منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 10 - 11 - 2022, 05:59 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,275,765

مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ المُلحَّة

مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ المُلحَّة

الأحد التاسع والعشرون: مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ المُلحَّة (لوقا 18: 1-8)




النص الإنجيلي (لوقا 18: 1-8)

1 وضرَبَ لَهم مثَلاً في وُجوبِ المُداوَمةِ على الصَّلاة مِن غَيرِ مَلَل، 2 قال: ((كانَ في إِحدى المُدُنِ قاضٍ لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النَّاس. 3 وكانَ في تلك المَدينَةِ أَرمَلَةٌ تَأتيهِ فتَقول: أَنصِفْني من خَصْمي، 4 فأَبى علَيها ذلِكَ مُدَّةً طَويلة، ثُمَّ قالَ في نَفْسِه: أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس، 5 ولكِنَّ هذِه الأَرمَلَةٌ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي)). 6 ثّمَّ قالَ الرَّبّ: ((اِسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم. 7 أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟ 8 أَقولُ لَكم: إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم. ولكِن، متى جاءَ ابنُ الإنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟ ))


مقدمة

يتناول إنجيل الأحد (لوقا 18: 1-8) مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ. وهذا المثل يُشبه مثل الإلحاح في الصلاة (لوقا 115-8) حيث نجد رجلا يأتيه صديق ليلاً وليس لديه ما يقدِّمه له، لذلك يذهب إلى صديق آخر ويطلب منه بإلحاح خبزًا. وهذا الأخير يقدم له ما يشاء ليس عن كرم ولكن أمام إلحاح الصديق. ومثل هذا اليوم القاضي الظالم ينصف أرملة بسبب انزعاجه من إلحاحها. وهكذا يحثنا يسوع من خلال هذين المثلين على واجب المداومة على الصَّلاة وعدم فتور الهمة للحفاظ على الإيمان ولا سيما إبَّان الضيقات والشدائد والتجارب انتظاراً لمجيء ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح في آخر الأيام. هدف تعليم يسوع من هذا المثل المثابرة في الصلاة، خاصة في وقت المحنة ووقت الصراع، للعيش في الإيمان والرجاء انتظارًا مجيء الرب. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.


أولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 18: 1-8)

1 وضرَبَ لَهم مثَلاً في وُجوبِ المُداوَمةِ على الصَّلاة مِن غَيرِ مَلَل،

تشير عبارة " ضرَبَ لَهم " إلى تعليم يسوع تلاميذه. أمَّا عبارة "مثَلاً " في الأصل اليوناني παραβολή (معناها فكرة المقارنة) فتشير إلى كل قصة قالها يسوع إيضاحاً لتعاليمه تمشيا مع العقلية الشرقية التي تميل إلى استعمال المقارنة في الكلام والتعليم، التي تُحبِّذ اللغز، لأنه يُثير الفضول ويحمل على البحث. فالمثل هو عرض تمثيلي لرموز، أي لصور مقتبسة من الحقائق الأرضية التي تعبر عن الحقائق التي أوحى بها الله (التاريخ المقدس، الملكوت...)، والتي هي بحاجة غالباً إلى المزيد من الشرح العميق. أمَّا عبارة "وُجوبِ" فتشير إلى الالتزام الأخلاقي أو التعهد أو الفرض فهو ليس مسالة شعور أو مجرد تقدير، ولكنه واجب على الإنسان أن يجاهد في الصَّلاة ولا يجوز له تركها. فكل من يمتنع عن الصَّلاة مع قدرته عليها يرتكب إثماً؛ أمَّا عبارة "المُداوَمةِ" في الأصل اليوناني πάντοτε (معناها كل حين) فتشير إلى كل الأوقات ودائما. أمَّا عبارة " المُداوَمةِ على الصَّلاة " فتشير إلى عدم إهمال الصَّلاة بل المواظبة عليها حيث يكون الإنسان مستعدًا إلى بركة الله عليه وإلى معونته دائما، وان يكون قلبه مستعدا لسؤال الله عند الحاجة: في زمن التجربة والشكوك والاضطهاد، كما فعل موسى النبي الذي كان في موقف صلاة متواصلة، لينتصر شعبه على القائد العمالقة وجيوشه الفتّاكة (خروج 17: 12). وقد نادى بذلك بولس الرسول " المداومة على الصَّلاة " (2 تسالونيقي1: 11، ورومة 1: 10 وقولسي 1: 3)، وتدل هذه العبارة على الصَّلاة الدائمة بمعنى أن نضع طلباتنا أمام الله، نحيا له يوميا، مؤمنين دائما أنه يستجيب. وعندما نحيا هكذا، بالإيمان لن نيأس أبداً. نحن بحاجة كل حين إلى الله وبركاته الجسدية والروحية. وتعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع والوجه الأقدس "الصلاة هي اندفاع القلب، هي نظرة بسيطة ملقاة نحو السماء، هي صرخة امتنان ومحبّة وسط المحنة، كما وسط الفرح؛ أخيرًا، هي أمر كبير وخارق يوسّع نفسي ويجعلني أتّحد مع الرّب يسوع" (Ms C, 25). أمَّا عبارة "مَلَل" فتشير إلى الضجر والسأم والابتعاد عن الصَّلاة لشعور الشخص أنَّ صلاته غير مستجابة حالا. ولكن فإن كانت الصَّلاة غير مستجابة حالا علينا أن نواظب عليها، لان الله يستجيب لها في الوقت المناسب. وفي هذا الصدد يقول بطرس الرسول "إنَّ الرَّبَّ لا يُبطِئُ في إِنجازِ وَعْدِه، كما اتَّهَمَه بَعْضُ النَّاس، ولكِنَّه يَصبرُ علَيكم لأَنَّه لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَدٌ، بل أَن يَبلُغَ جَميعُ النَّاسِ إلى التَّوبَة" (2 بطرس 3: 9). يعلق الراهب يوحنّا كاسيان" يكمن كمال القلب في المثابرة والمواظبة على الصلاة بدون انقطاع"(المحاضرات، المحاضرة رقم 9). أمَّا عبارة "مِن غَيرِ مَلَل" فتشير إلى تأكيد وُجوبِ المُداوَمةِ على الصَّلاة إذا يستجب الله حالاً.

2 قال: كانَ في إِحدى المُدُنِ قاضٍ لا يَخافُ اللهَ ولا يَهابُ النَّاس.

تشير عبارة "قاضٍ" إلى أحد القضاة المحليين الذين كان يجلسون عند أبواب المدينة حسب شريعة موسى (ثنية الاشتراع 16) 18) من أجل القضاء بالعدل والحكم في المنازعات، فالقاضي هو أحد القضاة الذين عيَّنهم هيرودس أو الرومان لحل المنازعات البسيطة. وكانت منزلة القاضي تمكِّنه من عمل الخير أو عمل الشر بحكمه عدلا أو ظلمًا. هؤلاء القضاة هاجمهم التلمود بسبب جهلهم وطمعهم، ولأنهم يحرفون حكمهم من خلال تلاعبهم بالألفاظ والحروف. وكانوا يتقاضون أجورا عالية من خزانة الهيكل. كرههم اليهود لهذا السبب فأطلقوا عليهم اسم "قضاة السرقة". أما عبارة "لا أَخافُ اللهَ " فتشير إلى أحد قضاة السرقة، وهو قاض ظالم غير مبالٍ وعديم الضمير ومجرد من المبادئ الخلقية، لا يحترم الشريعة ويفعل ما يحلو له وفقًا لمصالحه الخاصة معتبراً نفسه الإله والشريعة والقانون؛ علما أنَّ القضاة مدعوون أن يصدروا أحكامًا على أساس شريعة موسى ويكونوا" أُناساً مَهَرَةً أَتقِياءَ لِلهِ أَهلاً لِلثِّقَةِ يَكرَهونَ الكَسْب" (خروج 18: 21). لو خاف الله لمنعه ضميره من الظلم. أمَّا عبارة " لا يَهابُ النَّاس" فتشير إلى تصلُّب القاضي الظَّالِم الذي لا يهتم بالناس وحاجتهم، ولا يهتم بما يقوله عنه بعض الناس ويُصدر أحكاماً استبداديّةً بعيدةً عن الحقّ والعدل؛ فهو لامبالي. ولو هاب الناس اجتهد القيام بحقوق القضاء وربح مدحهم. كان فساد القضاء آفة اجتماعية ندَّد بها الأنبياء والحكماء وشيوخ اليهود "هذا كلُه رأَيتُه ووَجَّهتُ قَلْبي إلى كُل عَمَلٍ يُصنعُ تَحتَ الشَّمْس حين يَتَسَلَّطُ الإنسان على إِنْسانٍ لِضَرَرِه"(جامعة 8: 9). وهناك العديد من القُضاة غير العادلين والذين لا ضمير لديهم، مُرشدين عميان، وقادة فاسدين ومعلّمين المُضلّلين لا يخافون الله ولا يهابون الناس. مهابة الناس ومراعاة حقوقهم يقترن بخوف الله. فإذا انتفى أحدهما انتفى الثاني. أمَّا عبارة "النَّاس" في الأصل اليوناني ἄνθρωπον (معناه الإنسان) إلى الوجود الإنساني، وجودي أنا وأنت وهو وهي ونحن وهم. إذا كان في تلك المدينة قاض ظالم واحد، فكم من القضاة الطغاة الذين يتحكمون برقاب الناس وحياتهم في مُدننا وعالمنا؟ ويغلب أن يقترن مهابة الناس ومراعاة حقوقهم بخوف الله. فإذا انتفى أحدهما انتفى الثاني.

3 وكانَ في تلك المَدينَةِ أَرمَلَةٌ تَأتيهِ فتَقول: أَنصِفْني من خَصْمي،

تشير عبارة "أَرمَلَةٌ" إلى امرأة في حالة ضعف لأنها فقدت زوجها، وبقيت وحيدة من دون سند، وحماية ورعاية، وبالتالي أصبحت عرضة للخصم والظلم والجور نتيجة لطمع أهل العدوان فيها. وبالرغم من ضعفها ألحَّت الأَرمَلَةٌ بدون تهديد أو طلب من أيّ أحد أن يتدخّل في قضيّتها، وهي تُمثِّل كل نفس عديمة القوة، التي لا سند لها ولديها خصم رهيب يريد أن يذل كيانها بسبب ضعفها، فهي ضحية الظلم، وهي أكثر الناس احتياجًا للدفاع عنها إذ ليس لديها من يدافع عنها، وليس لديها القوة للمطالبة بحقوقها، وبالتالي رمز لكل من يعاني الظلم. وكانت الأرامل بين جميع الطبقات محرومات من وسائل العون والدفاع في ذلك الزمن، وأكثر الناس تعرضا للتجارب والضيقات وهضم الحقوق. وأكد أنبياء العهد القديم (خروج 22:22-24) أو رسل العهد الجديد (1 طيموتاوس 5: 3) على ضرورة العناية بالأرامل عناية خاصة " هكذا قالَ الرَّبّ: أَجْروا الحُكمَ والبِرَّ وأَنقِذوا المَسْلوبَ مِن يَدِ الظَّالِم، ولا تَتَحاملوا على النَّزيلِ واليَتيمِ والأَرمَلَة، ولا تُعَنِّفوهم"(ارميا 22: 3). أمَّا عبارة " تَأتيهِ" في الأصل اليوناني ἤρχετο (معناها تأتي مرارا كثيرة) فتشير إلى إصرار الأَرمَلَةٌ للحصول على حقوقها من القاضي الظَّالِم؛ ومَن مِنّا لا يريد أن يُصارع من أجل الحصول على حقوقه والتغلّب على الشرّ؟ طالب الحق يناله. أمَّا عبارة "أَنصِفْني" فتشير إلى مطالبة القاضي أن ينصفها بمقتضى وظيفته من خصمها الذي اعتدى عليها. ولمّ يحدد النص شيئاً ولكن يمكن الافتراض أن هذه مسائل تخص ميراث الزوج. بموجب الشريعة، لم تكن الأرملة وارثة عن زوجها، لكن كان يتم ضمان حقها في الحصول على إعالة من ممتلكات زوجها طوال فترة ترمُّلها. في هذه الحالة تحاول الأَرمَلَةٌ الحصول على حقها مطالبة بالعدالة وذلك باِسْتِيفاء حَقَّها وإِزالَةُ الظُّلْمِ عَنْها. وتتكرر كلمة الإنصاف في النص أربع مرات (لوقا 18: 3، 5، 7، 8)، للدلالة على أهميتها؛ فالأَرمَلَةٌ هي ضحية ظلم وتطالب في إحقاق حقها بإلحاح دون يأس رغم قساوة قلب القاضي وعدم إنسانيته؛ كذلك على المؤمن أو الخاطئ أن يلحُّ في صلاته بالرغم من شعوره بضعف حاله، وأنه لا قوة له ولا سند سوى الله؛ أمَّا عبارة "خَصْمي" فتشير إلى ظالمها، حيث انه غير مبال بحالتها، بل استغل غياب زوجها لهضم حقها واغتصاب رزقها. وهنا يرمز إلى إبليس وشهوات الجسد والعالم كما يعلنه بولس الرسول " وَلكِنِّي أَشعُرُ في أَعْضائي بِشَريعةٍ أُخرى تُحارِبُ شَريعةَ عَقْلي وتَجعَلُني أَسيراً لِشَريعةِ الخَطيئَة، تِلكَ الشَّريعةِ الَّتي هي في أَعْضائي"(رومة 23:7). إذا كان في تلك المدينة أَرمَلَةٌ واحدة، لها خصم واحد، هضم حقها وحق أولادها الأيتام، فكم من الأرامل والأيتام المحرومين من أدنى مقومات العيش في مدن وقرى الشرق؟

4 فأَبى علَيها ذلِكَ مُدَّةً طَويلة، ثُمَّ قالَ في نَفْسِه: أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس،

تشير عبارة "مُدَّةً طَويلة" إلى التأخر والتمهل، إذ كان القاضي يماطل الأَرمَلَةٌ ويسد أذنيِّه عن صراخها ويغلق قلبه عن الشفقة عليها، وضميره لم ينتبه لإنصافها. ويأبى النظر في قضيتها وإنصافها والحكم لها؛ أمَّا عبارة "قالَ في نَفْسِه" فتشير إلى ما يُعبِّر القاضي عن فكره بكلام يحدّث فيه نفسه كما ورد في أمثال يسوع: الغنى الجاهل (لوقا 12: 13-16)، والابن الضال (لوقا 15: 17)، والوكيل الخائن (لوقا 16: 3). أما عبارة "أَنا لا أَخافُ اللهَ ولا أَهابُ النَّاس" فتشير إلى تعريف القاضي ذاته بأسلوب مونولوج أي حواره مع نفسه وضميره.

5 لكِنَّ هذِه الأَرمَلَةٌ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي.

تشير عبارة "تُزعِجُني" إلى مُضَايَقَة القاضي وإقلاق راحته؛ وهذا يفسر أن هذا القاضي ليس من القضاة الرسميين الذين لهم مواعيد مُحدَّدة، بل هو من القضاة المحليين، الذين يمكن أن تذهب لهم أي وقت طوال اليوم. أمَّا عبارة "فسَأُنصِفُها " فتشير إلى اتخاذ القاضي قراره لإنصاف الأَرمَلَةٌ الفقيرة ليس بدافع حب العدل أو بحسب ما يمليه عليه ضميره، أو بدافع التعاطف مع الأَرمَلَةٌ، بل رغبة في التخلص من إلحاحها وإزعاجها المُتكرر الذي يُسبب له الصداع. أخذ القاضي قراره لغاية أنانية محضة، إلاَّ أن إلحاح الأَرمَلَةٌ أصاب هدفه؛ فقد نالت ما تريد، لأنها أصرت وصبرت فانتصرت. ويُعلق البابا فرنسيس "سلاح الأَرمَلَةٌ الوحيد هو الإصرار على إزعاجه سائلة إياه أن ينصفها، وبهذه المثابرة حقّقت مأربها". إن القاضي يمتلك قوة القضاء، ولكنه لا يملك قوة الحقيقة، فصبرت الأَرمَلَةٌ وصرخت ونالت، وقد قيل "لا يضيع حق وراءه مطالب". أمَّا عبارة "تَصدَعَ رَأسي" في أصل اللغة اليونانية ὑπωπιάζῃ (معناها تقمعني). فتشير إلى القمع، والقمع هو الضرب بقبضة اليد تحت العين. واستخدم بولس الرسول هذه الكلمة في قوله "أقَمَعُ جَسَدي " (1قورنتس 27:9). والصورة استعارية تشبيهيه بطبيعة الحال، وكأنما القاضي يقول لئلاَّ تأتي عليّ بتوسلاتها مرة بعد مرة، وهذا بالنسبة له كأنه قمع. فإن كان إلحاح الأَرمَلَةٌ قد أحنّت هذا القلب القاسي فكم بالأولى نستعطف قلب الله كلي الحنان. ولسان حال الأَرمَلَةٌ ترنيمة صاحب المزامير "في ضيقي الرَّبَّ دَعَوتُ وإِلَيه إِلهي صَرَختُ فسَمعَ صَوتي مِن هَيكَلِه وبَلَغَ صُراخي مِسمَعَيه"(مزمور 18: 7). ويعلق القديس اوغريس "إن كنتَ لم تنل موهبة الصَّلاة أو التسبيح كن لجوجًا فتنلْ. لا تمِلْ من الانتظار، ولا تيأسْ من عدم نوالك، لأنك ستنال فيما بعد". تعطينا صلاة الأرملة نموذج الصلاة الحقة.

6 ثّمَّ قالَ الرَّبّ: اِسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم.

تشير عبارة "الرَّبّ" في الأصل اليوناني ὁ κύριος (معناه السيد) إلى يسوع (لوقا 7: 13). ويطلق لوقا الإنجيلي هذا اللقب على يسوع نحو (20) مرة للدلالة على مُلك يسوع الخفي، والعهد الجديد يطلق هذا الاسم لا على الآب السماوي وحسب، إنما أيضا على يسوع معترفاً به إلهاً كما جاء في تعليم بولس الرسول " لَم يَعرِفْ حكمته أَحَدٌ مِن رُؤَساءِ هذِه الدُّنْيا، ولَو عَرَفوها لَما صَلَبوا رَبَّ المَجْد" (1قورنتس 2: 8). ويطبِّق لوقا المثل فيقابل بين الله الرحيم وهذا القاضي الظَّالِمه. ومن الواضح أنَّ الرب يسوع لا يحثُّ تلاميذه على الظلم لكن يبيَّن إذا أنصف القاضي الظَّالِم الأَرمَلَةٌ، فكم بالأحرى الله الرحيم العادل. لقد شبَّه لوقا الله بالقاضي الظَّالِم، لكنه نفى عن الله الظلم وتوقف منه على استعداده لإنصاف مختاريه. وتوخى من وراء هذا التشبيه أن يؤثر في خيال السامعين ليُعلمهم ويثقفهم فكأنه أراد أن يقول لهم: إذا كان القاضي الظَّالِم، قد استجاب إلى طلب ِالأَرمَلَةٌ فكم بالحري يستجيب الله، وهو العادل الشفيق، لمن يتضرعون إليه، وهو " أَبو اليَتامى ومُنصِفُ الأَرامل" (مزمور 68: 5)، كونه يعنى بالمظلومين وبالأرامل. أمَّا عبارة " ِاسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم" فتشير إلى الانتباه إلى ما استنتجه يسوع من ذلك. والأرجح أن القاضي لم يذكر ذلك لفظا لكن الله عرف أفكاره وأعلنها.

7 أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟

تشير عبارة "أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ" إلى تشبيه الله بقاض لا عدل عنده (لوقا 16: 1) باستخدام استدلال في صيغة " كم بالأحرى" أو في صيغة "بالأولى". هذا أسلوب عبري شائع في كتابات الربييِّن اليهود، ويُسمونه الخفيف والثقيل، أو من الأصغر إلى الأكبر. مثال "إذا كان الخاطئ أخذ كذا أفلا يحصل البار على أكثر". واستخدم هذا الأسلوب في الشريعة عشر مرات (التكوين 42: 8، الخروج 6: 9، العدد 12: 14). فالمعنى المقصود هنا حاشا لله أن يشبه ذلك القاضي في صفاته ومبادئه، ولكن إذا كان القاضي الظَّالِم قد أنصف الأَرمَلَةٌ كم بالأحرى الله العادل الرحيم يُنصف مؤمنيه الذين يسألونه. وبعبار ة أخرى، إن كان هذا حال قاضي ظالم مع أَرمَلَةٌ ضعيفة أفلا ينصف الله الكلي العدل مختاريه، أصحاب حق، الصارخين إليه ليلا ونهارا. وهذا الموضوع يتردَّد في المزامير " أللَّهُمَّ أَنصِفْني ودافع عن قَضِيَّتيِ مع قَوْمٍ غَيرِ أَصفِياء ومِن صاحِبِ الكَيدِ والإِثْمِ نَجني"(مزمور 43: 1)؛ وهكذا بخلاف القاضي يعطينا الآب السماوي الأشياء الصالحة عن طيبة قلب لأننا أبناؤه كما جاء في تعليم يسوع " فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه " (لوقا 11: 9 -11)؛ ومن ناحية أخرى، في الوقت الذي فيه قرر القاضي أن يُرضي الأَرمَلَةٌ كي يتحرر من إزعاجها، فإن الأمر هو عكس ذلك تماماً للآب السماوي: لا يستجيب الربّ كي يتخلص منا، بل من أجل أن يبقى معنا، لأنه يشفق على آلامنا، ويستمع إلى صلاتنا التي تتطلب عدم التخلي عنا. وهكذا ينتقل لوقا الإنجيلي من قاضي الظلم إلى سلوك الله كما كان الحال في مثل الوكيل غير الأمين الخائِن (لوقا 16: 1-13). أما عبارة " مُختاريهِ " فتشير إلى لقب يدل على عناية الله بشعبه الذي "أختارَه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِيكون في نَظَرِه قِدِّيسا بِلا عَيبٍ في المَحبَّة "(أفسس 1: 4). أمَّا عبارة "يُنادونه نهاراً ولَيلاً " فتشير إلى كلام جارٍ مجرى المثل يشار به إلى المواظبة على الصراخ والصلاة. فالصَّلاة "كنافذة مفتوحة نحو الله من الفجر إلى الفجر"، ليل نهار بحسب تعبير جبران خليل جبران؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إنه تعالى لن يبخل قط ببركاته على من يصلي، لكنه برحمته يحث ُّالبشر ألاَّ يملّوا في الصَّلاة". يدعونا يسوع أن نعيش في موقف من التوقع الثابت، ومن العوز ومن الاعتماد والوقوف أمام الرب بثقة مستمرة، وملحَّة. وهذا هو الإلحاح الذي يطلبه الرب منا أكثر من الإلحاح بتكرار لنفس الطلب. تجعلنا الصلاة المستمرة نثابر في تجارب الحياة الّتي نحياها ونحن في انتظار مجيء الرب وملكوت الله. أمَّا عبارة "يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟" فتشير إلى تأخير له أسباب حكمته ومحبته لا لكراهيته طلباتهم والانزعاج منها بل من اجل إن يبقى معنا ويستمع إلى صلاتنا. وينبغي ألا نخلط بين التأخير والتجاهل، بين الإهمال والإمهال. والمثل الشعبي يقول الله يُمهل ولا يُهمل". أجل! رب العالمين لا يهمل أحداً، ولا يحنث في وعده، ولا يتخلى عن المظلومين، إنما هو تعالى طويل الآناء وكثير الرحمة لمحبيه وحافظي وصاياه كما جاء في صلاة النبي دانيال "أَيُّها السَّيِّدُ الإِلهُ العَظيمُ الرَّهيب، حافِظُ العَهدِ والرَّحمَةِ لِلَّذينَ يُحِبُّونَكَ ويَحفَظونَ وَصاياكَ" (دانيال9: 4). إن الله، خلافًا للقاضي غير الأمين، يستجيب لأبنائه بسرعة، ولو أن هذا لا يعني بأنه يفعله بالوقت والطرق التي نريدها نحن. وفي الوقت المناسب يعطينا الله أكثر مما طلبنا، وأكثر ممّا نظن كما جاء في تعليم بولس الرسول "ذاكَ الَّذي يَستَطيعُ، بِقُوَّتِه العامِلَةِ فينا، أَن يَبلُغَ ما يَفوقُ كثيرًا كُلَّ ما نَسأَلُه أَو نَتصَوَّرُه" (أفسس 20:3)، لذلك يتصور الإنسان أن الله متمهل إذ يطيل أناته وصبره، ولكن التأخير قد يؤدِّي إلى جمود لدى الله مما يُولد حجر عثرة كما يسأل النبي زكريا "يا رَبَّ القُوَّات، إلى مَتى لا تَرحَمُ أُورَشَليمَ ومُدُنَ يَهوذا الَّتي غضِبتَ علَيها هذه السَّبْعينَ سَنَة؟" (زكريا 1: 12) علما أن مجيء المسيح يضاعف الشعور بحجر العثرة عند المسيحين. ويجيب بطرس الرسول " إِنَّ الرَّبَّ لا يُبطِئُ في إِنجازِ وَعْدِه، كما اتَّهَمَه بَعْضُ النَّاس، ولكِنَّه يَصبرُ علَيكم لأَنَّه لا يَشاءُ أَن يَهلِكَ أَحَدٌ، بل أَن يَبلُغَ جَميعُ النَّاسِ إلى التَّوبَة" (2 بطرس 3: 9). ينبئ يسوع هنا بدينونة عاجلة، ولا شك أن لوقا يفكر، في دينونة غير منتظرة، وفي مستقبل غير مُحدَّد (لوقا 17: 22-32). أمَّا عبارة "أَمرِهم" فتشير إلى المختارين أو إلى مضايقيهم. لو كان الله تعالى مثل قاضي الظلم لسمع الصلاة فكم بالأولى يسمعها وهو عادل رحيم مستعد أن يسمع ويستجيب، وفي هذا الصدد يقول صاحب سفر الرؤيا " فصاحوا بِأَعْلى أَصْواتِهم: حَتَّامَ، يا أَيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقّ، تُؤَخِّرُ الإِنْصافَ والاِنتِقامَ لِدِمائِنا مِن أَهلِ الأَرض!" (رؤيا 6: 10). يدعونا يسوع هنا أن نكتشف قدرة الإنصاف الإلهي الّذي يكلل الرّبّ به صراعاتنا ويرافق حياتنا معلنًا أنه القاضي والحاكم بعدل.

8 أَقولُ لَكم: إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم. ولكِن، متى جاءَ ابنُ الإنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟

تشير عبارة "أَقولُ لَكم" إلى تأكيد ورفع كل شك بما يصرّح به. أمَّا عبارة "يُسرِعُ إلى إِنصافِهم" فتشير إلى تدخل الله في حياة المختارين لمنحهم الخلاص. فالله لا يُهمِل لا ضعيفاً ولا مظلوما. فالدينونة عاجلة كما صرّح السيد المسيح "الحَقَّ أَقولُ لَكُم: في جُملَةِ الحاضِرينَ ههُنا مَن لا يَذوقونَ المَوت، حتَّى يُشاهِدوا مَلكوتَ اللهِ آتِياً بِقُوَّة" (مرقس 9: 1)، ولكن في إنجيل لوقا الدينونة هي في زمن غير منتظر وفي مستقبل غير مُحدَّد؛ لذلك الله ينصف الملتجئين إليه في أوّل ما يرى ذلك كما جرى في تمهْله على عائلة لعازر في بيت عنيا (يوحنا 11: 6) وفي تركه تلاميذه في حالة الخوف والاضطراب في البحر فلم يأت لمساعدتهم إلاَّ في الهزيع الرابع (متى 14: 24-25). أمَّا عبارة "متى جاءَ ابنُ الإنسان" فتشير إلى مجيء ابن الإنسان لدينونة الأشرار (لوقا 17: 24-27). وذُكر هنا مجيئه لنجاة الأبرار أيضا. وأكثر الإشارة إلى مجيئه الأخير لدينونة العالم. أمَّا عبارة "ابنُ الإنسان" في الأصل اليوناني ὁ υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου وهي ترجمة لعبارة عبرية בֶן־אָדָם (معناها ابن آدم) وهي تشير في سفر دانيال إلى الشخص الشبيه بابن الإنسان قد أعطي سلطاناً أبدياً وملكوتاً لا ينقرض( دانيال 7 : 13 ) وأمَّا في سفر الرؤيا فتشير إلى المسيح القائم من بين الأموات والمُمجَّد ( رؤيا 1 : 13 و 14 : 14 )؛ وقد استعملت عبارة "ابن الإنسان" والانتصار في السفر غير القانوني المنسوب إلى أخنوخ للدلالة على المسيا كما يأتي في يوم في يوم القضاء (ص 46 : 2 و 48 : 2 و 62 : 7 و 63 : 11 و 69 : 26 و 27 و 70 : 1 و 71 : 17). وفي الأناجيل الأربعة استخدم يسوع عبارة "ابن الإنسان" عن نفسه في ثمانية وسبعين مثلاً. ويستخدم يسوع هذا اللقب في الإنجيل عن نفسه كرأس الجنس البشري ومُمثِّله (مرقس 2: 28) حيث أنَّ العبارة تدل على الإنسانية الحقّة، وتدل في مواضع أخرى على أنه المسيح عندما يتنبأ بمجيئه الثاني وبمجده (متى 26: 64 ومرقس 14: 62) ودينونته لجميع البشر (متى 19: 28)؛ وربما استخدم المسيح هذه العبارة كثيراً لأن فيها دلالة على أنه المسيح، وهي في نفس الوقت تصلح في الإشارة إلى حياته المتواضعة على الأرض كالإنسان الكامل. ومما يستحق الملاحظة هو أن هذا اللقب "ابن الإنسان" لم يُستخدم عن المسيح بعد القيامة سوى مرة واحدة (أعمال الرسل 7: 56). أمَّا عبارة "أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟" فتشير إلى الإيمان المشار إليه هو الإيمان بالله وبفاعلية الصلاة، الإيمان الذي يجعل شعب الله يُصلّون كل حين ولا يملُّون، الإيمان الذي يتَّسم بالإلحاح والثقة والذي ينتظر بأمل عناية الله الأبوية. وفي الواقع سنجد الارتداد عن الدين الذي يحصل في نهاية الأزمنة كما صرّح بذلك بولس الرسول " لا يَخدَعَنَّكم أَحَدٌ بِشَكْلٍ مِنَ الأَشكال. فلا بُدَّ قَبلَ ذلِكَ أَن يَكونَ ارتِدادٌ عنِ الدِّين، وأَن يَظهَرَ رَجُلُ الإِلْحاد، اِبْنُ الهَلاك" (2تسالونيقي 2: 3)؛ أمَّا متى الإنجيلي فيشير بعبارة "أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟" إلى الخطايا التي تزداد على الأرض "يَزْدادُ الإِثْم، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس" (متى 24: 12). يعلق القدّيس قِبريانُس، أسقف قرطاجة " كان يفكِّرُ في زمنِنا الحاضر وها نحن نرى هذه النبوءة تَتحقَّق. مخافة الله، وشريعة العدالة، والمحبّة، وأعمال الرحمة... لم تعدْ هذه القِيَم موضوع إيمان"(عن الوحدة، 26-27). وهكذا يحثنا السيد المسيح على الصَّلاة الدائمة بلا ملل، النابعة عن الإيمان بالله، مستجيب الصلوات، لأنه في أواخر الأزمنة يجحد الكثيرون الإيمان وتبرد المحبة وتتوقف أيضًا الصَّلاة، فيفقد الإنسان صلته وصداقته مع الله. لأنه إن بطل الإيمان بطلت الصَّلاة، لأنه من يصلي لمن لا يؤمن به؟ كما جاء في تعليم بولس الرسول " كَيفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟" (رومة 10: 14). ويُعلق البابا فرنسيس "عبر هذا السؤال قد تمّ تحذيرنا جميعًا: لا ينبغي أن نتوقّف عن الصَّلاة حتى وإن كانت غير مستجابة. فالصَّلاة هي التي تحفظ الإيمان، وبدونها يتزعزع إيماننا! " (مقابلة عامة 25/5/2016). وفي هذا الصدد يتحدث القديس أوغسطينوس عن الإيمان الكامل، "يكون الإيمان نادرًا على الأرض". لكن الصَّلاة تسمح لنا بأن نواصل إيماننا وأن نحافظ على علاقة الثقة مع الله ونقاوم وننتصر عندما نتعرض إلى التجربة أو الألم أم إلى الشك، لانَّ الإيمان بإنصاف الله لنا يتم من خلال الصَّلاة. لذلك أوصى الرسول بولس على الصَّلاة قائلا " كُلُّ مَن يَدْعو بِاسمِ الرَّبِّ يَنالُ الخَلاص " (رومة 10: 13).


ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 18: 1-8)

انطلاقا من الملاحظات الوجيزة حول وقائع النص الإنجيلي، نستنتج أنّ النص يتمحور حول وجوب المداومة على الصَّلاة بلا ملل حفاظا على الإيمان واستعدادا للمجيء الثاني للسيد المسيح.

1. المداومة على الصَّلاة استعداد للمجيء الثاني للسيد المسيح

بعد أن أعطى السيد علامات مجيئه الثاني، وتنبأ عن ضيق شديد يصاحب هذه الأيام، حثَّ المؤمنين على المداومة على الصَّلاة دون ملل أو كلل استعدادا لهذا المجيء. ويُعلق الأب ثيوفلاكتيوس " إذ تحدث ربنا عن المتاعب والمخاطر التي ستحل، وأضاف العلاج في الحال، أي الصَّلاة الدائمة بغيرة. وإن المداومة على الصَّلاة تتطلب اللجاجة في الصَّلاة والصَّلاة ليل نهار.

ا) الإلحاح في الصَّلاة (لوقا 18: 5)

يوصي يسوع بوجوب المداومة على الصَّلاة مقدماً حجة مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ. إذا أنصف القاضي الظَّالِم ارمله، لا حول لها ولا قوة ولا سند، بسبب توسلها غير المنقطع، كما جاء في شهادته " هذِه الأَرمَلَةٌ تُزعِجُني، فسَأُنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تَأتي وتَصدَعَ رَأسي" (لوقا 18: 5)، فكم بالأحرى يستجيب الله القدوس لمختاريه الصارخين إليه ليلا نهاراً طلبا للإنصاف؛ إذا كان القاضي الظَّالِم قد استجاب لإلحاح المرأة الأَرمَلَةٌ ولجاجتها، فكم بالحري يستجيب لنا الإله المُحب العظيم.

إن كان صراخ الأَرمَلَةٌ المظلومة قد غلب القاضي الظَّالِم الذي لا يخاف الله ولا يهاب الناس، حتى وهبها طلبتها بغير إرادته، أليس ذاك الذي يحب الرحمة ويكره الظلم، ويُمد ُّ يده على الدوام لمُحبِّيه، يقبل الذين يقتربون إليه ليل نهار، وينتقم لهم بكونهم مختاريه؟ وفي هذا الصدد صرّح يشوع بن سيراخ “الرب لا يُحابي الوُجوهَ على حِسابِ الفَقير بل يَستَجيبُ صَلاةَ المَظْلوم. لا يُهمِلُ تَضَرُّعَ اليَتيم ولا تَضَرّعَ الأَرمَلَةٌ إِذا سَكَبَت شَكْواها. ألَيسَت دُموعُ الأَرمَلَةٌ تَسيلُ على خَدَّيها وصُراخُها على الَّذي أَسالَها؟ (يشوع بن سيراخ 35: 13-16). القاضي الذي لا يخاف الله وبدون قلب ينتهي به الأمر إلى الحكم بالعدل للأَرمَلَةٌ الملحّة، فما أولى الله الآب الذي يُحب ُّالبشر أن يُنصف من يُحبهم. فإن قد أحسنَّا بحبه له، فلنؤمن بأنه يسمع صراخنا. ويعلق البابا فرنسيس " إنّ قوّة الإنسان هي في الصَّلاة، إنما صلاة الإنسان المتواضع هي ضعف الله. لا يضعف الرب إلاّ أمام ذلك: إنه ضعيف أمام صلاة شعبه". (عظة 16/11/2013). وما هي قوّة الإنسان؟ إنها قوّة الأَرمَلَةٌ التي كانت تتضرّع إلى الله وتسأله وتتذمّر من مشاكلها وألمها وتسأل الربّ أن يشفيها من هذا الألم وكلّ الخطايا والمشاكل.

يعلمنا السيد المسيح من خلال المثل عن ضرورة المداومة على الصَّلاة على خطى الأَرمَلَةٌ التي بلجاجتها غلبت القاضي الظَّالِم بسؤالها المستمر. لذا يوصينا يسوع في الإلحاح في الصَّلاة "وإِنَّي أَقولُ لَكم. اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم. لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ ينال، ومَن يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ له" (لوقا 11: 9-10). ويؤكد ذلك القديس يوحنا الذهبي الفم" ذاك الذي فَداكَ يُظهر لك ما يريده منك أن تفعله؛ يُريدك في صلاة دائمة". كما يقول الرسول: " لا تَكُفُّوا عن الصَّلاة" (1 تسالونيقي 5: 17). ويقول في موضع آخر أن نصلي " في الرُّوح " (أفسس 6: 18)، بمعنى أن الصَّلاة لا تكون فقط في الخارج (بكلمات مسموعة) بل وفي الداخل، فهي عمل العقل والقلب. بهذا يكون جوهر الصَّلاة هو رفع العقل والقلب نحو الله. ويوضِّح القديس باسيليوس الكبير السؤال كيف استطاع الرسل أن يصلوا بلا انقطاع؟ "أنهم في كل شيء كانوا يفعلونه، كانوا يفكرون في الله، عائشين في تكريس دائم لله. هذا الحال الروحي فكانت صلاتهم التي بلا انقطاع، ويؤكد ذلك بولس الرسول بقوله " رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكُم ويَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (رومة 8: 9، 26).

قال يسوع أيضا " مَن يَسأَلُ ينال" (لوقا 11: 9)، هذه الحكمة اتخذت من اختبار المتسولين، المتسول لجوج لأنه يعرف أن لجاجته تنتصر في النهاية على صد الناس له، فكم بالحري أهمية المداومة على الصَّلاة. وفي هذا الصدد يقول القديس أوغسطينوس "صلوا كما لو أنَّ كل شيء يعتمد على الله، واعملوا كما لو ان كل شيء يعتمد عليكم ". وإذا كان الآب السماوي هو الشخص الذي يعطي دائمًا، فإن الإنسان هو الذي يتقبل دائماً: هذا هو الإلحاح الذي نحن مدعوون إليه، والذي لا يتعلق كثيرًا بتكرار لا نهاية له لنفس الطلب، بل بالوقوف أمام الرب بثقة مستمرة، ومُلحّة، بثقة لا حدّ لها.

نستنتج مما سبق أن الإيمان يُترجم خلال حياة الصَّلاة الدائمة، ويُعلمنا المُخلص عن الحاجة إلى الصَّلاة الدائمة خلال المثابرة مثل المرأة التي غلبت القاضي الظَّالِم بلجاجتها. والإلحاح في الصَّلاة يُعيننا على أن نُدرك عمل الله عندما نراه. فعلينا الإلحاح و «الصراخ ليلًا ونهارًا». ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم " تأكد أنك لا تحد صلاتك بجزءٍ معين من اليوم. اتجه إلى الصَّلاة في أي وقت، كما يقول الرسول في موضع آخر: "لا تَكُفُّوا عن الصَّلاة" (1 تسالونيقي 5: 17"). لذا وجب على المسيحي أن يعيش في الله على الدوام بكل فكره ومشاعره؛ وإذ يفعل هذا إنما يصلي بلا انقطاع كما جاء أيضا في تعليم بولس الرسول " وعلى الصَّلاة مُواظِبين" (رومة 12: 12).

ب) الصَّلاة ليل نهار بلا ملل (لوقا 18: 7)

قال السيد المسيح "أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟" السؤال كيف تكون المداومة على الصَّلاة ليل نهار بلا ملل استعداداً لمجيء الرب؟ الصَّلاة ليست مجرد عمل لوقت معين فحسب، إنما هي حالة دائمة للروح. ويخبرنا الرسول بولس أن نصلي " أَقيموا كُلَّ حينٍ أَنواعَ الصَّلاة والدُّعاءِ في الرُّوح" (أفسس 6: 18)، بمعنى أن الصَّلاة لا تكون فقط في الخارج بالشفاه (بكلمات مسموعة) بل وفي الداخل، فهي عمل العقل والقلب. بهذا يكون جوهر الصَّلاة هو رفع العقل والقلب نحو الله. ومن هنا جاءت توصية بولس الرسول "كُونوا في الرَّجاءِ فَرِحين وفي الشِّدَّةِ صابِرين وعلى الصَّلاة مُواظِبين" (رومة 12: 12). وكذلك يوصي بولس الرسول بعدم الفتور "لا تَفتُرْ هِمَّتُكم "(2 تسالونيقي 3: 11).

الصَّلاة هي التي تعطينا تعزية وقت الضيق، وتعطينا ثباتًا وقت الفرح، حتى لا ننجرف وراء أهوائنا وننسى الله. وهذا الاتصال بالربّ يَحمينا من كل محاولات إبليس ضدنا. وإبليس إن وَجَدَ إنسانًا في حالة صلاة لا يستطيع معه شيء. لذا، نجدُ أنّ الرّب يسوع المسيح يحثّنا دومًا على أن نطلبَ منه بحزمٍ ومن دون ملل، "اِسأَلوا تُعطَوا، اُطلُبوا تَجِدوا، اِقرَعوا يُفتَحْ لَكم" (لوقا 11: 9). وتابع: "فإِذا كُنتُم أَنتُمُ الأَشرارَ تَعرِفونَ أَن تُعطوا العَطايا الصَّالِحَةَ لأَبنائِكم، فما أَولى أَباكُمُ السَّماوِيَّ بِأَن يهَبَ الرُّوحَ القُدُسَ لِلَّذينَ يسأَلونَه"(لوقا 11: 13) ويطلب يسوع أن نصرَّ على قرع الباب باستمرار: لأنّه وعدَ بأن يُعطي للذين يطلبون ويصرّون ويقرعون الباب، وليس للذين لا يطلبون. هو يريدُ أن يعطينا الحياة الأبديّة عبر صلاتنا ومناجاتنا وحبّنا له.

يحثُّ يسوع على الصَّلاة "من غير ملل". جميعنا نختبر لحظات تعب وإحباط، لاسيما عندما تبدو صلاتنا غير فعّالة. لكن يسوع يؤكّد لنا أنه على عكس القاضي المنافق، يُسرع الله إلى إنصاف أبنائه، حتى وإن كان هذا الأمر لا يتم في الأوقات والأساليب التي نريدها. ويتضح من هذا كله أن الصَّلاة الدائمة ليست أمرًا عارضًا، بل إنها سمة أساسية للروح المسيحية، حيث أنَّ حياة المسيحي بحسب الرسول "مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله (قولسي 3: 3)، إنها واجب على المسيحي أن يعيش في الله على الدوام بكل فكره ومشاعره؛ وأن يعيش في موقف من العوز والإلحاح مثل الأَرمَلَةٌ، وإذ يفعل هذا إنما يصلي بلا انقطاع!

يُعلمنا بولس الرسول أيضًا أن كل مسيحي يصلي بلا انقطاع. "أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ (1قورنتس 3: 16). هذا الروح دائمًا حال فيه، ويشفع فيه، مصليًا في داخله "بأَنَّاتٍ لا تُوصَف" (رومة 8: 26)، وهكذا يعلمه كيف يصلي بلا انقطاع. ويوضح القديس باسيليوس الكبير كيف استطاع الرسل أن يصلوا بلا انقطاع قائلًا "أنهم في كل شيء كانوا يفعلونه يفكرون في الله، عائشين في تكريس دائم لله. وفي هذه الحالة الروحية كانت صلاتهم ابلا انقطاع".

الله يريد منا الصَّلاة لا تأدية لواجب فحسب، بل كجهاد متواصلٍ؛ ألم يقل المسيح "فمُنذُ أَيَّامِ يُوحنَّا المَعْمَدانِ إلى اليَومِ مَلَكوتُ السَّمواتِ يُؤخَذُ بِالجِهاد، والمُجاهِدونَ يَختَطِفونَه"(متى 11: 12). وكانت صلاة موسى النبي على قمة الجبل لدى محاربة العمالقة لبني إسرائيل في رفيديم مثالا في الثبات على الصَّلاة، وبصلاته أصبح الشفيع لشعبه. فكان شعبه يغلب عندما يرفع موسى ذراعيه للصَّلاة. وهكذا تمكّن الشعب من الحصول على النصر لا بقوّة السلاح، ولكن بقوّة الصَّلاة، قوّة الأيدي المفتوحة (الخروج 17: 8-13). أن نُصلّي، يعني أن نعيش بأيدٍ مفتوحة صارخين لله: حياتنا ليست ملكنا؛ إنها بين يديكَ. أن نُصلّي يعني: أن نعيش موقف الاستسلام بين يدي الله؛ أن نفتح أيدينا لندعه هو يخوض المعركة بدلًا من أن نستخدم أسلحتنا الخاصّة.

تنمو شخصيتنا وإيماننا ورجاؤنا من إلحاحنا في الصَّلاة كما جاء في تعليم بولس الرسول "لِذلِك نُصلِّي مِن أَجلِكم دائِمًا، عَسى أَن يَجعَلَكم إِلهُنا أَهْلاً لِدَعوَتِه وأَنُ يُتِمَّ بِقُدرَتِه كُلَّ رَغبَةٍ في الصَّلاحِ وكُلَّ نَشاطِ إِيمان" (2 تسالونيقي 1: 11). إن المثابرة والإلحاح في الصَّلاة تصنع الكثير من أجل تغيير عقولنا، فمن المفيد أن نصلي كما لو أنَّ الاستجابة تعتمد على صلاتنا، وإن كنا واثقين أن الاستجابة تعتمد على الله.

2. المداومة على الصَّلاة للحفاظ على الإيمان يوم مجيء الثاني للمسيح (لوقا 18: 8)

وعد الله أن ينصف مختاريه وهم ينتظرون مجيء ابنه يسوع المسيح. "أَقولُ لَكم: إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم. ويتسأل صاحب المزامير من أين النصر "أَرفع عَينَيَّ إلى الجبال مِن أَينَ تأتي نُصرَتي؟ نُصرَتي مِن عِندِ الرًّبَ صانع السَّمَواتِ والأَرض" مزمور 121: 1-2). وفي الواقع يطلب موسى النبي من يشوع وأبناء شعبه أن ينظروا إلى قم الجبل في رفيديم لكي يجدوا مساعدتهم هناك -من خلال شفاعة موسى وهو رافع يديه -وهم يدافعون عن أنفسهم ضد أعدائهم العمالقة، الذين يحاولون عرقلة طريق شعب الله نحو أرض الموعد. ومن الوهّم اعتقادنا أننا سنتغلب على الأعداء الذين يعيقون طريقنا بذواتنا أو بالاعتماد على قوتنا. ويظهر موسى هنا كشخصية ليسوع الذي صعد قمة جبل الجلجلة ليمدّ يديه على الصليب بين السماء والأرض للتوسط من أجلنا نحن البشر ضد العدو الأكبر، أي الخطيئة والموت (1 قورنتس 15:15: 26). ولنوجِّه شكوانا مثل شعب العهد القديم والأَرمَلَةٌ ضد خصومنا الذين أحيانا الذين لا حول لهم ولا شفقة رافعين أعيننا إلى الجبال -إلى الجلجلة والله سيحمينا من كل شر.

لكِن، متى جاءَ ابنُ الإنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟" (لوقا 18: 8). لكن مجيئه قد يتأخر ويُنتظر، فهنالك سؤال " حَتَّامَ، يا أَيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقّ، تُؤَخِّرُ الإِنْصافَ؟ " (رؤيا 6: 10). وأسئلة أخرى شائكة: هل اثبت حتى النهاية؟ الستُ معرضٌ للجحود والتخلي البطيء عن الإيمان؟ ألن يتفتت الإيمان أمام الشك والمآسي؟ من يدري؟ تجربة التخلي عن الإيمان تشمل كل زمان ومكان. والمختارون تراودهم هذه التجربة. ضمانهم الوحيد هو المثابرة على الصَّلاة. لا يتركنا الله ما لم نتركه نحن. فيجب ألا نيأس " فلا تَفْتُرُ هِمَّتُنا" (2 قورنتس 4: 1) ومن هذا المنطلق الإيمان هو مسيرة جهاد دائم ومستمرّ. إذا كان الإيمان ضروري لطلباتنا، فهو أيضاً ضروري لنسمع جواب الله.

إذا لم يتدخل الله لإنقاذ المختارين فوراً، فلانَّه متمهِّل على ظالميهم. "أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟ إن كان قد سمع طلبتها ذاك القاضي الظَّالِم الذي يكره أن يسأله أحد، فكم يسمع لنا الله الذي يحثُّنا أن نسأله! الربّ يستجيب في الوقت الذي يراه مناسبًا وقد يتركنا فترة نتنقى فيها كالذهب في البوتقة؛ فإنّه يضع دائماً إيماننا تحت الاختبار كما جاء في تعليم بطرس الرسول "عُدُّوا طولَ أَناةِ رَبِّنا وَسيلةً لِخَلاصِكم" (2 بطرس 3، 15). والربّ يطيل أناته علينا، لأنه كلما نطيل صلواتنا، فنحن نقف أمامه وقتًا أطول، يتمّ فيه إصلاح الداخل والشفاء الداخلي ونشعر بضعفنا واحتياجنا للربّ. فإذا كان أسوأ الرجال الظَّالِمين قد استسلم أمام إلحاح أَرمَلَةٌ فقيرة ألا يُعطي الله الآب لأبنائه كلّ ما يحتاجونه؟ ويعلق أفرام السرياني "ان الصَّلاة المستمرة تحول الظلم والشر إلى رحمة". وفي هذا الصدد يقول البابا فرنسيس "إن الله، محبة بنا، يمكنه أن يحملنا على أن نسير على دروب صعبة ونختبر جراحًا وأشواكًا أليمة ولكنّه لن يتركنا أبدًا، بل سيكون معنا على الدوام، بقربنا وبداخلنا. وبالنسبة للمؤمن هذا أكثر من رجاء، إنه يقين. الله معي، إنه اليقين عينه إذ يقول يسوع: "أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهاراً ولَيلاً وهو يَتَمهَّلُ في أَمرِهم؟ أَقولُ لَكم: إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم" (لوقا 18: 7-8) (مقابلة مع المؤمنين 16/10/2019).

السؤال الآخر "متى جاءَ ابنُ الإنسان، أَفَتُراه يَجِدُ الإِيمانَ على الأَرض؟ " (لوقا 18: 8). الإيمان المقصود هنا هو إيمان المثابرة في الصَّلاة والثبات عليها، إيمان الولاء للمسيح الربّ وانتظار مجيئه. ولذلك يوصي المسيح بأن نصلي دائمًا بإيمان؛ فهناك في الخارج أعداء كثيرون وشياطين ضد الإنسان، وهناك في داخلنا شهواتنا وخطايانا. والسيد يعلن أن كثيرين يسقطون وتبرد محبتهم، حتى يكاد الإيمان أن يختفي، مما يُشير إلى الجحود الذي يحصل في نهاية الأزمنة كما صرّح بذلك بولس الرسول " لا يَخدَعَنَّكم أَحَدٌ بِشَكْلٍ مِنَ الأَشكال. فلا بُدَّ قَبلَ ذلِكَ أَن يَكونَ ارتِدادٌ عنِ الدِّين، وأَن يَظهَرَ رَجُلُ الإِلْحاد، اِبْنُ الهَلاك" (2 تسالونيقي 2: 3). وموضوع الارتداد عن الدين والمترقب حدوثه في أخر الأزمنة هو موضوع تقليدي في الأدب الرؤيوي.

أمَّا متى الإنجيلي فيشير بذلك أن الخطايا ستزداد على الأرض " يَزْدادُ الإِثْم، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس" (متى 24: 12). أن شعلة الإيمان لن تنطفئ عن وجه الأرض، ولكنها ستتأتى أيام لا يأبه فيها الناس للعدالة الإلهية وستنتشر تيارات الكفر والإلحاد وتتكاثر المحن والمصائب، وهذا كله يوجب مضاعفة الصَّلاة. لذا يحثنا يعقوب الرسول على الصَّلاة بإيمان بالله المستجيب الصلوات. قد قيل "فلْيَطلُبْها بِإِيمانٍ مِن غَيرِ أَن يَرْتاب، لأَنَّ المُرتابَ يُشبِهُ مَوجَ البَحرِ إِذا لَعِبَت بِه الرِّيحُ فهاجَتْه. ولا يَظُنَّنَّ ذلك الرَّجُلُ أَنَّه يَنالُ مِنَ الرَّبِّ شَيئًا" (يعقوب 1: 6-7).

يعُلن الكتاب المقدس أنه في الأزمنة الأخيرة يجحد الكثيرون الإيمان وتبرد المحبة وتتوقف أيضًا الصَّلاة، فيفقد الإنسان صلته وصداقته مع الله. هذا هو ما معنى قول يسوع "ألعله يجد الإيمان على الأرض؟ إن سقط الإيمان بطلت الصَّلاة، لأنه من يصلي لمن لا يؤمن به؟ لذلك عندما حثَّ الرسول بولس على الصَّلاة، قال: " فكُلُّ مَن يَدْعو بِاسمِ الرَّبِّ يَنالُ الخَلاص " (رومة 10: 13). ولكي يظهر أن الإيمان هو ينبوع الصَّلاة لذلك أضاف بولس قائلًا: كَيفَ يَدْعونَ مَن لم يُؤمِنوا بِه؟ " (رومة 10: 14). يقول القديس أوغسطينوس "حتى نصلي، يجب أن نؤمن؛ ولكيلا يضعف الإيمان، علينا ان نصلي ". فالإيمان يساعد على نمو الصَّلاة، وعندما تنمو الصَّلاة تجعل إيماننا يتقوى شيئا فشيئا. الإيمان يفيض صلاة، وفيض الصَّلاة يقوي الإيمان.

وحيث أن الإيمان معرض للضعف يجب علينا أن نصلي بلا ملل حتى لا يضعف إيماننا وقت التجربة كما أوصى يسوع "قُوموا فصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبَة"(لوقا 22: 46)؛ ماذا يعني "تدخلوا في تجربة" أي ترك الإيمان؟ فالتجربة تشتد بضعف الإيمان، وتزول بنمو الإيمان. وصرّح السيد المسيح لبطرس الرسول " سِمعان سِمعان، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة. ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ" (لوقا 22: 31-32). يسوع ذاك الذي يحمي إيماننا يصلي، أفلا يصلي ذاك الذي يتعرض للخطر وللتجربة؟ فعلى المؤمن أن يصلي كما أوصى السيد المسيح " إِذا صَلَّيتُم فَقولوا: أَيُّها الآب لِيُقَدَّسِ اسمُكَ لِيأتِ مَلَكوتُكَ. ولا تَترُكْنا نَتَعرَّضُ لِلَّتجرِبَة" (لوقا 11: 2-5). والمسيح نفسه يقول لرسله " حتَّى الآن لم تَسألوا شَيئاً بِاسمي. إِسأَلوا تَنالوا " (يوحنا 16: 24). إنه شفيعنا، إنه كفارة عنا، إنه معزينا، واهبنا كل طلباتنا.

نستنتج مما سبق أن الإيمان هو التسليم والثقة المُطلقة والطريق الوحيد إلى الله، وهو الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرسول إلى السجان: "آمِنْ بِالرَّبِّ يسوع تَنَل الخَلاصَ أَنتَ وأَهلُ بَيِت " (أعمال الرسل 16: 31)؛ الإيمان هو تصديق لما جاء في بشرى الخلاص، ومن هذا المنطلق، القوة ليست في إيماننا وإنما القوة في صحة الخبر الذي نصدّقه. لكن هل سيجد ابن الإنسان، متى جاء، هذا الإيمان، وهل سيجد مؤمنين يناضلون مع الأيدي المفتوحة التي تُصلّي له ليلًا ونهارًا؟ هل سيجد أشخاصاً يعرفون كيف يبقون في حالة من العوز، وينتظرون بأمل، ويثقون بالآب الصالح ويعهدون بأنفسهم إلى عنايته الأبوية؟

يمكننا أن نتوقّع الضيقات والشدائد، لكنّنا لسنا دون إيمان. سوف تكشف دينونة الربّ الأخيرة أنّ عدل الربّ ينتصر على جميع المظالم الّتي ترتكبها مخلوقاته، وأنّ محبّة الربّ أقوى من الموت كما ترنم صاحب النشيد أناشيد (نشيد الأناشيد 8، 6). لذا لا نتردد ان نطبِّق وصية بولس الرسول عن الصَّلاة "أُريدُ أَن يُصَلِّيَ الرِّجالُ في كُلِّ مَكانٍ رافِعينَ أَيدِياً طاهرة، مِن غَيرِ غَضَبٍ ولا خِصام.” (1طيموتاوس 2: 8).


العبرة

ليست العبرة من مثل القاضي الظَّالِم المداومة علىالصَّلاة فحسب، ولكنها اليقين من الاستجابة للصَّلاة أيضًا. اذا كان هذا الرجل الظَّالِم وفاقد الذمة قد استجاب لطلب الأَرمَلَةٌ، كم بالحريّ الله، الذي هو أب صالح وعادل، "يُنصِفُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهارًا ولَيلاً"؛ وأيضًا لن يجعلهم ينتظرون طويلاً بل إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم". الله يستجيب لمن يتوجّهون إليه في فقرهم وفي توسلاتهم.

لذلك يحثّ يسوع على الصَّلاة "مِن غَيرِ مَلَل" على خُطَاه الذي كان يصلي بشكل دائم ليلا نهار وعلى شواطئ البحيرة وفي الصباح الباكر قبل شروق الشمس. لنصلي بلا ملل للحفاظ على الإيمان لدى عودة الرب. قد يُمهِل الله ولكنه لا يُهمِل. قد يمتحن إيماننا ولكنه في النهاية يستجيب لنا، لأنه يريد أن يُمحصنا كما يمحص الذهب في البوتقة والنار، هذا معنى الإيمان، أي الثقة والتصديق والاستسلام لإرادة الله القديرة والمُحِبة.

إن كانت الأَرمَلَةٌ قد وصلت إلى تطويع القاضي غير الأمين بطلباتها الملحّة، كم بالحريّ الله، الذي هو أب صالح وعادل، "يُنصِفُ مُختاريهِ الَّذينَ يُنادونه نهارًا ولَيلاً"؛ وأيضًا لن يجعلهم ينتظرون طويلا بل “إِنَّه يُسرِعُ إلى إِنصافِهم" فاذا كناِ نشعر بالظلم، لنرفع صلاتنا الآن ونبدأ من جديد، ولنلقي جميع همومنا وأحمالنا وإخفاقاتنا على الرب، لأنه ما من شائبة أو هفوة شباب، أو فشل في العائلة أو في الزواج أو في العمل يعسر عليه. فاذا كان الله معنا فمن يقدر علينا. ولا ينبغي علينا أن نتوقّف عن الصَّلاة حتى وإن لم تكن مستجابة. لأن الصَّلاة تحافظ على الإيمان وبدونها يُصبح الإيمان عرضة للشك! لنطلب من الرب إيمانًا يصبح صلاة مستمرّة ومثابرة كصلاة الأَرمَلَةٌ في المثل، إيمانًا يتغذى من الرغبة بمجيئه.


الخلاصة

بعد حديث الربّ مع تلاميذه عن مجيئه الثاني، أراد أن يوجه نظرهم إلى ما ينبغي عمله وهم منتظرون مجيئه. فضرب مثل الأَرمَلَةٌ والقاضي الظَّالِم كي يحثنا على الصَّلاة الدائمة، ولا نمل أبدًا، بل نواظب عليها في أوقاتها. الله سبحانه تعالى ليس كالقاضي الذي يتأخر عن إنصاف الأَرمَلَةٌ عن قصد، ولكنه حينما يتمهل علينا فهو لحكمة عنده ولوقت معين، فعلينا أن ننتظره بصبر وإيمان، واثقين أنه سيستجيب؛ لأنه تعالى الله أبٌ حنون يعطِفُ على أبنائه ويُلبِّي دوماً حاجاتِهِم، بشرط أنْ يداوِموا على الصَّلاة، وأن يثِقوا بحكمته وحنانِهِ إذ إنَّه يختار لهم النِعمة التي توافقهم. وضع الله لاستجابةِ طلبنا شرطَيْن: هما الإلحاح عليه في الطلب، والثقة البَنَويَّة به تعالى. ألم يقل يسوع: "أِسأَلوا تُعطَوا، أُطلُبوا تَجِدوا، إِقرَعوا يُفتَحْ لكُم. لأَنَّ كُلَّ مَن يَسأَلُ يَنال، ومَنْ يَطلُبُ يَجِد، ومَن يَقرَعُ يُفتَحُ لَه (متى 7: 7-8).

يدعونا يسوع إلى الالتزام بالصَّلاة والإيمان، وبعدم اتكالنا على ذواتنا بل على نعمته. أي تشجيع على الصَّلاة أكثر من مثل القاضي الظَّالِم المُقدم لنا؟ فإن القاضي الظَّالِم وهو لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا إلا أنه يصغي إلى الأَرمَلَةٌ التي تسأله، مغلوبًا بلجاجتها. إن كان قد سمع طلبتها ذاك الذي يكره أن يسأله أحد، فكم يسمع لنا نحن ذاك الذي يحثنا أن نسأله "سألوا تَنالوا " (يوحنا 16: 24). إنه شفيعنا، إنه كفارة عنا، إنه معزينا، واهبنا كل طلباتنا (يوحنا 16: 24). وهكذا بالمواظبة على الصَّلاة سيجد ابن الإنسان إيمانًا على الأرض عندما يعود في جلال العزة والبهاء في انقضاء الأيام.


الدعاء

أيُّها المسيحُ إلهُنا ومخَلِّصنا. نرفع أيدينا نحوك، قوّي إيماننا لنواجه الضيقات والصعوبات، واُنصفنا نحن الصارخين إليك ليل نهار بإيمان وبدون ملل، أنت مصدر الحب الذي منه كل عطية صالحة وكل موهبة تامة، فننمو في خدمة الخير ونقهر الشرّ الّذي يُهدّد العالم، فنتقدم نحو عرشك الإلهي بثقة وإيمان ورجاء فاستجب لنا. آمين.


رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ - القاضي غير الأمين
مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ - هل اثبت حتى النهاية؟
مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ - الله سيحمينا من كل شر
مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ - الصلاة بلجاجتها غلبت القاضي الظَّالِم
مثل القاضي الظَّالِم والأَرمَلَةٌ - " ِاسمَعوا ما قالَ القاضي الظَّالِم"


الساعة الآن 08:20 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024