
حياة الفضيلة والبر
بقلم قداسة البابا شنودة
الشر هو في سوء الأستخدام
هناك أسباب تؤدي إلي الخطية وإلي الشر ، ولعل في مقدمة هذه الأسباب : سوء الإستخدام . فما المقصدو بهذا ؟
إن الله قد وهبنا عطايا كثيرة . ولكننا نسئ استخدامها .
وهناك في الحياة أشياء كثيرة ، يمكن أن تستخدم في الخير ، ويمكن أن تستخدم في الشر .
هي في ذاتها ليست خطية ، إنما الخطية هي في سوء إستخدامها .
***
فما تفسير هذا كله ؟ فلنحاول معاً أن تنفهم الأمور جيداً ، حتي نستطيع أن نحدد اين يوجد الحطأ ؟ وما هو مصدره ؟ ولنبدأ ببعض المواهب ، ونتدرج ايضاُ إلي المادة ، وإلي الغرائز ، وإلي المخترعات ، ونفحص الأمور جيداً .
أعطانا الله عاطفة الحب . وهي ليست خطأ .بل الخطأ هو اننا لا نحب . وقيل عن الله تبارك إسمه
" الله محبة " {1يو8:4}. وقال الرسول " كل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله "{1يو7:4}.
الخطأ هو أن نسئ استخدام الحب ، ونوجهه توجيهاً غير سليم .
***
الحب أصلاً يكون موجهاً إلي الله ، وإلي الناس داخل نطاق محبة الله . ويكون موجهاً إلي الخير والمثاليات ، وإلي السماء والأبدية .
وقد قال الوحي الإلهي " تحب الرب إلهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ، ومن كل قدرتك "{تث5:6}. هذه هي الوصية العظمي في الناموس . والثانية مثلها " تحب قريبك كنفسك "{مت39:22}.
ولكن نخطئ إذا أسانا استخدام الحب ،فأصبحنا نحب العالم أو الجسد او المادة او الذات .
وفي هذا قال الكتاب " محبة العالم عداوة لله "{يع4:4}. وقيل " لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم . إن أحب احد العلم فليست فيه محبة الآب . لأن كل ما في العالم : شهوة الجسد وشهوة العين ، وتعظم المعيشة "{1يو2: 15، 16}.
***
كذلك يخطئ الإنسان إن أحب ذاته محبة خاطئة .
فليس خطأ أن يحب الإنسان ذاته محبو روحية ، كما قيل : تحب قريبك كنفسك " . ولكن إذا أساء استخدام محبته لنفسه ، بحيث توجهت هذه المحبة إلي الجسد والذات ، أو إلي العظمة والكبرياء حينئذ تصبح محبة الذات خطية .
ومن ضمن محبة العالم : محبة المال .
المال ليس شراً في ذاته ، إنما الشر في سوء إستخدامه .
فقد كان أبونا إبراهيم أوب الآباء غنياً ، وكان أمام الله . ,ايوب الصديق كان اغني بني الشرق ، ومع ذلك كان رجلاً كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر {اي8:1}. " وكان أباً للفقراء ، وعيوناً للأعمي ، وأرجلاً للعرج . وكم أنقذ المسكين المستغيث واليتيم الذي لا معين له . وكم جعل قلب الأرملة يسر "{أي29: 12- 16}. لقد استخدم ماله بطريقة سليمة .
وبالمثل كان يوسف رجلاً غنياً {مت75:27}. وهو الذي كفن السيد المسيح ودفنه . وفي الجيل السابق لنا كان إبراهمي الجوهري رجلاً غنياً . وكان إنساناً باراً ينفق علي الكنائس والأديرة ، ويعول الفقراء والمعوزين .
***
ولكن يصير المال شراً ، إذا اسئ إستخدامه ، في اللهو ، وملاذ الدنيا ، أو اعتمد الإنسان عليه ، وصار مجالاً للكبرياء . وليس عيباً أن يمتلك الإنسان مالاً ، إنما العيب ان يمتلك المال هذا الإنسان ..
ليس الغضب شراً في ذاته ، فهناك غضب مقدس .
والغضب المقدس هو الذي يمنح الإنسان الغيرة المقدسة ، والنخوة والشهامة ، والدفاع عن الحق . ويبقي الغضب مقدساً ، إن كانت وسيلة مقدسة ، ودوافعه مقدسة . وهنا نفرق بين الغضب والنرفزة ، فالنرفزة هي تعب في الأعصاب . وقد يضغب الإنسان ، ويبقي في وقاره ، متزناً ، محتفظاً بأعصابه .
وقد غضب موسى النبي ، عندما عبد الإنسان العجل الذهبي ، وأحرق هذا التمثال بالنار ، وطحنه وذراه علي وجه الماء ، وبكت أخاه هرون {خر32: 20، 21}.
***
ولكن إذا إسئ أستخدام الغضب ، يصبح خطية .
وذلك إذا استخدم من أجل كرامة شخصية ، أو بقسوة وبغير سبب يدعو إليه ، أو إذا خلط هذا الغضب بالفاظ غير لائقة ، أو باعتداء ، أو بإهانات وجرح الشعور ، أو بعنف ، أو ببظلم . ففي كل هذا يصبح الغضب خطية ، لأنه قد أسئ استخدامه .
ليس الفن خطيئة ، لأنه يمكن استخدامه في الخير .
نقول هذا عن الشعر ، والموسيقي ، والرسم ، والنحت ، ونقوله أيضاً عن التمثيل في المسرح أو السينما ، وسائر الفنون الأخري إذا كان استخدامها في الخير .
***
كان داود النبي شاعراً ، وكان موسيقياً ....
كان ينظم المزامير شعراً ، ويغنيها علي مزماره وكان يحس الضرب علي العود " {1صم16: 16، 18}. وكان آساف ايضاً شاعراً ومغنياً ، ومريم النبية أخت هرون كانت تضرب علي الدف ، وتغني للرب . وقد فعلت في معجزة شق البحر الأحمر ، وهي تقود النساء في التسبيح {خر15: 20، 21}. والرسول يقول " بمزامير وتسابيح وأغاني روحية ،
مترنمين في قلوبكم للرب " {أف19:5}. والغناء الروحي موجود في الكنيسة في الألحان والتراتيل والتسابيح ، بل في القداس الإلهي نفسه . والمزمور يقول " غنوا للرب أغنية جديدة " " رنموا للرب "{مز98:95}. وسفر نشيد الأناشيد يمكن أن يترجم اغنية الأغنيات The Song of the Songs .
***
إذن الغناء ليس خطأ في ذاته ، ولكن إذا أسئ استخدامه في المجون والعبث ، حينئذ يصبح خطية .
ونفس الوضع بالنسبة إلي الشعر ، وإلي الموسيقي ، يتوقف الخير أو الشر فيهما علي حسن الإستخدام او سوء
الإستخدام . ونفس الكلام نقوله عن الرسم والنحت . فلوقا الإنجيلي كان رساماً . ولا ننسي ميشيل انجلو وأيقوناته في الكنائس . أما الرسامون الذين يسيئون أستخدام الموهبة إلي الغرائز الجسدية ، فهؤلاء يخطئون بسوء الإستخدام .
وتبقي الموهبة صالحة إذا استخدمت حسناً ، كما قيل :
" كل شئ طاهر للطاهرين "{تي15:1}.
هو أيضاً يتوقف خيره أو شره علي أستخدامه .
فالخيال الخيرهو مصدر القصص النافع المفيد ، والشعر الروحي المؤثر ، بل قد يكون مصدراً صالحاًُ للتأمل . ويمكن للإنسان ان يسرح خياله في السماء والملائكة والأبدية ، بل وفي صفات الله نفسه .
ويصبح الخيال شراً ، إذا أسئ استخدامه ، كما في أحلام اليقظة وتصور الشرور في الذهن .
أي إذا سرح خياله في خطية ...
الطموح يكون خيراً إن كان سعياً وراء الكمال .
وفي ذلك قال الرسول " إذا أنسي ما هو وراء ، وأمتد إلي ما هو قدام "{في3: 13}. ولولا الطموح ، ما كان النمو الروحي في الفضيلة ، وما كان السعي إلي استرجاعنا لصورة الله فينا . ويكون الطموح خيراً إذا سعي الإنسان إلي إن يكون ناجحاً في كل عمل تمتد تمتد إليه يده {مز3:1}. كما كان يوسف ناحجاً في كل شئ {تك3:39}.
***
أما إذا أسئ استخدام الطموح ، وصار طموحاً في العظمة والماديات ، وفي الإنتصار علي الآخرين ، حينئذ يصبح خطية .
كذلك إذا قاد الطموح إلي الحسد أو إلي الكراهية ، أو إلي التآمر علي الآخرين لأخذ مراكزهم .. هنا نكون قد أسانا أستخدام الطموح .
العقل موهبة من الله ، يمكن أن تستخدم في الخير وفي الشر .
العقل إذا استخدم في خير الإنسان روحياً ، وفي خير البشرية ، وفي التوصل إلي السلوك السليم ، حينئذ يتحول إلي
حكمة طاهرة نافعة .
***
ولكن العقل يسئ البعض استخدامه ، كالخطاة والمجرمين وكالشيطان نفسه .
ومن هنا قد يستخدم العقل في تدبير المؤامرات ، مثلما كان يفعل اخيتوفل . ومثلما استخدمت الملكة إيزابل عقله في الفتك بنابوت اليزرعيلي {1مل21} ومثلما يدبر الشيطان لإهلاك البشر ، ومثلما يفعل العظماء في إختراع أسحلة تدميرية فتاكة . وكما يفعل أصحاب الحيل والدهاء والمكر ...
هنا يكون قد اساء استخدام عقله ، في ضرر الآخرين او ضرر نفسه .
يمكن أستخدام الإختراعات في الخير أو في الشر .
الطاقة الذرية مثلاً التي استخدمت في تدمير هيروشيما ، يمكن أن تستخدم سلمياً من أجل خير البشرية . هي ليست شراً في ذاتها ، ولن الشر يمكن في سوء إستخدامها .
يسأل البعض أحياناً : هل الراديو والتلفزيون حلال أم حرام ، خير أم شر ؟ وكذلك التمثيل ؟
يمكن استخدام هذه المخترعات في الخير ، إذا اشرف عليها أناس روحيون يهتمون بنقاوة القلب والفكر ، وبقيادة الإنسان في طريق الخير .
والكنيسة تستخدم المخترعات الحديثة .
مثل الميكروفونات ، ومكبرات الصوت ، والفيديو ، واجهزة التسجيل ، وكل المخرعات النافعة .
***
ويمكن أن يستخدم المسرح والتمثيل في متعة الناس روحياً .
وذلك بتقديم روايات دينية من الكتاب المقدس ، أو من تاريخ الكنيسة ، أو حتي من الخيال ، المهم ان تترك ثأثيرها الروحي العميق في نفوس مشاهديها .
يمكن أستخدامها في الخير ، وإذا أسئ استخدامها تصبح شراً .
والدين يدعونا أن نكون أقوياء . والإنسان القوي الشخصية ، هو إنسان نافع للمجتمع ، ونافع لسرته ، ونافع لنفسه في الإنتصار علي كل إغراءات الشر . وهنا أحب ألا يفهم الناس الوتاضع فهماً خاطئاً ، يكون مظهره الضعف والتخاذل .
***
فالسيد المسيح كان متواضعاً جداً ، وفي نفس الوقت كان قوي الشخصية ، وكان يفحم الكتبة والفرسين والصدوقيين وغيرهم في كل حواره معهم . وكانوا يشعرون بقوته وكان الجميع يبهرون بشخصه ...
***
ولكن إذا أسئ أستخدام القوة ، وتحولت الي البطش والعنف ، أو الاستبدال والتسلط أو تحولت إلي الأرهاب والظلم ، حينئذ تصبح شراً .
وهنا نميز بين القوي العادل النافع ، وبين القوي المغلوب من نفسه المتسلط علي غيره كل شئ نافع إذا أسئ أستخدامه يتحول إلي شر .
لا أظن أن أحدأ في العالم يقول أن الحرية شر . ولكن لأشك أن سوء إستخدام الحرية هو خطية بلا شك .
كأن يستخدم إنسان حريته في فعل ما لايليق ، أو بغير ضابط خلقي .. أو أن يستخدم حريته في اقلاق الآخرين وإرعاجهم ، أو في ان يكون عثرة لهم ، وسبباً في سقوطهم .
أو أن يستخدم حريته في اللعب واللهو ويترك دروسه فيقشل .
أو أن يستخدم الإنسان حريته في الإعتداء علي حريات الأخرين أو علي حقوقهم ، أو في إنتهاك النظام العام ..
هنا يكون الإستخدام السئ للحرية خطية .
ليست الغريزة خطأ في ذاتها ، وإلا ما خلقها الله فينا .
كما أن المادة ليست خطأ في ذاتها ، وإلا ما كان الله خلقها . إنما المهم أن تسير الغريزة في مجراها الطبيعي ،
ولا يساء استخدامها ...
وموضوع الغرائز موضوع طويل ليس الآن مجاله ...
ونفس الكلام نقوله علي الرغبات .
المادة ليست شراً في ذاتها ، إذا أسئ إستخدامها تتحول إلي شر .
كذلك إذا أحبها الناس أكثر من الله ، أو إذا سيطرت محبتها في قيادة الإنسان ، بحيث يقولون عنه إنه إنسان مادي ..
أي أن المادة استخدمت باسلوب قضي علي روحياته ومثالياته ومحبته للخير ...
ومن منطلق هذا المفهوم نتكلم أيضاً علي الخمر .
الخمر – كمادة ليست شراً . ولكن الإستخدام السئ للخمر هو الشر . ونحن لا نحرم الخمر كمادة ، ولكن نحرم
استخدامها السئ .
أخطر ما في الخمر هو الكحول ، هو الذي يتلف الصحة والإرادة ، ويقود إلي السكر ويضيع هيبة الإنسان ، إن زاد مقدار الكحول عن الحد ....
ولكن الحكول ليس شراً في ذاته ، ونح لا نحرمه .
وكثيراً ما نستخدم الحكول في عديد من الأدوية ، وفي العطور ، وفي الصناعات وفي الوقود . ولكن الإستخدام السئ للكحول في إتلاف صحة الإنسان ، او في إشعال الحرائق ، وما يماثل ذلك ، هذا هو الخطأ .