العقيدة وتكامل الحياة الكنسية
ليست الكنيسة المسيحية مجرد مدرسة تنشغل في بحث العقائد وتقوم بتعليمها، وإنما هي مؤسسة تتعبد لله، وتخدم البشرية؛ تعمل من أجل تغيير العالم وتجديده، وفي رجاء تنتظر العالم الآتي. حقا إن الكنيسة المسيحية لا يمكن أن تكون كنيسة كما نعرفها بدون العقائد المسيحية (2). إذ تفسر العقائد كل فلسفتنا للكنيسة خلال إيماننا المترجم عمليا في التقليد المقدس والكتاب المقدس، والعبادة، والسلوك، والكرازة. كل هذه العناصر معا تمثل جوانب مختلفة لحياة كنسية واحدة.
إن تطلعنا إلي علاقة العقائد بالكتاب المقدس، نلاحظ أنها ليس فقط تقوم علي أساس كتابي، وإنما كل عقيدة لا يوجد لها أساس في الكتاب المقدس تحسب باطلة. العقائد في الواقع مرآة الكتاب المقدس، تفسره وتجتذب البشر للتمتع بروحه.
بنفس الطريقة يمكننا القول بأن العقائد هي الطريق الذي يقود المؤمنين لعبادة الله بالروح والحق؛ وكل عبادة حقة تعلن عقائدنا في بساطة.
ترتبط العقائد باتجاهنا النسكي، فكما سبق لي فأشرت (3) أن اللاهوتيين ورجال الدين الإسكندريين الأوائل كانوا نساكا بالحق، ولا يزال للنسك أثره الفعال علي لاهوتياتنا، لا بجحد أجسادنا كما ادعي بعض الدارسين، وإنما بالتركيز علي الاتجاه الخلاصي، فالنساك الأقباط الأوائل كانوا ممتصين في التمتع بأعمال الثالوث القدوس الخلاصية، أي، بالتمتع بتقديس النفس والفكر والجسد والمواهب الخ.. وذلك بالشركة مع الآب في ابنه بالروح القدس.
كان النسك المصري الأول كتابيا؛ لا يبغض الجسد بحواسه وقدراته، ولا يجحد حرية الإرادة الإنسانية، ولا يحتقر الحياة الأرضية والممتلكات الزمنية. النسك القبطي في جوهره ليس اعتزالا للبشرية بل وحدة مع الله. هذا الاتجاه له أثره علي لاهوتياتنا وعقائدنا، بالتركيز علي "التأله"، بمعني عودة الإنسان إلي صورة الله الأصلية بإصلاح نفسه وفكره وجسده الخ.. كأعداد للتمتع بالفردوس.
أما عن ارتباط العقائد بالسلوك أو الإيمان العملي، فيلزمنا أن نميز بين العقائد الكنسية وإيمان الشيطان، إذ كما يقول القديس يعقوب: "والشياطين تؤمن" (2: 19).
بخصوص علاقة العقائد أو اللاهوتيات ككل بالحياة التقوية العملية، اقتبس كلمات الآن ريتشاردسن: "غالبًا ما يشعر المتدينون أن اللاهوتيات تقيم أفكارا باردة ميتة عوض الإيمان الحي الحار. اللاهوتيات مثل كل دراسة يمكن أن تصير جافة وأكاديمية.. في الحقيقة أن الدين بدون لاهوتيات ناقص ولا يمكن التفكر فيه، تماما كاللاهوتيات بدون تدين: الاثنان مكملان لبعضهما البعض كما يتكامل معا النظريات والتطبيق العملي" (4).
التحام العقيدة بالكرازة واضح من سيامة أغلب عمداء مدرسة الإسكندرية الأولين كباباوات وأساقفة لهذا الكرسي. هؤلاء كانوا علي ثقافة عالية في اللاهوت أي العقائد مع قدرة علي الكرازة وممارسة الأعمال الرعوية.
في اختصار يمكن القول بأن اللاهوت الحقيقي ليس هو ذاك الذي ينشغل بالبحث وتعليم العقائد إنما أيضًا يقبل عقائد الكنيسة التي هو عضو فيها. مثل هذا يدعوه أوريجانوس "رجل الكنيسة" (5)، لا يتحدث باسم الكنيسة فقط إنما يمارس حياتها أيضا.
العقيدة هي ما نؤمن به، ما نتعلمه، ما نعترف به، وما نمارسه.