُ الأُمَم. 16 الشَّعب المُقيمُ في الظُّلْمَة أَبصَرَ نُوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه أَشرَقَ عليهمِ النُّور)). 17 وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: ((تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات)). 18 وكانَ يسوعُ سائراً على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى أخَوَيْن هُما سِمعان الَّذي يُقالُ له بُطرُس وأَندَراوس أَخوهُ يُلقِيانِ الشَّبَكة في البَحر، لأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن. 19 فقالَ لَهما: ((اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر)). 20 فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه. 21 ثُمَّ مَضى في طَريقِه فرأَى أخَوَيْن آخَرَيْن، هُما يَعْقُوب بنُ زَبَدَى ويُوحَنَّا أَخوهُ، معَ أَبيهِمَا زَبَدَى في السَّفينَة يُصلِحانِ شِباكَهما، فدَعاهما 22 فَتَركا السَّفينَة وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه.23 وكانَ يَسيرُ في الجَليل كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت، ويَشْفي الشَّعب مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة.





مقدمة

يُقدّم إنجيل الأحد (متى 4: 12-23) بداية رسالة يسوع في الجَليل ودعوته التلاميذ الأوَّلين لحمل الرسالة. وموضوع الرسالة هي التوبة وملكوت السماوات، وأمَّا شركاء يسوع في الرسالة فهم التلاميذ؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.





أولاً: وقائع النص الإنجيلي (متى 4: 12-23)



12 وبلَغَ يسوعَ خَبرُ اعتِقالِ يُوحَنَّا، فلَجأَ إلى الجَليل.




تشير عبارة "بلَغَ يسوعَ خَبرُ اعتِقالِ يُوحَنَّا" إلى يسوع الذي لم يكن قريبا من يُوحَنَّا المعمدان عندما اعتقل مع انه كان متواجد وقتها في اليهودية. أمَّا عبارة "اعتِقالِ يُوحَنَّا" في الأصل اليوناني παρεδόθη (معناه أُسلم أي اسلمه هيرودس إلى السجَّان (لوقا 3: 20) فتشير إلى أمْر هيرودس انتيباس (20 ق. م. إلى 39 م) بزجِّ يُوحَنَّا المعمدان في السجن، وبيّن أسباب سجنه فيما بعد "لأنه وبّخه على فجوره، إذ اتخذ هيروديا زوجة أخيه فيلبس زوجة له (متى 14: 3-5). والجدير بالذكر أنَّ المعنى الحرفي للفظة اعتقال في اللغة اليونانية παρεδόθη معناها اُعْتُقل في صيغة المجهول للدلالة على عمل الله. فإن كان البَشر هم الفاعلون في هذه المأساة، إلاَّ أنَّ الله هو الذي يستخلص الخير من الشر، ويوجِّه كل شيء بحسب قصده، كما حدث مع يسوع "ذاكَ الرَّجُلَ الَّذي أُسلِمَ بِقضاءِ اللهِ وعِلمِه السَّابِق فقتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبةٍ بأَيدي الكافِرين"(أعمال الرسل 2: 23)؛ واعتقال يوحنا المعمدان دليل على نهاية َ رسالته في إعداد الطريق للمسيح، وحان الوقت لتظهر رسالة يسوع العلنية. رأى يسوع في مأساة القبض على يُوحَنَّا علامة على بداية رسالته. يعلق القدّيس ايرونيموس "حسب تفسيرنا، يمثّل يوحنّا الشريعة، ويمثّل يسوع الإنجيل. ...جاء يسوع إذن لأنّ يوحنّا كان قد سُجِن. "(عظات حول إنجيل القدّيس مرقس). أمَّا عبارة "لَجأَ" في الأصل اليوناني ἀναχωρέω فتشير إلى انصراف يسوع أمام خطر يهدِّد حياته كما حدث له مرات كثيرة: هروبه إلى مصر لدى محاولة هيرودس قتله (متى 2: 14)، وانصرافه لدى سماعه استشهاد يُوحَنَّا المعمدان (متى 14: 13) وخاصة انصرافه لدى تآمر الفريسيين لإهلاكه (متى 12: 15)، وهكذا ترك يسوع اليهودية، وذهب إلى الجَليل للابتعاد عن السلطة اليهودية المتمركِزة في اورشليم في ظل الهيكل. فيسوع ترك النَّاصِرة التي ترعرع فيها ليسكن مدينة أكثر أهمية وازدهارًا من أجل إقامة علاقات حسن الجوار مع أناس آخرين يتقبلون رسالته؛ أمَّا عبارة "الجَليل " في الآصل اليوناني Γαλιλαία, مشتقة من العبرية הַגָּלִיל (معناها دائرة أو مقاطعة) فتشير إلى القسم الشمالي من بين الأقسام الثلاثة (الجَليل، السامرة واليهودية) التي قُسِّمت إليها فلسطين في زمن المسيح في عصر الدولة الرومانية، وتمتد الجَليل من نهر الأُردُنّ شرقا إلى سهل عكا غربا ، ومن دان ( بانياس) شمالا إلى جبال السامرة والكرمل جنوبا. وكان الجَليل آنذاك منطقة حدودية، على طريق التجارة وتقاطع طرق العالم المعروف في ذلك الزمان. والجَليل منطقة جبلية خصبة تنمو فيها الحبوب وتُكتر فيها الجبال مثل جبل الكرمل وجلبوع (فقوع) وطابور وجبل الجرمق (ميرون). وسكنها قديما أربعة أسباط من بني إسرائيل، وهم: يَسَّاكَرَ وزَبولونَ ونَفْتالي وأشير. كان يسوع يُعرف أنَّه "الجَليلي" (متى 26: 69)، وفيها نشـأ وترعرع وخدم في حدودها الشرقية حول بحيرة طبرية في كورزين وبيت صيدا وكَفَرْناحوم ونايين وقانا والنَّاصِرة. وكان معظم رُسله من الجَليل (متى 26: 73). فيسوع لم يحتفظ رسالته لقلة مختارة من الناس، بل هو قريبا من حياة جميع الناس. وبعد الثورة اليهودية الأولى قُسِّمت الجَليل إلى قسمين، وهما الجَليل الأعلى والجَليل الأسفل كما ورد في مؤلفات المؤرخ يوسيفوس فلافيوس. وباختصار، تشير هذه الآية إلى رسالة يسوع التي ارتبطت برسالة يُوحَنَّا المعمدان، فابتدأت رسالة يسوع ساعة انتهت رسالة يُوحَنَّا، ولكنها تجاوزتها.



13 ثُمَّ تَركَ النَّاصِرة وجاءَ كَفَرْناحوم على شاطِئِ البَحرِ في بِلادِ زَبولونَ ونَفْتالي فسَكَنَ فيها



تشير عبارة" تَركَ" إلى يسوع، نبي النَّاصِرة (متى 21: 11) الذي ترك وطنه، لأنه اعتبر أنَّ لا أمل بتوبة أهل النَّاصِرة بل وجد الرفض والمقاومة ( لوقا 4: 28-29) ؛ أمَّا عبارة "النَّاصِرة" اسم عبري נְּצֶרֶת (معناه القضيب أو غصن) فتشير إلى مدينة في الجَليل (مرقس 1: 9)، وهي أكبر مدن منطقة الجَليل، وتقع على جبل مرتفع (لوقا 4: 29)، وتبعد نحو 39 كم إلى الغرب من بحيرة طبرية، ولم يردْ لها أي ذكر في العهد القديم، أمَّا في العهد الجديد فقد ورد ذكرها (29) مرَّة، وكانت مسقط راس يوسف ومريم (لوقا 2: 39)، وفيها نشأ المسيح وترعرع (لوقا 3: 16) وقضى فيها الثلاثين السنة الأولى من حياته الخفيّة (لوقا 3: 23)؛ وأمَّا عبارة "كَفَرْناحوم" اسم عبري כְפַר־נַחוּם (معناه قرية ناحوم ) فتشير إلى مدينة تجارية، إذ كانت محط القوافل التجارية من مصر إلى العراق وسوريا، فيها ملتقى الشعوب، وهي تقع على الشاطئ الشمالي الغربي لبحيرة طبرية (متى 4: 13)، وكانت أيام المسيح تحت حكم ولاية هيرودس انتيباس من عام 4 ق. م. وحتى عام 39 م. وكان يقطنها خليط من الوثنيين واليهود. وكانت مستعمرة رومانية ومركزا للجباية (مرقس 2: 1)، واتخذها يسوع مركزا له فدعيت "مدينته" (متى 9: 1)، وهي محل سكنى تلاميذه الأولين: ابني زَبَدَى يَعْقُوب ويُوحَنَّا والأخَوَيْن وأَندَراوس وبُطرُس مع انهما وُلدا في بيت صيدا. وفيها دعا يسوع متى العشار (متى 9: 9-13)، وشفى فيها يسوع حماة بُطرُس (متى 8: 5-13) وغيرها كثيرين من المرضى المُصابين بأمراض مختلفة (متى 8: 16)، ولم تُذكر هذه المدينة في العهد القديم؛ وتمَّت نبوءة يسوع عليها "وأَنتِ، يا كَفَرْناحوم، أَتُراكِ تُرفَعينَ إلى السَّماء؟ سيُهبَطُ بِكِ إلى مَثْوى الأَموات. فلَو جَرَى في سَدومَ ما جرى فيكِ مِنَ المُعجِزات، لَبَقِيَت إلى اليَوم. على أَنِّي أَقولُ لَكم: إِنَّ أَرضَ سَدومَ سَيَكونُ مَصيرُها يَومَ الدَّينونةِ أَخَفَّ وَطأَةً مِن مَصيرِكِ" (متى 11: 23-24). أمَّا عبارة "شاطِئِ البَحرِ" فتشير إلى بحيرة طبرية (لوقا 5: 1) أو بحر الجَليل (يُوحَنَّا 21: 1) والاسم القديم هو بحر كنّارة (عدد 34: 11) ثم بُحَيْرَةِ جِنَّاسَرِت (لوقا 5: 1) وعلى شاطئ هذه البحيرة اختار يسوع أربعة من تلاميذه الصَيَّادَيْن الذين جعلهم صيَّادي الناس، وهم بُطرُس وأَندَراوس ويَعْقُوب ويُوحَنَّا. وكانت تحيط بالبحيرة نحو ثلاثين مدينة للصَيَّادَيْن، أكبرها مدينة كَفَرْناحوم. وبعد قيامته اجتمع يسوع بتلاميذه على شاطئ البحيرة. أمَّا طول البحيرة من الشمال إلى الجنوب فيبلغ نحو 20كم ، وعرضها يبلغ نحو 12كم، وتنخفض عن سطح البحر المتوسط نحوه 90م، ويصب فيها نهر الأُردُنّ من الشمال؛ أمَّا عبارة "زَبولونَ " اسم عبري זְבֻלוּן (معناه سكن) فتشير إلى الابن العاشر من سبط يَعْقُوب وبلاده، وهي المنطقة الواقعة في شمال فسطين وإلى الغرب من بحيرة طبرية (التكوين 49: 13)، وفي حدود زَبولونَ وجبل طابور، وأمَّا عبارة "نَفْتالي" اسم عبري נַפְתָּלִי (معناه مصارعتي وهو الابن السادس ليَعْقُوب) فتشير إلى ارض خصبة كثيرة المياه والأشجار، يبلغ طولها نحو 81 كم ويُحدُّها من الشرق بحيرة طبرية والأُردُنّ، ومن الغرب ارض سبط يَسَّاكَرَ وزَبولونَ وأشير (يشوع 19: 34)، ومن مدنها رامة وحاصور وقادش ومجدل إيل وبيت شمس (يشوع 19: 36-38)، وأمَّا من مدنها في العهد الجديد فهي طبريا وكَفَرْناحوم وكورزين. أمَّا عبارة " فسَكَنَ فيها" فتشير إلى اتخاذ يسوع مدينة كَفَرْناحوم مركزا لخدمته بدل النَّاصِرة فأصبحت مركزا له فدعيت "مدينته" (متى 9: 1).



14 لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيِّ أشَعْيا



تشير عبارة " لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيِّ أشَعْيا " إلى قول مقتبس من النبي أشَعْيا (8: 23-9:1) للدلالة على المعنى النبوي لخدمة يسوع الرسولية. أمَّا عبارة " لِيَتِمَّ ما قيلَ " فتشير إلى يسوع المسيح الذي يُحقِّق نبوءة أشَعْيا.



15 أَرضُ زَبولونَ وأَرضُ نَفْتالي طَريقُ البَحرِ، عِبرُ الأُردُنّ، جَليلُ الأُمَم.



تشير عبارة "أَرضُ زَبولونَ وأَرضُ نَفْتالي طَريقُ البَحرِ، عِبرُ الأُردُنّ، جَليلُ الأُمَم" فتشير إلى مكان خدمة يسوع الرسولية في الجَليل وبذلك تنفتح رسالة يسوع على جميع الأمم (متى 28: 19). أمَّا عبارة "طَريقُ البَحر" فتشير إلى أحد الطرق الرئيسية التي تربط مصر ببلاد الشام وبلاد الرافدين والأناضول. ويبدأ الطريق من القنطرة في مصر، ويتجه شرقا نحو رفح. من هناك يسير بمحاذاة الساحل الفلسطيني، إذ يمرّ بغزة، عسقلان، أسدود، ويافا إلى أن يتفرع في الطنطورة بالقرب من الخضيرة إلى طريقين، الأول يستمر بمحاذاة ساحل البحر المتوسط، والثاني ينعطف شرقا باتجاه مرج بن عامر الذي يخترقه إلى أن يصل مدينة طبريا وبحيرتها، ثم يتجه شرقا لعبور نهر الأُردُنّ نحو هضبة الجولان ودمشق في سوريا؛ أمَّا عبارة "عِبرُ الأُردُنّ" فتشير إلى المنطقة الواقعة شرقي نهر الأُردُنّ؛ ولكنها تشير هنا إلى الجانب الغربي بحسب موقف الكاتب من النهر. والظاهر أنَّ النبي أشَعْيا كتب هذه الآية وهو متواجد في شرقي الأُردُنّ، وبقوله عبر الأُردُنّ يشير إلى الجانب الغربي. أمَّا عبارة "جَليلُ الأُمَم" في العبرية גְלִיל הַגּוֹיִם فتشير إلى دائرة تضم عشرين مدينة أهداها سليمان إلى حيرام ملك صور، مكافأة له على مساعدته في بناء الهيكل " كان حيرامُ، مَلِكُ صور، قد أَمَدَّ سُلَيمان بِخَشَبِ أرز وسَرو وبذَهَبٍ على حَسَبِ كُلِّ ما طابَ لَه)، إِنّ اَلمَلِكَ سُلَيمان أَعْطى حيرامَ عِشْرينَ مَدينةً في أَرضَ الجَليل (1 ملوك 9: 11) فسكنها الأمم. والأرجح أنَّ الأمم كثروا هناك مدة السبي، إذ كانت تقطنها غالبية من الأمم تُمثل جنسيات مختلفة منهم الفينيقيّين واليونان والعرب، وقليل من اليهود، ولهذا سُمّيت "جَليلُ الأُمَم". وتردَّدت هذه العبارة في إنجيل متى الإنجيلي من أوله إلى آخره (متى 2: 22، 3: 13، 4: 23، 28: 16). ويعلق أوريجانس "خلاص الأمم لا يمكن أن يأتي إلا من خلال الرّب يسوع المسيح، كما ورد في المزامير: "سَلْني فأُعطيَكَ الأمَمَ ميراثًا وأَقاصِيَ الأَرض مِلْكًا" (مزمور 2: 8) (عظات عن سفر يشوع، 11: 3-4).



16 الشَّعب المُقيمُ في الظُّلْمَة أَبصَرَ نُوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه أَشرَقَ عليهمِ النُّور.



تشير عبارة " الشَّعب المُقيمُ في الظُّلْمَة " إلى يهود الجَليل بمن فيهم من أهل زَبولونَ ونَفْتالي الواقعين تحت حكم الآشوريين الوثنيين الذين احتلوهم عام 734 ق.م. وكان سبط زَبولونَ وسبط نَفْتالي أكثر الأسباط تعرضاً لظلم الوثنيين؛ أمَّا عبارة " الظُّلْمَة " فتشير في الكتاب المقدس إلى الضلال والخطيئة والشقاء. أمَّا عبارة "الموت" فتشير إلى الجهل والفوضى السائدة. أمَّا عبارة "نُوراً عَظيماً" فتشير في الكتاب المقدس للمعرفة والهُدى والطهارة الأدبية والسعادة. وهنا يدل على نور الله الذي يُنير أرضهم كما جاء في نبوءة أشَعْيا النبي "الشَّعب السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور"(أشَعْيا 9: 1). وقد تحققت هذه النبوءة لدى ميلاد يسوع "عمانوئيل" (أشعيا 7: 7-14)، ولدى تطوافه في تلك المنطقة وتبشيره سكانها وتعليمهم وصنع العجائب لهم (متى 4: 12-16). وهي نبوءة مسيحانية (أشَعْيا 8: 23-9:1)، إذ جاء يسوع إلى هذه المنطقة المُهدَّدة بضلال الوثنية ليكون نوراً لها (لوقا 2: 32، يُوحَنَّا 8: 12) فأبصروه، "فأشرَقَ عليهمِ النُّور" (متى 4: 16). هذا النور الذي حرَّرهم من ظلمة الخطيئة وظلمة الجهل. وهكذا انطلق الإنجيل من كَفَرْناحوم إلى العالم نوراً يهتدي به الناس إلى الخلاص؛ ومن هناك انطلقت رسالة يسوع إلى الأمم الوثنية. أمَّا عبارة " عَظيماً" فتشير إلى نور كافي لتبديد الظلمة الكثيفة عقليا وأدبيا التي تعرقل طريقنا وتمنع تجاوبنا مع نور يسوع. وأمَّا عبارة " أَشرَقَ " فتشير إلى الشمس عند طلوعها، وهي رمز إلى نور المسيح المشرق على الأمم. أمَّا عبارة "" بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه" فتشير إلى الموت مصدر الظلمة ونتيجتها. وحيث يستقر الموت يكون كل شيء مظلَّلا بظلاله. وفي وسط هذا الشَّعب الجَليلي الذي كان يخالط الأمم اظهر الله نوره ورسالته. تكرّم، أيها الربّ يسوع، وأضئ مصابيحنا بنفسك، أنت مخلّصنا المليء عذوبة.



17 وبَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات



تشير عبارة "بَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين" إلى افتتاح يسوع رسميا زمن الخلاص بخدمته الرسولية العلنيَّة عندما انتهى يُوحَنَّا من شهادته. ابتدأ الربّ يسوع يتكلّم عن البَشرى السارّة في الجَليل أولا بالأقوال كعظة الجبل (متى 5: 1-7: 29)، ثم بالأعمال كالمعجزات العشر (متى 8: 1-9: 34). وتكرَّرت هذه العبارة مرة أخرى لدى مغادرته الجَليل حين صعد يسوع إلى اورشليم ليُعاني الآلام، كما جاء في بشارة متى الإنجيلي "بَدأَ يسوعُ مِن ذلِكَ الحينِ "يُظهِرُ لِتَلاميذِه أَنَّه يَجِبُ علَيهِ أَن يَذهَبَ إلى أُورَشَليم" (متى 16: 21) إشارة إلى بداية جديدة يتطلع فيها يسوع إلى اورشليم، موضع موته وقيامته؛ أمَّا عبارة "مِن ذلك الحِين" فتشير إلى الوقت الذي حدَّده الله لتحقيق مواعده قد حان (مرقس 13: 20)؛ أمَّا عبارة "يُنادي" فتشير إلى إعلان بدء رسالته العلنية وكرازته داعيا السامعين إلى تبديل جذري في سلوكهم للدخول في شعب الله؛ وأصبحت المناداة بالإنجيل أو الكرازة به مُهمَّة الرسل الذين يتابعون عمل المسيح ؛ أمَّا عبارة " تُوبوا" فتشير إلى افتتاح يسوع بشارته مُردِّداً كلمات يُوحَنَّا المعمدان " في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحَنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول: توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات "(متى 3: 1-2). استلم يسوع زمام رسالة يُوحَنَّا المعمدان الذي دعا فيها إلى التوبة (متى 3: 2)، لانَّ مجيء الملكوت يتطلب توبة الإنسان؛ أيّ التغيير الباطني فكريًا وقلبيًا. كأنَّ تعليم يُوحَنَّا المعمدان مقدِّمة لتعليم المسيح. ما أعلنه يسوع ليس بجديد حقًا، الدعوة إلى التوبة كانت قلب رسالة جميع الأنبياء الذين دعوا البشر إلى ترك أصنامهم وإتباع الرّبّ. وتعلق الطوباويّة تيريزا الكالكوتيّة "عن أي شيء نتوب؟ عن لا مبالاتنا، عن قساوة قلبنا" (رسالة بتاريخ 25/3/1993 إلى رهبنتها بعنوان "العهد الروحي). أمَّا عبارة "إقتَربَ" فتشير إلى الملكوت الذي أصبح قريباً جدا، وانفتح انفتاحا رسميا سرّيا في شخص يسوع وفي رسالته، حيث لا حاجة لليهود أن ينتظروا مسيحاً آخر. إن مجيء المسيح قد جعل الملكوت قريبا من الناس وفي قلوبهم. وأرسل يسوع تلاميذه ينادون بنفس هذه الكلمات " أَعلِنوا في الطَّريق أَنْ قَدِ اقتَرَبَ مَلَكوتُ السَّمَوات" (متى 10: 7)، ونداء يسوع إلى التوبة والإيمان بالإنجيل، سيتواصل في الكرازة المسيحية كما جاء في تعليم بولس الرسول "لأَنَّ بِشارَتَنا لم تَصِرْ إِلَيكم بِالكَلامِ وَحْدَه، بل بِعَمَلِ القُوَّةِ وبِالرُّوحٍ القُدُسِ وبِاليَقينِ التَّامَّ" (1 تسالونيقي 1: 5). وضع يسوع أساس هذا الملكوت حينئذٍ ولكن لم تُثبت للناس حتى قام من الموت وأقيم ملكا حقيقيا لكل العالم حيث تغلب عليه بالروح والحق. أمّاَ عبارة " مَلكوتُ السَّمَوات فتشير إلى أوّل كلمات تلفظ بها يسوع. يسوع هو النور الجديد الذي جسّد الملكوت في شخصه. يعلق القدّيس ايرونيموس " جاء يسوع إذن لأنّ يوحنّا كان قد سُجِن. في الواقع، الشريعة مغلقة ومسجونة، لم تعد تملك حرّيّتها السابقة؛ لكنّنا انتقلنا من الشريعة إلى الإنجيل. عندما أقرأ الشريعة والأنبياء والمزامير، لا أجد فيها مطلقًا كلامًا عن ملكوت السماوات: فقط في الإنجيل. لأنّه عندما جاء ذاك الّذي قيل عنه "ها إِنَّ مَلكوتَ اللهِ بَينَكم" (لوقا 17: 21)، عندئذٍ فقط فُتِح ملكوت الله"(عظات حول إنجيل القدّيس مرقس).



18 وكانَ يسوعُ سائراً على شاطِئِ بَحرِ الجَليل، فرأَى أخَوَيْن هُما سِمعان الَّذي يُقالُ له بُطرُس وأَندَراوس أَخوهُ يُلقِيانِ الشَّبَكة في البَحر، لأَنَّهما كانا صَيَّادَيْن.



تشير عبارة " وكانَ يسوعُ سائراً على شاطِئِ بَحرِ الجَليل" إلى انطلاق يسوع في البحث عن البشر. أمَّا عبارة " بَحرِ الجَليل " فتشير إلى البحر الذي يمرُّ فيه نهر الأُردُنّ، وهو الحد الشرقي لمنطقة الجَليل، ويُسمَّى أيضا بُحَيْرَةِ جِنَّاسَرِت. (لوقا 5: 1) وبَحرِ كِنَّارةَ (عدد 34: 11) وكِنَّاروتَ (1ملوك 15: 20) وبحيرة طبرية (يُوحَنَّا 6: 1). ويبلغ طوله نحو 21 كم وعرضه نحو 10 كيلو، وعمقه 48 م وسطحه أوطأ من سطح البحر الأبيض المتوسط ب نحو230 م. وكان مبنياً على شاطئه تسع مدن. وقال فيه المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس (38-100م)، وانه في أيامه لم يكن فيه اقل من 4000 سفينة من أنواع مختلفة، ولا تزال هذه البحيرة شهيرة حتى اليوم نظرًا لوفرة سمكها وتعرّضها لأمواج شديدة مفاجِئة. ومن صياديه اختار يسوع بعض تلاميذه الذين ورد أربع منهم هنا. أمَّا عبارة "سِمعان الَّذي يُقالُ له بُطرُس" فتشير إلى سِمعان بن يونا (سِمعان بالعبرية שִׁמְעוֹן معناه سامع) الذي ما لبث أن شرَّفه الرب بدرجة الرسولية ودعاه "بُطرُس". وإن "بُطرُس" لفظة اليونانية Πέτρος يقابلها في الآرامية כֵיפָא "كيفا"، وفي العربية "صفا" ومعناه صخرة وحجر إشارة إلى نسبته في الكنيسة " أَنتَ صَخرٌ وعلى الصَّخرِ هذا سَأَبني كَنيسَتي، فَلَن يَقوى عليها سُلْطانُ الموت" (متى 16: 18). وإن الحصول على اسم جديد كان رمزاً للدخول في علاقة جديدة مع الله كما حدث مع يَعْقُوب الذي غيَّر الله اسمه إلى إسرائيل (التكوين 32: 28). وقد ولد بُطرُس في بيت صيدا الواقعة على بحيرة طبرية، وكان بُطرُس أحد التلميذَين الذين ذهبا لإعداد الفصح الأخير (لوقا 22: 8)، وأحد الثلاثة الذين عاينوا إقامة ابنة يائيرس بعد موتها (متى 9: 18-26)، وتجلى المسيح أمامهم (متى 17: 1-8)، وهو أحد التلاميذ الأربعة الذي انفرد يسوع بهم وسألوه عن نهاية العالم وخراب اورشليم (مرقس 13: 3) وأحد الذين رافقوا يسوع في صلاته في بستان الجسمانية (متى 26: 37). وهو الأول الذي اعترف بلاهوت المسيح (متى 16: 16)، والأول الذي بَشر بالمسيح في يوم العنصرة (أعمال الرسل 2: 14). وقد عمل بعض المعجزات كشفاء المقعد عند باب الهيكل الحسن (أعمال الرسل 3)، وشفاء إينياس في مدينه اللد (أعمال الرسل 9: 32-35)، وإقامة طابيثة بعد موتها في يافا (أعمال الرسل 9: 36-43)، وقد فتح الرب باب الإيمان للأمم الوثنية على يديه في شخص قرنيليوس، قائد المائة (أعمال الرسل 10: 1-33)، وختم بُطرُس حياته في روما، حين حُكم عليه بالموت صلبًا في عهد الإمبراطور نيرون سنه 64م.؛ أمَّا عبارة "أَندَراوس" اسم يوناني Ἀνδρέας (معناه ذو مروءة) فتشير إلى شقيق بُطرُس الرسول (يُوحَنَّا 1: 40). وُلد ي بيت صيدا (يُوحَنَّا 1: 44). وكان في البداية تلميذًا ليُوحَنَّا المعمدان، لكن الرب دعاه ليجعله صيادا للناس، فترك السَّفينَة، والشباك وتبع المسيح. وهو الذي عرَّف بُطرُس أخاه بالمسيح. ويذكره الإنجيل في معجزة الخبز والسمكتين (يُوحَنَّا 6: 1-15) وعند مجيء اليونانيين الذين أتوا لكي يكون لهم وسيطاً كي يروا يسوع (يُوحَنَّا 12: 22). وهو أحد التلاميذ الثلاثة الذي سال يسوع عن خراب أورشليم ودمار الهيكل وانقضاء الدهر (مرقس13: 3). وقد بدأ أَندَراوس عمله التبشيري يوم العنصرة، وانتهى به المطاف في مقاطعه أخائية في بلاد اليونان حيث نال إكليل الشهادة مصلوبا في روسيا، كما جاء في كتابات ايرونيموس، لذلك يُعد شفيع كل من الكنيستين الروسية واليونانية. أمَّا عبارة " الشَّبَكة " في الأصل اليوناني ἀμφίβληστρον (معناها شبكة كبيرة) تشير إلى الشَّبَكة التي كانت ملقاة في دائرة. أمَّا عبارة " صَيَّادَيْن " فتشير إلى العمل الخاص لبُطرُس وأَندَراوس أخيه هو الصيد. ويزيد لوقا على ما ذكره متى وعظ المسيح في سفينتهما وصيد العجيب (لوقا 5: 1-11). تعرف يسوع أولا على تلاميذه (يُوحَنَّا 1: 35-42)، ثم دعاهم ليتبعوه، وأخيراً عيَّنهم رسلا. إنَّ لقاء يسوع بالأخوين في بحيرة الجليل هو نموذج للقاء يسوع التبشيري في مكان يسير به الكثيرين من الناس، مكان من العمل اليومي، والتبادلات التجارية، والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية لقُرى المنطقة في زمن يسوع.



19فقالَ لَهما: اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر.



عبارة "اِتْبَعاني" في اللفظة اليونانية Δεῦτε ὀπίσω μου (ومعناها حرفيا تعليا ورائي) (متى 16: 23-24) تشير إلى إتباع يسوع المسيح أي السير خلف الرب، لانَّ السير وراء الرب يؤدِّي إلى الملكوت والخلاص. فإتباع يسوع هو عمل ديناميكي، إذ يخرج التلميذ من ذاته نحو الآخرين تمثلا بيسوع. ويتكرر هذا الفعل في إنجيل متى 25. وإتباع يسوع معناه أن يترك الإنسان نظرته وعمله ويأخذ نظرة الله وعمله تعالى، ترك الرسل مهنة الصيد، وأخذوا مهنة أخرى، كانوا يصطادون السمك، والآن يتعلمون كيف يصطادون البَشر؛ أمَّا عبارة "صَيَّادَيْ بَشر" فتشير إلى وعد المسيح لكل من بُطرُس ويَعْقُوب ومن يتبعه أن يكونوا صَيَّادَيْ بَشر. يدعو يسوع بطرس التلميذين الأولين ن يجعلا حياتهما الشخصية هبة للآخرين حيث يأخذ خلاص الآخرين المكان الأول في حياتهما. إنها مهنة الرسل الجديدة بألفاظ مأخوذة من مهنتهم القديمة نظرا للمشابهة بينهما في كيفية العمل، لكن مهنتهم الجديدة هي ارفع شأنا من القديمة، لان العمل الرئيسي للرسل في العالم أصبح أن يربحوا النفوس للمسيح. فحين يكرز الرسل بالإنجيل، يجمعون الناس كما يجمع الصيَّاد السمك في شبكته. وهكذا تبدَّلت حياة الرسل كليّاً، من الناحية الواقعية، من شبكة إلى شبكة، ومن صيد إلى صيد حيث ان الرسل بإعلانهم البشارة يجمعون الناس من أجل الدينونة والدخول إلى ملكوت الله (متى 13: 47-50). ونتائج دعوة الرسل هذه كانت أعظم من نتائج دعوة إبراهيم ودعوة موسى النبي.



20 فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه.



تشير عبارة " فتَركا الشِّباكَ" إلى ترك جوهري للشباك وهي سبب جوهري لكسب المال والحياة بكرامة. أمَّا عبارة "الشِّباكَ" فتشير إلى الشباك التي يصطاد بها السمك (متى 4: 18)، وقد شبّه يسوع ملكوت السماوات بشبكة تجمع مختلف أنواع السمك (متى 13: 47)، وهناك أكثر من ثلاثين نوعا من السمك الصالح للطعام في بحيرة طبرية؛ أمَّا عبارة " مِن ذلك الحينِ " في الأصل اليوناني εὐθέως (معناها فورا) فتشير إلى تعبير مُكرَّر في إنجيل متى مما يدل على الطاعة السريعة. وهذه الطاعة السريعة هي من دلائل التقوى الحقيقية (لوقا 9: 57-62). يُبدي بطرس وأندراوس سرعة الاستجابة للنداء الإلهي. دعوة يسوع جذرية لدرجة أنه لا يسمح بالتردد أو التسوية. أمَّا عبارة " تَبِعاه" فتشير إلى دعوة يسوع إلى التلميذين بُطرُس وأخيه أَندَراوس وتلبيتهما هذه الدعوة بطاعة فورية، لا كسامعين فقط بل كمعاونين مشاركين وشاهدين لملكوت الله وعاملين في حصاده (متى 10: 1-27)، فقد لازما شخص يسوع وحملا الصليب وسارا وراءه في الاضطهاد والسجن والإهانات حتى الموت تلبية لطلبه "مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صليبَه ويَتبَعْني" (متى 16: 24).



21 ثُمَّ مَضى في طَريقِه فرأَى أخَوَيْن آخَرَيْن، هُما يَعْقُوب بنُ زَبَدَى ويُوحَنَّا أَخوهُ، معَ أَبيهِمَا زَبَدَى في السَّفينَة يُصلِحانِ شِباكَهما، فدَعاهما




تشير عبارة " يَعْقُوب بنُ زَبَدَى" اسم عبري יַעֲקב (معناه يعقب، يمسك العقب، يحل محل) إلى يَعْقُوب الكبير: ابن زبدى وأحد الاثني عشر والأخ الأكبر ليُوحَنَّا الرسول (متى 4: 21). وكان والدهما موفقاً في عمله في الجَليل (مرقس 1: 19). وكانت سالومَة أمهما أخت أم يسوع (متى 27: 56). فهو ابن خالة يسوع. وقد ترك مهنة الصيد وتبع يسوع (لوقا 5: 10). ويذكره الإنجيل دائماً مع يُوحَنَّا رفيقه في العمل (متى 10: 2). وكان لهما مقام خاص عند يسوع، فكانا معه مع بُطرُس عند إحياء ابنة يايرس، وعند التجلي، وعند جهاده في بستان الجسمانية (متى 17: 1). ونجده بعد الصلب مع غيره من الرسل في الجَليل (يُوحَنَّا 21: 2)، وفي أورشليم (أعمال 1: 13). وختم شهادته بالموت، لأن هيرودس أغريباس الأول أمر بقطع رأسه (أعمال الرسل 12: 2). كان على الأرجح سنة 44. وبذلك كان أول الرسل الذين ختموا حياتهم بدم شهادتهم. أمَّا عبارة "يُوحَنَّا " صيغة عربية للاسم العبري יוֹחָנָן (معناه الله حنون) فتشير إلى ابن زَبَدَى من بيت صيدا في الجَليل. دعاه يسوع مع أخيه يَعْقُوب يجعلهما من تلاميذه (متى 4: 21). وكان على جانب من الغنى، لانَّ أباه كان يملك عدداً من الخدم المأجورين (مرقس 1: 20). أمَّا أمُّه فهي سالومَة التي كانت سيدة فاضلة نقية تبعت المسيح وخدمته (متى 27: 56). وكانت شريكة النساء اللواتي اشترين الحنوط الغالي الثمن لتكفين جسد يسوع. وقد اتخذ مهنة الصيد حرفة، لأن عادات اليهود كانت تقضي على أولاد الأشراف أن يتعلموا حرفة ما. وكان يُوحَنَّا من تلاميذ المعمدان ومن تلاميذ يسوع الأولين (مرقس 1: 19). وكان وأخوه شريكي سِمعان في الصيد (لوقا 5: 10). وكان معروفاً لدى قيافا رئيس الكهنة (يُوحَنَّا 18: 15). وربما كان له بيت في أورشليم (يُوحَنَّا 19: 27). وكان واخوه سريعيّ الانفعال والغضب (مرقس 9: 38)، فلقبهما يسوع " بَوانَرْجِس" Βοανηργές أي "ابني الرعد" أو الغضب (مرقس 3: 17). وكانا طموحَين إلى العظمة والمجد لكن هذه النزعة تلاشت فيما بعد، وأصبحا على استعداد لمجابهة الموت في سبيل المسيح ورسالته (مرقس 10: 35 -40). وفي قائمة الرسل يذكر يُوحَنَّا دائماً بين الأربعة الأولين (متى 10: 2). وكان أحد الرسل الثلاثة، الذين اصطفاهم يسوع ليجعلهم من المقرّبين له، وهم بُطرُس ويَعْقُوب ويُوحَنَّا. فهؤلاء وحدهم سمح لهم أن يُعاينوا ‘حياء ابنة يائيرس (مرقس 9: 2)، والتجلي (متى 17: 1)، وجهاده في بستان الجسمانية (متى 26: 37). وظل يُوحَنَّا أميناً ليسوع، ملازماً له حتى النهاية. وفي الليلة التي أسلم فيها يسوع، تبعه على دار رئيس الكهنة، عن قرب، لا عن بعد، كما فعل بُطرُس. وعند الصليب ظل أميناً، أوصاه يسوع بالعناية بأمه، وعندما قصد القبر الفارغ في يوم القيامة، كان أول من آمن بقيامة المسيح (يُوحَنَّا 20: 1 -10). وقد وثق يسوع بيُوحَنَّا وأحبَّه بنوع خاص ولهذا دعي دون غيره بـ "التلميذ الحبيب". لقد كان يُوحَنَّا من المجموعة القليلة التي بقيت في العليا في أورشليم بعد الصعود (أعمال 1: 13). ونراه مرتين مع بُطرُس. المرة الأولى عندما صعد الاثنان إلى الهيكل، فأشفيا الأعرج (أعمال 3: 1-4: 23). والمرة الثانية عندما قصدا السامرة لتفقد أحوال الكنيسة الناشئة التي كان يشرف عليها فيلبس هناك (أعمال 8: 14-17). وكذلك نعرف أن يُوحَنَّا كان أحد أعمدة الكنيسة في أورشليم إلى جانب يَعْقُوب وبُطرُس، يوم زارها بولس الرسول على أثر رحلته التبشيرية الأولى، ويوم بدأت بوادر أول عاصفة من عواصف الاضطهاد تثور ضدها (أعمال 15: 6). ولدينا في العهد الجديد خمسة أسفار نُسبت إلى يُوحَنَّا وهي: الإنجيل الرابع، والرسائل الثلاث، وسفر الرؤيا. ويقول التقليد أن يُوحَنَّا نادى بالإنجيل في آسيا الصغرى، ولا سيما في أفسس، وبموجب هذا التقليد تكون الكنائس السبع في آسيا الصغرى قد تمتعت برعايته واهتمامه وتعاليمه (رؤيا 1: 11). وقد نفاه الإمبراطور دوميتيانوس إلى جزيرة بطمس. هناك تجلت عليه مناظر الرؤيا وأوحى إليه بكتابتها. وعندما تبوأ ((نيرفا)) العرش سنة 96. أطلق سراحه، فرجع إلى أفسس. وكان بوليكاربوس، وأغناطيوس من تلاميذه. ويقول ايرينيوس أن يُوحَنَّا بقي في أفسس حتى وفاته في حكم تراجان (98-117). ويقول ايرونيموس أنه توفي سنة 98. أمَّا عبارة " زَبَدَى " اسم عبري זַבְדַּי (معناه الله قد أعطى) (مرقس 1: 19) فتشير إلى زوج سألومه وأب يَعْقُوب ويُوحَنَّا. ولم يكن عاملاً كأحد الفعلة الذين يحملون طعام كل يوم بيومه بل كان أرفع مرتبة من ذلك، إذ كان معه أجراء في سفينته. وقد كانت امرأته تنفق من مالها على يسوع لسد احتياجاته كما ذكر عنها أكثر من مرة. (مرقس 16: 1). أمَّا عبارة "يُصلِحانِ شِباكَهما" فتشير إلى إصلاح ما كان مقطع من الشباك أو إعدادها للعمل لجعلها صالحة للصيد. أمَّا عبارة " فدَعاهما " فتشير إلى دعوة المسيح إلى خدمة الإنجيل، وان خدمة الإنجيل هي أوجب من كل خدمة كما جاء في تعليم يسوع " كُلُّ مَن ترَكَ بُيوتاً أَو إِخوةً أَو أَخواتٍ أَو أَباً أَو أُمّاً أَو بَنينَ أَو حُقولاً لأَجلِ اسْمي، يَنالُ مِائةَ ضِعْفٍ ويَرِثُ الحَياةَ الأَبَدِيَّة." (متى 19: 29).



22 فَتَركا السَّفينَة وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه.



تشير عبارة "تَركا السَّفينَة وأَباهُما" إلى هجر المهنة وفصم عُرى الروابط العائلية لتلبية الدعوة ليسوع وإتباعه. إنها دعوة إلى ولاء وإخلاص من كل القلب. دعا يسوع التلاميذ الأوَّلين: سِمعان بُطرُس وأَندَراوس أخيه وثم يَعْقُوب ويُوحَنَّا أخيه، وهم يمثلون العالم بأقطاره الأربعة. وسمع الأربعة النداء، فتركوا كل شيء وتبعوا يسوع. أمَّا عبارة " مِن ذلك الحينِ " في اليوناني εὐθέω (في الحال) فتشير إلى العبارات التي تكرر في إنجيل متى للدلالة على إتمام العمل فورا.



23 وكانَ يَسيرُ في الجَليل كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت، ويَشْفي الشَّعب مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة.



تشير عبارة " يَسيرُ" في الأصل اليوناني περιῆγεν (معناه يطوف) إلى تجوال يسوع في الجَليل للتعليم. أنه في غضون أقامته في الجَليل 18 شهرا خرج من كَفَرْناحوم للتبشير تسع مرات وانه سافر ثلاث سفرات طويلة وخمسا قصيرة للخدمة والتعليم. أمَّا عبارة "الجَليل كُلِّه" فتشير إلى كل بلاد الجَليل التي كان يسوع يطوف فيها. قال يوسيفوس فلافيوس انه كان في تلك الأرض 204 من المدن الكبيرة والصغيرة. أمَّا عبارة "المجمع" בֵית הַכְּנֵסֶת فتشير إلى كنيس أي بيت الاجتماع للصلاة لليهود، والمكان الذي يتدارسون فيه التوراة وتراثهم الديني. ويعود تاريخ المجامع إلى فترة السبي البابلي في عام 586 ق.م.، علما أنَّ المجمع كان مبنيًا على الغالب في شكل مستطيل، وواجهته نحو القدس، وفي مقدمة المجمع فجوة تغطيها ستارة تحتوي على تابوت لفائف الشريعة، وهي تقابل قدس الأقداس في الهيكل القديم. وكان قارئ التوراة يقف في مكان أكثر انخفاضاً (نسبياً) من أرض المجمع. وفي الوقت الحاضر، انعكس الوضع فأصبح القارئ يجلس على منصة عالية تُسمَّى في اليونانية βῆμα. وتُقام في المجمع الصلوات اليومية، فبإمكان أي شخص، من الناحية النظرية، أن يؤمَّ المصلين. غير أن من المعتاد أن يؤمَّ المصلين أفراد تلقُّوا دراسة خاصة للقيام بهذه الوظيفة. وتُقرَأ التوراة في المجمع كل يوم سبت، وفي يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. وكان رئيس المجمع رجل إدارة أكثر منه واعظاً، فكان عمله هو البحث عن الربِّيين ودعوتهم للتعليم والوعظ؛ أمَّا عبارة " يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم " فتشير إلى يسوع الذي كثيرا ما كان يتكلم في المجامع، إذ كان المجمع يستخدم مكانا للاجتماع في أيام السبت، وكمدرسة في باقي أيام الأسبوع وكان هناك مجمع في كل مدينة بها عشر أو أكثر من العائلات اليهودية؛ ويدور تعليمه حول الخلاص وملكوت الله وهو أساس لتعليم الرسل الشفهي والكتابي. أمَّا عبارة " مَجامِعِهم " فتشير إلى أمكنة عبادة اليهود. ابتدأ اليهود باستعمالها من سبي بابل واستمروا بعد رجوعهم. في أيام المسيح وُجدت المجامع في كل المدن والقرى التي يتواجد فيها اليهود. قال يوسيفوس فلافيوس " أنه وقت خراب اورشليم كان في تلك المدينة وحدها 380 مجمعاً". وكان للمجامع شيوخ (لوقا 7: 3) ورؤساء (لوقا 8: 41) وتشتمل عبادتهم فيها على الصلاة وقراءة التوراة وتفسير القراءات وبعض الإنذارات. أمَّا عبارة "بِشارَةَ المَلَكوت" فتشير إلى التبشير بمجيء الملكوت في شخص يسوع المسيح (متى 3: 2) والتبشير بوجه عام بما فيه تعليم يسوع في إنجيل متى (متى 9: 35، و24: 14)، وبِشارَةَ المَلَكوت" هي عبارة ينفرد بها إنجيل متى. كانت كلمات يسوع بشارة سارة لأنها كانت تمنح الحرية والرجاء وسلام القلب وحياة ابديه مع الله. وأمَّا عبارة "يَشْفي الشَّعب مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة" فتشير إلى يسوع الذي كان يشفي ليس من المرض الجسدي فحسب ـ بل من المرض الروحي. وباختصار تدل هذه الآية على موجز أعمال يسوع وخدمته في الجَليل. أمَّا عبارة " يَشْفي " فتشير إلى الخدمة الثانية للمسيح بعد التعليم وذلك لإثبات سلطاته كمعلم إلهي ووظيفته كطبيب النفوس. أ عبارة " كُلِّ مَرَضٍ " فتشير إلى كل الأسقام التي تصيب الإنسان. فشفى يسوع جميع الذين أتوا إليه وجميع الذين أتى بهم أصحابهم ولم يردْ في الإنجيل انه طرد أحدا من بين الذين أتوا بغية الشفاء. أمَّا عبارة " عِلَّة" فتشير إلى الضعف نتيجة الأمراض الخفية في حين المرض يدل على ما هو مُزمن ومؤلم.





ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 4: 12-23)



بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 4: 12-23)، نستنتج انه يتمحور حول بدء رسالة يسوع في الجَليل ودعوة التلاميذ الأوَّلين لمشاركة يسوع في رسالته ليكونوا نواة الكنيسة. ومن هنا نتساءل: ما هو موضوع رسالة يسوع في الجَليل؟ ولماذا دعا يسوع تلاميذه الأوائل؟



1) ما هو موضوع رسالة يسوع في الجَليل؟



انتقل يسوع من موطنه في النَّاصِرة إلى كَفَرْناحوم الواقعة على بعد 32كم إلى الشمال الشرقي من بحيرة طبرية. وكانَ انتقال يسوع إلى كَفَرْناحوم لعدة أسباب، منها الابتعاد عن المقاومة واللامبالاة في النَّاصِرة، ولنشر رسالته إلى أكبر عدد ممكن من الناس، إذ كانت كَفَرْناحوم مدينة كبيرة من ناحية، وللاستفادة من موارد إضافية لـتأييد خدمته، وكانت مستعمرة رومانية وتجارية ومورد صيد السمك من ناحية أخرى.



وأصبحت كَفَرْناحوم قاعدة رسالته وخدمته العلنية في الجَليل، ودُعيت "مدينته" (متى 9: 1). وصنع فيها يسوع معظم معجزاته، كشفاء خادم قائد المائة (متى 8: 5-13) وابنة بعض الوجهاء (متى 9: 18-26) وحماة بُطرُس (متى 8: 14 -15) والمقعد (متى 9: 1-8)؛ وفي مجمعها كان أول حديث ليسوع عن معجزة حبِّه الكبير، الإفخارستيا (يُوحَنَّا 6: 24-71). ومن رجالها اتخذ يسوع معظم رسله وتلاميذه، كبُطرُس وأَندَراوس ويَعْقُوب ويُوحَنَّا وغيره. ودعاهم من الصيد في البحيرة إلى الصيد في بحار الدنيا، ليجمعوا بدل السمك بَشراً ويكونون له رسلا وتلاميذ يربحون النفوس في ملكوته.



الأهم من ذلك، جاء السيّد المسيح، معلّم البَشريّة وشمس البرّ إلى كَفَرْناحوم ليُضيء على الجالسين في الظلمة لتتميم نبوءة أشَعْيا "الشَّعب السَّائِرُ في الظُّلمَةِ أَبصَرَ نوراً عَظيماً والمُقيمونَ في بُقعَةِ الظَّلام أَشرَقَ علَيهم النُّور"(أشَعْيا 9: 1) التي تقول ان المسيح نورٌ لأرض زَبولونَ ونَفْتالي ، أي منطقة الجَليل التي تقع فيها كَفَرْناحوم (متى 4: 13)، وشعبها " المُقيمُ في الظُّلْمَة والمُقيمونَ في بُقْعَةِ المَوتِ وظِلالِه" (متى 4: 16) على ما ذكر عنهم أشَعْيا النبي، "أَبصَرَوا نُوراً عَظيماً" (متى 4: 16)؛ فالظلمة التي كان يقيم فيه الناس في كَفَرْناحوم هي وقوعهم تحت احتلال حكم الآشوريين الوثنيين عام 734 ق. م.؛ وأمَّا الموت الذي يقيمون فيه فهو الجهل والخطيئة. "فأَشرَقَ عليهمِ النُّور" (متى 4: 16)، فالنور الذي أبصروه هو نور المسيح الذي حرَّرهم من ظلمة الخطيئة وظلمة الموت والجهل. وعليه فان الإنجيل المقدس أنطلق من كَفَرْناحوم إلى العالم الوثني نوراً يهتدي به الناس إلى الملكوت عن طريق التوبة. فموضوع رسالة يسوع في الجَليل: التوب وملكوت السماوات.



أ) التوبة



بدأ يسوع خدمته مُردِّداً أقوال يُوحَنَّا المعمدان "بَدَأَ يسوعُ مِن ذلك الحِين يُنادي فيَقول: "تُوبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17). لا مفرّ من التوبة من أجل الدخول إلى ملكوته. "توبوا" يدل على في الأصل اليوناني Μετανοεῖτε على تغيير في العقلية، وبالتالي تغيير أسلوب التفكير والحياة؛ أمَّا في الأصل العبري שׁוּבוּ فيدلُّ على تغيير الطريق والعودة بلا قيد أو شرط إلى الله، إله العهد كما ينادي رَبُّ القُوَّات الجّميع "إِرجِعوا إِلَيَّ أَرجِعْ إِلَيكم" (ملاخي 3: 7). فالتوبة هي تغيير جذري داخلي وخارجي في السلوك ومسار حياة لدخول ملكوت السماوات، أي التحوّل عن الخطيئة إلى الربّ الإله، وتترك الظّلمة، ظلمة ‏الخطيئة وكلّ عبوديّات المال والكبرياء والأنانيّة والسلوك في نّور المسيح. "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة" ‏‎) ‎يُوحَنَّا 8: 12) ‏‎. فالنور والظلمة لا يتساكنان كما يتساءل القديس بولس الرسول "أَيُّ اتِّحادٍ بَينَ النُّورِ والظُّلْمَة؟" (2 قورنتس 6: 14). "فقَد أَغْضى اللّهُ طَرْفَه عن أَيَّامِ الجَهْل (الظلمة) وهو يُعلِنُ الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان"‎) ‎أعمال الرسل 17: 30‏‎).



إنّ التوبة هي عمل داخليّ حيث تتطلّب التخلّي عن كلّ ما يشلّ اندفاعنا نحو الربّ، والتخلّي عن كلّ العبوديّات التي ندعوها المال والكبرياء والأنانيّة كي نردّ، دون تحفّظ، على دعوة الربّ. إنها تخصب حياتنا، لأنّها تجعلنا قادرين على الاستجابة لدعوة المسيح الربّ: تعال واتبعني!



التوبة هو الموضوع الرئيسي الذي عالجه إرميا النبي والأنبياء في العهد القديم. فمنذ آلاف السنين قال النبي أشَعْيا: "لِيَترُكِ الشِّرِّيرُ طَريقَه والأَثيمُ أَفْكارَه ولْيَرجِعْ إلى الرَّبِّ فيَرحَمَه وإلى إِلهِنا فإِنَّه يُكثِرُ العَفْوَ" (أشَعْيا 55: 7). ونداء يسوع إلى التوبة والإيمان بالإنجيل، يتواصل في الكرازة المسيحية، ويُصبح بعد القيامة نداء لقبول الخلاص الذي يُعطى لنا في يسوع المسيح (1 تسالونيقي 1: 5-6). وخير مثال على ذلك أقوال بُطرُس الرسول: "أن الله لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَدٌ، بل أَن يَبلُغَ جَميعُ النَّاسِ إلى التَّوبَة " (2 بُطرُس 3: 9). وفي مكان آخر يقول "َتوبوا وارجِعوا لِكَي تُمْحى خَطاياكم"(أعمال الرسل 3: 19)، فلا غفران للخطيئة إلا بالتوبة. وعدم التوبة يعني الهلاك " إِن لم تَتوبوا تَهِلكوا بِأَجمَعِكُم" (لوقا 13: 5). الخاطئ يسلك طريق الشّرّ مقتفيا خطوات إبليس ونهايته كما قال الكتاب: " مَنِ اتَبعً الشَرّ فلِمَوته"‏‎)‎‏ أمثال 11 : 19‏‎(‎‏. يعلق القدّيس أوغسطينوس "لأنّ الربّ لا يحبّ أن يعاقب بل أن يخلّص، ولهذا السبب هو يصبر على الأشرار حتّى يصبحوا أخيارًا" (العظة 18). أمَّا التوبة فهي بركة للإنسان، تمنحه السلام والأمان والحياة في الملكوت.



ما زالت التوبة اليوم هي الرسالة كما نادى بها يسوع ويُوحَنَّا المعمدان حيث أنَّ تاريخ الكنيسة وتاريخ كل إنسان هو قصّة توبة وارتداد إلى الرب. وما من أحد مَعفِيّ من أن يتوب كل ساعة، "ذلِكَ بِأَنَّ جَميعَ النَّاسِ قد خَطِئُوا فحُرِموا مَجْدَ الله" (رومة 3: 23)، فالجميع بحاجة إلى التوبة للحصول على مجد الله. فالتوبة هي مفتاح الإنجيل من ناحية الإنسان، وأمَّا ملكوت الله فهو حكم الله في قلوب الناس وفي المجتمع. فهي طريق الخلاص. لذلك تتطلب التوبة أن نبتعد عن التمركز حول الذات، وعن سيادة الذات علينا، وان نليّن قلبنا المتحجرة ونجدِّد صفحات حياتنا، فنسلم نفوسنا لتوجيهات المسيح وسيادته. أن مجيء الملكوت يتطلب توبة الإنسان.



ب) ملكوت السماوات



بَدَأَ يسوعُ رسالته العلنية يُنادي ويَقول "قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّمَوات" (متى 4: 17). ويستخدم متى عبارة ملكوت السماوات وليس ملكوت الله كما ورد في إنجيل مرقس ولوقا، لانَّ إنجيل متى موجّه بشكل خاص لليهود، واليهود لا ينطقون بلفظ الجلالة، اسم "الله" بدافع توقيرهم الكبير واحترامهم الشديد لله سبحانه وتعالى. وأمَّا ملكوت السماوات فهو ملكوت خلاص أي الحريّة من الخطيئة وحريّة العيش كأبناء الله، وهو ملكوت سلام في علاقة الإنسان مع الربّ الإله، وملكوت الرجاء في القيامة، وملكوت الحقّ في المسيح الذي هو "الطريق والحق والحياة"، وملكوت الوعد بمكافأة الّذين يسعون إليه، وملكوت الخلود في الحياة الأبديّة.



كان يسوع يعلن أنَّ ملكوت الله قريب. وقد اقترب عندما دخل الله نفسه إلى تاريخ الجنس البَشري كإنسان من خلال ابنه يسوع المسيح ليرفع " البَشر إلى الشركة في الحياة الإلهية " (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 541). يقول البابا شنودة الثالث" الربّ قريب منا حتى في أحلك لحظات حياتنا. الربّ اقترب منا بواسطة السيّد المسيح. لقد جاء إلى أرضنا. وعاش بيننا. ونصب خيمته في وسطنا. وصار بَشراً مثلنا. إنّ الربّ ليس ببعيد، ولا هو غريب ولا هو مخيف. إنّ الربّ قريب، واسمه عمانوئيل أي الربّ معنا. ليس هذا فقط ما بَشر به الربّ يسوع، بل هذا ما جسّده أيضا". وحقق يسوع مجيء ملكوته خصوصا بسر فصحه العظيم: موته وقيامته" وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين " (يُوحَنَّا 12: 32) جميع البَشر مدعون إلى الشركة في الحياة الإلهية مع المسيح. وفي هذا الصدد جاء تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة " في التطويبات (متّى5: 3)، تتمِّمُ المواعيد الإلهيّة وتسمو بها وتوجِّهُها نحو "ملكوت السماوات". إنّها لأولئك الذين فيهم الاستعداد لتقبُّل هذا الرّجاء الجديد بإيمان: الفقراء، والمتواضعين، والحزانى، والقلوب الطاهرة، والمُضطهَدين لأجل المسيح، فترسم هكذا السبل العجيبة إلى الملكوت"(بنود 1967-1961). إذا الربّ قريب منا، لماذا لا ندعه يملك على حياتنا ويقودنا ويوجّهنا من خلال التطويبات؟



ملكوت الله قريب لما جاء المسيح إلى الأرض أولا كالعبد المتألم، ولكنه سياتي ثانية كالملك والديّان على كل الأرض. ويمكن أن نحدد ثلاث مراحل للملكوت: المرحلة الأولى، وهي إعلان مجيء ملكوت الله الذي يسوع هو مؤسسه (ابن الإنسان)؛ والمرحلة الثانية وهي إظهار المنهج الجديد المؤدي إلى الخلاص. ويتطلب هذا المنهج الإقلاع عن الخطيئة والاندماج في المسيح، الأمر الذي يجعل المسيحي "إنساناً جديداً" كما أعلن بولس الرسول " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشريَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي."(غلاطية 20:2). ج)؛ وأمَّا المرحلة الثالثة، فهي إظهار يسوع كسيّد وابن الله، كنور وحياة وإظهار الروح القدس والعلاقة بين الأقانيم الإلهية في حياتنا.



انطلاقا من ذلك، فإن يسوع لم يأتِ لملكوت أرضي والخلاص من نير الرومان السياسي كما ظنّ اليهود، وإنما لتحرير القلب من سلطان الخطيئة ومنح الخلاص. فالمسيح يسوع يملك الآن على قلوب المؤمنين، لكن ملكوت السماوات لن يتحقق تماماً إلاَّ بعد إدانة كل الشر الذي في العالم وإزالته. فالله معنا هنا وهناك، شريطة أن نستضيفه. فنداء يسوع وإعلانه "ملكوت الله" ليسا سوى دعوة يوجهها إلينا لإعداد نفوسنا لقبول الرب. يعلق الكردينال جوزف راتزنغر (البابا بِندِكتُس السادس عشر) " عظمة رسالة الرّب يسوع المسيح تكمن تحديدًا في أنّه لم يتكلّم عن الأرواح والحياة الأبديّة فحسب، بل توجّه إلى الإنسان بكلّيّته، بجسده وبانخراطه في التاريخ وفي المجتمع البشريّ، ووعد الإنسان البشري الذي يعيش بين أناس آخرين في هذا التاريخ نفسه بالملكوت" (معنى المسيحيّة، Vom Sinn des Christseins).



نستنتج مما سبق أنَّ جميع البَشر مدعوّون إلى الدخول في الملكوت (متى 8: 11) وللدخول فيه يجب تقبل كلمة يسوع. لذلك الملكوت هو للفقراء والصغار، أي لأولئك الذين تقبلوه بقلب متواضع كما صرّح يسوع "الرَّبِّ عَلَيَّ لِأَنَّهُ مَسَحَني لِأُبَشر الفُقَراء" (لوقا 4: 18). ويعلن لهم الطوبى "طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات" (متى 5: 3)؛ والملكوت هو أيضا للصغار "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25). ويسوع يدعو الخطأة إلى الملكوت السماوي:" ما جِئتُ لأُدعُوَ الأَبرار، بَلِ الخاطِئينَ إلى التَّوبَة" (لوقا 5: 32). انه يدعوهم إلى التوبة التي بدونها لا يمكن الدخول إلى الملكوت، وهكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ "(لوقا 15: 7). والبرهان الأعظم على هذه المحبة سيكون في بذل حياته الخاصة " فهذا هُوَ دَمي، دَمُ العَهد يُراقُ مِن أَجْلِ جَماعةِ النَّاس لِغُفرانِ الخَطايا" (متى 26: 28).



2) لماذا دعا يسوع تلاميذه الأوائل لإتباعه؟



أ) حاجة الدعوة:




احتاج يسوع إلى شركاء حقيقين في رسالته لنشر ملكوت الله لكي تبقى رسالته حيّة عاملة. ولكي تصل هذه الرسالة إلى أكبر عدد من الناس هيّا يسوع بعض التلاميذ المُقرّبين من أجل هذه المهمة، ودعاهم واختارهم. وكان التّلميذ في إسرائيل هو الذي يختار المعلِّم. وأمَّا في حالة يسوع فهو الّذي يختار التّلاميذ. إنَّ الخُطوة الأولى تأتي دائماً من الّله، هو يختار من يريد: "لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى" (يُوحَنَّا 16:15).



إن اختيار الاثني عشر وتدريبهم كانا أمرين هامين في خدمة يسوع، فقد كان الاثنا عشر هم الذين سيشتركون معه في إعلان النبأ السار وحمل الدعوة بعد صعوده. وكان التلاميذ الأوائل صيادي سمك، لم يكونوا أصحاب مهن، وغير مالكين لثروة ولم يكونوا أصحاب مناصب سلطة أو جاه في المجتمع كما يقول الرسول بولس "اختار الله الجهال لِيُخزِيَ الحُكَماء " (1 قورنتس 1: 27)، اختار أناساً عاديّين جدّاً. لم يكونوا أصحاب مهن، ولم يكن يملكون ثروة ولم يكونوا أصحاب مناصب سلطة أو جاه في المجتمع. لقد تمّ اختيارهم من عامّة الناس، اختار هؤلاء الأفراد، ليس بسبب من كانوا، بل بسبب من سيصبحون عليه تحت توجيهه وتعليمه. ويُعلق القديس ايرونيموس "كان أول المدعوّين لتبعيّة المخلّص صَيَّادَيْن أميّين أرسلهم للكرازة حتى لا يقدر أحد أن ينسب تحوّل المؤمنين، إلى الفصاحة والعلم بل إلى عمل الله". لقد اختار هؤلاء الأفراد، ليس بسبب من كانوا، بل بسبب من يصبحون تحت توجيهاته وسلطته والعمل من خلالهم للملكوت.



ب) متطلبات إتباع يسوع:



إتباع يسوع يتطلب من المرء أن يترك كل شيء ويسير على خطى المعلم الإلهي بالروح والأخلاق والدين مدى الحياة. وتبدأ هذه المسيرة بانفصال مادي عن الحياة السابقة وتتحقق بألفة روحية بين التلميذ والمعلم حتى بذل الذات " مَن أَرادَ أَن يَتبَعَني، فَلْيَزْهَدْ في نَفْسِه ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبعْني. َنَّ الَّذي يُريدُ أَن يُخَلِّصَ حَياتَه يَفقِدُها، وأَمَّا الَّذِي يَفقِدُ حَياتَه في سبيلي وسبيلِ البِشارَة فإِنَّه يُخَلِّصُها " (مرقس 8: 34-35). يتم الخلاص عبر إتباع يسوع، أي حين يتوقف الإنسان عن تمركزه وتمحوره حول ذاته ويترك المجال ليسوع كي يقود وجوده ومصيره.



بناء عليه، انتزع يسوع من أول مرة تلاميذه الأولين من محيطهم المهني كما حدث مع الأخَوَيْن بُطرُس وأَندَراوس "تَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه. (متى4: 20) كما انتزعهم من محيطهم العائلي كما حدث مع الأخَوَيْن يَعْقُوب ويُوحَنَّا “تَركا السَّفينَة وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" (متى 4: 22). ودعاهم إلى إتباعه، فتخلوا عن نظرتهم إلى العالم، من اجل نظرة إلى مخطط الله، تركوا عملهم للقيام بعمل آخر غير مُرتبط لا في مكان ولا في زمان، هو لكلِّ الأوقات ولكلِّ الأزمان ولكلِّ الأجيال.



إن اتباع يسوع قد يستلزم هجر الحرفة وفصم عرى الروابط العائلية. ومن هنا نجد التجرد التام المطلوب من تلاميذ يسوع واتباعه. وأصبح إعلان بشارة الله هي مهمّة الرسل وخدمتهم (1 تسالونيقي 2: 2). وما خدمتهم الرسولية إلاَّ امتداد لخدمة الرب يسوع ورسالته. والخدمة الرسولية ما هي إلاَّ خلاص النفوس من خلال البذل والتضحية " لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يُوحَنَّا 15: 13)؛ وخدمة بولس الرسول خير مثالٍ على ذلك كما يتضح من رسالته "فقَد لَقِينا في فيلِبِّيَ العَذابَ والإِهانَةَ كما تَعلَمون، ولكِنَّنا جَرؤْنا، لِثِقَتِنا بِإِلهِنا، أَن نُكلمكم بِبِشارةِ الله في جِهادٍ كَثير"(1 تسالونيقي 2: 2).



ج) التلاميذ الأولين:



خير مثال على إتباع يسوع هو نداء يسوع وطلبه من الأخَوَيْن بُطرُس وأَندَراوس أن يتركا صيد السمك فقالَ لَهما: "اِتْبَعاني أَجعَلْكما صَيَّادَيْ بَشر" (متى 4: 19)؛ وسرعان ما طلب يسوع أيضا من الأخَوَيْن يَعْقُوب بنُ زَبَدَى ويُوحَنَّا (متى 4: 21) أن يتبعاه. فقد طلب يسوع من هؤلاء الصَيَّادَيْن أن يتبعوه ليربحوا الناس إلى ملكوت السماوات ويجذبوا النفوس من حولهم إلى المسيح مثل الصياد الذي يجذب السمك بالشباك إلى قاربه.



لقد قابل الإخوان بُطرُس وأَندَراوس والإخوان يَعْقُوب ويُوحَنَّا يسوع من قبل (يُوحَنَّا 1: 15-42)، وعندما دعاهم يسوع كان يعلمون أي رجل هو، فكانوا على استعداد لاتباعه، بل كانوا مقتنعين حقاً أنَّ إتباعهم له سيغيّر حياتهم. والآن يسوع يدعوهم إلى الخطوة التالية أن يتركوا صيد السمك ويتبعوه. فبدأ الإنجيل بدعوة أربعة أشخاص والعدد أربعة يرمز إلى العالم كله. دُعوا من أجل العالم، وهم اللبنة الأولى في صرح الكنيسة.



كان بُطرُس وأَندَراوس ويَعْقُوب ويُوحَنَّا هم أوائل تلاميذ يسوع المسيح الذين عملوا معه، وقد دفعتهم دعوته إلى ترك أعمالهم فورا. ولم يحاولوا الاعتذار أنَّ الوقت لم يكن ملائماً، بل تركوا عملهم في الصيد وتبعوه. وبقبولهم للمُهمّة الجديدة، اختاروا التّجرّد الكامل عن هموم الوظيفة السّابقة لكي يتفرّغوا يداً وعقلاً وقلباً للرسالة الجديدة. فمن يعرف المسيح حقيقة يترك كل شيء حاسبًا إياه نفاية ويكرس قلبه كليا للمسيح كما حدث مع بولس الرسول " أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجْلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجْلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ" (فيلي 3: 8).



المسيح يدعو الناس، ليس لما هم عليه، بل لما يجعلهم هو أن يكونوا، إذا ما كانوا مستعدين لطاعته والسماح لنور المسيح يُشرق في حياتهم، وإظهار القدرة الإلهية فيهم. يأخذ الربّ يسوع ما لدى الناس العاديّين، مثلنا، ويُمكّنا أن ننجز أشياء عظيمة لملكوته. وقد أظهر القدّيس بولس هذه القدرة فيما كتبه: " ولَم يَعتَمِدْ كَلامي وتَبْشيري على أُسلوبِ الإِقناعِ بِالحِكمَة، بل على أَدِلَّةِ الرُّوحِ والقُوَّة" (1قورنتس 2: 4). فقد رأينا، بالفعل، "صوت" رسل الربّ يسوع يذهب "في الأَرضِ كُلِّها، وأَقوالُهم في أَقاصي المَعْمور" (رومة 10: 18). لذلك، فإنّ كلّ من سمع كلمة الله المُعلَنة بقوّة يصبح ممتلئًا هو نفسه بتلك القوّة الظاهرة من خلال تصرّفاته ونضاله من أجل الحقيقة حتّى الموت. فالتلاميذ الأوائل انتقلوا من مهنة الصيد إلى رسالة النفوس بقدرة المسيح ونعمته. وبالتالي فالمبَشرون بالمسيح هم أصحاب رسالة وليس مهنة.



نستنتج مما سبق أن متى الإنجيلي لخّص رسالة يسوع قائلا " كانَ يسوع يَسيرُ في الجَليل كُلِّه، يُعَلِّمُ في مَجامِعِهم ويُعلِنُ بِشارَةَ المَلَكوت، ويَشْفي الشَّعب مِن كُلِّ مَرَضٍ وعِلَّة" (متى4: 23)، وعليه تقوم رسالة يسوع على التعليم وإعلان بشارة الملكوت (متى 5-7) وشفاء الشَّعب من كل مرض وعلة (متى 8-9)؛ وهذه الرسالة موجّهة ليس فقط إلى الجموع الآتية من اليهودية كما كان الحال مع يُوحَنَّا المعمدان، وإنما للمجموعات آتية من الجَليل والمدن العشر وهي ارض وثنية. كما ورد في إنجيل متى "فتَبِعَتْه جُموعٌ كَثيرةٌ مِنَ الجَليل والمُدُنِ العَشْرِ وأُورَشَليمَ واليَهودِيَّةِ وعِبْرِ الأُردُنّ" (متى 4: 25). وهذه هي رسالة الرسل رسالة للعالم أجمع وهي غير مرتبطة لا في مكان ولا في زمان، بل هي لكلِّ الأوقات ولكلِّ الأزمان ولكلِّ الأجيال.





الخلاصة




شرع متى الإنجيلي في كلامه عن خدمة يسوع العلنية منذ أن أُلقي يُوحَنَّا في السجن. فبدأ يسوع رسالته في الجَليل داعياً إلى التوبة والملكوت السماوات. فتحققت نبوءة أشَعْيا. فحل ملكوت السماوات في شخص يسوع ورسالته. وهذا ما فعله التلاميذ الأوائل فأصبحوا بدورهم مبَشرين بملكوت الله، ملكوت حق، وقداسة ونعمة، وعدل وسلام وخلاص ومحبة وحياة ابديه مع الله.



أمَّا اختيار التلاميذ الأوائل لمشاركته في العمل في حقل الملكوت فما هو إلا مثال للمؤمنين الذين سيسمعون نداء يسوع ويدعوهم إلى التلمذة له. لنلبي الدعوة على خطى بولس الرسول القائل "إِنِّي لا أَستَحيِي بِالبِشارة، فهي قُدرَةُ اللهِ لِخَلاصِ كُلِّ مُؤمِن" (رومة 1: 16). وعلى الإنسان أن يتوب كي يدخل ملكوت السماوات





دعاء



أيّها الآب السماوي، يا من أظهرت ابنك يسوع المسيح نورا للعالم، أعطنا النعمة لنفتح قلوبنا لنوره المقدس على خطى تلاميذه الأوائل، فنصبح علامة خلاص ورجاء للجميع بنشر أنجيل الملكوت وبنائه على الأرض والشهادة له بحياتنا مردِّدين كلمات بولس الرسول " الشُّكرُ للهِ الَّذي يَسْتَصْحِبُنا دائِمًا أَبَدًا في نَصرِه بِالمَسيح. ويَنشُرُ بِأَيدينا في كُلِّ مَكانٍ شذا مَعرِفَتِه. فإِنَّنا عِندَ اللهِ رائِحةُ المسيحِ الطَّيِّبةُ بَينَ الَّذينَ يَسلُكونَ طَريقَ الخَلاصِ وطَريقَ الهَلاك" (2 قورنتس 2: 14-15). آمين




الأب لويس حزبون - فلسطين
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تسميَّات تلاميذ يسوع الأوَّلين
ما هو موضوع رسالة يسوع في الجَليل؟
دعوة يسوع للتلاميذ الأوَّلين الأربعة
مناداة التلاميذ لمغفرة خطايا الناس الذين قبلوا رسالة يسوع
" يسوع ودعوة التلاميذ وإرسالهم"


الساعة الآن 05:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024