الرب ميراث أحبائه
المزمور السادس عشر
1. المزمور السادس عشر هو مزمور توسّل يعبّر فيه المرتّل عن ثقته بالله. كتبه أحد كهنة الهيكل ليقول إن الربّ قسمته وميراثه، فترك جانبًا كلّ شكوى فرديّة ناظرًا إلى حالة الضياع الناتجة عن تفشّي العبادات الوثنيّة. وحين صلّته الجماعة (خصوصًا آ 3- 4) عبرّت عن التزام الشعب بترك عبادات الأصنام. صلاّه الشعب في المنفى، وعرف أنه لم يبقَ له إلاّ الله، بعد أن وصلت به الحالة إلى حافة الموت، وها هو ينتظر عطفًا من الله ليعود إليه الفرحُ بعد الحزن والبكاء.
2. آ 1- 2: صلاة كلّها ثقة: اللّهم احفظني، بك احتميت. فيك وحدك سعادتي.
آ 3- 4: بعد فعل الإيمان هذا، يعلن المرتّل رفضه لعبادة الأوثان، كما فعل الكثيرون من بني شعبه.
آ 5- 8: ينشد خادمُ الهيكل العهدَ الذي يربطه بالرب، ويتحدّث عمّا ينتظر أحبّاء الله من خير.
آ 9- 11: ويعلن ثقته بأنه سيتقبّل من يد الله ملء الحياة ومستقبلاً أفضل.
أيكون المرتّل أحد الكهنة القلائل الذي ظلّوا أمناء للربّ، فلم يتبعوا عبادة الأصنام، رغم أن الناس تهافتوا عليها وقدّموا إليها التقادم التي يستفيد منها الكهنة. ولكن المرتّل فضّل الفقر مع الأمانة لله على الغنى مع خيانته، فصارت كل رغبته أن يكون في الهيكل يُنشد للرب أجمل المدائح، رغم أنّ الكثرة صارت في الجهة المقابلة، كما حدث في أيّام إيليّا النبيّ (1 مل 18- 19).
3. يعلن المرتّل أنّ الله سعادته وفرحه وحياته كلّها. أما الآلهة فليست بشيء. قد سمّاها "قديسين" (خر 15: 11؛ دا 4: 5؛ 5: 11)، لأن العبرانيين حسبوها أهلاً لكلّ عبادة، فذبحوا لها حتى أولادهم (أش 55: 11)، وجعلوها حصتهم وميراثهم (أش 57: 6). وإكرامًا لها بنوا المذابح وسكبوا السكُب. أمّا بالنسبة إلى المرتّل، فلا إله إلاّ الله الواحد، والربّ حظّه وقسمته وميراثه (كانوا يقسمون الأرض بالحبل ويأخذ كل واحد نصيبه بعد أن يُلقى اسمُه في الكأس).
نظر المرتّل إلى الله وحده، جعل الربَّ نصب عينيه كلّ حين، فأحسّ بحضوره وعونه. الربّ عن يمينه فلا يتزعزع، ولن يخاف الموت بعد اليوم، لأن الرب أقوى من الجحيم والفساد، وهو يملأ قلب المرتّل فرحًا عندما يأتي اسرائيل فيرنّمون في أعالي صهيون... وفي هذا يقول الرب بلسان النبيّ: "وأكوّن نفوسهم كجنّة خضراء ولا يعودون يئنّون من بعد. حينئذ تفرح العذراء في المراقص، والشيوخ يفرحون، وأحوّل نوحهم إلى طرب" (إر 31: 12- 13).
4. الله ينبوع الحياة والحياة بالذات. تعلّم آ 10: "لأنك لا تتركني بين الأموات (في الجحيم) ولا تدع حبيبك يرى القبر". هذا لا يعني أن المزمور يتحدّث عن القيامة بطريقة صريحة، ولكننا نستطيع القول إننا نجد في هذا المزمور وفي المزمورين 49: 16 و73: 24 حديثًا عن حياة لا يستطيع الموت أن يبتلعها، لأن الله ربُّ الأحياء، ولأنه يرتبط بعهد أبديّ مع أحبّائه. ولذلك وردت هذه الآية في خطبة القديس بطرس (أع 2: 25- 28) والقديس بولس (أع 13: 35- 37) كشهادة عن قيامة المسيح وارتفاعه وجلوسه عن يمين الآب. يسوع هو مثالنا، وهو كفيلنا بأننا نستطيع أن ننشد معه نشيد الثقة هذا بعد أن غمَرنا العهدُ الجديد بأنواره. ما نراه اليوم هو صورة باهتة في مرآة، وأمّا في ذلك اليوم فسنرى وجهًا لوجه. "اليوم أعرف بعض المعرفة، وأمّا في ذلك اليوم فستكون معرفتي كاملة كمعرفة الله لي" (1 كور 13: 12).
5. في خدمة الرب
نحن أمام كاهن يعيش في وحدة عميقة وفقر مدقع، ولكنه يكتشف أنه غنيّ ومحاط بحضور عميق. دخل الهيكل، آخر ملجأ للمؤمن، فوجد هناك حماية الرب. لم يعد قلبه مقسّمًا، وما عاد يعرج بين الجانبين مثل كهنة السامرة في أيام إيليا (1 مل 18: 21).
فالإله الحقيقيّ هو منتهى سعادته. وهو يعارض ديانته بديانة هؤلاء المشركين الذين يعبدون آلهة كاذبة وعديدة. هؤلاء يعتبرون نفوسهم متحليّة بالفطنة، لأن عبادة إلهين اثنين أفضل من عبادة إله واحد. وتأتي الأحداث فتبيّن صدق مقالهم بعد أن زاد غناهم وكثُرت ثروتهم. ولكن لا شيء يزعزع المرتّل. فهو لن يتبعهم ولن يمارس أعمالهم.
لقد فهم رسالته ككاهن وسط شعبه. هو لا يملك شيئًا في نظر البشر، ولكن له كل شيء لأن الرب معه. فالرب غناه وميراثه ومنبع إيمانه. والربّ الذي يُعبَد هو فوق الطقوس وشعائر العبادة، وان كانت هذه مناسبة لنعبّر فيها عن حبّنا له.
إذًا الربّ هو ثروة ذلك الكاهن وكنز لا يصل إليه السوس ولا الصدأ (مت 6: 19). حينئذ يهتف أمام كل الباحثين عن القوّة والغنى: ما أعجب ميراثي.
6. الرقاد يدلّ على حريّة النفس التي تحرّرت من الجسد فاستراحت. فحين نسمّي الموت رقادًا، نتذكّر أنه انفصال النفس عن الجسد. إذًا نقود إن مخلّصنا يسوع المسيح رقد في الموت العاديّ الذي تحمّله من أجلنا، وأنه نام حين انفصلت نفسه عن جسده. فعند الراقدين، حين يسكن الجسد، تفعل النفس فتتعلّق بأحلام تحصل لها وتعمل أشياء لا تحتاج فيها إلى الجسد. وهكذا نقول عن المسيح دون أن يكون هناك تماثل تامّ بين الصورة وما تصوّر، بل لندلّ على نشاط النفس المنفصلة عن الجسد والراقدة. قيل عنه "نام ورقد". وأي عجب أن لا يكون هذا الرقاد عند المخلّص بطالة النفس، بل بطالة بالنسبة إلى استعمال الجسد كأداة. فهي تعمل من جهتها. فلا عجب إن قال الرب: أرقد وأنام (رج أي 3: 11- 15). فلقد أتمّ الكثير من أجل خلاص النفوس حين انفصل عن جسده كما قيل في رسالة بطرس الكاثوليكية: "انطلق بهذا الروح إلى الأرواح التي في السجن، وبشّرهم هم الذين كانوا فيما مضى كافرين حين قضى لطف الله بالامهال. وذلك يوم بنى نوح السفينة فنجا فيها بالماء عدد قليل، أي ثمانية أشخاص" (1 بط 3: 19- 20). فبعد هذا الرقاد أعانه الآب وأقامه. فهذا النصّ يسند كلامًا آخر لاوريجانس: "تعرّت نفس المسيح من جسدها، ونزلت إلى الجحيم لتتحدّث إلى النفوس المعرّاة من الجسد، وليردّ إلى الربطّ تلك المستعدّات".
"ويحتفظ يسوع في موته بحريّة التصرّف بنفسه. فقد قال: لا أحد يأخذ نفسي مني. فأنا الذي أبذلها. لي السلطان أن أبذلها أو أن أسترجعها (يو 10: 18). وهذا ما عنيه 88: 6 (حرّ بين الموتى) الذي قيل في شخص المسيح. فهذه الآية تؤكّد أن المخلّص، وإن مات، فهو لم يمت كاللصين اللذين بينهما صُلب. فالموت لم يتغلّب عليه ولم يحتفظ به. هو أخذ صورة العبد، فتحمّل الموت العاديّ. وإن كان أخذ صورة العبد، فلكي يستطيع أن يدخل حيث يتسلّط الموت كما يقول النبي بلسانه: "وُضعت بين الهابطين في الحبّ" (88: 5). وأيضًا: "أية فائدة في دمي حين أنزل إلى الفساد" (30: 10). فهو كملك عادل يريد أن يحارب مستبدًا جائرًا دون أن يريق الدماء، لأنه لا يريد أن يُهلك أخصّاءه المستعبدين لهذا المستبدّ، بل أن يحرّرهم. لهذا أخذ حالتهم، وصار شبيهًا بهم في كل شيء، حتى جعل نفسه تحت سلطة المستبدّ، وأقنعهم أن يتركوه ويعودوا إلى مَلكهم الشرعي. وبعد أن قيّد القويّ وجرّده من قوّته وسلطانه، انتزع منه الذين يحتفظ بهم كأسرى. بهذا الشكل تلاشى المسيح بإرادته، فأخذ صورة العبد، وتحمّل سلطان المستبدّ، وصار طائعًا حتى الموت على الصليب". (اوريجانس).