|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
حبل مريم بيسوع من الروح القدس ودور يوسف البار الأحد الرابع من المجيء: حبل مريم بيسوع من الروح القدس ودور يوسف البار (متى 1: 18-24) النص الإنجيلي (متى 1: 18-24) 18 أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. 19 وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً. 20 وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: ((يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، 21 وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم)). 22 وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: 23 ((ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل)) أَيِ ((اللهُ معَنا)). 24 فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه، 25 على أَنَّه لم يَعرِفْها حتَّى ولَدَتِ ابناً فسمَّاه يسوع. مقدمة يصف إنجيل الأحد الرابع (متى 1: 18-24) موقف يوسف ودوره تجاه ميلاد يسوع المسيح، "عمّانوئيل"، أيّ الربّ معنا الذي يدخل شخصيّاً في حياة البشريّة، إذ أنَّ السرّ الحقيقي للميلاد هو أنَّ الربّ يسوع المسيح، كلمة الله صار إنسانا مع الناس ليجمع بين الله والناس ويتضامن معهم فأخذ جسدًا قابلًا للموت ليموت به عنا من أجل خلاصنا. وهكذا نزل يسوع إلينا ليرفعنا إلى علوه لِما كان من المستحيل أن نصعد نحن إليه تعالى. لذلك يُعدّ الميلاد ركناً هامّاً من أركان الإيمان المسيحي حيث أصبح الربّ عِمَّانوئيل قريب من الإنسان ومعه كمي يتضامن الإنسان مع أخيه الإنسان. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع نص الإنجيل وتطبيقاته. أولا: وقائع نص الإنجيلي وتحليله (متى 1: 18-24) 18 أَمَّا ميلاد يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس. تشير عبارة "ميلاد" في الأصل اليوناني γένεσις أي تكوين يسوع المسيح. قد تكون الولادة بحسب اللحم والدم، أو ولادة بالتبنِّي. وإن أمر الميلاد الشرعي، الذي أثبته نسب (γένεσις) يسوع، (متى 1: 1) يشير إلى يوسف الذي قَبِلَ يسوع في سلالته، كما جاء في الإنجيل الطاهر "تَراءَى مَلاكُ الرَّبِّ لِيوسُفَ في الحُلمِ وقالَ له: قُم فَخُذِ الطِّفْلَ وأُمَّه" (متى 2: 13)؛ أمَّا عبارة " مَريمَ أُمَّه " فتشير إلى ميلاد يسوع من مريم. كانت مريم عذراء مجهولة الهويّة، والّتي ستكون بدورها علامة قويّة حتى زمننا، لأنَّها تفتتح الأزمنة المسيحانية. ولماذا وُلد السيّد من امرأة أو عذراء؟ فيجيب القديس أوغسطينوس " قائلًا: " لو تجنّب الميلاد منها، لظننا كما لو كان الميلاد منها ينجِّسه، ما دام جوهره لا يتدنّس فلا خوف من الميلاد من امرأة. انظروا، لقد وُلدتُ رجلًا، ووُلدتُ من امرأة، فأنا لا احتقر خليقتي، بل ازدري الخطيئة التي لم أجبلها". أمَّا عبارة " َمخْطوبةً "في الأصل اليوناني μνηστευθείσης فتشير إلى مثابة زواج، وليست كالخطوبة عند المسيحيين أو المسلمين، ويجب أن تمر فترة الخطوبة سنة على الغالب، ولكن يُمكن إطالتها أو تقصيرها، كما تقتضي الأحوال حتى يسكنا معًا ويعرفا بعضهما؛ كانت هذه المدة تمرُّ على البنت وهي في بيت أبيها (تثنية الاشتراع 20: 7)، وكان عدم أمانتها في خلال تلك المدة يُعد زناً يوجب عليها العقاب، وإذا أبى خطيبها أن يتمّم وعده، كان عليه أن يُسلمها كتاب طلاق حسب سُنَّة الطلاق بعد الزواج. وحملت العذراء بيسوع في مدة الخطوبة. أمَّا عبارة "يوسُف" اسم عبري יוֹסֵף (معناه "يزيد") فتشير إلى زوج مريم العذراء (متى 1: 16)، وهو من بيت داود من بيت لحم (متى 1: 20). وقد هاجر إلى الناصرة (لوقا 2: 4)، ومارس مهنة النجارة (متى 13: 55). وشدَّد متى الإنجيلي على رسالة يوسف "أَمَّا أَصلُ يسوعَ المسيح فكانَ أنَّ مَريمَ أُمَّه، لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس"(متى 1: 18)، ورسالته هي الوصول إلى يسوع وارتباطه بمريم، إذ أنَّ يوسف ابن داود تقبل يسوع في سلالته. ويسوع هو ابن داود، مع كونه مولوداً من عذراء، كما جاء في نبوءة أشعيا " فلِذلك يُؤتيكُمُ السَّيِّد نَفْسُه آيَةً: ها إِنَّ الصَّبِيَّةَ تَحمِلُ فتَلِدُ آبناً وتَدْعو آسمَه عِمَّانوئيل" (أشعيا 7: 14)، وهكذا دل متى الإنجيلي من خلال ولادة يسوع على انه يتجذر في سلالة داود. ومن المرجَّح أن يوسف مات قبل أن يشرع يسوع في خدمته العلنية، لأنه في الإنجيل لم يردْ إلاّ أعمال مريم بعد ظهور يسوع للخدمة العلنية بين الناس. أمَّا عبارة "وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا" في الأصل اليوناني πρὶν ἢ συνελθεῖν αὐτοὺς (معناها قبل أن يجتمعا) فتُشير إلى الفترة التي تسبق الزواج حيث كانت مريم على وشك أن تصير زوجة. وقبل حدوث ذلك وُجدت حُبلى من الروح القدس. وبقيت مريم عذراء قبل الولادة بيسوع، وأثناء الولادة، وبعد الولادة؛ يرجّح أن العذراء وجدت حبلى بعد رجوعها من زيارتها نحو ثلاثة أشهر لاليصابات (لوقا 1: 39)، ومعنى ذلك، أن أمرها ظهر لها وليوسف. ويحتمل انه عرف يوسف ذلك من آخرين أخبرتهم مريم به. أمَّا عبارة " حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس" في الأصل اليوناني " εὑρέθη ἐν γαστρὶ ἔχουσα ἐκ πνεύματος ἁγίου. " (معناها وُجدت لها بطن من الروح القدس) فتشير إلى عمل الروح القدس بها " الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً" (يوحنا: 14)، ولكن لم يعرف يوسف ذلك وقتئذٍ. دخل يسوع في التاريخ قبل أن يتمكن الإنسان من أن ينسب أبوة يسوع إلى أصل بشري، أنه عمل الروح القدس. فالحبل بيسوع من الروح القدس دلالة على أنَّ الطفل يسوع ليس عاديا، لأنه "إنسان وإله". فهو إنسان، لأنه وُلد من امرأة، واتخذ منها الطبيعة الجسدية، وعاش كإنسان وعرف اختباراتنا في الحياة وكفاحنا فيها "لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة"(العبرانيين 4: 15)، واستطاع أن يعيش ويموت لخلاص كل من يؤمن به. ويسوع في الوقت نفسه إلهًا حقا، "الذي فيه يسكن كل ملء اللاهوت" (قولسي 2 :9) وهو كلمة الله " في البَدءِ كانَ الكَلِمَة والكَلِمَةُ كانَ لَدى الله والكَلِمَةُ هوَ الله. " (يوحنا 1: 1) وله القوة والسلطان أن يخلصنا من الخطيئة (قولسي 2: 14). ومن هذا المنطلق، فإنه لا يمكن أن يموت يسوع عن نفسه، بل عن البشرية فهو بلا خطيئة وغير وارث للخطيئة الأصلية. وبكون يسوع آدم الثاني ومخلص العالم اقتضى أن يُولد من عذراء بقوة الروح القدس "إنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى"(لوقا 1: 35). وُلد يسوع من عذراء لكي يُولد بلا خطيئة، ومن مخطوبة ليكون اسمها محفوظا من النعم، وليكون لها الحماية من خطيبها، ويكون امر الزواج مُكرَّماً. 19 وكان يُوسُفُ زَوجُها باراًّ، فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً. تشير عبارة "زَوجُها " في الأصل اليوناني ἀνὴρ (معناه رجل) إلى خطيبها بحسب اصطلاح اليهود زمن الخطوبة، لان الخطيب كان يُحسب عندهم كالزوج. فيوسف هو رجل مريم العذراء بحسب طريقة الزواج في البيئة اليهوديَّة، حيث أنَّ الخطوة الأولى في الزواج اليهودي قائمة بمجرد موافقة الأسرتين على الارتباط؛ والخطوة الثانية تقوم بإذاعة الأمر علنًا فيُصبح العروسان مرتبطين برباطٍ لا ينفصم إلاَّ بالموت أو الطلاق. وأمَّا الخطوة الثالثة فهي المساكنة وإتمام العلاقة الزوجيّة الجسديّة. وبما أنَّ مريم ويوسف كانا متواعدين بالزوج فهما كانا في الخطوة الثانية من الزواج، وبالتالي كان الطلاق الشرعي وحده يفسخ الوثاق الذي يربطها؛ أمَّا عبارة " باراًّ " فتشير إلى رجل عادل يعمل ما هو مستقيم الذي يحفظ الفروض والطقوس اليهودية والشريعة اليهودية بغيرةٍ وأمانة (لوقا 2: 21-24)، فهو بار حين فعل ما أمره به ملاك الرب متقبلا مخطط الله ومشيئته وواضعا الشخص وليس الشريعة في المركز الأول؛ وتكرَّرت صفة البار 20 مرة. أمَّا عبارة " فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، فعزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً" فتشير إلى الخطوبة التي هي بمثابة زواج، ولأن المخطوبة عند اليهود تُعامل كالمتزوجة، لذلك كان يحق ليوسف إجراءين جائزين بحكم الشريعة اليهودية والعُرف: إمّا أن يُشهر أمرها، أي أن يحاكمها أمام الشيوخ فتُرجم حسب شريعة موسى، وهو تمام البرّ والعدل، لانَّ الشريعة تطالبه برجمها كما ورد في الشريعة "وإِذا كانت فَتاةٌ عَذْراءُ مَخطوبةً لِرَجُلٍ، فصادَفَها رَجُل في المَدينَةِ فضاجَعَها، فأَخرِجوهُما كِلَيهِما إلى بابِ تِلك المَدينة واَرجُموهما بالحِجارةِ حتَّى يَموتا. أَمَّا الفَتاة، فلأَنَّها لم تَصرُخْ وهي في مَدينة، وأَمَّا الرَّجُل، فلأَنَّه اَغتصَبَ امرأَةَ قَريبِه، فاَقلعَ الشَرَّ مِن وَسْطِكَ" (تثنية الاشتراع 22: 23-24)، أو يُطلقها سرا في الأصل اليوناني ἀπολῦσαι (معناها يترك أو يتخلى عنها) أي أنَّ يطلقها أمام شهود بدون عِلة حتى لا يُشهرها، ويعطيها كتاب طلاق، كما جاء في الشريعة اليهودية "إِذا اتَخَذَ رَجُلٌ اَمرَأَةً وتَزَوَّجَها، ثُمَّ لم تَنَلْ حُظْوَةً في عَينَيه، لأَمرٍ غَيرِ لائِق وجَدَه فيها، فلْيَكتبْ لَها كِتابَ طَلاقٍ وُيسَلِّمْها إِيّاه ولَصرِفْها مِن بَيته"(تثنية الاشتراع 1:24). يُعلق القديس ايرونيموس "إن لم يتخلَ عنها يُحسب يوسف مذنبًا حسب الشريعة، فإنه ليس فقط من يرتكب الخطيئة يتحمّل وزرها، وإنما من يشاهدها ولا يتخذ موقفًا منها"؛ ولان يوسف رجل بار كان ينوي أن يتخذ الإجراء الثاني. فكر يوسف في فسخ الخطوبة دون أن يفضح الأمر دون أن يُلحق بخطيبته مريم أي أذى. أتخذ يوسف مركز الأول الإنسان (مريم) وليس الشريعة (القوانين). فالشريعة في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة الشريعة (مرقس 2: 27). لان البرُّ الحقيقي هو قبل كل شيء الانفتاح على مشيئة الربّ. 20 وما نَوى ذلك حتَّى تراءَى له مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلمِ وقالَ له: ((يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، عبارة "وما نَوى ذلك" في الأصل اليوناني ταῦτα δὲ αὐτοῦ ἐνθυμηθέντος (معناها بينما هو يفكر بهذا الأمر) تشير إلى عمل يوسف الذي لم يكن نتيجة غضب وطيش بل نتيجة تفكير لأجل اتخاذ قراره. والله يُنير جميع الذين يُحبُّون معرفة واجباتهم. لذلك يتوجب علينا أن نتروى قبل أن نحكم على أحد. أمَّا عبارة " مَلاكُ الرَّبِّ " فتشير إلى تدخل الله نفسه (التكوين 16: 7) حيث انه ما من زوج ينتظر منه تصديق حقيقة الحمل البتولي ما لم يُعلن له الحق بكيفية هذا الأمر غير الاعتيادي. والملائكة هم كائنات حيَّة روحيَّة خلقها الله للقيام بما يريده على الأرض. وهم يحملون رسائله إلى الناس (لوقا 1: 26)، ويحمون شعبه (دانيال 6: 22) ويمنحون التشجيع (التكوين 16: 7) ويقدِّمون الإرشاد (خروج 14: 19)، ويُوقعون العقاب (2 صموئيل 24: 16)، ويحرسون الأرض (زكريا 1: 10) ويحاربون قوات الشر (2 ملوك 6: 16)؛ والجدير بالذكر انه ذُكر اسم الملاك الذي أرسل إلى مريم هو الملاك جبرائيل، ولم يُذكر اسم الذي ظهر ليوسف. أمَّا عبارة " الحُلمِ" فتشير إلى وسيلة بها يُكلم الرب يوسف ابن داود وتكشف حضور الرب وإرادته في حياة الإنسان الشخصيّة ويُقدِّم حلول. وقد ورد ذِكر الحلم في إنجيل متى خمس مرات: الحلم الّذي يُنبّه المجوس كي لا يعودوا إلى هيرودس (متّى 2، 12)؛ والحلم الّذي يُنبّه يوسف كي يهرب إلى مصر (متّى 2، 13)، والحلم الّذي يأمر يوسف بالعودة من مصر (متّى 2، 20 و22)؛ وأخيراً حلم زوجة بيلاطس (متّى 27، 19)، الّتي تُرسل إلى زوجها من يقول له بأن لا يكون له أيّة علاقة مع يسوع البارّ، لأنّها حلمت به حلماً أقلقها كثيراً. وكانت الأحلام تعتبر في الشرق وسيلة للإعلان، ولا زالت كذلك حتى يومنا هذا؛ في حين ظهر الملاك لمريم في اليقظة لانَّ تسليم إرادتها وإظهار إيمانها كان ضروريين في الأمر المُعلن لها، وظهر ليوسف في الحلم، لأنه لم يكن بحاجة إلاّ قبوله الإعلان بالإيمان. ولكن بعد ما أتى المسيح وحلَّ الروح القدس لم يبقَ حاجة إلى ظهور الملائكة. أمَّا عبارة "ابنَ داود" فتشير إلى الصيغة العبرية בֶּן־דָּוִד للدلالة على سلالة داود، وان المولود هو المسيح ابن داود المنتظر وان داود هو أب المسيح بالجسد؛ وبتسمية الملاك يوسف "ابن داود" يُذكِره بمواعيد الله لداود من جهة المسيح، ويُهيِّ قلبه لكي ينتظر إتمامها بوساطة خطيبته، ويؤكد له أن ما يأمره به لا يخالف هذا الانتظار. هذا تذكير أنَّ داود هو أب المسيح بالجسد، أو أن المولود هو المسيح ابن داود المنتظر. أمَّا عبارة " لا تَخَفْ" فتشير كشف الملاك ليوسف أفكاره ويُريه أن معضلته وعمله وألمه يعرفها الله، ويريد أن يَحلّ العقدة التي في قلبه، لذلك يُشجِّعه الملاك بان لا يشك، لانَّ الله لا يأتي بشعبه إلى الريب والضيق إلاّ وقد اعدّ لهم بابا للفرج. فيُحسن به ألاَّ يخاف بتبرير مريم ويتَّكل على الله الذي يُبرِّر الإنسان ذو الضمير الصالح من تهمة باطلة. أمَّا عبارة "امرَأَتِكَ" فتشير إلى مريم إنَّها ليست امرأة زانية ولا امرأة عادية بل هي "امرأتك" بإرادة الله، وهو يُسمِّيها كذلك. وفي الواقع، إن الخطوبة في الطقس اليهودي التي تعطي ذات الحقوق والالتزامات الخاصة بالزواج فيما عدا العلاقة الزوجيّة الجسديّة التي تتم بعد المساكنة. هذا هو السبب لدعوة الملاك إيّاها "امرأتك"، وهو دلالة على استحقاق مريم أن تكون زوجة يوسف، وأنها لم تقترف ذنبا يُحرمها تلك النسبة. يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "هنا يدعو الخطيبة زوجة، كما تعوّد الكتاب أن يدعو المخطوبين أزواجًا قبل الزواج. وماذا تعني "تأتي " παραλαβεῖν؟ أي تحفظها في بيتك، فهو كان ناويًا أن يُخرجها. لأنه بالنيّة قد أخرجها. احفظ هذه التي أخرجتها، كما قد عُهد بها إليك من قبل الله، وليس من قبل والديها". أمَّا عبارة " كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" فتشير إلى ولادة يسوع كانت بقوة الله، وقد تكرَّرت هذه العبارة مرتين (متى 1: 18). فقد صار ابن الله ابنَ الإنسان حقيقة، لكنه لم يشترك في الطبيعة الفاسدة التي تسود الجنس البشري. وهكذا صار حمل الله المُنزّه عن كل عيب ذبيحة لائقة بان تتقدَّم عن خطايا الناس. لقد ردّ ترتليانوس على هرطوقيّاً كان يرتعش من فكرة إله يُحبل به وسط الأوجاع، ويُغسل ويُقمّط باللفائف بقوله: "لم يكتف السيّد المسيح بأن يُحبّ العالم، بل إنّه مع الإنسان أحبّ أيضاً أسلوبه في المجيء إلى العالم". 21 وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم. تشير عبارة "ستَلِدُ" إلى يسوع الذي سيُولِدَ من امرأة، فهو لا يحتقر جنس البشر، بل يكره الخطيئة؛ أمَّا عبارة "يسوع" في الأصل اليوناني " Ἰησοῦν مشتقة من اللفظ العبري يشوع יוֹשִׁיעַ (ومعناه "الرب يخلص") فتشير إلى المُخلص، "لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" ( متى 1: 21) وهذا ما أعلنه بطرس هامة الرسل " لا خَلاصَ بأَحَدٍ غَيرِه، لأَنَّه ما مِنِ اسمٍ آخَرَ تَحتَ السَّماءِ أُطلِقَ على أَحَدِ النَّاسِ نَنالُ بِه الخَلاص" (أعمال الرسل 4: 12)؛ وأمَّا اليهود فقد فهموا الخلاص بطريقة غير صحيحة، لان الخلاص بحسب مفهومهم هو التحرر من الرومان أو من أي مصائب وقتية، وما زال البعض حتى الآن يفهمونها هكذا. وكان هذا هو الفهم الخاطئ لتلميذي عمواس "كُنَّا نَحنُ نَرجو أَنَّه هو الَّذي سيَفتَدي إِسرائيل" (لوقا 21:24)؛ أمَّا عبارة "فسَمِّهِ يسوع" فتشير إلى إعطاء الملاك ليوسف البار كرامة أن يمارس الأبوة الشرعيّة، مع أن يسوع ليس من زرعه لأنّ الاسم كان يعطى من قبل الأب. فأعطاه حق تسمّيته، وبالتالي عليه أن يكون أباه؛ يوسف مدعو من الله أن يدخل في التاريخ وأن يتسلّم هذه الأبوة؛ أو قد تشير أنَّ ليوسف دوراً رئيسيا يقوم به، بالرغم من حَبل مريم بقوة الروح القدس، وهو أنَّ يُسمي هذا الولد باسمه فيكون الطفل بذلك من ذرية داود. أمَّا يسوع، فهو عمانوئيل، والرب معنا، هو ابن الله، الرب يُخلص، فهو علامة حضور الله الخلاصي؛ والجدير بالذكر انه في العهد القديم لُقِّب المسيح بالقاب كثيرة ولكن لم يُلقب بيسوع إلاَّ من الملاك جبرائيل عندما بشّر أمّه به قبل ما حَبلت به (لوقا 1: 31). أمَّا عبارة " يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم " فتشير إلى دور يسوع الذي يستطيع أن يخلص القلب من محبة الخطيئة وسلطانها وقوتها، وهو يخلص الإنسان من عقوبة الخطيئة ويصالحه مع الله الآب. إن بيان الخلاص أساسي في مستهل العهد الجديد. فما دام الإنسان تحت سلطة الخطيئة لا يمكن أن يكون من شعب المسيح. أمَّا عبارة " شَعبَه " فتشير إلى اليهود أولا كما جاء في تعليم بطرس الرسول " أَمَّا أَنتم فإِنَّكم ذُرِّيَّةٌ مُختارة وجَماعةُ المَلِكِ الكَهَنوتِيَّة وأُمَّةٌ مُقَدَّسَة وشَعْبٌ اقتَناه اللهُ للإِشادةِ بِآياتِ الَّذي دَعاكم مِنَ الظُّلُماتِ إلى نُورِه العَجيب "(1 بطرس 2: 9)، وبعد ذلك جميع الذين يؤمنون من كلأمَّة " فقَد أَوصانا الرَّبُّ قال: ((جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِتَحمِلَ الخَلاصَ إلى أَقْصى الأَرض)) (أعمال الرسل 13: 47). يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" شعبه ليس هم اليهود وحدهم، وإنَّما يشمل كل من يقتربون إليه، ويتقبّلون المعرفة الصادرة عنه". 22 وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ: تشير عبارة "يَتِمَّ" إلى تحقيق النبوءة بكمالها (متى 5: 17)، حيث أنَّ أقوال العهد القديم تتحقَّق في العهد الجديد، وتكرَّرت عبارة " لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ" نحو 20 مرة في إنجيل متى. وهكذا ارتبط العهدان؛ وبما أن العهد القديم هو كلام الله ومشيئته، فهذا يعني أنَّ مشيئة الله بدأت تَتِم في يسوع منذ حُبِلَ به؛ وأمَّا عبارة " ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ " فتشير إلى الرب الذي هو مصدر النبوءة، والنبي الذي هو الناطق بلسان الله. وهذا هو أول استشهاد لمتى الإنجيلي للدلالة على تحقيق نبوءات العهد القديم عن أحداث يسوع الكبرى (متى 1: 22، 2: 15، 4: 14، 8: 17، 13: 35، 21: 3، 27: 9). 23 ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل)) أَيِ ((اللهُ معَنا)). تشير عبارة "العَذراءَ" παρθένος وفي العبرية הָ עַ לְ מָ ה (معناها الصّبيّة أو الفتاة) إلى فتاة عذراء قد تكون مخطوبة، لكنها غير متزوجة، وجاءت هذه الصفة مطابقة على القدّيسة مريم أمّ يسوع بحسب التقليد المسيحي (متى 1: 13). أمَّا عبارة "ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً" فتشير إلى نبوءة أشعيا، التي أوحي بها نحو سنة 740 ق. م. (أشعيا 7: 37)، وهي أول نبوة من سلسلة نبوات أتى بها متى البشير ليُثبِّت أن في المسيح تتحقق النبوات، وأنه هو المسيح المنتظر. أنها تكشف عن بتول أيّ صّبيّة ستصير أمّ لإنسان يحمل اسمه "عمّانوئيل" أيّ "الله معنا". وأمَّا عبارة " عِمَّانوئيل" فتشير إلى نص أشعيا עִמָּנוּ אֵל أي الله معنا (أشعيا 7: 14) وهو ينسب إلى طبيعة المسيح، لأنه في شخص المسيح، يكون الله في شعبه ويحميهم ويُهديهم ويسوسهم. وقد تنبأ أشعيا بمولد عِمَّانوئيل، أي المسيح المنتظر قبل مولده بسبعة قرون وكانت تنبؤاته رمزا للمسيح " وكانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ "(متى 1: 22). هذه أول نبوءة من سلسلة نبوات أتى بها متى البشير ليُثبت أن يسوع هو المسيح المنتظر. وقد ورد اقتباسات من أسفار العهد القديم في إنجيل متى نحو 47 مرة بشكل صريح، هذا عدا التلميحات. وكانت نبوءة أشعيا عن ملك جديد يخلف الملك آحاز، فصار كلامًا عن الحبل البتولي ومجيء يسوع عِمَّانوئيل؛ أمَّا عبارة "اللهُ معَنا " فتشير إلى الترجمة السبعينية لأشيعا النبي حيث ترجمة من العبرية עִמָּנוּ אֵל عِمَّانوئيل. ويكشف هذا البيان أنَّ يسوع هو الله، وان المسيح هو الرب المُتجسد كما جاء في مقدمة إنجيل يوحنا "الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا (يوحنا 1: 1). ونحن بحاجة إلى مُخلص يكون إلها كاملا وإنسانا كاملا، ولا نجد ذلك إلاَّ في شخص يسوع المسيح الذي هو "عِمَّانوئيل)) أَيِ "اللهُ معَنا". هذه الآية المجانيّة تدل على مبادرة الله المستقبلية باستمرارية حضوره في ابنه يسوع المسيح. 24 فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه تشير عبارة "فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ" إلى تجاوب يوسف مع الله، إذ تبنَّى سر الإله المُتجسد في حياة خطيبته، مريم. غيّر الملاك د خِطَط يوسف الشخصية، وأطاع الله وتمَّم إجراءات الزواج. أمَّا عبارة " فأَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه " فتشير إلى حفظ يوسف مريم في بيته ولم يتخلّى عنها، لأنه كان ناويًا أن يخرجها ـ بل اختار أن يتزوَّجها، كما أراد الله، وان يترك الاختيارين الآخرين وهما: الطلاق من مريم أو تسليمها للرجم. إن حلم يوسف ثبَّت بشارة الملاك لمريم وجعله يتيقَّن عفَّتها فذهب شكَّه في أن يأخذها إلى بيته ويقيم احتفال العرس مقدِّما لها العناية والحماية الواجبة حفظا لصيتها. ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 1: 18-24) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 1: 18-24)، نستنتج انه يتمحور حول دور يوسف في ميلاد يسوع، إذ بفضله يُصبح يسوع من سلالة داود وبالتالي يتحقق الوعد لمريم "وَيُوليه الرَّبُّ الإِلهُ عَرشَ أَبيه داود" (لوقا 1: 32). وعليه فالنص الإنجيلي يكشف أربع حقائق دينية وهي: الحقيقة الأولى: انتماء يسوع إلى سلالة داود بعد أن استهل كاتب الإنجيل الأوّل عمله بـ "سلسلة نسبّ يسوع المسيح" (متى 1: 1-17)، مبتدأً من إبراهيم، مما يؤكد الإنجيلي بأنّ العلاقة الّتي بدأها الله مع إبراهيم قد وصلت الآن إلى ذروتها في ابنه "يسوع المسيح" من خلال يوسف إذ "يَعْقوب ولَدَ يوسُف زَوجَ مَريمَ الَّتي وُلِدَ مِنها يسوع" (1: 16). إن علاقة يوسف بالطفل هي أن يؤمِّن يوسف للطفل أبوَّة شرعية، وبالتالي يؤمِّن له سلالة داود. يوسف كأب بشري ليسوع والّذي سيعطي يسوع اسمًا بشريًا أيّ يعترف أمام الشريعة والمجتمع بأنّه ابنه، حتى وأننا نعلم بأنّ هويّة يسوع الأصليّة إلهيّة قبل أن تكون بشريّة. فكلمة ميلاد γένεσις يسوعَ المسيح الواردة في إنجيل متى (1: 18)، هي اللفظة نفسها التي استخدمت للدلالة على نسب يسوع المسيح γένεσις, في بدء إنجيل متى(متى 1: 1). وهذا النسب هو نسب يسوع بدءا من إبراهيم مرورًا بداود ووصولا إلى يوسف. وبما أنَّ يسوع ليس ابن يوسف بحسب الجسد، فالمطلوب من يوسف أن يعترف به شرعيًا ويتخذه ابنا له بالتبنِّي. وبهذا الاعتراف يُصبح انتماء يسوع إلى نسل داود بالرغم من الحَبل البتولي. هكذا يفي الله بوعده، كما جاء في كتاب المزامير "مِن ثَمَرَةِ بَطنِكَ أجلِسُ على العَرْشِ الَّذي لَكَ" (مزمور 132: 11). وبهذا الأمر دخل يسوع في التاريخ. وأدمجنا في علاقة بنويّة مع الآب. يعلق القديس ساويروس الأنطاكي "هذا الذي كان قبل الدهور مساويًا في الأزليّة للآب ذاته، هو نفسه الذي حُسب في الأنساب حسب الجسد، لأنه إذ هو إله في الحقيقة، صار هو ذاته في آخر الأزمة إنسانًا بدون تغيير، وقد أظهره متّى مشتركًا في طبيعتنا حتى لا يقول أحد أنه ظهر كخيالٍ أو وهمِ"، كما كان يدَّعي مذهب الغنُّوصية. ويشرح القديس يوحنا الذهبي الفم لماذا سمح يسوع لنفسه أن يُدعى ابن داود قائلا: "ذلك ليجعلك ابن الله! سمح لعبد أن يصير له أبًا، حتى يكون لك، أيها العبد، الرب أبًا لك...! وُلد حسب الجسد لتُولد أنت حسب الروح! وُلد من امرأة لكي تكفَّ عن أن تكون ابنًا لامرأة". الحقيقة الثانية: حَبل مريم بيسوع من الروح القدس أكدّ الكتاب المقدّس أن الحبل بيسوع في أحشاء القدّيسة مريم تحقّق بالروح القدس، الذي هيّأها وقدّسها ليحلَّ فيها كلمة الله، ابن الله الوحيد. ويُبيِّن إنجيل متى أن حَبل مريم بيسوع من الروح القدس، إن يسوع ليس من زرع بشر كما جاء الكتاب المقدس " لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف، وُجِدَت قَبلَ أَن يَتَساكنا حامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (متى 1: 18). وتكرَّرت هذه العبارة مرتين ممَّا يؤكد ما جاء في إنجيل لوقا بشأن حبل مريم بقدرة الروح "إِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سَينزِلُ عَليكِ وقُدرَةَ العَلِيِّ تُظَلِّلَكِ، لِذلِكَ يَكونُ الـمَولودُ قُدُّوساً وَابنَ اللهِ يُدعى" (لوقا 1: 35). يوكّد إنجيل لوقا أن مريم حَبلت بيسوع حَبلا بتوليا من الروح القدس (لوقا 1: 31). وكـان لا بدَّ أن يكون ميلاد المسيح من عـذراء حيـثُ سـبقَ وأن وعـد الله آدم وحـواء قائلاَ " وأَجعَلُ عَداوةً بَينَكِ وبَينَ المَرأَة وبَينَ نَسْلِكِ ونَسْلِها فهُوَ يَسحَق رأسَكِ وأَنتِ تُصيبينَ عَقِبَه "(التكوين 3: 15)، والسبب يعـود إلى حقيقـة أساسيـة، وهي توارث الخطيـئـة الأصلية من آدم، ولمـا وجـبَ أن يكون الفادي المخلص بـدون خطيئـة " من ولادتِـهِ إلى موتِـهِ" حتى يستطيع أن يُـكمـل فـداء الجنس البشري وجـب ولادتـهُ من امرأة عـذراء أولاَ ومن دون تـدخـل الرجـل. وثـانيـاَ أن يكون إلهـاَ مُتجسـداَ وإلاّ لمـا استطاع فـداء الجنس البشري بكامله وليهـبها حـق المشـاركـة في حياتـهِ الأبدية ذاتها. يعتبر الحبل البتولي إحدى معطيات تقليد عائلة مريم ويوسف ثم الرسل. الحبل البتولي هو موضوع بشارة الملاك ليوسف، لأنه كان يعاني من اضطراب نفسي في موقفه تجاه مريم خطيبته. فأتى الله يسأله أن يهب لهذا الطفل "كيانه الاجتماعي" وذلك بإطلاق اسم له فيدخله في سلالته " يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع" (متى 1: 20-21). ربَّما من الصعب على الإنسان قبول ما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَمَّا تَمَّ الزَّمان، أَرسَلَ اللهُ ابنَه مَولودًا لامرَأَةٍ " (غلاطية 4: 4). ومفاده أن الربّ يُحبل به ويُولد من امرأة. فقد ردّ العلاّمة ترتليانوس على إنسان كان يرتعش من فكرة إله يُحبل به وسط الأوجاع، ويُغسل ويُقمّط باللفائف فقال "لم يكتف السيّد المسيح بأن يُحبّ العالم، بل إنّه مع الإنسان أحبّ أيضاً أسلوبه في المجيء إلى العالم". أن الحبل به في أحشاء القدّيسة مريم تحقّق بالروح القدس، الذي هيّأها وقدّسها ليحل كلمة الله، ابن الله الوحيد فيها. إنه ليس من زرع بشر، إذ تحقّق الحبَل ومريم مخطوبة للقدّيس يوسف. الحقيقة الثالثة: اسم يسوع -عِمَّانوئيل: أعطى الله ابنه الوحيد يسوع للعالم كما جاء في إنجيل يوحنا " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة "(يوحنا 3: 16)، وقد أنبا أشعيا باسم هذا الطفل " عِمَّانوئيل" ومعناه "الله معنا" (أشعيا 7: 14) وخلاص الشعب يقوم عليه "رَبُّ القُوَّاتِ مَعَنا إِلهُ يَعقوبَ حِصْنٌ لَنا"(مزمور 46: 8). ولانَّ الرب يسوع هو الله، وقد ظهر في الجسد، لذلك فإن الله معنا لكي يجد الناس في يسوع -عِمَّانوئيل الشركة مع الله. فان الله تجلَّي في هذا الطفل يسوع فأصبح " عِمَّانوئيل" أي الله معنا (متى 1: 23)، وفيه انجز الوعد الذي وعد به يشوع بن نون، وهو أن يكون معه وان يعلن ذاته بصفته "الرب" المخلص (تثنية الاشتراع 31: 7-8). "الله معنا"، "عِمَّانوئيل"، الربّ الّذي جعل نفسه واحداً منّا، كي يكون معنا دائما ويصير أخاً من بين أخوة كثيرين (رومة 8: 29)، ويعيش في وسطنا دائماً ليرفع طبيعتنا البشريّة ويُخلصُنا. أنبأ الملاك باسم "عِمَّانوئيل": فسمّاه يوسف "يسوع" أي الله يُخلص (متى 1: 21). والاسم في الكتاب المقدس يُعبّر عن معنى الرسالة الموكلة إلى الشخص. واسم يسوع، وبالعبرية يشوع יוֹשִׁיעַ ومعناه "الرب يُخلص" هو المعنى الحقيقي لرسالة يسوع، كما فسّره متى الإنجيلي "لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" (متى 1: 21)، لان الإنسان لا يستطيع أن يخلّص نفسه بنفسه من نتائج الخطيئة. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "شعبه ليس هم اليهود وحدهم، وإنما يشمل كل من يقتربون إليه، ويتقبّلون المعرفة الصادرة عنه". والخلاص لا يقوم به إلاَّ الله وحده، كما اكّد ذلك بعض الكتبة "فمَن يَقدِرُ أَن يَغفِرَ الخَطايا إِلاَّ اللهُ وَحدَه " (مرقس 2: 7). وهكذا تبيَّن ليوسف أنَّ الطفل الذي كُلف بان يؤمّن له البنوة من سلالة داود، إنَّما هو الله المخلص. ولم يضف إلى اسمه لتعيينه اسم والده وأجداده، كما هو الحال في أفراد الأسر الشهيرة (سيراخ 51: 30)، وإنما أضيف إلى اسمه اسم موطنه الصغير الناصرة، "يسوع الناصري" (يوحنا 19: 19) اهتم متى الإنجيلي كيفية توضيح نبوءات العهد القديم في أحداث حياة يسوع، بقوله "كانَ هذا كُلُّه لِيَتِمَّ ما قالَ الرَّبُّ على لِسانِ النَّبِيّ" (متى 1: 22). فاستشهد بنبوءة أشعيا عن حبل العذراء. "ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمِلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل أَيِ اللهُ معَنا" (متى 1: 23، أشعيا 7: 14). في زمن ادعيا كانت غامضة هذه النبوءة إلا إنها بفارق تسعة قرون تم تحقيقها وأكدها متّى الإنجيلي في أوّل كلماته. ومن الاسمين معًا: "ِعمَّانوئيل" و"يسوع" نفهم أن المسيح هو الرب المُتجسد. رغمًا من التفسير التاريخي لهذه الآية الذي يشير إلى مولد حزقيا ابن آحاز من عذراء παρθένος وقد تترجم أيضا بكلمة صبية، والغرض الأساسي من هذه النبوءة هي إعلان ولادة نسل لداود، وهو أن يسوع سيكون من نسل داود. ونبوءة أشعيا تصرِّح بان العذراء تعطي الطفل اسم عِمَّانوئيل (أشعيا 7: 4 1) الذي يشير إلى طبيعة يسوع الإلهية كما أعلن يوحنا الإنجيلي “الكَلِمَةُ صارَ بَشَراً فسَكَنَ" (يوحنا 1: 14)، إنه " عِمَّانوئيل" (متى 1: 23، ولن يستطيع هذه الاله المخلص أن يكون الله معنا على وجه حقيقي إلا بعد مروره بالموت والقيامة "هكذا ابنُ الإِنسانِ لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ ويَفدِيَ بِنَفسِه جَماعَةَ النَّاس" (متى 20: 28)، " وَلَن يَكونَ لِمُلكِه نِهاية " (لوقا 1: 33)؛ ومع ذلك فإن حضوره لا بد أن ينتهي، فينبغي أن يغادر خاصته (يوحنا 13: 23)، إذ ينبغي له أن يُعدَّ لهم المنازل العديدة التي في بيت الآب السماوي " في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً؟ وإِذا ذَهَبتُ وأَعددتُ لَكُم مُقاماً أَرجعُ فآخُذُكم إِلَيَّ لِتَكونوا أَنتُم أَيضاً حَيثُ أَنا أَكون" (يوحنا 14: 2-3). الحقيقة الرابعة: علاقة يوسف بمريم وبيسوع ا) علاقة يوسف بمريم: إن يوسف خطيب مريم العذراء، كما جاء في إنجيل متى " لَمَّا كانَت مَخْطوبةً لِيُوسُف" (متى 1: 18) وقد سبق وقاله لوقا "عَذْراءَ مَخْطوبَةٍ لِرَجُلٍ مِن بَيتِ داودَ اسمُهُ يوسُف، وَاسمُ العَذْراءِ مَريَم." (لوقا 1: 27). وكخطيب مريم، لم يتخذ يوسف موقف التشهير بها "فَلَمْ يُرِدْ أَن يَشهَرَ أَمْرَها، (متى 1: 19) وإن كان ذلك ممكنا بتطبيق الشريعة التي تسمح بفسخ الخطوبة رسميًا في حال خيانة الخطيبة. لكنه "عزَمَ على أَن يُطلِّقَها سِرّاً"(متى 1: 19)، فيعيد إليها حريتها الكاملة لتسلك الطريق المحفوفة بالأسرار التي ادخلها الله. مرّ يوسف في أزمة لتقبّل ما يطلبه الله منه، لأنه أمام حقيقة جديدة وجذريَّة تفوق توقعاته، والرب يُحقّقها بطريقة لا تخطر على باله. تصرّف يوسف بهذا الإجراء لأنه " كان بارا" (متى 1: 19). وهذا البِّر الذي يتكلم عنه متى الإنجيلي لا يقوم على المطابقة القانونية للشريعة، ولا على الإنصاف تجاه مريم، بل على ما تُعنيه هذه اللفظة في الكتاب المقدس، ألا وهي المطابقة للقصد الإلهي ومشيئته الربَّانية. وهذه اللفظة عزيزة على متى الإنجيلي وتتكرَّر أكثر من 20 مرة في إنجيليه، وهو يستعملها بخصوص هابيل البار (متى 23: 35)، أي ذلك الرجل المؤمن الأمين لله الذي يتنظر تدخل الله في حياته وحياة شعبه. بناء على وحي ملاك الرب له "فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ فأَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه" (متى 1: 24). إذ كشف الملاك ليوسف السرّ الذي ملأ مريم والعظائم التي صنعها فيها روح الله. وبذلك تتغير نظرة يوسف. إن الحقيقة نفسها، التي جعلته يرفض مريم في السر، تدعوه الآن للترحيب بها وأخذها معه. والأمر الذي أبعده في السابق عنها يقرِّبه الآن منها في وحدة أعمق. بما أنَّه رجل بار، اختار أن يضع ثقته بالله أكثر من نفسه ومن أفكاره ومخاوفه. ولذلك، حالما استيقظ، أمتثل يوسف لما سمعه من الملاك، وتمَّ عمل الله. ُيعلق القديس ايرونيموس على ضرورة استمرارية خطوبة يوسف البار مع مريم العذراء بقوله "أولًا: لكي يُنسب يسوع للقدّيس يوسف قريب القدّيسة مريم، فيظهر أنه المسيّح الموعود به من نسل داود من سبط يهوذا. ثانيًا: لكيلا تُرجم القدّيسة مريم طبقًا للشريعة الموسويّة كزانية، فقد سلّمها الرب للقدّيس البار الذي عرف برّ خطيبته، وأكّد له الملاك سرّ حبلها بالمسيّح المخلّص. ثالثًا: لكي تجد القدّيسة مريم من يشاركها في تربية يسوع ورعايته خاصة أثناء هروبه إلى أرض مصر". ب) علاقة يوسف بيسوع أطلع ملاك الرب يوسف على دوره بيسوع، وهو انتماء يسوع إلى داود، وذلك باتخاذ مريم امرأة له، كما قال له الملاك "لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إلى بَيتِكَ" (متى 1: 20). وعمل يوسف بإرادة الله واتخذ من مريم زوجة له "أَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه" (متى 1: 24). ومن هذا المنطلق، أصبح يسوع ابن مريم ابنا ليوسف أيضا. هكذا أعطى يوسف ليسوع سلالة شرعيّة. فيوسف "أبو" يسوع كما جاء في إنجيل لوقا " وكانَ أَبَواهُ يَذهَبانِ كُلَّ سَنَةٍ إلى أُورَشَليمَ في عيدِ الفِصْح"(لوقا 2: 41)، وكما تؤكده مريم العذراء قائلة ليسوع " يا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعتَ بِنا ذلك؟ فأَنا وأَبوكَ نَبحَثُ عَنكَ مُتَلَهِّفَيْن" "(لوقا 2: 48). مِمَّا يُثير التساؤل " كيف يكون يسوع ابن يوسف وبالتالي ابن داود بالرغم من الحبل البتولي؟ يوسف من نسل داود، وحين ينسب له المسيح يكون يسوع ابن داود، إذ اعترف يوسف شرعا بان يسوع هو ابنه. إذ في يوسف وعن طريق تبنّيه ليسوع، يصبح ابن مريم، ابن داود الحقيقيّ، وبه يتمّم الربّ وعده بأن يعطي لداود سليل الملكوت الأبديّ. وهكذا يعقد يسوع علاقة بنوية مع يوسف. فهو من الآن "ابن يوسف" (متى 4: 22). عرّف فيلبس لنثتائيل عن هوية يسوع قال "يسوعُ ابنُ يوسُفَ مِنَ النَّاصِرَة" (يوحنا 1: 45). وكيف أصبح يسوع ابن داود؟ تبنّى يوسف يسوع من خلال عملين: الأول "فأَتى يوسف بِامرَأَتِه إلى بَيتِه" (متى 1: 24) وجعل منها زوجة بحسب العُرف اليهودي، واعترف بالتالي شرعا بأبوة الطفل المزمع أن يُولد. وأمَّا العمل الثاني فان يوسف أطلق اسم على الطفل المولود حسب كلام الملاك "وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع (متى 1: 21). وإطلاق الاسم يُظهر بوضوح عن السلطة الأبوية ، وانَّه أبوه الشرعيّ، لأنّ الاسم كان يعطى من قبل الأب. إن تحديد اسم الولد في إنجيل لوقا مرتبط بالختان "لـمَّا حانَ يَومُ طُهورِهما بِحَسَبِ شَريعَةِ موسى، صَعِدا بِه إلى أُورَشَليم لِيُقَدِّماه لِلرَّبّ" (لوقا 2: 22)، والختان هو الفعل الرسمي الذي يُدخل به أبو العائلة ابنه بعد ثمانية أيام من ولادته في عهد إسرائيل. فكان على يوسف أن يعطي يسوع سلالة شرعيّة. ولذلك فان يسوع بفضل تبنّي يوسف له أصبح ابن مريم ابن داود الحقيقيّ. به يتمّم الربّ وعده بأن يعطي لداود سليل الملكوت الأبديّ. ويصبح داود أبٌ بالتبنّي، وليس بالولادة البشريّة، بحسب الجسد. يعطينا إنجيل متى إثباتا تاريخيا بان يوسف تبنَّى يسوع على الرغم من الحبل البتولي مما يدل على أنَّ يسوع هو ابن الله ومن نسل داود معا. هذه الأحداث تلقاها متى الإنجيلي من عائلة يسوع مستخدما نصوص العهد القديم لتأكيد الأحداث. لقد تمَّم يوسف رسالته في الأمانة للروح القدس، وهذا الروح أيّد إيمان يوسف وعمله. الخلاصة يساعدنا اختيار يوسف لمُهمّة الأب المعلن ليسوع والحامي لبتوليّة مريم أن نفهم كيف لا بدّ أن مريم نفسها كانت فاضلة، وغنيّة بالنعمة. ويدعو الكتاب المقدّس يوسف "البارّ"، ويشمل هذا اللقب كلّ الفضائل مجتمعة. البار بالإيمان يحيا، ولهذا نرى في يوسف، في المقام الأوّل، إيمانه الحيّ. يؤمن بألوهيّة الطفل الّذي يظهر على الأرض فقيراً وبائساً. ويؤمن برغم الاتضاع الّذي يحيطه، ويمنحه هذا الإيمان، كمكافأة، كشف أسرار العليّ، الّتي ترسل إليه من خلال الملاك حول بأمومة مريم. قد آمن بهذه الكلمة: "إِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس" (لوقا 1: 2)، فلم يخف أن "أَتى بِامرَأَتِه إلى بَيتِه" (لوقا 1: 24). ما هو أكثر من هذا، كان عليه أن يؤمن بما لا يمكن تصوّره من ناحية بشريّة: أمومة عذراء، وتجسّد ابن الربّ. وشرعية يسوع كابن داود. وبفضل إيمانه وطاعته استحقّ يوسف بأن تتمّ هذه الأسرار العظيمة تحت سقف بيته. فهو " الوَكيلَ الأَمينَ العاقِلَ الَّذي يُقيمُه سَيِّدُه على عائلته" (لوقا 12، 42)، فكان يقظاً كليّاً للربّ، مستعداً دائماً إلى إيماءاته، منحنياً لخدمته. يكشف مثل هذا التكريس عن محبّة كاملة، إذ أحبّ يوسف الربّ بِكُلِّ قلبِهَ وكُلِّ نَفْسِهَ وكُلِّ ذِهِنهَ وكُلِّ قُوَّتِه. لنستعدَّ لميلاد الرب بشجاعة الإيمان، ولنقدم له قلوبنا، بالاتحاد الروحي مع مريم العذراء والقديس يوسف. وبعونهما وعلى مثالهما، دعونا نخضع لعمل الروح القدس، لكي يُقدِّسنا إله السلام كليًا، ونصبح علامة وأداة رجاء لجميع البشر. دعاء امنحنا، أيّها الربّ الإله، فضيلة صمت يوسف وشجاعته وإيمانه ورجائه كي نعرف حقيقة سرّ يسوع المسيح المتجسد بيننا، ونعيش في اتّحاد وثيق معه، ونواجه الظروف الصعبة والشدائد ببأس، مستندين على كلمة الربّ ومواعده. آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|