منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني) (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=824738)

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 07:58 PM

كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)

القس بيشوي فايق






1- يتساءل البعض قائلين ما ذنب عيسو الذي أبغضه الله، ولم يحبه كيعقوب أخيه؟ ولماذا لم يقبل الله توبته حينما تاب؟ ولماذا فضل الله عليه أخاه يعقوب وهما في رحم أمهما بحسب قول الكتاب: "وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا:«إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»." (رو 9: 13)
السؤال الأول

يتساءل البعض قائلين ما ذنب عيسو الذي أبغضه الله، ولم يحبه كيعقوب أخيه؟ ولماذا لم يقبل الله توبته حينما تاب؟ ولماذا فضل الله عليه أخاه يعقوب وهما في رحم أمهما بحسب قول الكتاب: "وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ رِفْقَةُ أَيْضًا، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ وَاحِدٍ وَهُوَ إِسْحَاقُ أَبُونَا. لأَنَّهُ وَهُمَا لَمْ يُولَدَا بَعْدُ، وَلاَ فَعَلاَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، لِكَيْ يَثْبُتَ قَصْدُ اللهِ حَسَبَ الاخْتِيَارِ، لَيْسَ مِنَ الأَعْمَالِ بَلْ مِنَ الَّذِي يَدْعُو، قِيلَ لَهَا:«إِنَّ الْكَبِيرَ يُسْتَعْبَدُ لِلصَّغِيرِ». كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ»." (رو 9: 10- 13).



الإجابة:

حاشا لله أن يكون له هوى، فَيحُب أحدًا ويكره أحدًا بحسب مزاجه أو هواه، فالله ليس له هوى أو مزاج كالبشر، بل هو يحُب الجميع ويريد خلاصهم بحسب قول الكتاب: "الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ." (1تي 2: 4). إن الله ليست عنده محاباة، وهو يريد قبول جميع البشر إليه كقول معلمنا بطرس الرسول: "فَفَتَحَ بُطْرُسُ فَاهُ وَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ" ( أع: 10: 34-35).



ولكن دعونا نُفَنِد عدم صحة هذا الفهم الخاطئ:

أولًا: الخلاص ليس مقصورًا فقط على فئة من الناس بل كل إنسان مدعو للخلاص:
لم يَقصرُ الله الخلاص على المختارين من الآباء مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا على نسل بني إسرائيل فقط. لقد كان اختيارهم بهدف تكوين كنيسة الله (التي تحمل للبشرية كلها دون محاباة أو تعصب نعمة وخلاص الله). وفيما يلي بعض الأدلة على ذلك:

· لم يخلص كل شعب إسرائيل، أي المولودين بحسب الجسد من إبراهيم، ولا كل المولودين من إسحاق أو من يعقوب، ولم يحسب الله كل المولودين منهم أولادًا له كقول الكتاب: "... لأَنْ لَيْسَ جَمِيعُ الَّذِينَ مِنْ إِسْرَائِيلَ هُمْ إِسْرَائِيلِيُّونَ، وَلاَ لأَنَّهُمْ مِنْ نَسْلِ إِبْرَاهِيمَ هُمْ جَمِيعًا أَوْلاَدٌ..." (رو9: 6- 7). وأيضًا قول الرب يسوع: "أَجَابُوا وَقَالُوا لَهُ: «أَبُونَا هُوَ إِبْرَاهِيمُ». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!" (يو8: 39).

· حُسب شعب إسرائيل (كنيسة العهد القديم) كشجرة مباركة تحمل النعم والبركات ومنها أتى الرب جسديًا، لكن الأغصان غير الصالحة في هذه الشجرة (الأشرار غير المؤمنون) قُطعت، وأيضًا طَعَّم الله في هذه الشجرة التائبين المؤمنين من خارج هذه الشجرة كقوله: "فَسَتَقُولُ: «قُطِعَتِ الأَغْصَانُ لأُطَعَّمَ أَنَا!». حَسَنًا! مِنْ أَجْلِ عَدَمِ الإِيمَانِ قُطِعَتْ، وَأَنْتَ بِالإِيمَانِ ثَبَتَّ. لاَ تَسْتَكْبِرْ بَلْ خَفْ! لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُشْفِقْ عَلَى الأَغْصَانِ الطَّبِيعِيَّةِ فَلَعَلَّهُ لاَ يُشْفِقُ عَلَيْكَ أَيْضًا" (رو11: 19- 21). فأين إذًا المحاباة ليعقوب أو لبني إسرائيل؟!

· لم يكن هناك أي مانع من قبول الأمم، أو الوثنيين التائبين المؤمنين بالله ضمن رعوية شعب إسرائيل، فقد صاروا ضمن رعوية إسرائيل، وهم الذين لقبهم الكتاب المقدس باللفيف أو بالدخلاء، والدارس للكتاب يعلم أن هناك مصريون خرجوا من مصر مع بني إسرائيل كقول الكتاب: "وَصَعِدَ مَعَهُمْ لَفِيفٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مَعَ غَنَمٍ وَبَقَرٍ، مَوَاشٍ وَافِرَةٍ جِدًّا. " (خر12: 38)، إذًا لم يكن هناك مانع من انضمام عيسو، أو نسله تحت مظلة أخيه يعقوب لينال البركات، ولكن ذلك كان مشروطًا بإيمانه، وتوبته.


ثانيا: موضوع الحديث في الأصحاح التاسع من الرسالة إلى أهل رومية:
· السياق العام:
يتبين لنا أن معلمنا بولس الرسول أراد أن يؤكد مبدأ مهمًا، وهو أن بركات الله تُعطىَ على سبيل نعمة، وليست لاستحقاق متلقيها، ودليل ذلك قوله قبل ذلك في نفس الأصحاح: "بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ". أَيْ لَيْسَ أَوْلاَدُ الْجَسَدِ هُمْ أَوْلاَدَ اللهِ، بَلْ أَوْلاَدُ الْمَوْعِدِ يُحْسَبُونَ نَسْلًا. " (رو9: 7- 8). وكلمة الموعد يَعني بها الرسول (الذين ولدوا بوعد من الله، بعدما استحال على إبراهيم وسارة الإنجاب لشيخوختهما، أو لعجزهما).

ثالثًا: عبارة: "لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار":
· المعنى المقصود:
متفقٌ مع مضمون سياق حديث الرسول، وهو أن عطايا الله تُعطى على سبيل نعمة، لا على سبيل استحقاق، ودليل ذلك قوله بعد ذلك مباشرة: "ليس من الأعمال بل من الذي يدعو" فالسبب إذًا هو رحمة الله الذي يَعدُ الإنسان، أو يدعوه ليكون لنعمة خاصة، وليس السبب أعماله.



· كلمة الاختيار:
الله له كامل السلطان في تدبير خليقته بحسب حكمته، ومن هو الذي له الحق أن يلومه أو يناقض حكمته؟! وإن كان مجرد اعتراض من إنسان بسيط لمخترع سيارة ذات ماركة شهيرة على أسلوب تصميمه لسيارته من المتوقع أن يلاقي استنكارًا من ذلك المخترع، والذي سيكون لسان حاله ردًا على ذلك الاعتراض هو: "هل تفهم حكمتي؟"، أو أظنه سيقول له: "لقد صنعت أنا مخترعي بهذه الطريقة فإن كان يمكنك أن تبدع مثله فصمم أنت كما يحلو لك".

رابعًا: استهتار عيسو وشره منع عنه البركات:
· اختيار الله حسب صلاحه:
ليس من المعقول أن يختار الله الأشرار، وغير التائبين ليهبهم بركاته ونعمته، وإلا يكون الله في هذه الحالة مُشَجِعًا على الشر بمكافأته للأشرار على شرهم بالبركات. إن اختيار الله هو للأفضل دائمًا، وأيضًا اختياره بحسب ما يتفق مع طبيعته الخيرة، وإن كنت أنا كإنسان أختار الأفضل دائمًا، فهل يفترض عاقل أن الله كلي الصلاح وكلي الحكمة يختار ما هو دون؟! لقد ترجمت كلمة الاختيار في اللغة الإنجليزية بـ(election)، أي الانتخاب، وهو ما يتفق مع مبدأ أن الله يختار الأفضل.



· شر عيسو:
كان عيسو شريرًا بحسب شهادة الكتاب القائل: "لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ." (عب 12: 16).


خامسًا: شر عيسو وعدم تأهله لنوال البركات:
يدعي البعض أن عيسو قدم توبة، ولكن الله رفضها، مستندين لقول الكتاب: "فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَيْضًا بَعْدَ ذلِكَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرِثَ الْبَرَكَةَ رُفِضَ، إِذْ لَمْ يَجِدْ لِلتَّوْبَةِ مَكَانًا، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَهَا بِدُمُوعٍ.". بالتدقيق في هذا العدد من سفر العبرانيين نلاحظ أن هذا لم يحدث ودليلنا ما يلي:

1. رفض عيسو من وراثة البركة لما أرادها (بحسب النص)؛ فليست توبته هي التي رُفِضت لأن كلمة رفض تأتي بعد" أراد أن يرث البركة"، وعلى ذلك فالرفض يخص البركة وليس التوبة.

2. كلمة لم يجد مكانًا للتوبة تؤكد أنه لم يتب، فالتوبة لم يكن لها مكان في قلبه.

3. ما طلبه عيسو بدموع هو البركة وليس التوبة، بدليل ما سجله الوحي الإلهي من تفاصيل هذه الحادثة بقوله: "فَقَالَ عِيسُو لأَبِيهِ: "أَلَكَ بَرَكَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ يَا أَبِي؟ بَارِكْنِي أَنَا أَيْضًا يَا أَبِي". وَرَفَعَ عِيسُو صَوْتَهُ وَبَكَى." (تك27: 38). لم يسجل الوحي الإلهي مطلقًا: أنه رفع صوته وقال: "قد أخطأت " فأين هذه التوبة إذًا؟!

4. أكد الوحي الإلهي إصرار عيسو على مخالفة الله وأبويه، وذلك بزواجه وارتباطه بالأشرار -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وهذا بخلاف أخيه يعقوب كشهادة الكتاب القائل: "فَلَمَّا رَأَى عِيسُو أَنَّ إِسْحَاقَ بَارَكَ يَعْقُوبَ وَأَرْسَلَهُ إِلَى فَدَّانَ أَرَامَ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مِنْ هُنَاكَ زَوْجَةً، إِذْ بَارَكَهُ وَأَوْصَاهُ قَائِلًا: «لاَ تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ» وَأَنَّ يَعْقُوبَ سَمِعَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَذَهَبَ إِلَى فَدَّانَ أَرَامَ،. رَأَى عِيسُو أَنَّ بَنَاتِ كَنْعَانَ شِرِّيرَاتٌ فِي عَيْنَيْ إِسْحَاقَ أَبِيهِ، فَذَهَبَ عِيسُو إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَأَخَذَ مَحْلَةَ بِنْتَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أُخْتَ نَبَايُوتَ، زَوْجَةً لَهُ عَلَى نِسَائه." (تك2
8: 6- 9). فأين توبته إذًا، ومتى رفضها الله.

سادسًا: هل حقيقةً أن الله يحابي يعقوب؛ فيحبه أكثر من عيسو؟
· النص المشار إليه: "أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟ لأَنَّ أَدُومَ قَالَ: قَدْ هُدِمْنَا، فَنَعُودُ وَنَبْنِي الْخِرَبُ. هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: هُمْ يَبْنُونَ وَأَنَا أَهْدِمُ. وَيَدْعُونَهُمْ تُخُومَ الشَّرِّ، وَالشَّعْبَ الَّذِي غَضِبَ عَلَيْهِ الرَّبُّ إِلَى الأَبَدِ" (ملا1: 2- 4).

· يُفهم من النص أن المقصود بيعقوب أو بعيسو ليس مجرد اسمي شخصين، ولكن الوحي قصد بذلك تسمية أمتين؛ هما أمة يعقوب (بني إسرائيل)، وأمة عيسو (آدوم).

· حديث الله عن حُبِه ليعقوب وبُغضِهِ لعيسو كان بمناسبة اتهام بني إسرائيل لله بأنه لا يُكافئ، أو يبارك الذين يصنعون خيرًا، وأنه أيضًا لا يفرق بين الأشرار والأبرار، وهذا واضح بحسب قوله لهم في الأصحاح الثالث من سفر ملاخي: "قُلْتُمْ: عِبَادَةُ اللهِ بَاطِلَةٌ، وَمَا الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَنَّنَا حَفِظْنَا شَعَائِرَهُ، وَأَنَّنَا سَلَكْنَا بِالْحُزْنِ قُدَّامَ رَبِّ الْجُنُودِ؟ وَالآنَ نَحْنُ مُطَوِّبُونَ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَأَيْضًا فَاعِلُو الشَّرِّ يُبْنَوْنَ. بَلْ جَرَّبُوا اللهَ وَنَجَوْا»" (ملا3: 14- 15).

· بالتدقيق في النص نرى أن المقصود بـ"أبغضت" هو عدم رضاه على آدوم وعدم مباركتهم، وليس المقصود مشاعر البغضة، والمقصود بـ"أحببت" هو مباركة الله لنسل يعقوب (أمة بني إسرائيل).

· سبب البغضة لعيسو أو عدم مباركتهم هو شرهم، وتحديهم لله، ولذلك هم يحصدون ثمار أفعالهم.

· أحب الله بني إسرائيل بسبب تقواهم، ولكنه حذرهم في الأصحاح الثاني من سفر ملاخي بما سيأتي عليهم بسبب احتقارهم لوصية الله قائلًا: "إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَجْعَلُونَ فِي الْقَلْبِ لِتُعْطُوا مَجْدًا لاسْمِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. فَإِنِّي أُرْسِلُ عَلَيْكُمُ اللَّعْنَ، وَأَلْعَنُ بَرَكَاتِكُمْ، بَلْ قَدْ لَعَنْتُهَا، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ جَاعِلِينَ فِي الْقَلْبِ." (ملا2: 2).

أخيرًا:
لا يسعنا غير أن نعطي الله المُحب، والعادل مجدًا لعظمته؛ فهو لا يُحابي أحد، ولن يحابي أحد بحسب إيماننا بصدق الكتاب القائل: "وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ" (1بط1: 17).


بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:00 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
2- ينسب الكتاب المقدس لله صفات بشرية كالغضب، أو الندم والأسف. ألا يُعتبر ذلك لونًا من الضعف، الذي لا يليق بالله الخالق العظيم؟


السؤال الثاني

ينسب الكتاب المقدس لله صفات بشرية كالغضب، أو الندم والأسف. ألا يُعتبر ذلك لونًا من الضعف، الذي لا يليق بالله الخالق العظيم؟

الإجابة:

إن الغضب والندم أو ما شابه ذلك من الألفاظ التي نُسبت في الكتاب المقدس لله هي بالفعل تُناسب البشر الجسدانيين المتقلبين في طبيعتهم الفسيولوجية والنفسية، ولا تتناسب مع الله إطلاقًا، ولكن الكتاب نسبها لله للتبسيط والتشبيه، والمقصود بأمثال هذه الألفاظ ليس المعنى الحرفي للكلمة، ولكن المقصود معانٍ أخرى، وسنتابع بالشرح من خلال النقاط التالية ذلك تفصيلًا.



أولًا: المفهوم البشري للغضب:
· تعريف الغضب: هو ثورة داخلية، وفقدان لتحكم الإنسان في طريقة تفكيره وتصرفاته (عدم تحكمه في أعصابه). يصاحب الغضب (في أغلب الأحيان) تهور يؤدي إلى أخطاء في الكلام والأفعال.

· الغضب ضعف: إن الغضب ضعف في الإنسان، وكلما نضج الإنسان وتهذب كلما قل انفعاله، وتحكم في تصرفاتهم.

· الغضب غالبًا ما يتبعه الندم: بعدما يهدأ الإنسان من ثورة غضبه يندم على ما بدر منه من جهالة وتهور.

· الغضب كنتائج وتوابع: كثيرًا ما يتعرض الإنسان لأمر مفاجئ غير معتاد (ليس على هواه)، أو يقع في مأزق أو شدة. أو يتعرض لإساءة، حينئذ إذا لم يجد مخرجًا من ضيقه يقع في حيرة واضطراب، فيخرج من هدوءه وتعقله ليثور ويغضب. إن الغضوب في حال غضبه لا يحسب عاقبة أفعاله، فيزيد من أخطاءه، لذلك علمنا الكتاب المقدس أن غضب الإنسان لا يصنع بر الله. لقد فوجئ موسى النبي بشعبه يرقصون ويعبدون تمثال العجل الذهبي كقول الكتاب: "... صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلًا مَسْبُوكًا، وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ". (خر32: 8). لم يحتمل النبي الحليم عدم إيمان شعبه، فألقى اللوحين المكتوبين بأصبع الله وكسرهما.

· نار الغضب تشتعل في الجسد الإنساني: تُفرز الغدد الصماء في حالة الانفعال بالغضب مادتيّ الأدرينالين Adrenaline والنورأدرينالين Noradrenaline، واللتين تُحدثان تغيرات فسيولوجية في وظائف الأعضاء، مثل ارتفاع ضغط الدم، وزيادة عدد ضربات القلب، و...، و... كل ذلك كمقدمة لأفعال الغضب الشديدة والحادة، كالصياح، أو العنف الجسدي، أو...، أو...، ويؤثر الغضب أيضًا على المزاج العام للشخص، وعلى طريقة تعاملاته وقت غضبه.

· الغضب رذيلة بشرية: إن أسوأ ما في الغضب هو تعدي الإنسان على وصايا الله، وما يسببه الغضوب لنفسه أو لغيره من إيذاء. لقد حذر الكتاب من خطورة الغضب قائلًا: "أنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ." (يع1: 20)، ولهذا يُطالب يعقوب الرسول الإنسان بالتروي، وتجنب الغضب قائلًا: "إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ،" (يع1: 19).



· الاستنتاج:
1. إن غضب الإنسان هو رذيلة وضرر للإنسان الغضوب، ولمن حوله، وهو غير مضمون العاقبة، وبالطبع هذا لا يتفق مع طبيعة الله القدوس.

2. أشد أو أقوى فعل شرير يمكن أن يحدثه الإنسان هو ما يفعله وقت غضبه.

ثانيًا: استحالة غضب أو ندم الله بحسب مفهوم البشر:
بعدما أوضحنا مفهوم الغضب كما نراه في بني البشر؟!! لعلنا نتساءل هل يمكن أن يغضب الله كالبشر؟!! وإن كان ذلك مستحيلًا، فما هو المقصود بغضب الله أو ندمه؟ إن هذا ما سَنوضُحه في النقاط التالية.

· الله هو الكامل في صفاته: الله لا يشوبه شر أو ضعف. وليس من المعقول أن يكون معنى قول الكتاب المقدس: "حمي غضب الرب" هذه المفاهيم البشرية الضعيفة التي ذكرناها قبلًا عن غضب البشر. فيما يلي ما يؤيد ذلك:

1. كمال الله مُعْلَن في الكتاب المقدس بوضوح، ومثال ذلك قوله: "مَنْ فَرَضَ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ، أَوْ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ فَعَلْتَ شَرًّا؟ اُذْكُرْ أَنْ تُعَظِّمَ عَمَلَهُ الَّذِي يُغَنِّي بِهِ النَّاسُ" (أي36: 23- 24).

2. الله روح، وليس له جسد فكيف يغضب الروح؟!!! (كما أشرنا في نقطة سابقة)، وأيضًا مراحم الرب، ورأفاته، وكثرة إحساناته وغفرانه لا تدع مجالًا، أو احتمالًا لغضبه. لقد أكد الكتاب ذلك صراحة واصفًا الله قائلًا: "... الرَّبُّ إِلهٌ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الإِحْسَانِ وَالْوَفَاءِ. حَافِظُ الإِحْسَانِ إِلَى أُلُوفٍ. غَافِرُ الإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْخَطِيَّةِ" ( خر34: 6- 7). إن كلمة بطيء الغضب -في النص السابق- مقصود بها أنه لا يغضب إطلاقًا، لأن بطيء الغضب تعني أنه حليم وليس غضوبًا. وإذا وصفت السائل العزيز (فرضًا) بهذه الصفات السابقة، ثم ختمت كلامي بأنه بطيء الغضب، ألا أكون قد أكدت أنه ليس غضوبًا على الإطلاق؟!

3. الله غير قابل للتقلبات ولا يتغير من حالة إلى أخرى، ولا يفاجأ بأمر غير متوقع، لذلك فهو لا يغضب ولا يندم. لقد وصف الكتاب ثبات الله وعدم تقلبه قائلًا: "... الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ." (يع1: 17). أما الإنسان فيتغير مزاجه عندما يسمع خبرًا سيئًا لا يوافق هواه ويثور ويغضب.



· الله هو الكامل في معرفته:
ليس عند الله مستقبل، بل الكل حاضر عنده، وماثل أمامه كقول سفر أعمال الرسل: "مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الرَّبِّ مُنْذُ الأَزَلِ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ." (أع15: 18). وإن كان الله يعلم ويخبرنا بما سيأتي علينا في المستقبل، في صورة نبوات، تتم بدقة في الوقت، الذي حدده أنبياؤه القديسون، فهل يفاجأ الله بأمر يجعله يحتار ويضطرب ويغضب؟!! إن افتراض ذلك أمر مضحك. لقد دلل إشعياء على ألوهية الله بمعرفته للمستقبل قائلًا: "مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ، قَائِلًا: رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي.( إش46: 10).



· الندم ضعف لا يخص الله إطلاقًا بل البشر فقط:
الندم أو الأسف هي مشاعر سلبية نتيجة قرارات الإنسان الخاطئة بسبب جهله. فهل يندم الله كالبشر لأنه اتخذ قرارًا دون معرفة (بجهل)؟! بالطبع حاشا لله أن يندم كقول صموئيل النبي: "وَأَيْضًا نَصِيحُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَكْذِبُ وَلاَ يَنْدَمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانًا لِيَنْدَمَ». (1صم15: 29). وأيضًا قول الكتاب: "لَيْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلاَ ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلاَ يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلَّمُ وَلاَ يَفِي؟" (عد23: 19).



· إعلانات قضاء الله المسبوقة والمحتومة يعلنها الله للإنسان في حينها:
إن أمور البشر جميعها معروفة لله مسبقًا (كما أشرنا سابقًا). فإذا توانى شعبه إسرائيل مثلًا، وصَّلَّبَ قلبه أمام كثرة مراحمه يعلن لهم بفم أنبيائه عن غضبه أي أنه سيعاقب، فإذا لم يستجيبوا يقع عقابه عليهم بالفعل. أما إذا تراجع الشعب عن شره وتاب، يعلن لهم عن ندمه أي قبولهم وشفقته عليهم. إن الله يعلن حكمه أو قضاءه (المعروف لديه منذ الأزل) لشعبه على أساس تفاعلهم، إذًا من تراجع هم الشعب، وليس الله. لقد شرح إرميا النبي ذلك قائلا: "تَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْقَلْعِ وَالْهَدْمِ وَالإِهْلاَكِ، فَتَرْجعُ تِلْكَ الأُمَّةُ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَلَيْهَا عَنْ شَرِّهَا، فَأَنْدَمُ عَنِ الشَّرِّ الَّذِي قَصَدْتُ أَنْ أَصْنَعَهُ بِهَا. وَتَارَةً أَتَكَلَّمُ عَلَى أُمَّةٍ وَعَلَى مَمْلَكَةٍ بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ، فَتَفْعَلُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيَّ، فَلاَ تَسْمَعُ لِصَوْتِي، فَأَنْدَمُ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي قُلْتُ إِنِّي أُحْسِنُ إِلَيْهَا بِهِ." (إر18: 7- 10).

ثالثًا: لماذا استخدم الكتاب هذه الألفاظ؟:


· هي لغة البشر المفهومة:
لا بُد أن يكلمنا الله بلغة نفهمها، وإلا فلن يكون هناك تواصل مع الله، ولن نفهم مقاصده، بل، لن نتمكن من معرفته أبدًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. لقد عَلَّمنا القديس بولس الرسول ضرورة التكلم بلغة مفهومة لكي ينتفع السامعون قائلًا: "فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَى الْبُوقُ أَيْضًا صَوْتًا غَيْرَ وَاضِحٍ، فَمَنْ يَتَهَيَّأُ لِلْقِتَالِ؟ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا إِنْ لَمْ تُعْطُوا بِاللِّسَانِ كَلاَمًا يُفْهَمُ، فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا تُكُلِّمَ بِهِ؟ فَإِنَّكُمْ تَكُونُونَ تَتَكَلَّمُونَ فِي الْهَوَاءِ!" (1كو14: 8- 9)؛ فحينما يقول الكتاب غضب الرب نفهم أنه سيعاقب، وحينما يقول ندم الرب نفهم أنه سيسامح استجابة لتوبة البشر، وطلبهم لمراحمه.



· هو تنازل واتضاع وحب الله:
الله عظيم جدًا في طبيعته وفي أفكاره وتدبيراته، ومن المحال إدراك ذلك، ولهذا فهو يتباسط ويتضع ليتكلم معنا بلغة مبسطة مفهومة لنا. وبغير ذلك لن يكون هناك تواصل بيننا وبين الله. إن مثال ذلك اتضاع الآباء وتنازلهم أمام أطفاهم الصغار مستخدمين نفس المصطلحات التي يطلقها أطفالهم على الأشياء كالطعام مثلًا أو الماء، أو النار،... أو...، أو...، ومع ذلك لا يرى الآباء في ذلك عيبا.ً إنه الحب الذي يدفعهم لضرورة التواصل مع أحبائهم الصغار سعيًا وراء منفعتهم، ولكن هؤلاء الآباء لا يتكلمون مع ابنائهم بهذه المصطلحات البسيطة حينما يُجيد الأبناء اللغة ويفهمون معانيها.



الخلاصة: ماذا قصد الكتاب بإلصاقه بالله صفات تناسب البشر فقط مثل الغضب أو الندم؟:
· بعض أمثلة من الشواهد التي تتكلم عن غضب الله.

1. "وَكَانَ الشَّعْبُ كَأَنَّهُمْ يَشْتَكُونَ شَرًّا فِي أُذُنَيِ الرَّبِّ. وَسَمِعَ الرَّبُّ فَحَمِيَ غَضَبُهُ، فَاشْتَعَلَتْ فِيهِمْ نَارُ الرَّبِّ وَأَحْرَقَتْ فِي طَرَفِ الْمَحَلَّةِ." (عدد11: 1)

2. "فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ وَأَقْسَمَ قَائِلًا: لَنْ يَرَى النَّاسُ الَّذِينَ صَعِدُوا مِنْ مِصْرَ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، الأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُونِي تَمَامًا" (عدد 32: 10- 11).

· الله لا يغضب بمفهومنا الإنساني لكنه يستخدم لغتنا لِيُبين عدم رضاه عن الشر: أن معنى كلمة حمي غضب الله في الآيات السابقة هو: أن قرار الله بعقاب بني إسرائيل صار وشيكًا وأكيدًا، وكما أن غضب الإنسان لابد أن يتبعه فعل شديد - على العاقل أن يتجنبه - فبالحري على البشر تجنب غضب الله، أو عقابه الشديد. لقد نصح الحكيم بعدم الدخول في المخاصمات التي تنتج الغضب، وما يتبعه من أفعال سيئة مشبهًا الغضب بالماء الذي إذا انطلق لن يمكن التحكم فيه قائلًا: "اِبْتِدَاءُ الْخِصَامِ إِطْلاَقُ الْمَاءِ، فَقَبْلَ أَنْ تَدْفُقَ الْمُخَاصَمَةُ اتْرُكْهَا." (أم17: 14). وأيضًا نصح داود النبي بتجنب غضب الله لسوء ما ينتج عنه قائلًا: "قَبِّلُوا الابْنَ لِئَلاَّ يَغْضَبَ فَتَبِيدُوا مِنَ الطَّرِيقِ. لأَنَّهُ عَنْ قَلِيل يَتَّقِدُ غَضَبُهُ. طُوبَى لِجَمِيعِ الْمُتَّكِلِينَ عَلَيْهِ." (مز2: 12). المقصود إذًا الخوف من شدة عقاب الله. وهكذا...



· بعض أمثلة لآيات تتكلم عن ندم الرب و معانيها:
1. "وَحِينَمَا أَقَامَ الرَّبُّ لَهُمْ قُضَاةً، كَانَ الرَّبُّ مَعَ الْقَاضِي، وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ أَعْدَائِهِمْ كُلَّ أَيَّامِ الْقَاضِي، لأَنَّ الرَّبَّ نَدِمَ مِنْ أَجْلِ أَنِينِهِمْ بِسَبَبِ مُضَايِقِيهِمْ وَزَاحِمِيهِمْ." (قض2: 18).

2. "وَلَمْ يَعُدْ صَمُوئِيلُ لِرُؤْيَةِ شَاوُلَ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ، لأَنَّ صَمُوئِيلَ نَاحَ عَلَى شَاوُلَ. وَالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ." (1صم15: 35).

كلمة ندم الرب في الآية الأولى تدل على شفقة الرب عليهم بسبب كثرة معاناتهم واضطهاداتهم، ولذلك يذكر نص الآية أن الله كان مع القاضي (رئيسهم) أي ساندهم وخلصهم، وفي الآية الثانية تعبر عن عدم رضا الرب على شاول، وحزنه على ما وصل إليه من كثرة شره، وهذا يُبين اهتمام الله ببني البشر وحزنه على شرورهم، وهل يُنكر أحد على الله أن يتفاعل مع بني البشر كشخص. لقد أكد المرنم في المزمور تفاعل الله مع شعبه كشخص، مقارنةً بآلهة الأمم (الجماد) قائلًا: "يَا رَبُّ، اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ. يَا رَبُّ، ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. لأَنَّ الرَّبَّ يَدِينُ شَعْبَهُ، وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ. أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ. لَهَا أَفْوَاهٌ وَلاَ تَتَكَلَّمُ. لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ." (مز135: 13- 17).

أخيرًا:
لا بُد لنا أن ندرك أن طبيعة الله تختلف عن طبيعة البشر المادية، ولا يمكننا أن ندركها، لكننا نؤمن أن الله يتفاعل معنا كأبناء محبوبون.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:01 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
3- هل يظهر تناقض في كلام ربنا يسوع المسيح؛ إذ قرر في إنجيل القديس متى: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ." (مت 5: 22). وفي إنجيل القديس لوقا وصف الرب تلميذي عمواس بالغبيان قائلًا: "فَقَالَ لَهُمَا: أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" (لو24: 26). كما وبخ الرب الكتبة والكهنة والفريسيين في الإنجيل واصفًا إياهم بالرياء أو بالعمى أو.. أو... ألا يُعتبر ذلك نوع من الشتيمة والتي تنهي عنها وصايا الإنجيل؟


هل هناك تناقض؟:

أولًا: هل يظهر تناقض في كلام ربنا يسوع المسيح؛ إذ قرر في إنجيل القديس متى: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ." (مت 5: 22). وفي إنجيل القديس لوقا وصف الرب تلميذي عمواس بالغبيان قائلًا: "" فَقَالَ لَهُمَا:«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟ " (لو24: 25- 26).

ثانيًا: وبخ الرب الكتبة والكهنة والفريسيين في الإنجيل واصفًا إياهم بالرياء أو بالعمى أو.. أو... ألا يُعتبر ذلك نوع من الشتيمة والتي تنهي عنها وصايا الإنجيل؟


الإجابة:

الجزء الأول من السؤال:



أولًا: لا تناقض بين النصين، وذلك لما يلي:
· اختلاف موضوع الحديث في كلا النصين:
لا ينطبق كلام الرب في الحالة الأولى في إنجيل القديس متى على حديثه مع تلميذي عمواس في إنجيل القديس لوقا؛ وذلك لأن موضوع كلام الرب مختلف في الحالتين: ففي الموعظة على الجبل في إنجيل القديس متى ينهى الرب عن الغضب باطلًا، أي بدون وجه حق؛ لأن ذلك شر ينشأ عن خطايا حب الذات والأنانية، ويَنتُج عنه الإهانة والتحقير والازدراء بالآخر. أما الغضب على الشر فهو من أجل الله، ومن أجل الحق ويُسَمىَ بالغيرة المقدسة، وهذا لم يُحَرِمَهُ الله بل قال عنه : "اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ." (أف4: 26). أما موضوع حديث الرب في إنجيل القديس لوقا فهو توبيخ تلميذي عمواس، والتوبيخ لازم ومطلوب في أحيانٍ كثيرة. إن التوبيخ واجب من الأكبر نحو الأصغر؛ نظرًا لفائدته؛ وذلك لتوجيهه، أو تأديبه. وقد أرسل معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاؤس يطلب منه ألا يتهاون في توبيخ المخطئين قائلًا له: "اَلَّذِينَ يُخْطِئُونَ وَبِّخْهُمْ أَمَامَ الْجَمِيعِ، لِكَيْ يَكُونَ عِنْدَ الْبَاقِينَ خَوْف" (1تي 5: 20).



· الرب هو السيد والمعلم الذي له حق التوبيخ والتعليم:
كان كلام الرب في نص بشارة القديس متى صادرًا من الأخ، وإلى الأخ. أما في بشارة القديس لوقا فما قاله السيد الرب بعد صلبه وقيامته من الأموات، وهو صادر من الرب المعلم إلى تلميذيه، وبالطبع تختلف لغة الحوار عندما تصدر من الرب، أو من المعلم، أو من السيد، أو من الأب عنها عندما تصدر من الأخ، ومن غير اللائق بالأخ أن يأخذ منصب المعلم فيوبخ إخوته بشدة؛ لأنه هو أيضًا مُعَرض للخطأ كإخوته، وقد حذر الوحي الإلهي من التعالي على الإخوة قائلًا: "لاَ تَكُونُوا مُعَلِّمِينَ كَثِيرِينَ يَا إِخْوَتِي، عَالِمِينَ أَنَّنَا نَأْخُذُ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ!" (يع3: 1). أما الرب فهو السيد والمعلم الكامل والقدوس، وأيضًا هو الديان العادل العالم بكل شيء، ولذلك له كل الحق في توبيخ خليقته. فكيف ينكر أحد عليه حقه هذا!

لقد أرسل معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاؤس، الذي كان أسقفًا ومعلمًا لشعبه يأمره، ويشجعه، لكي لا يتراخى في استعمال سلطانه في التعليم، وذلك بتوبيخ المخالفين لتعليمهم قائلًا: "اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ. اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ. وَبِّخِ، انْتَهِرْ، عِظْ بِكُلِّ أَنَاةٍ وَتَعْلِيمٍ" (2تي4: 2). أما إن أراد الأخ أن يُحَذر، أو يُنذر أخاه على خطأٍ ما فَليُظهر له وداعة وحبًا له كقول معلمنا بولس الرسول لأهل تسالونيكي: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ، فَسِمُوا هذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ، وَلكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُو، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ." (2تس 3: 14- 15).

ثانيًا: عدم منطقية كسر الرب لهذه الوصية:
· لم يشتم الرب أبدًا ولم يعرف فمه خطيئة بحسب شهادة الكتاب القائل: "الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل" (1بط2: 23). وإن كان الرب لم يشتم، وهو يعاني مرارة الألم (أثناء صلبه)، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل -كما شهد معلمنا بطرس الرسول- فكيف يشتم السيد القدوس تلميذيه.

· تحدى الرب اليهود قبل آلامه وصلبه قائلًا: "مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟" (يو8: 46). فماذا يجعله يتراجع عن ذلك بعد قيامته المجيدة، وهو في جسد القيامة الممجد النوراني الكامل؟! وكيف يفعل ذلك وهو الذي أوصى بذلك في الموعظة على الجبل؟!

ثالثًا: ما هو تعريف السب أو الشتم في قواميس اللغة؟ وما تعريفه بحسب قانون الأحوال المدنية ؟
· الشتيمة في قواميس اللغة هي إلصاق صفة قبيحة بإنسان دون سند واقعي، وقد جاء في تعريف السب وعقوبته في المادة 306 من قانون العقوبات المصري ما يلي: "كل سب لا يشمل على إسناد واقعة بل يتضمن بأي وجه من الوجوه خدشًا للشرف والاعتبار يعاقب عليه في الأحوال المبينة بالمادة 171 بالحبس مدة لا تجاوز سنة، وبغرامة لا تزيد على مائتي جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين".



· تطبيق عملي

مما سبق يتضح أن السب يكون بغرض الإهانة، والتحقير للغير، والازدراء به، وأنه لا يستند على دليل يؤيد اتصاف الشخص المعتدى عليه بهذه الصفة القبيحة، ولذلك لا تعتبر أمثال الحالات الآتية سبًا أو شتمًا:

1. عندما يصف الأب ابنه موبخًا بالجهل؛ وذلك لأنه يحثه على الاستنارة بالعلم.

2. عندما يصف القاضي المتهم بأنه سارق، أو زانٍ، أو يتهمه بأنه وحش غادر، أو ذئب بشري؛ لأنه يستند في وصفه للمتهم على جرم فعلي قام به الجاني.

3.عندما يخبر الطبيب مريضه بنقصه بأنه أعمى، أو أعرج أو.. أو..).

4.أيضًا يمكن للمعلم أن يوبخ تلميذه، أو الرئيس مرؤوسيه. وهكذا...

رابعًا: شرح قصد قول الرب لتلميذي عمواس بحسب سياق الحديث:
لم يسخر الرب، ولم يزدر بالتلميذين، ولم يتهمها بالغباء، أو التخلف العقلي، والدليل على أن توبيخ الرب لهما لفائدة، وليس لازدراء أو الإهانة هو مايلي:

1. ترجمت كلمة الغبيان في ترجمة أخرى هكذا: "يا قليلي الفهم"

2. حدد الرب هذا الغباء في: بطء الفهم في الإيمان فقط فيما تكلم به الأنبياء عن شخصه، ولم يلصق الرب بهما صفة الغباء عمومًا، وذلك بحسب قوله: "أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ!"، وهذا يعني عدم فهمهما للأحداث بسبب عدم تصديقهما النبوات.

3. لقد كان تقصيرهما في الفهم عيب يستحق التوبيخ لعلهما ينتبهان لخطئهما، ودليل ذلك قول الرب: "في جميع ما تكلم به الأنبياء"، وهذا فيه إشارة إلى أنهما لم يفهما نبوة واحدة من نبوات جميع الأنبياء الكثيرة، والسبب هو عدم الإيمان.

4. يؤكد الرب تقصيرهما في فهم النبوات التي تشهد أنه كان ينبغي أن تتم الأحداث هكذا كما حدثت بحسب نبوات الأنبياء قائلًا: "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟"؛ فكلمة ينبغي تكشف أنهما لو درسا النبوات بإيمان لكانا قد اكتشفا ذلك بسهولة.

الجزء الثاني من السؤال:



الويلات للكتبة والفريسيين والصديقين المرائين:
بالقياس وتطبيق ما أوضحناه في الجزء الأول من السؤال لا يكون هناك تناقض، أو شيء يعيب توبيخ الرب لرؤساء الكهنة لما يأتي:

· الرب هو السيد والمعلم، الذي تكلم بكل الحق، وله الحق في توبيخ هؤلاء المعلمين الفاسدين.

· أسند الرب مع كل ويل من هذه الويلات دليلًا من واقع معاملات هؤلاء المُعَلِمينَ الفاسدين مع رعيتهم، وعلى سبيل المثال نعرض بعض نصوص هذه التوبيخات:

1. «لكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ،.."

2. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامل، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ.

3. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلًا وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا."

كانت هذه بعض من الويلات الكثيرة، التي أعطاها الرب للكتبة الفريسيين، ونلاحظ أن كل واحدة منها ملحق بها صفة ذميمة، وهي الرياء وأيضًا سبب استحقاق ذلك الويل.

فأين هذا التناقض المزعوم؟!

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:02 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 

4- لماذا أهان الرب المرأة الكنعانية عندما شبهها بالكلاب قائلًا: "فَأَجَابَ وَقَالَ: لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب" (مت15: 26).؟


السؤال الرابع

لماذا أهان الرب المرأة الكنعانية عندما شبهها بالكلاب قائلًا: "فَأَجَابَ وَقَالَ: لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب" (مت15: 26)؟



الإجابة:

لم يوجه الرب إهانة لشخص المرأة الكنعانية، بل بالعكس مدحها وقدرَّها لإيمانها قائلًا لها:"حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ." (مت15: 28). إن دليل تقديره لها هو استجابته لطلبتها، وذلك بشفائه ابنتها. وسنوضح في النقاط التالية هذا تفصيلا:



أولًا: ما قاله الرب لها كان على سبيل المثل وليس الإهانةً:
· لقد كان ذلك مثلًا معروفًا: إن ما يؤكد أن ذلك كان مثلًا، وليس شتيمة لهذه المرأة هو ما يأتي:

1. استخدام المرأة لنفس تشبيهات المثل في ردها على الرب؛ ولذا تؤكد إجابتها معرفتها للمثل بقولها: "... نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!" (مت 15: 27). لقد كانت هذه المرأة فينيقية سورية من منطقة صور، وكان هذا المثل مفهومًا في بيئة هؤلاء الأممين الوثنيين، الذين اعتادوا أن يدللوا ويربوا الكلاب في منازلهم، وهذا بعكس اليهود، الذين كانوا يعتبرون الكلب حيوانًا ينجس من يلمسه.

2. يوجد في اللغة اليونانية - التي كُتب بها الإنجيل - أكثر من كلمة تدل على الكلب كحيوان، لكن الكلمة المستخدمة، التي نطقها الرب تعني جروًا أو كلبًا صغيرًا يُرَبىَ في البيوت، وهذا اللفظ يتوافق مع معنى المثل.

· المقصود هو المعنى: جرى العرف في حالة التكلم بالأمثال أن المقصود هو المعاني وليست الكلمات في حرفيتها.

مثال: عندما نقول لأم: "القرد في عين أمه غزال" أنت لا تعني أن تشتم الأم بوصفك لابنها بأنه حيوان، أو قرد، ولكنك تقصد قيمة هذا الطفل الثمينة في عيني أمه، أو قد تقصد أيضًا التلميح بأن الطفل ليس جميلًا بدرجة كبيرة، ولكنه له تقدير عظيم في عيني أمه لسبب حبها له، وهكذا...



· معنى مثل الرب يسوع: لقد قصد الرب يسوع أن يُبين ما يلي:

1. من المفترض والطبيعي أن يكون اليهود أبناء أب الآباء إبراهيم هم المستحقون، والأجدر بالبركات والنعم قبل غيرهم، لأن الله تعهدهم بالرعاية لأجل إيمان الأتقياء منهم (كإبراهيم أبيهم). لقد أعدهم الله للبركات على مدى أزمنة كثيرة، فأرسل لهم الأنبياء ليعرفهم ناموسه، وكشف لهم عن تجسده وفدائه، و.. و.. لقد أئتمنهم على معرفته كقول معلمنا بولس الرسول: "إِذًا مَا هُوَ فَضْلُ الْيَهُودِيِّ، أَوْ مَا هُوَ نَفْعُ الْخِتَانِ؟ كَثِيرٌ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ! أَمَّا أَوَّلًا فَلأَنَّهُمُ اسْتُؤْمِنُوا عَلَى أَقْوَالِ اللهِ." (رو3: 1- 2). لقد قصد الرب أن يعلن للجموع تلك الحقيقة، وهي أن اليهود هم الأجدر بالنعمة؛ لأنهم مُهَيَئُونَ لقبولها أكثر من الأمم (ولكنهم للأسف تهاونوا ولم يؤمنوا به). لقد فهمت المرأة المعنى تمامًا، وأكدت وصدقت عليه بطلبها من الرب الفتات الساقط من مائدة الأبناء (أي اليهود).

2. هناك إشارة لعدم استحقاق من يحيا في نجاسة للبركات، وذلك لأن الكلب عمومًا من الحيوانات غير الطاهرة كما هو معروف في الناموس. إن الكلاب ترمز إلى العيش بالشهوات. والنجاسات. وقد مارس شعب هذه المرأة الفينيقية النجاسات كطقوس ضرورية لعبادتهم إرضاءً لآلهة الخصوبة. لقد كانت هذه المرأة نجسة بحكم عبادتها لآلهتها

ثانيًا: القول هو تقرير لحقيقة قدسية الله، وطهارته:
· الله قدوس، ولذا فهو حريص على قداسة شعبه. لقد علم الله شعبه مفهوم القداسة والنجاسة من خلال الطبيعة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالحيوانات الطاهرة هي التي تجتر ومشقوقة الظلف. أما غير الطاهرة فهي المفترسة وهي أيضًا ذات الصفات الذميمة. إن ما أراده الله من استخدام هذه الأمثلة المعروفة في البيئة الطبيعية هو التأمل في صفات هذه الحيوانات سواء طاهرة أم نجسة، والامتناع عما بها من صفات دنيئة. فالحيوانات الطاهرة عمومًا هي آكلة للحشائش أي لا تتغذى على غيرها، وهي أيضًا التي تجتر أي تخرج ما تختزنه من طعام في حويصلة بمعدتها؛ لتعيد مضغه مرة أخرى، وهذا يشير للهج والتأمل الدائم في كلمة الله. أما عن شق الظلف في الحيوانات الطاهرة: فهو يشير لعدم الاهتمام بالأمور الدنيوية؛ وذلك لأن الأظافر أو الظلف في الحيوانات قد تقص أو تقطع دون أن يسبب ذلك ضررًا لها، بل لفائدة ما. إن ذلك يشير لوجوب عدم الاستجابة لشهوات أو أهواء الجسد التي يجب الامتناع عنها كقول معلمنا بولس الرسول: "وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ." (غل5: 24).



· استخدام اللفظ في الكتاب المقدس: استخدم الكتاب المقدس لفظ الكلاب كتعبير، أو مصطلح يدل على النجاسة وذلك بناء على تعليم الكتاب عن الحيوانات الطاهرة، وغير الطاهرة. لقد أطلق الكتاب هذا اللفظ على فئات من الأشرار ليشير إلى كثرة شرهم، وعدم طهارتهم، وصفاتهم البغيضة، وبدراسة كيفية استخدام هذه الكلمة نجد أن المقصود بلفظ الكلب ليس دناءته لأنه حيوان، ولكن المقصود تحقير ما في الناس من الصفات الذميمة لهذا الحيوان، ويمكننا التأكد من ذلك في قول معلمنا بطرس الرسول: "قَدْ أَصَابَهُمْ مَا فِي الْمَثَلِ الصَّادِقِ:«كَلْبٌ قَدْ عَادَ إِلَى قَيْئِهِ»، وَ«خِنْزِيرَةٌ مُغْتَسِلَةٌ إِلَى مَرَاغَةِ الْحَمْأَةِ». (2بط2: 22). إن ذلك اللفظ في الكتاب المقدس يُستخدم كثيرًا كاصطلاح (expression) يشير لمدلول روحي توارثته الأجيال اليهودية وهو: النجاسة، وليس المقصود المعنى الحرفي للكلمة. وكمثال لذلك قول سفر الرؤيا: "لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا." (رؤ22: 15). من الآية السابقة نلاحظ أن الوحي الإلهي وضع الكلاب ضمن فئات كثيرة من الأشرار ليُشير إلى صفات أو شرور معينة لهذه الفئة من الأشرار أنهم سيدانون لأجل تلك الشرور. هم تمثلوا في شراهتهم للنجاسات والشهوات بهذه الحيوانات التي لا تَشبَع من أكل الجيف الميتة، ولحس الدماء.


ثالثًا: المثل لا يمثل سب أو شتيمة في حق هذه المرأة حسب الأعراف المتفق عليها:
الشتم أو السب هو وصف الشخص بصفات ذميمة دون إسناد واقعي (نرجو الرجوع لإجابة السؤال السابق). لقد كانت هذه المرأة تمارس النجاسات من خلال عبادتها الوثنية؛ ولذا صدّقت ولم تعترض على وصف الرب مؤكدة استحقاقها للتوبيخ. إن كلام الرب يدخل تحت بند التوبيخ على عدم الكف عن الشهوات، وممارسة النجاسات.


رابعًا: أراد الرب إظهار عظمة إيمان هذه المرأة:
لقد أراد الرب أن يعلن قيمة الإيمان، الذي يتخطى كل الصعاب، وينتصر بجدارة. لقد انتصر إيمان هذه المرأة عندما تأنى الرب عليها، ولم يجبها بكلمة واحدة، ولكنها لم تتوقف عن الصراخ إليه حتى أن التلاميذ طلبوا منه أن يصرفها بحسب قول معلمنا متى الإنجيلي: "وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً:«ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ:«اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!». (مت15: 22- 23). ظلت المرأة متمسكة بإيمانها، وهنا أجاب الرب تلاميذه قائلًا: "... لمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ» (مت 15: 24). بعد ذلك فاح عبير الإيمان العظيم لتلك المرأة بسجودها له، ثم بتمسكها به كمخلص، وثقتها في محبته وقدرته، وأيضًا بإعترافها بنجاستها، وعدم إستحقاقها كشهادة الكتاب القائل: "فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً:«يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» فَأَجَابَ وَقَالَ:«لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». فَقَالَتْ:«نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». (مت15: 25- 27). إنها حكمة الرب التي أظهرت إيمان هذه المرأة فإستحقت لإيمانها أن تُضَم لبنوية أولاد الله كقول معلمنا يوحنا الحبيب: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ. وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ." (يو1: 11- 13).
الخلاصة:
لقد سقط الأبناء من بنوتهم لله بسبب عدم إيمانهم، وإرتفعت الخاطئة لتفوز بنعمة التبني. لقد أعطى الرب الجميع -يهودًا وأممًا من خلال تدبيره وحكمته في التعامل مع هذه المرأة- درسًا عن كيفية الفوز بنعمة التبني له. كشف الرب عن عظمة إيمان الكنعانية، وإستحقاقها لنعم الله بجدارة أكثر من كثيرين من البنين، الذين جاء لهم خصيصًا ولكنهم لم يؤمنوا به فَرُفِضوا.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:03 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
5- هل يصح أن يلعن إليشع النبي صِبْية صغار لأنهم هزأوا به، ألا ينم ذلك عن قساوة شديدة؟ ولماذا استجاب له الله، وأرسل دبتين من الوعر فافترستا منهم إثنين وأربعين ولدًا؟!


السؤال الخامس

هل يصح أن يلعن إليشع النبي صِبْية صغار لأنهم هزأوا به، ألا ينم ذلك عن قساوة شديدة؟ ولماذا استجاب له الله، وأرسل دبتين من الوعر فافترستا منهم إثنين وأربعين ولدًا؟!


الإجابة:

الشاهد الكتابي للواقعة:
" ثُمَّ صَعِدَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى بَيْتِ إِيلَ. وَفِيمَا هُوَ صَاعِدٌ فِي الطَّرِيقِ إِذَا بِصِبْيَانٍ صِغَارٍ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَسَخِرُوا مِنْهُ وَقَالُوا لَهُ: «اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ! اصْعَدْ يَا أَقْرَعُ!». فَالْتَفَتَ إِلَى وَرَائِهِ وَنَظَرَ إِلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، فَخَرَجَتْ دُبَّتَانِ مِنَ الْوَعْرِ وَافْتَرَسَتَا مِنْهُمُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَلَدًا" (2مل2: 23- 24).



تُظهر الدراسة المتأنية بوضوح أن النبي تعرض فعلًا لمحاولة قتل متعمد، وليست الواقعة مجرد استهزاء لبعض الأطفال اللطفاء. لقد كان هؤلاء الصبية قادرين على القتل. إن تبعية ما حدث لهم من مقتل اثنين وأربعين منهم تقع على آبائهم بسبب التربية الخاطئة لأبنائهم. أما لعن النبي لهؤلاء الصبية فما هو إلا طلب النجدة من الله لإنقاذه. وفيما يلي نشرح ما يؤكد ذلك تفصيلًا:



أولًا: حقائق دراسية لا يمكن إغفالها:
· تعريف كلمة صِبْية: إن كلمة صبي في اللغة العربية تنطبق على من لم يبلغ بعد مرحلة البلوغ، ويتضح هذا من جرأتهم، ومشاغبتهم، وعدم اكتراثهم بكبار السن أمثال أليشع النبي، فكيف يكون هذا تصرف أطفال أبرياء لطفاء؟!

· مدينة بيت إيل: هي مركز للعبادة الوثنية، حيث كانت عبادة الله محتقرة هناك، وأنبياؤه مكروهين، ويمثلون هدفًا ليس للاستهزاء فقط، بل للقتل أيضًا، وقد أعلن إيليا (النبي السابق لإليشع) عن شدة اضطهاد الوثنيين لشعبه بقتلهم أنبياء الله، وهدم مذابحه المقدسة، حتى ظن أنه أصبح المؤمن الوحيد بالله، في ذلك الزمان، ولكن الله طمأنه قائلا: "وَقَدْ أَبْقَيْتُ فِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَةَ آلاَفٍ، كُلَّ الرُّكَبِ الَّتِي لَمْ تَجْثُ لِلْبَعْلِ وَكُلَّ فَمٍ لَمْ يُقَبِّلْهُ» (1مل 19: 18).

· مكان الواقعة: لقد حدثت الواقعة في الطريق المؤدي إلى البلدة ولم تحدث في نادٍ، أو ساحة في المدينة معدة للهو البريء المنظم، لكن الصبية خرجوا خصيصًا، وليس مصادفةً لملاقاة النبي خارج مدينتهم. فما هو غرضهم من خروجهم إليه إلا الاعتداء عليه؟!

· أعداد الصبية: لقد كان عدد الصبية المجتمعين على النبي كافيًا للإيذاء، الذي قد يصل إلى القتل بدليل قول الكتاب: أن الدبتين قتلتا منهم اثنين وأربعين صبيًا. فترى كم كان إجمالي عدد هؤلاء الصبية؟


ثانيًا: الاستنتاج المنطقي:
لم تكن هذه الواقعة مجرد لعب بريء، بل كان النبي هدفًا للاعتداء المتعمد من أهل تلك المدينة، وفيما يلي بعض الدلائل على ذلك:

· لم يكن هؤلاء الصبية أطفال لطفاء صغار العمر كأطفال الحضانة الأبرياء (رياض الأطفال أو.K.Gs) كما يظن البعض، لكنهم كانوا صبية في سن أولاد النصف الأخير من المرحلة الابتدائية، أو سن المرحلة الإعدادية.

· كان هؤلاء الصبية مهيئين لعمل أي شيء بدءًا من الإهانة والسخرية من النبي، وانتهاءً إلى الإيذاء البدني والقتل، وذلك حتى وإن افترضنا جدلًا أنهم لم ينووا ذلك، ومن منا يمكنه التنبؤ بما كان ممكنًا أن يحدث من هؤلاء الصبية المندفعون بأحقادهم وطيشهم؟! فيما يلي نذكر بعض الدلائل على ذلك:

1. توفر لديهم عامل الأكثرية بالمقارنة بخصمهم، الذي هو ذلك النبي الغريب الوحيد في الطريق، ومن المعروف أن توفر الأكثرية يؤثر على مزاج ونفسية المتجمهرين، فيشجع ويساعد جدًا على حدوث الشغب، بل والبلطجة أحيانًا، وعدم الانضباط أيضًا، وقد شهد الكتاب عن موقف مماثل لذلك أثناء خدمة بولس الرسول في مدينة أفسس قائلًا: "وَلَمَّا كَانَ بُولُسُ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْنَ الشَّعْبِ، لَمْ يَدَعْهُ التَّلاَمِيذُ. وَأُنَاسٌ مِنْ وُجُوهِ أَسِيَّا، كَانُوا أَصْدِقَاءَهُ، أَرْسَلُوا يَطْلُبُونَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ إِلَى الْمَشْهَدِ. وَكَانَ الْبَعْضُ يَصْرُخُونَ بِشَيْءٍ وَالْبَعْضُ بِشَيْءٍ آخَرَ، لأَنَّ الْمَحْفِلَ كَانَ مُضْطَرِبًا، وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَدْرُونَ لأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا قَدِ اجْتَمَعُوا!" (أع19: 30- 32).

2. طبيعة الصبية في هذه السن تجعل الأغلبية منهم يميلون إلى الصلف، والاستهتار بالآخرين، خصوصًا من لم يحظَ منهم بتربية سليمة، فيصبح من السهل عليه الانسياق للأهواء الدنيئة بطيش وحماقة، وقد عبر سليمان الحكيم في سفر الأمثال بدقة عن تصرفات أمثال هؤلاء الصبية بقوله: "... وَالصَّبِيُّ الْمُطْلَقُ إِلَى هَوَاهُ يُخْجِلُ أُمَّهُ. إِذَا سَادَ الأَشْرَارُ كَثُرَتِ الْمَعَاصِي، أَمَّا الصِّدِّيقُونَ فَيَنْظُرُونَ سُقُوطَهُمْ" (أم 29: 15، 16).

3. العدائية والبُغضة الشديدة، التي تملكت قلوب هؤلاء الصبية، نتيجة لنشأتهم في وسط وثني يشجع على الفجور والعنف والازدراء بالآخر، وقد شهد الكتاب عن أمثال هؤلاء الصبية ذوي القلوب المملوءة بغضةً قائلًا: "اَلْبُغْضَةُ تُهَيِّجُ خُصُومَاتٍ، وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوب" (أم 10: 12).



مثال عملي:
مازالت ذاكرتنا تحتفظ بذكريات كثيرة مؤلمة حدثت أثناء ثورتي بلادنا الحبيبة مصر (25 يناير و30 يونيو)، والتي بثتها شاشات وسائل الإعلام المرئية عن الكثير من المشاهد العدائية الكثيرة، والمؤلمة لتجمعات معظم محتشديها من الصبية المنتمين لجماعات إرهابية، وغيرهم من صبية ضالة، وهم يحرقون الممتلكات العامة، بل وحتى المتاحف الأثرية مستخدمين القنابل الحارقة، ويقذفون الحجارة بطريقة عشوائية، وينهبون المحلات والممتلكات العامة والخاصة، ويعتدون على الأبرياء، ويسخرون من النساء في الشوارع، ويسيئون إليهم لا لشيء سوى أنهم نساء، بل أكثر من هذا يعتدون بالقتل على كل من لا يتفق مع عقيدتهم، ذلك لأنهم رضعوا الكراهية في صغرهم كاللبن من أمهاتهم، ثم أُطلقوا لهواهم ليعتدوا على الآخرين بحجة أن كل مختلف عنهم فهو كافر.
ت

ثالثًا: التخيل المنطقي لأحداث الواقعة:
بحسب التخيلات البسيطة، والمنطقية للواقعة يكون تسلسل الأحداث لهذه الواقعة كما يلي:

· أن البعض رأوا النبي في طريقه إلى المدينة، فأبلغوا، -من رأوه من سكان المدينة- أن النبي يسير وحيدًا في الطريق.

· اندفع هؤلاء الصبية بعدما سمعوا الخبر بدافع الكراهية والعدائية، التي تسلموها من آبائهم من مكان لهوهم المعتاد بداخل المدينة إلى خارجها، وقد سبقوا آبائهم الذين كان بعض منهم خلفهم في الطريق.

· تزايدت أعدادهم أثناء خروجهم إلى النبي، فليس من المنطقي أن يكون عددهم بهذه الكثرة أثناء لهوهم في بادئ الأمر (فما هي اللعبة التي يشترك فيها اثنان وأربعون صبيًا مصادفة، دون أن ينظمهم قائد أو مشرف؟!)، بل أتخيل أنهم كلما ساروا في الطريق التف حولهم صبية آخرون؛ نتيجةً لهتافهم وضجيجهم ضد النبي، فقد اعتبر الآخرون صراخهم دعوة لانضمامهم لهم، حتى وصلوا إلى حيث كان النبي، وقد كونوا شبه مظاهرة تفوق الخمسين فردًا على أقل تقدير.

· ابتدأ النبي يصرخ لله ويستجير به، وهنا طلب من عدالة السماء أن توقف هذا الشر عنه ولعنهم.

· استجاب الله بحسب وعده القائل: "لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكِينِ، لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ." (مز 109: 31). فأرسل هاتين الدبتين فتفرق هؤلاء المعتدين في رعب، وحدث ما حدث.


رابعًا: موقف النبي:
1. كان الموت يقترب من أليشع النبي، فهو لا يعلم ما سَيُسْفر عنه تجمهر هؤلاء الصبية المطلقين دون ظابط أو رابط، ومن المعروف أن رجال الدين اليهود كانوا يغطون رؤوسهم بغطاء، فكيف انكشف غطاء رأس النبي دون أن يقترب منه أحد هؤلاء الصبية، ويشتبك معه، وينزع غطاء رأسه على سبيل الاستهزاء؟! وبالطبع من المنطقي أن هؤلاء الصبية ليس لديهم مانع من قذف النبي بالحجارة، ولما لا يكون أحدهم قد أمسك بالحجارة فعلًا لقذفه بها وقلده باقي الصبية؟

2. كان أليشع النبي في ضيقة حقيقية، وكان ينتظر الموت بين لحظة وأخرى، بل كل لحظة كانت تمر عليه وكأنها قد صارت دهرًا، لذا لعنته لهؤلاء الأشرار هي بمثابة لجوء إلى لله لطلب عدالته، لإنقاذه، وهل يستهتر أحدنا إذا رأى عقربًا يقترب منه بحجة صغر حجمه؟! أم يُقَدِر الموقف بمدى الخطورة الناشئة عنه فيستجير في فزع طالبًا النجدة؟

3. هل من المنطقي أن يلام النبي، مع أنه لم يَعتَدِ على أحد، بل هو المُعتَدىَ عليه، فهو لم يفعل شيئًا سوى اللجوء لله؟ وهل من العدالة أن يدّعي أحد أن هؤلاء الأشرار قلة من الأطفال الصغار اللطفاء الظرفاء يتفكهون مع النبي لبعض الوقت ببعض الفكاهات المضحكة... عجبًا...؟

4. ما الغرابة في لعن نبي لبعض الأشرار؟ فوظيفة النبي هي التنبؤ بالبركة والخير للأبرار، والتنبؤ باللعن أي الشر القادم على الأشرار، وذلك كقول الله لإرميا النبي: "اُنْظُرْ! قَدْ وَكَّلْتُكَ هذَا الْيَوْمَ عَلَى الشُّعُوبِ وَعَلَى الْمَمَالِكِ، لِتَقْلَعَ وَتَهْدِمَ وَتُهْلِكَ وَتَنْقُضَ وَتَبْنِيَ وَتَغْرِسَ» (إر1: 10).


خامسًا: موقف آبائهم وشرورهم:
أن أعظم مثال شاهد على شر آباء هؤلاء الصبية هو ما يحدث الآن في زماننا الحالي من جماعات إرهابية: فأحيانًا نراهم على شاشات وسائل الإعلام، يُعطون ابناءهم سكينًا ليذبحوا به أحد الأبرياء، فهل إن استجاب الله لصراخ الضحية، فخرج دب وافترس مثل هذا الصبي يأتي مَن يلوم الله بسبب صِغَر عمر القاتل وبراءته؟ إن آباء أمثال هؤلاء الصبية يتحملون المسؤولية كاملة عن ما حدث. لقد شعرت المدينة كلها بهرولة هؤلاء الصبية، وهياجهم، وخروجهم للقاء النبي، وهل من المعقول أن يدعي أحد أن آباءهم لم يشعروا بكل ما حدث؟! بالطبع لا، إلا إذا كان خروجهم قد تم في هدوء ونظام محكم، وإنه من الطبيعي، بل من المؤكد خروج بعض من كبارهم وراءهم، وهم الذين دفعوهم، وشجعوهم على الاعتداء على النبي. نعم إنهم المسئولون عن تصرفات أبنائهم، وإلا لماذا لم يقم كبير أو حكيم لينتهر هؤلاء الصبية، أو الأطفال الأبرياء (بحسب ظن المعترضين)؟

سادسًا: موقف الله القدير، والقاضي العادل:
1. كانت هذه الشعوب تعتقد بقوة آلهتها، ولذلك كانت الحروب في اعتقادها حروبًا بين الآلهة، فإن كان هذا النبي (فرضًا) قد قُتِلَ، ففي هذه الحالة تكون آلهتهم الوثنية قد انتصرت على الله، أما إن أظهر الله قوته، وانتقم بِعدلٍ من هؤلاء الأشرار، فتلك ضربة لهذه الآلهة الشريرة، وعقاب لهؤلاء الصبية الأشرار ولآبائهم الذين يتبعون آلهة شريرة، والتي هي في الواقع شياطين شريرة تحركهم، وليست فقط أصنامًا أو حجارة كقول الكتاب: فَمَاذَا أَقُولُ؟ أَإِنَّ الْوَثَنَ شَيْءٌ، أَوْ إِنَّ مَا ذُبحَ لِلْوَثَنِ شَيْءٌ؟ بَلْ إِنَّ مَا يَذْبَحُهُ الأُمَمُ فَإِنَّمَا يَذْبَحُونَهُ لِلشَّيَاطِينِ، لاَ ِللهِ. فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ شُرَكَاءَ الشَّيَاطِينِ" (1 كو 10: 19، 20).

2. إن افترضنا جدلًا أن الله بقي ساكنًا، ولم يتحرك ليُجِير النبي، فهل لا يأتي من ينتقد الله لأنه لم يقض للنبي؟ وهل لا يتساءل معترضًا قائلًا أين دور الله كقاضٍ عادل وإله يُظِهر حبه لخادمه ونبيه، الذي كرس نفسه لأجله؟! وألا يتساءل أحد أيضًا عن وعده الصادق القائل: "لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكِينِ، لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ." (مز 109: 31). ؟! وألا يستدعي ذلك في هذه الحالة التعجب، لأن الله لم يستجِب لنبيه الذي قد بدأ عمله كنبي منذ زمن حديث، ولكن الله تركه مع أول تجربة يتعرض لها؟!

3. تدخل الله لإنقاذ خادمه فيه إعلان، وتكريم لخدامه بحسب قول الكتاب: "وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: سَتَكُونُ لأَرْضِ سَدُومَ وَعَمُورَةَ يَوْمَ الدِّينِ حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا مِمَّا لِتِلْك الْمَدِينَةِ» (مر 6: 11). وهذا مطلوب لكي يعطي الله أمثال ذلك النبي مهابة في عيني شعبه، ومخافة في قلوب المناقضين، والمخالفين المستهزئين الساخرين، لعلهم يدركون الحقيقة ويتوبون عن شرهم وافتراءاتهم، وليكونوا عبرة أيضاُ لأشرار كثيرين غيرهم، وشهادة لعظمة الله الذي قال: "... فَإِنِّي أُكْرِمُ الَّذِينَ يُكْرِمُونَنِي، وَالَّذِينَ يَحْتَقِرُونَنِي يَصْغُرُونَ" (1صم2: 30).

4. على من لا يدركون حقيقة أن الله مُنتقم من الأشرار أن يدركوا ذلك، ويخافوه، فالنبي لم ينتقم لنفسه، بل طلب هذا من الله الذي له حق الانتقام للأبرياء، حينما شاء، وحسبما شاء، بحسب وعده القائل: "لِيَ النَّقْمَةُ وَالْجَزَاءُ. فِي وَقْتٍ تَزِلُّ أَقْدَامُهُمْ. إِنَّ يَوْمَ هَلاَكِهِمْ قَرِيبٌ وَالْمُهَيَّآتُ لَهُمْ مُسْرِعَةٌ" ( تث 32: 35).

أخيرًا:
لقد خلص الله النبي من الموت بهذه الأعجوبة، وأظن أنه لولا ظهور هاتين الدبتين لكان هذا النبي قد تعثَّر، وسقط على الأرض، فانهال عليه الصبية يقذفونه بالحجارة حتى الموت. فهل في هذا الوقت سيظل قول المعترضين بأن هؤلاء القتلة صبية صغار يلهون؟! أم سيتغير القول ليصبح "لماذا لم يفرقهم الله بأي وسيلة أخرى".

وعلى ذلك يجب القول: أنها أحكام الله المملوءة حكمة، فقد تكون هذه الواقعة قد ألقت المخافة في قلوب الكثيرين، وقد تكون سببًا لإظهار كرامة هذا النبي، وإعطائه هيبة في أعين شعب إسرائيل كسابقه إيليا النبي، وقد تكون... وقد تكون... وقد تكون... فما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقة عن الاستقصاء.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:05 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
6- لماذا ضرب الرب عُزَّةُ وأماته عندما مد يده ليسند تابوت العهد خوفًا عليه من السقوط؟ ألم يكن خوف عُزَّةُ على التابوت يعبر عن نية حسنة، ويحسب له على سبيل التكريم لتابوت عهد الله؟


السؤال السادس

لماذا ضرب الرب عُزَّةُ وأماته عندما مد يده ليسند تابوت العهد خوفًا عليه من السقوط؟ ألم يكن خوف عُزَّةُ على التابوت يعبر عن نية حسنة، ويحسب له على سبيل التكريم لتابوت عهد الله؟


الإجابة:

الله هو القدير ذو المجد والسلطان الأعظم، وهو مستحق التقدير والمهابة من خلائقه. ولا يتحقق ذلك دون الخضوع لما وضعه الله من أحكام وقوانين وشرائع. أما من يعتدي على أحكامه فلا حق له في التضرر لما وقع عليه من عقاب استحقاقًا لتعديه، وفيما يلي بعض النقاط الهامة التي توضح ذلك بالتفصيل:



أولا:ً هيبة الله ضرورة ملازمة لعظمته وسلطانه:
الهيبة هي تقدير واحترام ومخافة ذو السلطان في أعين الناس، وهي تنشأ نتيجةً وتأثرًا بعظمته ومجده وقدرته، وكلما زادت عظمته زادت هيبته، وأعظم مثال يوضح ذلك هو اختلاف هيبة رؤساء الدول بحسب عظمتهم، فرئيس دولة عظمى له هيبة أعظم مقارنةً برؤساء الدول الصغيرة، وأيضًا لا يمكننا أن نقارن ما يتمتع به ملك، أو رئيس دولة من هيبة في قلوب رعاياه بمن يشغل منصبًا بسيطًا. أما الله فهو العظيم القدير والقدوس، الذي بيده السلطان، وهو الخالق الذي يضبط الكون كله، وكافة الخليقة، ولا حدود لقوته، أو عظمته، فلابد أن يكون له مهابة وقدسية عظيمة من ملائكته وخليقته كقول سفر الرؤيا: وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ:«عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ" (رؤ 15: 3- 4).

لقد أعلن الكتاب المقدس عن هيبة الله وأيضًا عن ضرورة مراعاة الإنسان لتلك الهيبة، وفيما يلي نعرض لذلك بالشرح:



· الإعلان عن هيبة الله:
1. نزول الله على جبل سيناء كان مهيبًا، فالجبل كان يرجف ويحترق بالنار، والدخان يتصاعد منه، وهو محاط بسحاب ثقيل وصوت بوق يدوي حتى ارتعب الشعب، وطلبوا من موسى أن يتكلم مع الله كوسيط بين الله وبينهم.

2. تجلت مظاهر عظمة وقداسة الله عندما رأى إشعياء النبي عظمة مجده فصرخ حينئذ قائلًا: "... «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ». (إش6: 5).

3. رآه يوحنا الحبيب فوقع عند رجليه كميت، لأنه لم يحتمل الصمود أمام هيبة مجد الله، وقد سجل ذلك في رؤياه قائلًا: "فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَيَّ قَائِلًا لِي:«لاَ تَخَفْ، أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتًا، وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ! آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ." ( رؤ1: 17- 18).

4. قدس البشر الله وهابوه حتى أنهم قدسوا الأماكن التي رأوه فيها، فيعقوب -أب الآباء- عندما رآه في حلم، وهو هارب من وجه أخيه قال عن ذلك المكان: "... «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!». وَخَافَ وَقَالَ: «مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ». (تك28: 16- 17). وموسى النبي خلع نعل رجليه بأمر الرب عندما رآه في العليقة المشتعلة بالنار، والتي لم تحترق لأن ذلك المكان تقدس بحضور الرب، وهكذا...

● ضرورة مراعاة الإنسان لهيبة الله: لابد أن يتعامل الإنسان مع الله من منطلق عظمة قداسته، فهو القدوس الذي لا يدنو منه شر، وهو يشاء أن يطهرنا، ويهبنا من قداسته إن قدسناه في قلوبنا كقول معلمنا بطرس الرسول: "بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ،... " (1بط3: 15)، ولذلك عَلّم الله شعبه كيف يَعبِده باتضاع، وفي خشوع ومهابة فهو القدوس، وهذا واجب ومنطقي جدًا، فإن كانت الدول تضع البروتوكولات المعقدة للتعامل مع ملوكها ورؤسائها ليحافظوا على هيبة عظمائهم. ألا يقدس البشر الله، ويحفظوا مقدساته (كتابوت عهد الله)، ولا يقتربوا منها إلا بحسب ما وَضَعَ الله لهم من ترتيب ونظام (طقوس) ؟

لقد علمنا الكتاب المقدس ذلك في مواضع كثيرة نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

1. " فَالآنَ يَا أَيُّهَا الْمُلُوكُ تَعَقَّلُوا. تَأَدَّبُوا يَا قُضَاةَ الأَرْضِ. اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ" (مز2: 10- 11).

2. " الْجَلاَلُ وَالْبَهَاءُ أَمَامَهُ. الْعِزَّةُ وَالْبَهْجَةُ فِي مَكَانِهِ. هَبُوا الرَّبَّ يَا عَشَائِرَ الشُّعُوبِ، هَبُوا الرَّبَّ مَجْدًا وَعِزَّةً. هَبُوا الرَّبَّ مَجْدَ اسْمِهِ. احْمِلُوا هَدَايَا وَتَعَالَوْا إِلَى أَمَامِهِ. اسْجُدُوا لِلرَّبِّ فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ." (1 أخ 16: 27- 29).

3. "يَحْمَدُونَ اسْمَكَ الْعَظِيمَ وَالْمَهُوبَ، قُدُّوسٌ هُوَ" (مز 99: 3)، وهكذا..
ثانيًا: تابوت عهد الله القدوس:
● تابوت العهد يعلن عن حضور الله وسط شعبه:
أعطى الله شريعته مكتوبة لموسى النبي على لوحين من الحجارة، وقد أحاط الله استلام لوحي العهد بجو من المهابة الشديدة له، ولكلمته المكتوبة فيهما؛ لأنهما يعتبران من أهم المقدسات الإلهية في العهد القديم، وهما يمثلان حضور الله وسط شعبه، ولذلك أمر الله موسى النبي قبل صعوده للجبل ليستلم لوحي الوصايا قائلًا: "انْحَدِرْ حَذِّرِ الشَّعْبَ لِئَلاَّ يَقْتَحِمُوا إِلَى الرَّبِّ لِيَنْظُرُوا، فَيَسْقُطَ مِنْهُمْ كَثِيرُونَ. وَلْيَتَقَدَّسْ أَيْضًا الْكَهَنَةُ الَّذِينَ يَقْتَرِبُونَ إِلَى الرَّبِّ لِئَلاَّ يَبْطِشَ بِهِمِ الرَّبُّ" (خر19: 21- 22).



· طريقة، وطقس (برتوكول) التعامل مع التابوت:
وضع الله مقدساته (تابوت العهد) ليحيا البشر من خلالها حياة سامية مقدسة، ومثال ذلك في العهد الجديد التناول من الأسرار الإلهية. لقد كانت قدسية الله ممثلة في قدسية هذا التابوت، ولذلك حدد الله نظامًا معينًا للتعامل معه كالتالي:

1. الكهنة (بني هارون) هم وحدهم الذين يغطون التابوت عند نقله بأغطية معينة، ولا ينظره أحد غيرهم، حتى اللاويين من عشيرة القهاتيين المكلفين بحمله كقول الكتاب: "وَلاَ يَدْخُلُوا لِيَرَوْا الْقُدْسَ لَحْظَةً لِئَلاَّ يَمُوتُوا». (عد4: 20).

2. كلف الله اللاويين بني قهات بحمل التابوت على أكتافهم، وليس على عربة قائلًا: "وَمَتَى فَرَغَ هَارُونُ وَبَنُوهُ مِنْ تَغْطِيَةِ الْقُدْسِ وَجَمِيعِ أَمْتِعَةِ الْقُدْسِ عِنْدَ ارْتِحَالِ الْمَحَلَّةِ، يَأْتِي بَعْدَ ذلِكَ بَنُو قَهَاتَ لِلْحَمْلِ وَلكِنْ لاَ يَمَسُّوا الْقُدْسَ لِئَلاَّ يَمُوتُوا. ذلِكَ حِمْلُ بَنِي قَهَاتَ فِي خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ. " (عد4: 15)...

وهكذا رسخ الله مهابته، وقدسيته في أذهان كل الشعب، وأصبح ذلك معلومًا للجميع بل أيضًا للشعوب الغريبة مثل الفلسطينيين الذين عندما استولوا على التابوت، وأرادوا الاستهانة به ضربهم الله بالأمراض، حتى اضطروا أن يعيدوه لشعب بني إسرائيل مكرمًا، ومعه تقدمات من الذهب إكرامًا لله.
ثالثًا: الممنوع الذي لا سماح فيه:
هناك أمور لا يَسمح ذو السلطان بانتهاكها، أو حدوثها نهائيًا، ولا مبرر ولا عذر لحدوثها، ولا استثناء في ذلك ولو لمرة واحدة، وذلك بسبب أهميتها وقدسيتها، أو لخطورتها الشديدة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكمثال لذلك لا يُسمح بالاقتراب من المواقع العسكرية، وما يخص أمن أي دولة من معلومات مُحاطًا بالسرية التامة، ولا سماح بالوصول إليها أو الاطلاع عليها، وأيضًا غير مسموح بالاقتراب من أماكن تواجد الملوك والعظماء بدون الالتزام ببروتوكولات محددة للقائهم، وهكذا أيضًا مقدسات الله لا سماح بالتعامل معها دون الالتزام بشرائع وأنظمة حددها الله مُسبقًا، ولكن قد يتساءل أحد: وماذا لو حاول أحد أن ينتهك أو يخترق الممنوع ؟ والإجابة بالطبع معروفة من خلال الأمثلة السابقة وهي: أن ذي السلطان لن يسمح بذلك، حتى ولو أدى الأمر لاستخدام القوة للمنع، فالممنوع هو ما لا سماح فيه أبدًا.

رابعًا: كيف وصل التابوت لبيت عٌزَّةُ؟:
· زاد شر إسرائيل في فترة كهنوت عالي الكاهن، فأسلمهم الله ليد الفلسطينيين لشرهم، فتمثلوا بالوثنيين وحملوا التابوت، وذهبوا ليحاربوهم، ولكنهم انكسروا أمامهم، واستولى الفلسطينيون على تابوت الله.

· استهتر الفلسطينيون بالتابوت ووضعوه في هيكل إلههم داجون كعلامة على انتصار إلههم على الرب.

· ضرب الرب الفلسطينيين بالأمراض، ثم بعدما تأكدوا أن السبب هو إهانتهم للتابوت، قرروا إعادته بحسب قول الكتاب:" فَثَقُلَتْ يَدُ الرَّبِّ عَلَى الأَشْدُودِيِّينَ، وَأَخْرَبَهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْبَوَاسِيرِ فِي أَشْدُودَ وَتُخُومِهَا. وَلَمَّا رَأَى أَهْلُ أَشْدُودَ الأَمْرَ كَذلِكَ قَالُوا: «لاَ يَمْكُثُ تَابُوتُ إِلهِ إِسْرَائِيلَ عِنْدَنَا لأَنَّ يَدَهُ قَدْ قَسَتْ عَلَيْنَا وَعَلَى دَاجُونَ إِلهِنَا». (1صم5: 6- 7) ملحوظة: هذا العقاب كان مُخَففا،ً لأن الله لم يعلن لهم عن عظمته ومجده كما أعلن لبني إسرائيل.

· أرجع الفلسطينيون التابوت بعد ثلاثة أشهر، وذلك بعدما نفَذوا بدقة مشورة حكمائهم القائلة لهم: "فَالآنَ خُذُوا وَاعْمَلُوا عَجَلَةً وَاحِدَةً جَدِيدَةً وَبَقَرَتَيْنِ مُرْضِعَتَيْنِ لَمْ يَعْلُهُمَا نِيرٌ، وَارْبِطُوا الْبَقَرَتَيْنِ إِلَى الْعَجَلَةِ، وَأَرْجِعُوا وَلَدَيْهِمَا عَنْهُمَا إِلَى الْبَيْتِ. وَخُذُوا تَابُوتَ الرَّبِّ وَاجْعَلُوهُ عَلَى الْعَجَلَةِ، وَضَعُوا أَمْتِعَةَ الذَّهَبِ الَّتِي تَرُدُّونَهَا لَهُ قُرْبَانَ إِثْمٍ فِي صُنْدُوق بِجَانِبِهِ وَأَطْلِقُوهُ فَيَذْهَبَ" (1ص6: 7- 8)، فلما فعلوا كذلك انطلقت البقرتان المرضعتان في طريقهما إلى بيت شمس (أول حدود إسرائيل)، ولم تهتما برضيعيهما، فتأكد الفلسطينيون أن ما حدث لهم لم يكن أمرًا عارضًا بل بسبب تابوت الرب.

· تجمهر أهل مدينة بيت شمس اليهودية،ولم يوقروا التابوت المقدس كما ينبغي كما تأمرهم شريعة موسى النبي، بل نظروا ما بداخله، مخالفين بذلك أوامر الرب: بألا ينظر أحد التابوت غير الكهنة فضرب الرب منهم الكثيرين.

· صعد أهل قرية يعاريم التي هي بعل يهوذا، وأصعدوا تابوت عهد الرب إلى بيت أبيناداب، وقدسوا (كرسوا) ابنه إليعازار للحفاظ على التابوت المقدس.

· مكث التابوت في بيت أبيناداب، الذي تربى فيه عُزَّةُ وأخوه (حفيدي أبيناداب) حوالي سبعين عامًا.


بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:06 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 

خامسًا: هل أخطًا عُزَّةُ عندما أمسك بالتابوت؟:
الواقعة بحسب نص الكتاب هي: "فَأَرْكَبُوا تَابُوتَ اللهِ عَلَى عَجَلَةٍ جَدِيدَةٍ، وَحَمَلُوهُ مِنْ بَيْتِ أَبِينَادَابَ الَّذِي فِي الأَكَمَةِ. وَكَانَ عُزَّةُ وَأَخِيُو، ابْنَا أَبِينَادَابَ يَسُوقَانِ الْعَجَلَةَ الْجَدِيدَةَ. فَأَخَذُوهَا مِنْ بَيْتِ أَبِينَادَابَ الَّذِي فِي الأَكَمَةِ مَعَ تَابُوتِ اللهِ. وَكَانَ أَخِيُو يَسِيرُ أَمَامَ التَّابُوتِ، وَدَاوُدُ وَكُلُّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ يَلْعَبُونَ أَمَامَ الرَّبِّ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الآلاَتِ مِنْ خَشَبِ السَّرْوِ، بِالْعِيدَانِ وَبِالرَّبَابِ وَبِالدُّفُوفِ وَبِالْجُنُوكِ وَبِالصُّنُوجِ. وَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى بَيْدَرِ نَاخُونَ مَدَّ عُزَّةُ يَدَهُ إِلَى تَابُوتِ اللهِ وَأَمْسَكَهُ، لأَنَّ الثِّيرَانَ انْشَمَصَتْ." (2صم6: 3- 6).

بالتدقيق، والبحث يمكننا أن نجزم بخطأ عُزَّةُ مما يلي:

· شهادة الكتاب القائل: "إن غضب الرب حمي على عُزَّةُ "، وليس معقولًا أن الرب غضب على عُزَّةُ دون أن يخطئ.

· يقول الكتاب لأجل غفلهِ، وليس لأجل غفلة، وهذا يعني أنه كان يعلم أن فعله هذا ممنوع، وغير مسموح انتهاك حرمة تابوت الله تحت أي ظرف من الظروف، ولا عذر يبيح ذلك كما أشرنا سابقًا، ولكنه تغافل عن ذلك واللفظ في الترجمات الإنجليزية (his error or his temerity) يعني أخطأ أو تجاسر أو تهور.

· من المفترض أن عُزَّةُ تعلم، واستلم من إليعازار المكلف بحراسة تابوت الله (قد يكون أباه أو عمه) قدسية هذا التابوت وحرمته، وأنه رجع إلى أسفار موسى النبي، ودرس كل ما يتعلق بتابوت الله لأنه من سبط لاوي، وهو أقرب مايكون من تابوت الله ومن المفترض أنه خلال سنوات عمره قد سمع من أهله كيف ضرب الرب الفلسطينيين بالأمراض، وكيف أرجعوا التابوت مكرمًا ومعه تقدمات، وكيف ضرب الرب أهل بيت شمس، لأنهم خالفوا وصايا الله في التعامل معه.

· من المفترض أن يكون عُزَّةُ قد تدرب أن لا يقترب من التابوت أبدًا مهما كان الأمر، حتى أصبح ذلك عقيدة تلقائية لا يمكنه نسيانها، لكن يبدو أنه قد تعود على الاستهتار، واقترب من التابوت مرات كثيرة قبل ذلك، وقد يكون إمساكه بالتابوت نوعًا من الاستعراض أمام الجمع.

· ألم يفكر عٌزَّةُ عندما انشمصت الثيران أن هذا قد يكون غضبًا من الله، خصوصًا أنه يعلم أمر البقرتين المرضعتين، اللتين وضع عليهما الفلسطينيون التابوت، وكيف تركتا رضيعيهما، وسارتا دون أي مقاومة إلى بيت شمس دون أن يميلا يسارًا أو يمينًا. لقد كان واجب عليه أن يوقف العربة، ولا يحاول أن يكمل المسير، لأنه بحسب نص الكتاب كان أخوه أخيو يسير أمام التابوت وهو يسوق العجلة الجديدة الحاملة للتابوت، ولكنه على ما يبدو أنه استدار للخلف ليمسك بالتابوت بدلًا من أن يتوقف. فحمي غضب الرب عليه.


أخيرًا: لماذا لم يتساهل الله مع عُزًّةُ؟:
· أولًا: لو تساهل الله ولم يأخذ موقفًا مثل هذا مع عُزَّةُ أمام هذا الجمع لكان هذا بمثابة تصريح علني من الله بانتهاك المقدسات، ومخالفة وصايا الله ونواهيه، ولضاعت حينئذ هيبة الله، وقدسية مقدساته تحت مبرر أنه تجوز المخالفة لحسن النية.



· ثانيًا: لنفترض جدلًا أن عُزَّةُ صنع ذلك بنية طيبة، لكنه كان لابد أن يموت بحسب القانون الالهي، الذي شرعه الله بخصوص التابوت، وذلك كما يحدث عندما يموت إنسان سقط سهوًا من على جبل عال بسبب قانون الجاذبية الأرضية. وفي كلتا الحالتين لن يعاقبهما الله في الأبدية، لأن ذلك كان حادثًا عرضيًا، لا ذنب لهما فيه، لكنهما كانا لابد أن يموتا طبقًا لقانون الله الخالق، ولا استثناء في ذلك.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:07 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
7- لماذا التركيز على خطية يهوذا، واعتباره خائن؟ ألا تُعتَبر خطية بطرس الرسول مثل خطية يهوذا؟ ولماذا نتغنَّى بتوبة بطرس الرسول بينما لا نُقَدِّر توبة يهوذا وندمه الشديد؟


السؤال السابع

لماذا التركيز على خطية يهوذا، واعتباره خائن؟ ألا تُعتَبر خطية بطرس الرسول مثل خطية يهوذا؟ ولماذا نتغنى بتوبة بطرس الرسول بينما لا نقدر توبة يهوذا وندمه الشديد؟


الإجابة:

إجابة الجزء الأول: الفرق بين خطيئة بطرس الرسول وخطيئة يهوذا الإسخريوطي:

إن ظن البعض بالتشابه بين خطيئة معلمنا بطرس الرسول، وخطيئة يهوذا الإسخريوطي يخالف الحقيقة، ذلك لأن أفعال الإنسان يجب ألا تُقاس بظواهرها كما علمنا الرب بقوله: "لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلًا». (يو7: 24). ولهذا علينا أن نغوص في تحليل أقوال، وتصرفات كل منهما بعمق. إن الدراسة المتأنية للبشائر الأربع تظهر بوضوح فرقًا شاسعًا بين خطأ الاثنين. وفي النقاط التالية نعرض بعض هذه الاختلافات:



أولًا: الاهتمامات القلبية للإنسان تحدد مصيره:


● كنز الإنسان قلبه:
القلب كنز يدخر فيه الإنسان ما يحبه، وما يهتم به كثيرًا، أو ما يشغل باله. وما يحبه الإنسان ويحتفظ به في قلبه له قيمة عظمى عنده (سواء كان خيرًا أم شرًا). ولهذا سمى ربنا يسوع المسيح القلب بالكنز قائلًا:"اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ." (لو6: 45). إن قول الرب: "كنزه" يعبر عن المعنى السابق، وهو أغلى شيء عند الإنسان، وبالطبع هذا يَشغل الإنسان ويأخذ منه كل اهتمام، ويلهيه عن باقي أموره، ومن السهل عليه أن يضحي بأي شيء لأجله.



● القلب هو مركز ومصدر الفضائل، أو الرذائل:
أكد الرب أن الشرور تنبع من القلب قائلًا: "لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ" (مت 15: 19)، ولذلك علمنا الوحي الإلهي أهمية حفظ الإنسان لنقاوة قلبه قائلًا: "فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ" (أم4: 23). يعتمد خلاص الإنسان على اهتماماته القلبية، فإن كانت تتجه نحو الله يفوز بخلاص نفسه، أما إن كانت تتجه نحو الجسد، والمادة فلن يخلص.


ثانيًا: اهتمامات وأولويات كل من قلب بطرس الرسول، وقلب يهوذا:


· بطرس الرسول:

اتجه بطرس الرسول بقلبه للرب، وما يلي يؤكد ذلك:

§ شهادة الرب له: لقد أحب بطرس الرب من قلبه بصدق، واشتاق لمعرفته، فأعلن له الآب عن ألوهية ابنه (الرب يسوع). لقد مدحه الرب يسوع لاشتياقات قلبه الصادقة نحوه، وشهد له قائلًا: "فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت16: 17).

§ مشاعره الصادقة نحو الرب: أحب بطرس الرب بشدة، وعندما أعلن الرب لتلاميذه عن آلامه وصلبه انتهره بطرس بحماس قائلًا: "... «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!" (مت16: 22). ولما وبخه الرب على قوله، لم يوبخه لأنه غير صادق، بل، لأنه لا يهتم بما لله (مشيئة الله) قائلًا له: "فَالْتَفَتَ وَقَالَ لِبُطْرُسَ: «اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! أَنْتَ مَعْثَرَةٌ لِي، لأَنَّكَ لاَ تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ". (مت16: 23).


§ تَعَلُقه واتكاله التام على الرب: أكد الرب للجموع ضرورة أكل جسده، وشرب دمه الأقدسين، ولكن الكثيرين تركوه، ولم يعودوا يتبعوه. عندئذ التفت الرب إلى الإثنى عشر تلميذًا متسائلًا إن كانوا يريدون أن يمضوا هم أيضًا، ولكن القديس بطرس استنكر ذلك بشدة مؤكدًا حبه له، واشتياقه لتبعيته قائلًا: "فَأَجَابَهُ سِمْعَانُ بُطْرُسُ: «يَا رَبُّ، إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كَلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ،" (يو6: 68).

§ تبعيته للرب في آلامه: كان معلمنا القديس بطرس يشاء أن يتبع الرب إلى الصليب، وبالفعل ذهب وراءه إلى دار رئيس الكهنة، وهذا بعكس الكثيرين من التلاميذ الذين تفرقوا عنه.

§ تأثره بنظرة الرب إليه: بعد إنكاره للرب استجاب في الحال لنظرة واحدة من الرب له، بحسب قول الكتاب: "فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ.. فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّ" (لو22: 61- 62). لقد خرج مسرعًا وكأنه استيقظ من كابوس مخيف لا يحتمل أن يعيشه ولو للحظة، ولذا خرج سريعًا نافضًا عنه ضعفه.



· يهوذا الإسخريوطي:

اتجه يهوذا بكامل قلبه نحو المال، فأعطاه أولوية حياته، حتى صار المال هدفه الأعظم. لقد تحقق فيه قول معلمنا بولس الرسول: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ." (1تي6: 10). وهذا ما يتضح مما يلي.

§ شهادة الكتاب المقدس: سجل معلمنا يوحنا الإنجيلي هذه الشهادة عن يهوذا في بشارته قائلًا: "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاثمائة دينار ويعط للفقراء قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ" (يو12: 4- 6).

§ استعبد لشهوة المال بجنون: لقد أحب يهوذا المال جدًا، ولم يهمه ماذا سينتج عن هذه المحبة الخاطئة. لقد صار حبه للمال سببًا لعنته، وهلاكه بحسب تعبير النبوة القائلة: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ. وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ، فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ" (مز109: 17- 18). صورت النبوة السابقة تملك شهوة حب المال على قلبه، وكأنها قد أحاطت به تمامًا من كل ناحية كثوب لبسه فغطاه، واخترقت أعماقه الداخلية كما تدخل المياه في الأحشاء لتملأها، وأيضًا كالزيت الذي يتسرب إلى مسام العظام الصلبة لتملأها تمامًا.

لقد كان يهوذا مستعبدا لشهوة حب المال بشدة، ودليل ذلك هو:

1. الثمن الزهيد الذي خان لأجله الرب دليل على أن القليل من المال كان له تأثير خطير عليه.

2. لم يرسل رؤساء الكهنة أحد عملائهم للتفاوض معه في أمر تسليم الرب لهم، لكنه ذهب بنفسه ليتمكن من التفاوض معهم على المزيد.

3. كان جريئًا في شره أو سرقته للصندوق، بدليل أنه لم يخش أن يُكتشف أنه صاحب مصلحة خاصة في جلب الأموال لصندوق الفقراء، بل وبخ مريم أخت لعازر طالبًا أن يضع الناس المال في الصندوق.

4. تجرده من حب صديقه، وعدم تقديره له، وذلك بعكس ما فعلته مريم أخت لعازر، وغيرها من النساء اللواتي سكبن طيبًا غاليًا على الرب يسوع، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولكن استنكار يهوذا لما فعلته مريم يعبر عن عدم حبه لسيده، وأيضًا عدم تقديره له. لقد كان الأجدر به أن يخجل من الاعتراض على ما صنعته مريم إن كان في قلبه شيء من الحب، أو التقدير لمعلمه. إن سكب الطيب في زمن الرب يسوع كان يعبر عن مشاعر الحب والتقدير والإكرام. أما هو فلم يكن لسيده حبًا في قلبه.

5. انفصاله عن جماعته بسهولة. لقد قضت محبته للمال على انتماءه لجماعته وأصدقائه، فلم يعتد بأحد منهم. لقد خرج من وسطهم يوم العيد مسرعًا لئلا تفوته صفقة بيع سيده بحسب قول الكتاب: "فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ " (يو 13: 2).



· فرق شاسع بين الاثنين: لا يمكننا أن ننظر لكل الخطايا من جهة بشاعتها من منظور واحد. فخطيئة يهوذا تختلف تمامًا عن خطيئة معلمنا بطرس الرسول، وفيما يلي نذكر بعض هذه الاختلافات:

1. الدافع للخطية: الدافع لخطية معلمنا بطرس الرسول هو الخوف والضعف، ولكن القلب كان ممتلئًا بحب الرب. أما يهوذا فقد كان الدافع لخطيته هو حب المال.

2. كيفية حدوثها: خطية معلمنا بطرس الرسول عارضة، ولدت في لحظة. أما يهوذا فقد وجدت الخطيئة في قلبه أولًا كشهوة، وظل جنينها ينمو في قلبه لفترة زمنية غير قصيرة، حتى اكتمل وأصبح لا مفر من ولادتها كقول الكتاب: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (يع1: 15). هي خطية إرادية مع سبق الإصرار.

3. المشاعر المصاحبة للخطية: خيانة يهوذا صاحبها عمى بصيرة أدت به إلى هلاك أبدي، وصَاحَبتها أيضًا بلادة وقساوة، وفقدان في الحس، حتى أنه لم يلتفت لما سَيُسَبِبَهُ ذلك من ألم لمعلمه وصديقه. أما بطرس الرسول فقد وجد نفسه أمام خطر فتملكته مشاعر الخوف بسبب ضعفه، لكن داخله كان مملوءًا بمشاعر الألم لأجل ما أصاب سيده.

إجابة الجزء الثاني: الفرق بين توبة معلمنا بطرس الرسول، وتوبة يهوذا:
· التوبة هي الرجوع لله: التوبة هي رجوع الإنسان بكل القلب لله كقول الكتاب: وَلكِنِ الآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْح، وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ" (يؤ2: 12- 13). ولكن ليس كل ندم على فعل الخطية هو توبة؛ لأن الإنسان قد يندم تأثرًا لنتائج الخطية لكنه في نفس الوقت قد لا تكون لديه رغبة صادقة في الرجوع لله.

· موقف بطرس ويهوذا من التوبة: لم يقدم يهوذا توبة، لأنه لم يرجع لله بقلبه حسبما أوضحنا سابقًا، ودليل ذلك أنه لم يبحث عن الرب الحبيب المتألم ليقدم له ندمه، أو ليتأسى على آلامه. ولم نسمع أنه ذهب ليبحث عن تلاميذ الرب، ليشاركهم ذكريات حب الرب لهم، أو ليشاركهم حزنهم، أو حتى ليؤكد انتماءه لجماعة الرب، فيا ليته فعل ذلك لكان الرب قد لاقاه في العلية، ولكان قد سمع صوت الرب الحاني يقول له ولبطرس: "أتحبني...ارع غنمي".

· الحب أعظم ضمان للتوبة: إن أعظم ضمان للتوبة، والرجوع إلى الله عند الخطأ هو مقدار رصيد الحب في القلب. لقد كانت المحبة الشديدة لشخص الرب هي السر وراء عدم تمادي بطرس الرسول، وتوبته القوية. جذبه الحب المتمكن من قلبه للعودة لوضعه الأصلي (حضن الله) مرة أخرى. أما يهوذا فقد اضمحل الحب من قلبه، وهذا هو سر عدم توبته ويأسه، بل وهلاكه.



· هل هي حقًا توبة؟
إن رجوع يهوذا لرؤساء الكهنة لا يُحْسَب له توبة، بل هو محاولة للتخلص من الثلاثين قطعة من الفضة دليل خطيئته. لقد توهم أنه برده لثمن خيانته قد غسل يديه من الخيانة، ولكن هذا لم يكن ممكنًا إلا بالرجوع للرب، الذي تضرع إليه داود النبي قائلًا: "طَهِّرْنِي بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ." (مز51: 7). لقد خرج يهوذا من دار رئيس الكهنة؛ فوجد شيطان الخيانة في إنتظاره مرة أخرى يطارده حيثما يمضي، ويُعَيره ويُحَقره. أغلق الشرير أمامه كل سبيل حتى الموت والهلاك.

· أراد أن يخلص ذاته فأهلكها: بذل يهوذا قصارى جهده لإسعاد ذاته، وتأمينها بحبه للمال فخان سيده، وعندما أخطأ لم يحتمل على ذاته -التي كان يحبها لدرجة العبادة- أن يراها خائنة، وساقطة في الحضيض. لقد سبق الرب وحذر من الحب الخاطئ للذات قائلًا: "فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا" (لو9: 24).

أخيرًا لعلنا نتساءل هل تحسب له مثل هذه توبة يقبلها الله؟!!

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:08 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
8- لماذا حكم الرب على يهوذا مُسلمه مسّبقًا بالويل؟ ولماذا يلام يهوذا مع أن الرب قد اختاره ليتمم به الفداء عندما أعطاه اللقمة، وقال له ما أنت فاعله، فافعله سريعًا؟


السؤال الثامن

لماذا حكم الرب على يهوذا مُسلمه مسّبقًا بالويل؟ ولماذا يلام يهوذا مع أن الرب قد اختاره ليتمم به الفداء عندما أعطاه اللقمة، وقال له ما أنت فاعله، فافعله سريعًا؟


الإجابة:

كشف الوحي الإلهي بدقة مسئولية يهوذا التامة عن شره قائلا: "وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ، وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ" (مز109: 17). من خلال النقاط التالية نشرح ذلك تفصيلًا:



أولًا : لم يحكم الله على يهوذا مسبقًا:
لم يُعطِ الرب شخص يهوذا ويلًا، أو حكمًا مسبقًا إنما لِحُبِه له حذره، وأنذره كراعٍ صالح مما سيأتي عليه في حالة تمسكه بشره، ودليل ذلك قوله: "ويل لذلك الرجل الذي".. وليس "الويل لك" كما جاء بحسب بشارة القديس مرقس القائلة: "... وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!». (مر14: 21).


ثانيًا: لم يختر الرب يسوع يهوذا ليسلمه:
هذا الافتراض غير منطقي كلية، وحاشا لله أن يفعل هذا، لأن الله هو الخالق القدير كلي الحكمة المُدبر كل ما في السماء، وما على الأرض. لقد شهدت العذراء أنه هو الصانع عظائم قائلة: "لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ،" (لو1: 49). وإنه لمن السذاجة أن يَتهم عاقل الرب بأنه كان يتحين فرصة ليدفع يهوذا لخيانته، حتى يتمكن من إتمام الفداء. قد يكون هذا افتراض منطقي لإنسان ضعيف مثلي، ومثلك يقتنص الفرص ليصل إلى ما يريد. أما بالنسبة لله فهذا غير معقول، لأنه لا يعسر عليه أمر كقول إرميا النبي: ".هأَنَذَا الرَّبُّ إِلهُ كُلِّ ذِي جَسَدٍ. هَلْ يَعْسُرُ عَلَيَّ أَمْرٌ مَا؟" (إر32: 27).


ثالثًا: صلاح الله:
الله هو الراعي الصالح بحسب قوله عن نفسه: "... أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ." (يو10: 10- 11)، وهذا يعني ما يلي:

● الله كامل في كل طرقه ومعاملاته، ولا يغوي أحدًا كقول الكتاب: "بَارٌّ أَنْتَ يَا رَبُّ، وَأَحْكَامُكَ مُسْتَقِيمَةٌ." (119: 137). وأيضًا قول الوحي الإلهي على فم أليهو صديق أيوب: "لأَجْلِ ذلِكَ اسْمَعُوا لِي يَا ذَوِي الأَلْبَابِ. حَاشَا ِللهِ مِنَ الشَّرِّ، وَلِلْقَدِيرِ مِنَ الظُّلْمِ. لأَنَّهُ يُجَازِي الإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُنِيلُ الرَّجُلَ كَطَرِيقِهِ. فَحَقًّا إِنَّ اللهَ لاَ يَفْعَلُ سُوءًا، وَالْقَدِيرَ لاَ يُعَوِّجُ الْقَضَاءَ." (أي34: 10- 12).

● لا يفرط في أحد من رعيته، كما أشار هو في مَثل الخروف الضال، عندما ذهب ليبحث عن خروف واحد ضال من مائة خروف. وهذا ما أكده الرب في ساعة القبض عليه في بستان جثسيماني بحرصه على سلامة تلاميذه كقول معلمنا يوحنا الحبيب: "أَجَابَ يَسُوع: "... فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ». لِيَتِمَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: «إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدًا" (يو18: 8- 9). فكيف يحكم الرب على تلميذه المحبوب يهوذا مسبقًا، أو يتمنى شرًا أو ويلًا له؟!

● الراعي الصالح يُعلم ويُرشد ويُنذر ويُحذر، ولا يَغوي أحدًا، بل يُعلم الخطاة أيضًا، كما الأبرار (إن هم قبلوا) كقول المرنم: "اَلرَّبُّ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ، لِذلِكَ يُعَلِّمُ الْخُطَاةَ الطَّرِيقَ." ( مز25: 8). فكيف يدفع الرب يهوذا لخيانته مع أن هذا ضد طبيعته الصالحة. وهناك الكثير من الأمثلة التي لا حصر لها عن تحذيرات الله للبشر قبلما يخطئوا. نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:

1. تحذيره لقايين قبلما يقتل أخاه هابيل، وحثه له لكي لا يُتَمِم شره.

2. تحذيره لبلعام بن بعور بمجيء ملاك الرب له؛ ومعجزة تكلم حماره، لكي لا يخطئ ويلعن بني إسرائيل، الذين كانوا مباركين من الرب في ذلك الوقت.

3. تحذيره لبيلاطس البنطي في حلم لامرأته، لكي لا يمد يده بسوء للرب يسوع المسيح البار.

4. تحذيره لبطرس كي لا يُخطئ، ويُنكر الرب، وإعطاؤه علامة لتذكيره، وهي صياح الديك.

وهكذا حذر الرب كثيرًا أورشليم لرفضهم له، ومازال الرب يُحَذر كل نفس بحب، لكي لا تخطئ، ولسان حاله يخاطب عناد البشر قائلًا: "أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ:«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ" (رو10: 21). كانت إرادة الرب أن يستجيب يهوذا، ولكن شره عماه وأهلكه.


رابعًا: أمسك الرب به إلى النهاية، ولكنه لم يقبل حتى النهاية أيضًا:
لو كان الله -فرضًا- يُريد أن يدفع يهوذا ليُسَلمه، لماذا حذره كثيرًا؟ لقد حذره الرب بطريقة واضحة دون أن يجرح مشاعره بكلمة واحدة، ودون أن يسمح لأحد من التلاميذ أن يُسيء إليه، ولكنه لم يقبل تحذيرات الرب له. لقد كانت النتيجة سيئة جدًا، أخذ قلبه يتقسى، وبصيرته تظلم أكثر فأكثر مع كل مرة يرفض فيها التحذير حتى عمي تمامًا، ودخله الشيطان. حينئذ أتى الشيطان ليقوده إلى الهلاك وهو في خضوع تام له. وفيما يلي تخيل لتسلسل تحذيرات الرب المتوالية له على مائدة العشاء الأخير من خلال ما كتبه البشائر الإنجيليين:

● ربط الرب جلوسهم على المائدة لأكل الفصح، والعشاء الرباني بنبوة المزمور القائل: "...اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ." (يو 13: 18)، وكأنه أراد أن يَرجِع يهوذا بالذاكرة للمزمور الذي يحكي بالتفصيل ما سيعانيه من هلاك لعله يرتدع.

● كشف الرب لهم في حزن أن أحدهم سيسلمه قائلًا: "... الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ يُسَلِّمُنِي». فَحَزِنُوا جِدًّا، وَابْتَدَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ:«هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟» (مت 26: 21- 22).

● أجاب الرب وقال بوضح قائلًا: "...الَّذِي يَغْمِسُ يَدَهُ مَعِي فِي الصَّحْفَةِ هُوَ يُسَلِّمُنِي!" (مت 26: 23) & (لو22: 21).

● أدرك التلاميذ تمامًا مشاعر الرب، وذلك بدليل حزنهم واضطرابهم وسؤال كل منهم للرب: "هل أنا يا سيد".

● اضطر يهوذا أن يُظهر حزنًا وإضطرابًا مُصْطَنعين، وكأنه قد انفجع لقول الرب مثل باقي التلاميذ، فسأل هو أيضًا الرب قائلًا: "هل أنا هو يا سيد"؛ فأجاب الرب صراحة أمام الجميع: "أنت قلت"، وسكت يهوذا، ولم يُجب بشيء، ولم يجرؤ على إظهار حبه للرب (كبطرس)، ولم يستنكر أيضًا ذلك كباقي التلاميذ. .

● كان التلاميذ مُتَشَككين، ومُتحيرين فيمن يكون هذا الخائن، لذا طلب معلمنا بطرس الرسول من معلمنا يوحنا حبيب الرب أن يَسأل الرب صَراحةً عمن يكون الخائن، فأجابه الرب قائلًا: "هوذا الذي أغمس اللقمة وأعطيه"، ثم غمس الرب اللقمة، وأعطاها ليهوذا الإسخريوطي، ولم ينطق يهوذا بعدها.

● استمر الرب في تحذيره له للمرة الأخيرة مُظهرًا نبرة عتاب رقيقة؛ لعله يَفيق من غفلته قائلًا له: "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة" (يو 13: 27).

● خرج بعدما أخذ اللقمة لأن الشيطان دخله ليقوده للهلاك، ولكن لرقة الرب، وعذوبة أسلوب حديثه لم يدرك أحد من المتكئين معنى قول الرب له، لقد ستر الرب عن تلاميذه شر يهوذا، لئلا يسيء إليه أحدهم إذا عرفوا شخص الخائن. (يو 13- 29- 30).

خامسًا: فداء الرب كان سيتم دون تدخل يهوذا:
· لم يكن الفداء الذي سيصنعه الرب يحتاج أن يُسلمه تلميذ من تلاميذه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. بحسب قول الرب: "وَابْنُ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَحْتُومٌ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ!" (لو 22: 22). فهل كان فداء الرب يعيبه أن يقبض أعوان رؤساء الكهنة على الرب يسوع دون وساطة يهوذا؟! إن فداء الرب كان سيتم سواء سلم يهوذا الرب أم لا. لقد كان شر رؤساء كهنة اليهود، ورؤساء تلك الأمة نحو الرب لا مثيل له. لقد تشاوروا لقتل الرب بعدما أَعادَ البصر للمولود أعمى، وأفتوا بأن ذلك خير لأمتهم حتى لا تزيد شعبية الرب يسوع المسيح، بل أصدروا أمرًا صريحًا بالقبض عليه حسب قول البشير:" فَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضًا يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ عَلاَنِيَةً، بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ... وَكَانَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ." (يو11: 53- 57).

· كان احتياج رؤساء الكهنة، وقادة اليهود ليهوذا هو للقبض على الرب منفردًا عن الجموع من أحبائه؛ وذلك لخوفهم من رد فعل الجموع، وهذا لم يكن بالأمر الصعب لو لم يقم به يهوذا، فلو أرسلوا جواسيس يترقبونه، لكانوا قد نجحوا في الوصول لغرضهم دون يهوذا. ولكنها خيانة يهوذا الذي زج بنفسه في هذا الوضع الصعب ليحصل على بعضٍ من الفضة، وهو غيرَ مُبالٍ بما سيعانيه صديقه من جراء خيانته.

سادسًا: لم يكن يهوذا في حاجة إلى غواية لأنه كان شريرًا :
● لم يحتاج يهوذا لغواية ليتمم جريمته فالشر كان يملأ قلبه بحسب شهادة الكتاب عنه، وفيما يلي بعض من شهادات البشائر الأربع عنه:

1- كان لصًا بحسب قول الكتاب عنه: "فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَهُوَ يَهُوذَا سِمْعَانُ الإِسْخَرْيُوطِيُّ، الْمُزْمِعُ أَنْ يُسَلِّمَهُ :"لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ؟ "قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ، بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا، وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ، وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيهِ." (يو12: 4- 6).

2- أنانيًا لا يلتفت لبؤس الفقراء بحسب شهادة معلمنا يوحنا الرسول السابقة.

3- دَاوَمَ على هذه التصرفات الشاذة لفترة ليست بقصيرة بدليل قول معلمنا يوحنا الرسول: "إنه كان يأخذ ما يُلقىَ في الصندوق".

4- لم يعرف الخجل، حتى أنه باستهتار وبخ مريم أخت لعازر، لأنها انفقت كثيرًا من الدينارات من أجل الرب، ولم يخجل أن يُحسَب هذا عليه عدم تقدير لسيده.

5- جريئًا في شره أو سرقته للصندوق، بدليل أنه لم يَخشَ أن يُكتشف أنه صاحب مصلحة خاصة في جلب الأموال لصندوق الفقراء.

6- قد اعتاد على السرقة بجرأة بسبب محبته للمال بشدة، حتى أنه لم يبال بحرص الرب على الستر عليه بل واصل سرقاته.

● نبعت الغواية من داخل يهوذا، ولم يدفعه أحد للخيانة. بدليل ذهابه مسبقًا كما هو مكتوب في بشارة القديس لوقا إلى رؤساء الكهنة قبل الفصح، وتفاوضه معهم، واتفاقه على تسليم الرب لهم وذلك كقول الكتاب: "وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ... فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ." (لو22: 1- 6).


الخلاصة:
رفض يهوذا محبة الرب، ولم يقبل تحذيراته الكثيرة، ومع كل رفض لحب سيده له أو تحذيره كان قلبه يتقسى أكثر فأكثر، وبصيرته تُظِلم أكثر فأكثر،... وهكذا إزداد قساوة قلب، وظُلمةٍ حتى عَمِيَ تمامًا، وعندئذ دَخَله الشيطان ليقوده، وهو خاضع له تمامًا، وغير مُدرك لما هو مقبل عليه من مصير وهلاك. إن عَمَىَ الأعين المادية لا يؤدي للهلاك. أما العَمَىَ الروحي وما يتبعه من هلاك أبدي فهو النهاية المفجعة لعناد الإنسان، وعدم قبوله لعمل نعمة الله العاملة فيه.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:11 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
9- كيف يحاسب الله مَن ولد، وتربى في وسط شرير؟ وما ذنبه في هذا الشر الذي وجد نفسه فيه دون إرادته؟


السؤال التاسع

كيف يحاسب الله من ولد، وتربى في وسط شرير؟، وما ذنبه في هذا الشر الذي وجد نفسه فيه دون إرادته؟


الإجابة:

إن الله هو القاضي العادل، بل هو العدالة ذاتها، وحاشا لله أن يظلم أحدًا وإن كنا كبشر نبحث عن العدالة ونتكلم عنها ليل نهار، فما بالنا الله الذي خلقنا، وجعل عدالته في قلوبنا. أنه هو مصدر كل عدالة عرفها البشر. في النقاط التالية نعرض لملامح من صفات عدل الله بحسب شهادة الكتاب المقدس:



أولًا: عدل الله يقتضي تطبيق روح العدالة :
أي قاض عادل له اعتبارات كثيرة يحكم بمقتضاها، فليس من العدل أن يجازي القاضي كل من أخطأ بنفس العقاب، دون النظر لأي اعتبارات، أو ظروف تخص المتهم مثل سنه، أو غرضه أو دوافعه من جريمته، أو حالته النفسية وقت وقوع الجريمة أو... أو.. إن عدالة الله تقتضي أن يدين الله الناس طبقًا لاعتبارات كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:



دينونة الله ليست نمطًا واحدًا:
إن من لم يصل إليه نور تعاليم الرب يسوع المسيح نهائيًا، قد يسأل عما وضعه الله في قلبه من طبيعة خيرة مثلًا، أو ما عرفه، أو وصل إليه من خلال المجتمع المحيط به، ومن وصلت إليه الكرازة والبشارة، ولم يقبل نورها لا يتساوى مع من لم تصل إليه. لقد أكد معلمنا القديس بولس الرسول ذلك قائلًا: "لأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخْطَأَ بِدُونِ النَّامُوسِ فَبِدُونِ النَّامُوسِ يَهْلِكُ. وَكُلُّ مَنْ أَخْطَأَ فِي النَّامُوسِ فَبِالنَّامُوسِ يُدَانُ... لأَنَّهُ الأُمَمُ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمُ النَّامُوسُ، مَتَى فَعَلُوا بِالطَّبِيعَةِ مَا هُوَ فِي النَّامُوسِ، فَهؤُلاَءِ إِذْ لَيْسَ لَهُمُ النَّامُوسُ هُمْ نَامُوسٌ لأَنْفُسِهِمِ، الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، " ( رو2: 12- 15). دينونة الله للناس على ما ارتكبه كل منهم من خطأ شخصي: من أهمل سَيُحَاسب على إهماله الشخصي، ومن تقسى سَيُحَاسب عن قساوته. كل على خطئه الشخصي، وسَيُدان من لم يستجب لصوت الله الذي ناداه به الله مرارًا وتكرارًا، ولن يقدر أحد يوم الدينونة أن يُنكر معاملات الله معه، أو رفضه وعدم تجاوبه لصوته، لأن الله سَيُحاسب البشر بأحكام لا لبث فيها، وهكذا... وقد شهد الكتاب بذلك قائلًا: "بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. كُلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ الْحِصْرِمَ تَضْرَسُ أَسْنَانُهُ. " (إر31: 30). وأيضًا قوله:"الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ." (رو2: 6). علل صاحب الوزنة الواحدة (في مثل الوزنات) عن إهماله - متهمًا سيده بالقساوة - قائلًا: "... يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا" (مت25: 24-27). واضح في المثل أن السيد يطالب العبد بعمل بسيط كان بإمكانه فعله بسهولة. الدينونة بحسب الإمكانيات الموهوبة للإنسان: دينونة الله للبشر تختلف من شخص لشخص، وذلك بحسب ما ناله الإنسان من إمكانيات، وما أُعْلِنَ له من معرفة. فمن أعطي كثيرًا سَيُحَاسب بأكثر، لأن إمكانياته أكثر. وللتقريب للذهن نتساءل هل امتحان الصف الخامس الابتدائي في مادة العلوم يصلح كإمتحان لطلبة كلية العلوم؟! بالطبع لا. إننا أولاد الله الذين أئتمننا على أسرار ملكوت الله فلابد أن نكون حريصين أكثر، لأننا سندان على نفس الخطايا التي قد يفعلها غيرنا ممن ليس لهم معرفة روحية بأكثر صرامة كقول الكتاب: "وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلاَ يَسْتَعِدُّ وَلاَ يَفْعَلُ بحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا. وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلًا. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ" (لو12: 47- 48).

ثانيًا: الله ليس عنده محاباة في أحكامه إطلاقًا:


مواهب وعطايا الله المتنوعة للإنسان هي على سبيل وزنات، وليست محاباة:
تختلف وتتنوع عطايا ومواهب الله للبشر، ولكنها تُحسب على سبيل وزنات كما أشرنا سابقًا، فمن أعطي كثيرًا سَيُطالب بأكثر، ولكن أحكام الله بغير محاباة لأن كل واحد سَيُحاسب على قدر إمكانياته. كشف معلمنا بطرس الرسول هذه الحقيقة قائلًا: "وَإِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ،" (1بط1: 17).. لقد وبخ الله معلمنا بطرس الرسول الذي كان ينظر لغير اليهود بنظرة دونية، مُظهِرًا له مشيئته في طهارة الجميع، وقبولهم قائلًا له: "... مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!" (أع10: 15). أدرك الرسول العظيم تلك الحقيقة فتغنى بذلك قائلًا: "... بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ." (أع10: 34- 35)، بل أكد في موضع آخر أن شعب الله سَيُدان أول الكل قائلًا: "لأَنَّهُ الْوَقْتُ لابْتِدَاءِ الْقَضَاءِ مِنْ بَيْتِ اللهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلًا مِنَّا، فَمَا هِيَ نِهَايَةُ الَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ اللهِ؟" (1بط4: 17).




النعمة الموهوبة لأولاد الله ليست حصانة لهم من المُساءَلة:
إننا سَنُحاسب على كثرة عطايا الله لنا. هي وزنات، وليست شهادة تؤهل للتمتع بملكوت السماوات دون حساب، وهذا ما أكده معلمنا بولس لليهود المتنصرين في رومية قائلًا: "لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ." (رو2: 13).

ثالثًا: زود الله البشر بعطايا، ونعم كثيرة ليحفظهم من أحكام دينونته:
إن الإنسان محدود المعرفة، ويستخدم حواسه لمعرفة ما حوله، لكن الله روح، ولا يمكن للحواس البشرية البسيطة أن تدركه. لقد أعطى الله البشر إمكانية معرفته كقول القديس إغريغوريوس في القداس الإلهي: "أعطيتني علم معرفتك" لذا لن يكون لإنسان عذر يحتج به أمام دينونة الله العادلة كقول الكتاب: "... لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ الله" (رو3: 19). في النقاط التالية نعرض لذلك بالتفصيل:



بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:11 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 

المَلَكَات والمواهب المتعددة المعطاة للإنسان:
وضع الله ذو العظمة والجلال في كل إنسان الكثير من المَلَكَات والمواهب الطبيعية، لتؤهله للنعيم الأبدي، وذلك بدرجات متفاوتة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. نذكر من تلك المَلَكَات والنعم على سبيل المثال لا الحصر: العقل والمنطق، والمشاعر الطبيعية التي تتأثر عند الألم، وتفرح وتسعد للخير. ومَن مِن البشر لم يَبكِ مطلقًا مهما كانت قساوته. لقد وهبنا الله طبيعة خيرة مثله، فنحن قد خلقنا على صورته ومثاله، ولذلك من المنطقي أن يجد البشر راحتهم في الله الرحوم صانع الخيرات. إن أبسط دليل يؤكد قولنا هو إجماع الناس في العالم كله على أهمية الخير والصلاح، ولذلك نجد أعتى الأشرار يتكلم بمنطق الواجب والحق وسط خاصته، ويستريح لمن يعمل معه معروفًا، ولكن الأشرار يقَّسون قلوبهم، فَيفَسِدوا مراحمهم كقول الكتاب عن قساوة شعب أدوم: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِ أَدُومَ الثَّلاَثَةِ وَالأَرْبَعَةِ لاَ أَرْجعُ، لأَنَّهُ تَبعَ بِالسَّيْفِ أَخَاهُ، وَأَفْسَدَ مَرَاحِمَهُ، وَغضَبُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَفْتَرِسُ، وَسَخَطُهُ يَحْفَظُهُ إِلَى الأَبَدِ." (عا1: 11). وصايا الله: أعطى الله وصاياه لشعبه، وأعطى أيضًا من لم تصلهم وصاياه، كارزين وشهودًا أتقياء، يعيشون وسط العالم ليشهدوا له، وكأنهم إنجيل مقروء من كل من يراهم كقول معلمنا بولس الرسول: "ظَاهِرِينَ أَنَّكُمْ رِسَالَةُ الْمَسِيحِ، مَخْدُومَةً مِنَّا، مَكْتُوبَةً لاَ بِحِبْرٍ بَلْ بِرُوحِ اللهِ الْحَيِّ، لاَ فِي أَلْوَاحٍ حَجَرِيَّةٍ بَلْ فِي أَلْوَاحِ قَلْبٍ لَحْمِيَّةٍ." (2كو3: 3). إنه من المستحيل على الله خالق الكون العظيم ألا يشهد لنفسه، ثم يدين البشر. لقد أكد الكتاب ذلك قائلًا: "مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا».(أع 14: 17)؛ فالله إذًا يعلن معرفته باستمرار لسائر البشر حبًا فيهم. موهبة العقل: خلق الله الإنسان عاقلًا ناطقًا، ولذا يُمكِنه إدراك الكثير من الأمور بالاستنتاج. إن معرفة الله ظاهرة في الطبيعة تشهد لعظمة الخالق، ومن السهل على البشر إدراك ذلك، وهذا ما أكده الكتاب قائلًا:"لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ،حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رو1: 20). الضمير: هو صوت داخلي، وهو حَكَمٌ عادلٌ وخِصمٌ عنيد مستعد للمقاومة. هو رفيق للإنسان على الدوام. يصرخ الضمير ضد ما هو باطل، ولا يمكن للإنسان أن يُسْكِت ضميره بسهولة، هو قادر أن يُبَكِت ويؤلم صاحبه بشدة ليبعده عن الكثير من الشرور، ويقوده للصلاح. لقد علمنا الرب أن نُرضِي ضمائرنا لئلا نقع في الدينونة قائلًا: "كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي، وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ." (مت5: 25)، ولكن ضمير الإنسان يتأثر بشره أو بقداسته، ويحتاج لتدريب وتهذيب ليصير صالحًا نافعًا لصاحبه كقول الرسول بولس: "لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ." (أع24: 16). عمل روح الله القدوس وإعلاناته: يستحيل على البشر البسطاء والضعفاء معرفة الله القدير والعظيم جدًا، لذا كان لابد لروح الله أن يعلن لنا عن الرب يسوع كقول الكتاب: "لِذلِكَ أُعَرِّفُكُمْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِرُوحِ اللهِ يَقُولُ: «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا». وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ:«يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. فَأَنْوَاعُ مَوَاهِبَ مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الرُّوحَ وَاحِدٌ." (1كو12: 3-4). يمكننا تلخيص عمل الروح القدس في الإعلان عن الله في النقاط التالية:

1. يسكن الروح القدس في أولاد الله ليقودهم في طريق الحياة الأبدية، ولكنه أيضًا يعمل في البشر جميعًا (مؤمنين أو غير مؤمنين) ليقودهم للتوبة، ومعرفة الله. إنه يعلن بطرق كثيرة عن وجود الله وصلاحه بحسب ما يناسب كل إنسان، وهذا ما أكده الوحي الإلهي على فم سليمان الحكيم قائلًا: "أَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ لاَ تُنَادِي؟ وَالْفَهْمَ أَلاَ يُعْطِي صَوْتَهُ؟ عِنْدَ رُؤُوسِ الشَّوَاهِقِ، عِنْدَ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَسَالِكِ تَقِفُ. بِجَانِبِ الأَبْوَابِ، عِنْدَ ثَغْرِ الْمَدِينَةِ، عِنْدَ مَدْخَلِ الأَبْوَابِ تُصَرِّحُ: «لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ أُنَادِي، وَصَوْتِي إِلَى بَنِي آدَمَ. أَيُّهَا الْحَمْقَى تَعَلَّمُوا ذَكَاءً، وَيَا جُهَّالُ تَعَلَّمُوا فَهْمًا" (أم8: 1- 5)

2. من يقبل إعلانات روح الله، القادرة أن تخلصه، ولو القليل منها يُزيدَه الله من معرفته أكثر فأكثر، حتى يتأصل في معرفة الرب يسوع المسيح كشهادة الكتاب: "فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ." (مت 13: 12). ولذلك لن يوجد عذر لمن يَدّعِي الجهل بالله، لأنه هو الذي رفض معرفته وأراد لنفسه الجهل به كقول الكتاب:" لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ،" (رو1: 21- 22).

3. يستخدم الروح القدس كل الإمكانيات الموهوبة للإنسان (كما ذكرنا العديد منها) لتكون لضميره بمثابة شهادة حية قوية من داخل نفسه تدفعه للتوبة والإيمان. لقد أوضح ذلك الرسول بولس قائلًا: "أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ، لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (رو9: 1)، ولكن ضمير الإنسان سَيَشهد عليه في يوم الدينونة، ولن يقدر أن يهرب من شهادته، أو يتناسى ما أخفاه سرًا من قساوة ومقاومة لضميره كقول معلمنا بولس الرسول: "الَّذِينَ يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً، فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يَدِينُ اللهُ سَرَائِرَ النَّاسِ حَسَبَ إِنْجِيلِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ." (رو2: 15- 16).

4. يجب علي كل من يشتاق لمعرفة الله أن يَجّدُ في الصلاة بلجاجة لطلب معرفة الله، وبالتأكيد سيتعامل الله مع المخلصين الجادين في طلب معرفته، ويعلن له عن ذاته بغض النظر عن ما يعتقدوه من معتقدات خاطئة. لقد علم القديس بولس الرسول بضرورة الصلاة، والطلبة ليعلن الله المزيد عن معرفته ومجده قائلًا: "ذَاكِرًا إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِي، كَيْ يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ" (أف: 1: 16- 17).


أخيرًا:
يشهد تاريخ الكنيسة من خلال سيرة القديس العظيم موسى الأسود عن حب الله، وإعلانه عن ذاته لطالبيه. لقد كان هذا القديس وثنيًا يعبد الشمس، ولكنه احتار متخبطًا في جهله، ولذا كان يتساءل طالبًا من الإله الحقيقي أن يعلن له ذاته، وبالفعل جذبه الله إليه، وأعلن ذاته له حتى صار قديسًا عظيمًا، وراهبًا، وأبًا من آباء الكنيسة العظام. إن السمائيين والأرضيين، وكل خليقة ستشهد وتمجد الله لعدالته في اليوم الأخير قائلة: "وَهُمْ يُرَتِّلُونَ تَرْنِيمَةَ مُوسَى عَبْدِ اللهِ، وَتَرْنِيمَةَ الْخَرُوفِ قَائِلِينَ:«عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ!" (رؤ15: 3).

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:12 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
السؤال العاشر

هناك أناس لهم قلب طيب وأعمالهم صالحة مع أنهم لا علاقة لهم بالمسيح فهل أمثال هؤلاء يحرمهم الله من ملكوت السماء لأنهم لم يعتمدوا؟

الإجابة.

المعمودية هي الولادة من الماء والروح، وبها ننال التبني لله أما نوال الملكوت فهو على سبيل نظام الوراثة بحسب مفهوم الكتاب القائل: "فإن كنا أولادا فإننا ورثة أيضا، ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه، فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا" (رو8: 17- 18). لقد تكررت كثيرًا كلمة الملكوت في الكتاب، لكن ما هو مفهوم الملكوت في الكتاب المقدس؟ إن الملكوت هو روحي وليس مادي، لذا لن يوافق البشر الأرضيين، ولذا لابد من التبني لله لننعم به، ولكننا سنشرح ذلك في النقاط التالية:



أولًا: نوال ملكوت الله والخلاص أمر روحي:


الملكوت روحي في طبيعته، ويُؤَهل له من هو روحي فقط:
إنه أمر روحي يفوق كل تصور بشري مادي، ولا يمكن أن يعادله كل أمور هذه الحياة المادية. وإن كان الملكوت روحي وسماوي، فكيف يرث الإنسان المادي الترابي والفاسد بالطبيعة الملكوت الروحاني ببعض أعمال مادية بسيطة؟! لقد أكد الرب يسوع لنقوديموس ضرورة الولادة الروحية من فوق بقوله: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يو3: 5- 6). ولكن ردًا على تساؤل البعض عن جزاء أعمال غير المؤمنين الصالحة، مع أنهم لم يقبلوا معرفة الرب كفادٍ ومخلص نجيب: إنهم يجنون ثمار أعمالهم الصالحة على الأرض، ولكن هذا لا يعفيهم من عقاب أفعالهم السيئة بعدما رفضوا نعمة الله المقدمة لهم من الله. ملكوت الله لا يحقق سعادة الإنسان النفساني: يستحيل على الإنسان الجسداني النفساني أن يتذوق الأمور الروحية؛ لأن الأمور الجسدية عكس الأمور الروحية على طول الخط، فالإنسان الجسداني صعب عليه أن يسعد أو يستريح للعطاء، أو للبذل من أجل الآخرين؛ لأنه أناني، ولا يحب الآخرين، ولا يمكنه الاتضاع، أو احتمال الآخرين. هو متكبر يدور حول محور ذاته فقط، ولذلك يطلب كرامته. لا يريد الخضوع لأحد ولا لله ذاته. هو شهواني يريد التنعم واللذة، ولا يكف في طلب تلك الأمور وهكذا.. وبالطبع لا وجود لمثل هذه الأشياء في ملكوت السماوات. بالإجمال لا تتفق طبيعته وطبيعة الله الروحية المحبة الطاهرة. لقد أعلن لنا معلمنا بولس الرسول هذه الحقيقة قائلًا: "لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلًا وَشُرْبًا، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلاَمٌ وَفَرَحٌ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ." (رو14: 17). إننا كأناس روحيين قد وُهبنا طبيعة جديدة لها إمكانية الحياة في ملكوت السماوات.


ثانيًا: العلاقة بين الرب يسوع المسيح والملكوت:


إن معرفة الرب يسوع هي بعينها الملكوت:
الملكوت أساسًا، وقبل كل شيء، هو المعرفة العميقة لشخص الرب يسوع في كل مجده. إن الرب يسوع هو الأبرع جمالًا من بني البشر بحسب قول داود النبي: "أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالًا مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ." (مز45: 2). وإن كانت رؤية التلاميذ للرب -فوق جبل طابور- في مجده مبهرة، فكم وكم تكون عمق معرفته، أو الحياة معه على الدوام في ملكوت السماوات.


بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:13 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
سعادة الملكوت المنتظرة أساسها عِشرة ومشاركة الرب يسوع:
من يحيا مع الرب تتحقق له سعادة لا مثيل لها، ومعها كل ما للإنسان يُحسب نفاية كقول معلمنا بولس الرسول: "بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ،" (في3: 8). إن الملكوت هو دوام سُكْنَى الرب يسوع المسيح، وحلوله وسط شعبه، وهو أيضًا التمتع بشخصه المبارك بكل ما فيه من قداسة وأبوة، وحب غير متناهٍ، واتضاع لا مثيل له،.. ، و..، و




الملكوت هو انعكاس مجد الرب علينا:
سكنى الرب يسوع المسيح فينا يعكس علينا مجده وصورته المبهرة فيسقط عنا كل ضعف. حينئذ سنتمتع أيضًا بفرح لا ينطق به ومجد لا يمكن وصفه. لقد عاين معلمنا بطرس الرسول لمحة من مجد الرب وهو مُتَجليًا فوق جبل طابور؛ فاشتهى أن يحيا هناك إلى الأبد متمتعًا بمجد الرب قائلًا: "فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَا رَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ" (مت17: 4). الملكوت شركة مع الله: ملكوت السماوات يبدأ الآن بمعرفتنا للرب يسوع، وشركتنا مع الروح القدس الذي به يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا، وينمو فينا إلى ملء قامة المسيح في الأبدية السعيدة. هو عُرسٌ وعريسه الرب يسوع: لقد شبه الكتاب الملكوت في مثل العذارى الحكيمات والجاهلات بِعُرسٍ، وشبه يوحنا المعمدان الرب بعريس يطلب ود عروسه، إن تشبيه الرب بعريس يتكرر كثيرًا في الكتاب المقدس. وقد اختتم الكتاب المقدس وحيه الإلهي بالشوق للعريس الرب يسوع، قائلًا: "وَالرُّوحُ وَالْعَرُوسُ يَقُولاَنِ:«تَعَالَ!». وَمَن يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ:«تَعَالَ!». وَمَنْ يَعْطَشْ فَلْيَأْتِ. وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّانًا." (رؤ22: 17). فهل يوجد ملكوت أو عرس بدون العريس؟!
ثالثًا: افتراض نظري وغير واقعي:
افتراض أن البعض طيبي القلب هو افتراض نظري وغير واضح ما المقصود به، وذلك لما يأتي:



حكم نسبي وغير دقيق:
الحكم على أي إنسان أنه طيب هو حكم نسبي، وغير محدد، فهل معنى طيبة الإنسان أنه لا يخطئ أبدًا؟! بالطبع لا؛ لأن الوحي الإلهي يشهد بعكس ذلك قائلًا: "كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ. حَنْجَرَتُهُمْ قَبْرٌ مَفْتُوحٌ. بِأَلْسِنَتِهِمْ قَدْ مَكَرُوا. سِمُّ الأَصْلاَلِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً. أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ. فِي طُرُقِهِمِ اغْتِصَابٌ وَسُحْقٌ. وَطَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ. لَيْسَ خَوْفُ اللهِ قُدَّامَ عُيُونِهِمْ».. لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللهِ. " (رو3: 10- 19).



طيبة الإنسان في الميزان:
ما هو مقياس طيبة الإنسان التي على أساسها يصدر البعض مثل هذه الأحكام؟ هل هي التسامح؟ أم العطاء؟ أم هي... أم هي... أم هي كل الفضائل معًا؟ وهل هذا الحكم على التصرفات الخارجية؟ أم هي على ما يُضمِرَهُ الإنسان في قلبه؟ ومَن مِنا له المقياس الأمثل، حتى نتأكد من صحة حكمه؟ إنها أسئلة كثيرة تحتاج لإجابات منطقية قبل الحكم على أحد بأنه يستحق الملكوت لطيبة قلبه. أما ما هو معروف، وأكيد عن البشر فهو أنهم جميعًا ضعفاء وخطاة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. افتراض يخالف علم اللاهوت: افتراض خلاص البعض بسبب طيبتهم يهدم عقيدة الكفارة والفداء اللازمة لغفران خطايا البشر، وإيفاء عدالة الله، ويشكك أيضًا في صدق الله الذي جاء ليفدي البشر كخطاة، وهم أبرار. لقد رفض الوحي الإلهي هذا الافتراض الكاذب قائلًا: "إِنْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِبًا، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا." (1يو1: 10).

رابعًا: طبيعة الإنسان الخاطئة تمنعه من وراثة الملكوت، وأعماله لا تؤهله للملكوت:


الطبيعة الفاسدة لا ترث الملكوت:
طبيعة الإنسان فاسدة، وتمثل أمامه عائقًا يمنعه من وراثة الملكوت. إن الإنسان كثير الخطأ، ويحتاج للتكفير عن خطاياه لينال بر الله، لِيؤَهَل لوراثة الملكوت، وهذا ما شهد به الكتاب قائلًا: "بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا." (1يو4: 9- 10). إن الإيمان بالرب يسوع المسيح شرط للتمتع بتكفيره، وغفرانه لخطايانا؛ فماذا يفعل طيبو القلب الرافضين للفداء والتكفير عن خطاياهم؟ أعمالنا قاصرة ولا قيمة لها: أعمال الإنسان قاصرة، وليس لها قيمة في شأن خلاصه خارج نطاق حب الله. ولكن الأمر يختلف حينما يرانا الله من منظور أبوته الحانية لنا، وذلك كما أن أي أب قد يُقدّر أعمال طفله القاصر(لحبه له)، مع أن أعمال ذلك الطفل في حقيقتها تافهة، ولا قيمة لها. لقد قرر الكتاب هذه الحقيقة عن كل من يريد أن يتبرر بأعماله الذاتية خارج غنى حب الله بقوله: "لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ كُلُّ ذِي جَسَدٍ لاَ يَتَبَرَّرُ أَمَامَهُ. لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ." (رو3: 20). أما إذا ادعى أحد أنه سينال الملكوت على سبيل استحقاق فهذا مستحيل؛ لأنه في هذه الحالة يرفض نواله على سبيل نعمة من أبوه السماوي، وعندئذ يكون في خطر أن يقف أمام الله خارج نطاق أبوته ونعمته. إنه سيدان حتمًا في هذه الحالة بثقل خطاياه كقول الكتاب: "أَمَّا الَّذِي يَعْمَلُ فَلاَ تُحْسَبُ لَهُ الأُجْرَةُ عَلَى سَبِيلِ نِعْمَةٍ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ دَيْنٍ." (رو4: 4). إذًا لا سبيل لنوال الملكوت إلا على سبيل نعمة (كما أثبتا سابقًا)، وقد أكد معلمنا بولس الرسول هذه الحقيقة لأهل رومية قائلًا: "فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ، وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً، وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلًا." (رو11: 6). إن المنطق البشري لا يوافقه أن يبرئ قاضٍ مجرمًا من جريمته المثبتة عليه؛ لأنه وعد أن يعمل أعمالًا صالحة مقابل التغاضي عن جرائمه. فهل بعض أعمال لا قيمة لها تَمحِي خطايا البشر الموجهة لله القدوس، وتؤهلهم للدخول للملكوت؟!!


أخيرًا:
نقول إن السماء ترحب بكل مَن يريد هذه الطبيعة الجديدة، ولكن هل يقبل الناس الحياة الجديدة؟، وذلك بالإيمان بالرب يسوع فاديًا ومخلصًا؛ لينالوا الملكوت. وهنا جاء دورنا لنسأل من يريد أن يفوز بالملكوت مع إنه يرفض قبول الرب يسوع فاديًا ومخلصًا قائلين: كيف تطلب ملكوتًا دون قبول رب الملكوت مخلصنا الرب يسوع المسيح؟!! لقد نسب معلمنا بولس الرسول الملكوت للمسيح ابن الله الكلمة قائلًا: "الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ" (كو1: 13).

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:14 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
11- هل يمكن أن يسمح الله كأب حنون بعذاب الجحيم القاسي للأشرار؟ وهل لا يتعارض ذلك مع أبوته الحانية؟


السؤال الحادي عشر

هل يمكن أن يسمح الله كأب حنون بعذاب الجحيم القاسي للأشرار؟ وهل لا يتعارض ذلك مع أبوته الحانية؟


الإجابة:

يرفض الأشرار حب الله وأبوته لهم. هم لا يعتبرون وجوده في حياتهم، فلا يخضعون لوصاياه، ولذلك يفصلون أنفسهم عنه وَيُصِرون على ذلك، وبالتالي يفقدون علاقتهم بالله تمامًا فلا يصيرون أبناء له، بل يعادونه ويقومون عليه، ولذلك هم يستحقون قضاء الله العادل. إنهم في ذلك يشبهون الغصن الذي انفصل عن الكرمة فَذَبُلَ ومات، ولا مفر من حرقه كقول الكتاب: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يَثْبُتُ فِيَّ يُطْرَحُ خَارِجًا كَالْغُصْنِ، فَيَجِفُّ وَيَجْمَعُونَهُ وَيَطْرَحُونَهُ فِي النَّارِ، فَيَحْتَرِقُ". (يو15: 6).

لقد أختار هؤلاء الأشرار -بإرادتهم الحرة- على مدى سنوات عمرهم، وحتى النفس الأخير الخروج خارج دائرة حب الله ورعايته، وأحبوا الظلمة أكثر من النور؛ فتأهلوا لهذا العذاب القاسي بجدارة، وفيما يلي نشرح ذلك تفصيلًا:



أولا: الله هو الأب الحقيقي، ولكنه ليس أبًا للأشرار:
ليست البنوة علاقة نسب جسدية فقط ولكنها أسمى من هذا بكثير. وفيما يلي بعض لمحات عن هذه العلاقة العجيبة:



· هي علاقة ورباط ووحدة الأب بابنه:
يرى الأب نفسه في ابنه؛ لأنه هو ذريته، وامتداده الطبيعي، ولهذا فهو يقبله كنفسه، ويفرح به. إن أعظم حب يمكن أن يدركه البشر هو حب الأب لابنه (أو ابنته). لقد أعلن الأب في مثل الابن الضال لابنه الأكبر - المتذمر عليه - عن ذلك حينما نسب لابنه كل ما له قائلًا: "فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ." (لو15: 31).


· البنوة قبول، واعتراف:
إن معاملة البنين تختلف تمامًا عن معاملة العبيد، الذين يُقهرون، ويُذلون ليخضعوا لسادتهم صاغرين. أما معاملة الأبناء فتختلف تمامًا عن ذلك، فليس من الحب أن يقهر الأب ابنه، بل ينصحه ويبذل أقصى جهد ليبعده عن ضرر نفسه، لكنه في ذات الوقت يحترم حريته. أما الابن فيجب عليه قبول أبوة والده، والاعتزاز بانتمائه له، وأيضًا الخضوع له في حب. لقد حكى الرب لنا في مثل الابن الضال عن ابنٍ عاص ومعاند، ومع ذلك لم يقهره أبوه بل احترم حريته، لم يمنع الأب عطاياه عن ابنه في هذا المثل كقول الرب بفمه المبارك: "... إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ" (لو15: 11- 13).



· مخاطر تهدد كيان البنوة:
كلما قبل الابن طبيعة وشخصية أبيه وتوافق معه، واعتز به كلما اعتز الأب بابنه، وتقرب إليه وارتبطا ببعضهما البعض، والعكس صحيح كلما رفض الابن طبيعة وشخصية أبيه كلما تألم الأب، وأحس بتغرب ابنه عنه، وذلك كقول الرب عن عدم انتماء الأشرار من بني إسرائيل لإبراهيم أب الآباء "... لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ! أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَق..." (يو8: 39- 44).



· انفصال الابن عن أبيه هو موت من حياته:
يأتي وقت ينشق ويقوم فيه الابن على أبيه نتيجة لإصراره على المخالفة، والعصيان، فينفصل عنه، ويموت من حياته كما ينفصل العضو الميت من الجسد الحي فيبكي أبوه عليه بمرارة قلب، ولكنه لا يقدر أن يضم ذلك العضو الميت له كما وصف الأب حال ابنه بعد رجوعه في مثل الابن الضال قائلًا عنه: "لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالًا فَوُجِدَ..." (لو15: 24).



· استحالة قبول الابن الشرير:
إن اعتراف الأب بابنه وضمه إليه وهو مصرٌ على عصيانه وشره هو تنازل عن الحق، ومشاركة وقبول للفساد الذي يحيا فيه الابن، وهذا هو المستحيل بعينه بالنسبة للآباء الأبرار، وبالأحرى لله القدوس، الذي لا ولن يتخلى عن قداسته أبدًا كقول الكتاب: "... إِنْ كُنَّا نُنْكِرُهُ فَهُوَ أَيْضًا سَيُنْكِرُنَا. إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ." (2تي2: 12- 13).



· النتيجة الحتمية:
إن الابن الشرير يتغرب عن أبيه، ويموت عنه، فيلفظه أبوه ولا يعترف به كابن، وهذا ما سيسمعه الأشرار في اليوم الأخير من فم الرب القائل: "... أَقُولُ لَكُمْ: لاَ أَعْرِفُكُمْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمْ، تَبَاعَدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الظُّلْمِ!" (لو13: 27).

إن هذا يشبه ما هو حادِث مع البشر في حياتهم المادية، فالآباء يحتملون أبناءهم كثيرًا، ولكن مع استمرارية رفض الأبناء الخضوع لآبائهم، وعصيانهم لهم باستمرار يأتي وقت يصرخ فيه الآباء في وجوه أبنائهم قائلين " لا أنت ابني ولا أعرفك". إنه ليس بأمر هين على الأب أن يفعل ذلك، ولكنه اختيار وقرار وإصرار الابن على الموت من حياة أبيه. إن مثال ذلك لفظ جهاز المناعة في الجسد البشري لعضو زرعه الأطباء، ولكنه لا يتوافق مع خلايا الجسد. إن لفظ الأشرار من بنوتهم لله أمرًا واقعًا لا يمكن تفاديه، ما داموا لا يقبلون أبوة آبائهم، وهذا ما قرره الله على فم معلمنا بولس بقوله لأهل كورنثوس: "لا تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟ وَأَيُّ نَصِيبٍ لِلْمُؤْمِنِ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِ؟" (2كو6: 14- 15). فكيف يقبلهم الله ويضمهم إليه وهم أشرار؟!!!


بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:14 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 


ملاحظة:

لفظ الأشرار وانفصالهم عن الله مصدر الحياة هو عينه فقدانهم للملكوت وأيضًا هلاكهم الأبدي بعذابه القاسي (كما شرحنا ذلك في السؤال السابق نرجو الرجوع إليه).


ثانيًا: تطبيق عملي:
سجل لنا الكتاب المقدس في سفر صموئيل الثاني من الفصل الثالث عشر وحتى السابع عشر أحداث شر، وهلاك أبشالوم ابن الملك داود، والذي قام على أبيه، وأراد قتله. إنه من المفيد جدًا أن نستعرض هذه القصة المؤسفة، والتي من خلالها يتضح جليًا ما يلي:

· أضمر أبشالوم شرًا، وخطط بمكر لقتل أخيه أمنون: لقد استأذن أبشالوم الملك أباه في دعوة كل إخوته بما فيهم أمنون لوليمة قد أعدها، ثم أوصى عبيده بقتل أخيه أمنون، ثم هرب بعد ذلك خارج أرض إسرائيل.

· أبشالوم يسيء لصديقه يوآب قائد الجيش: فقد توسط يوآب لرجوع أبشالوم من غربته وللعفو عنه وبالفعل عفا عنه أبوه، ولكنه اشترط عليه ألا يأتي إلى القصر الملكي -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- ولكن أبشالوم بعد فترة من الزمن بعث ليوآب لكي يتوسط له في عودته للقاء أبيه الملك، ولما تأخر يوآب في المجيء إليه كافئه عن معروفه له بحرق حقله. وبالفعل عاد يوآب وتوسط له في لقاءه أبيه ومسامحة أبيه له.

· أبشالوم يستخدم والمكر والالتواء أداة لشره: استخدم أبشالوم المكر لاستمالة الشعب له، وتأليب نفوسهم على أبيه الملك داود. لقد أحاط نفسه بمظاهر العظمة الخارجية لكي يبدو في أعين الشعب أعظم من أبيه الملك؛ فاتخذ لنفسه مركبة تجرها خيول وخمسون رجلًا يجرون أمامه. كان أبشالوم يقف كل يوم مستقبلًا رعايا الملك، الذين يأتون ليفصل لهم أبوه الملك في شكواهم وقضاياهم، فيٌظهر اهتمامه الكاذب بهم قائلًا لكل من له شكوى: "...انْظُرْ. أُمُورُكَ صَالِحَةٌ وَمُسْتَقِيمَةٌ، وَلكِنْ لَيْسَ مَنْ يَسْمَعُ لَكَ مِنْ قِبَلِ الْمَلِكِ». ثُمَّ يَقُولُ أَبْشَالُومُ: «مَنْ يَجْعَلُنِي قَاضِيًا فِي الأَرْضِ فَيَأْتِيَ إِلَيَّ كُلُّ إِنْسَانٍ لَهُ خُصُومَةٌ وَدَعْوَى فَأُنْصِفَهُ؟". (2صم15: 3-4).

· أبشالوم العاصي والمخالف: ظل أبشالوم يعلق قلوب الشعب به، وعندما أطمأن لاستمالة عدد كبير من الشعب أعلن العصيان على أبيه بل العداء له. لقد كون جيشًا وأعلن نفسه ملكًا مكان أبيه.

· أبشالوم الشرير يظهر شره ودنسه: اعتدى على زوجات (سراري) أبيه علانية ليؤكد عداءه الشديد لأبيه فتتشدد قلوب تابعيه معه ضد أبيه.

· أبشالوم القاتل يطلب القضاء على أبيه: قرر وشرع في قتل أبيه، وحاول أيضًا إبادة الشعب المخلص المرافق لأبيه، والذين كان قد تركوا مدينة أورشليم في سلام، تجنبًا لإراقة الدماء، وتفاديًا للشر الذي كان أبشالوم مصممًا عليه.



محبة داود لأبشالوم، والتي لم تسقط أبدًا:
لقد تمسك داود بمحبته لابنه أبشالوم إلى النهاية، وذلك يتضح مما يلي:

1. غفران داود لأبشالوم، وقبول رجوعه بعد قتله لأخيه، وهربه ثم قبول وساطة يوآب برفع الحظر عن مجيئه للملك.

2. ترك له أبوه حرية ليتصرف حسبما شاء، ولكنه استغلها بمكر لتأليب نفوس الرعية على أبيه.

3 هرب الملك وترك أورشليم مدينة الملك لابنه طالبًا سلامة ابنه أبشالوم، ومن معه.

4. عندما تتبع أبشالوم أباه طالبًا أذيته أوصى قواد جيشه، لكي لا يمد أحد يده بسوء لابنه قائلًا في تأثر شديد: "... تَرَفَّقُوا لِي بِالْفَتَى أَبْشَالُومَ». وَسَمِعَ جَمِيعُ الشَّعْبِ حِينَ أَوْصَى الْمَلِكُ جَمِيعَ الرُّؤَسَاءِ بِأَبْشَالُومَ." (2صم 18: 5).

5. بكى الملك بشدة في تأثر بالغ على ابنه الذي كان يطلب قتله عندما عرف خبر موته.



حتمية هلاك أبشالوم:
أخيرًا كان هلاك أبشالوم أمرًا حتميًا لا مفر منه، لأنه قام على الحق، وعلى أبيه، وعلى مملكة أبيه. أراد أبوه نجاته من الهلاك المحقق، لكن أوان النجاة كان قد مضى بإقامته من نفسه عدوًا للحق، الذي كان لا مفر من انتصاره. لقد كان لابد أن يتم أمر من اثنين وهما: إما انتصار الشر الذي أضمره الشرير أبشالوم، وذلك بإبادة المملكة البارة، وعلى رأسها هذا الملك البار، أو انتصار الحق بهلاك الشرير بشره، وبالطبع كان لابد أن تكون النصرة في جانب الحق؛ لأنه الأقوى، ولا وجه للمقارنة.

الخلاصة:
إن أبشالوم يمثل كل معاند شرير يقوم على الله أبيه معلنًا العداء له، ولكن الحق لابد أن ينتصر، وسيباد كل شرير من مملكة الله؛ لأنها مملكة الحق الذي لا شر فيه.


بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:15 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
12- هل مجازاة الأشرار أبدية فيظل الأشرار يعاقبون دون شفقة إلى أبد الآبدين؟!! وهل لا يعتبر ذلك قسوة من الله الحنون؟


السؤال الثاني عشر

هل مجازاة الأشرار أبدية فيظل الأشرار يعاقبون دون شفقة إلى أبد الآبدين؟!! وهل لا يعتبر ذلك قسوة من الله الحنون؟



الإجابة:

إن دينونة الله تعبر عن عدالته. أما العدالة فهي لا تعرف رخاوة. هي حادة، وحازمة، ولابد أن تنفذ، وإلا تكون قد فقدت معناها. قد تتأخر عدالة الله تاركة فرصة لتوبة المخطئ، لعله يستفيد من رحمة الله، ولكن للرحمة والتوبة زمن. أما حينما ينتهي زمن التوبة أو الرحمة، فلا مفر من الدينونة، وإن كان الرب قد سبق فأعلن عن شدة العقاب الأبدي، فعلى من يدرك ذلك أن يتوب متمتعًا بغنى مراحم الله، ولكن دعونا نشرح ذلك تفصيلًا من خلال النقاط التالية:



أولًا: الأبدية هي الدوام والثبات:
إن حالة الإنسان الروحية واتجاهات قلبه وقت انتقاله من الحياة الدنيا تحدد وضعه في الأبدية، فإما أن يتمتع بالنعيم الدائم، أو يتألم معذبًا في هلاك أبدي دون خلاص. لقد أكد الحكيم في سفر الجامعة ذلك قائلًا: "... وَإِذَا وَقَعَتِ الشَّجَرَةُ نَحْوَ الْجَنُوبِ أَوْ نَحْوَ الشَّمَالِ، فَفِي الْمَوْضِعِ حَيْثُ تَقَعُ الشَّجَرَةُ هُنَاكَ تَكُونُ." (جا11: 3). سيُكلل الأبرار في الأبدية بإكليل البر أي: سيمنحهم الله طبيعة جديدة غير قابلة للسقوط في الخطية، وهذا قد أكده القديس بولس الرسول بقوله: "وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا." (2تي4: 8).

ثانيًا: الموت هو انتهاء الفرصة لنوال الخلاص:
الوجود في حالة الجسد هو الفرصة المعطاة للإنسان لاختيار وتحديد موقفه من الحياة، أو الموت (الخلاص). قد أكد الكتاب المقدس أنه لا يوجد في الأبدية فرصة أخرى للخلاص قائلًا: "اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلْتُ الْيَوْمَ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْخَيْرَ، وَالْمَوْتَ وَالشَّرَّ، " (تث 30: 15). وفيما يلي بعض من هذه التأكيدات:

· الخروج من الجسد المادي سماه الرب رقادًا، ومن الواضح أن الرب أراد تشبيه الموت بالليل؛ لأن الليل يأتي بانتهاء ساعات النهار، وينهي فترة عمل الإنسان، وفيه أيضًا يرقد الإنسان دون نشاط أو عمل. لقد أراد الرب بهذا التشبيه تأكيد حقيقة عدم إمكانية أي عمل روحي في الأبدية. ويمكننا أن نستنتج من ذلك عدم إمكانية تغيير اتجاهات قلب الإنسان من الشر للخير والعكس أيضًا صحيح، وذلك بحسب قول الرب عن فترة تجسده: "يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِين لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ." (يو9: 4).

· أكد الرب في مثل لعازر والغني عدم وجود فرصة بعد الموت لتغير موقف البشر من الخير أو من الشر بحسب قول أب الآباء إبراهيم: "وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا." (لو16: 26). لقد شبه الكتاب استحالة تغيير وضع الإنسان من العذاب إلى النعيم بهوة عظيمة لا يمكن عبورها، ولتأكيد نفس المعنى وصفها بتعبير قد أثبتت أي يستحيل عبورها.

· يؤكد الكتاب في مثل العذارى الحكيمات والجاهلات -الذي يمثل يوم الدينونة- نفس المفهوم في عبارة قاطعة، وهي: "قد أُغِلقَ الباب"، والمقصود هو انتهاء فرصة الاستعداد للعذارى الجاهلات لحضور العرس، وذلك بالرغم من صراخهن طالبين فرصة أخرى للاستعداد قائلات: "...أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ."، ولكن أَجَابت الحكيمات قَائِلاتٍ: "لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ."، ويخبرنا المثل عن انتهاء الفرصة تمامًا بقوله: "وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ." (مت25: 10- 12).

· إن زمن المسامحة والغفران هنا على الأرض فقط، لأن التوبة لها وقت، أو زمان، وهو نهار عمر الإنسان، لأنها تحتاج لإيمان ولعمل، ذلك العمل هو... رفض الشر... والندم على الخطية... وقبول نعمة الله، وعمل الروح القدس في الإنسان... وأيضًا الجهاد الروحي والتغصب، وكل هذا لا مجال لإتمامه إلا أثناء النهار أي: أثناء حياة الناس على الأرض. لقد أكد الوحي الإلهي هذا المفهوم لشعب إسرائيل على فم إشعياء النبي بقوله: "أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ: «طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ». (رو 10: 21).
ن، مصر - تصوير مايكل غالي لموقع الأنبا تكلاهيمانوت، 21 أكتوبر 2018 م.

ثالثًا: مجازاة الأشرار أمر لا مفر منه:
إن مجازاة الأشرار أمر حتمي يتعلق بمصداقية الله، وأمانته بل أيضًا واجب لأُلوهيته. في النقاط التالية نشرح ذلك بشيء من التفصيل:



· عدالة الله المطلقة:
عدالة الله تقتضي مجازاة الأشرار دون النظر لشخصية وانتماءات هؤلاء الأشرار، وهذا شيء منطقي، ولعلنا نتساءل هل قانون أي دولة أو مملكة يَستثني أبناء القضاة من تطبيق أحكام القانون عليهم في حالة مخالفتهم؟! إنها العدالة، التي لا تعرف مجاملة، أو مشاعر. لقد مُثلت العدالة بتمثال لامرأة (معروف عن المرأة قوة مشاعرها)، ولكنها معصوبة العينين بغطاء سميك (لا تريد أن تنساق وراء عواطفها فتضل عن الحق)، وفي إحدى يديها ميزان العدالة والحق، وفي اليد الأخرى سيف تقتص به للحق. إن الله هو القاضي العادل الذي ستمجده ملائكته لعدالته واستقامة قضائه في يوم الدينونة قائلين:"وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ:«عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا." (رؤ16: 5). لقد مجد الحكيم في سفر الأمثال عدالة قضاء ملوك الأرض بقوله: "فِي شَفَتَيِ الْمَلِكِ وَحْيٌ. فِي الْقَضَاءِ فَمُهُ لاَ يَخُونُ." (أم 16: 10).فكم تكون بالحري عدالة الله القدوس؟!



· مصداقية عدالة الله:
لا مفر من تطبيق العدالة، لأن المصداقية هي أهم صفة تميز العدالة، فإذا افترضنا أن هناك قاضٍ يتراجع عن أحكام سبق وأصدرها، بحجة التسامح والرقة، فهل يصلح أن يسمى قاضيًا؟! إن أقل ما يوصف به هو الخيانة للحق وللعدالة، والتي انعدمت على يديه. لقد ذكر لنا سفر دانيال أن أوامر ملك مادي وفارس لا تنسخ (أي لا تراجُع عنها) قائلًا: "فَثَبِّتِ الآنَ النَّهْيَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، وَأَمْضِ الْكِتَابَةَ لِكَيْ لاَ تَتَغَيَّرَ كَشَرِيعَةِ مَادِي وَفَارِسَ الَّتِي لاَ تُنْسَخُ".(دا6: 8). فهل يتراجع الله ذو الجلال عن أحكامه؟!



· للتوبة والرحمة وقت:
لابد من وقت يغلق فيه باب التوبة ليأتي دور العدالة؛ لأنه لو ظل باب التوبة مفتوحًا على الدوام لن يكون هناك عدالة إطلاقًا. وهل من المعقول أن يطلب تلميذ من ممتحن أن يترك له ورقة الإجابة دون تحديد وقت لانتهاء الامتحان، أو حسبما شاء هو بحجة الرأفة به؟! إن الله يقبل التائبين، ولكن لابد من غلق باب التوبة أمام الأشرار في وقت ما يحدده الله، وهذا الوقت يأتي بانتهاء زمن حياتهم الأرضية، وأيضًا بانتهاء العالم (بالنسبة للبشرية جمعاء). لقد أكد الرب على مجيئه الأكيد للمجازاة، وانتهاء زمن التوبة قائلًا: "مَنْ يَظْلِمْ فَلْيَظْلِمْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ نَجِسٌ فَلْيَتَنَجَّسْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ بَارٌّ فَلْيَتَبَرَّرْ بَعْدُ. وَمَنْ هُوَ مُقَدَّسٌ فَلْيَتَقَدَّسْ بَعْدُ». «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعًا وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ." (رؤ22: 11- 12).



· نكسة للحق:
قبول الأشرار في ملكوت السماوات في اليوم الأخير هو نكسة للحق وللخير، وكارثة وخيبة أمل للأبرار، الذين عانوا كثيرًا من شر الأشرار، بل قتلوا ظلمًا، وهم الآن منتظرون عدالة السماء في الفردوس كقول القديس يوحنا الحبيب: "وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ:«حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟". (رؤ6: 10). فما هي مشاعرهم إذا جاءت ساعة العدالة، فَوَجَدوا ظالميهم أمام أعينهم، وقد أفلتوا من العدالة، ونالوا النعيم الأبدي معهم ألا يعتبر ذلك عذاب وتعاسة وخيبة أمل لنفوس هؤلاء الأبرار؟!!



· استحالة مسامحة الأشرار، أو تبريرهم:
لأن ذلك يترتب عليه قبولهم في شركة ومملكة الله المقدسة، والتي سيحيا أعضائها كجسد واحد في قداسة، ودون قابلية للخطية (لأننا سنلبس إكليل البر) بحسب قول معلمنا يوحنا الرائي: "وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا:«هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ." (رؤ21: 3). فكيف يمكن أن يسمح الله بشركة للأشرار مع الأبرار داخل أورشليم السمائية مع أن الكتاب يستنكر حدوث ذلك على الأرض قائلًا: "لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟" (2كو6: 14).



· استحالة عيش الأشرار غير التائبين في الملكوت:
لقد علمنا الوحي الإلهي أن الشرير غير التائب حتى ولو رحمه الله سيظل كما هو في شره، بل أيضًا لن يستمتع بالوجود في حضرة الله. إن هذا هو المتوقع أن يحدث من الأشرار، حتى ولو افترضنا جدلًا أن الله رحمهم بعد انتهاء زمن إمكانية التوبة بحسب قول إشعياء النبي: "يُرْحَمُ الْمُنَافِقُ وَلاَ يَتَعَلَّمُ الْعَدْلَ. فِي أَرْضِ الاسْتِقَامَةِ يَصْنَعُ شَرًّا وَلاَ يَرَى جَلاَلَ الرَّبِّ." ( إش26: 10).


رابعًا: قسوة ما ينتظر الأشرار من عقاب أبدي:


· هي النتيجة الطبيعية لفقدانهم نعمة الله المتناهية الغنى:
مَن يفقد غِنى الله غير المتناهي لابد أن يعاني من فقر شديد جدًا، وذلك كمن سقط من طائرة على ارتفاع شاهق جدًا فهوى منحطًا إلى أسفل السافلين. لقد غابت عنه شمس الحياة فعمته ظلمة الموت.



· طبيعة الموت الأبدي:
إذا افترضنا جدلًا خروج الكرة الأرضية من مجال تأثير نجم الشمس عليها نهائيًا، عندئذ ستهبط درجة حرارتها بطريقة درامية ليعم الموت كل الأحياء. بعد أن أصبحت الأرض كرة مظلمة من الجليد. إن شدة أو قسوة عذاب الأشرار في الأبدية يرجع سببها لغياب شمس البر بنورها الحقيقي ودفء حياتها، وأيضًا عظمة النعيم الأبدي أيضًا يرجع لنفس السبب، وهو تَمَتُع الأبرار بسكناهم مع الله النور الحقيقي واهب الحياة. إن الفرق شاسع جدًا ولا يمكن المقارنة بين الحالتين. لقد وصف الكتاب الظلمة (الموت) بالخارجية ليشير إلى الحرمان من الوجود في حضرة الله والتمتع بنعمته قائلًا: "وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ." (مت25: 30). نعم أن ما سيحل بالأشرار من عذاب قاسٍ جدًا، وكيف لنا أن نجمل الموت الأبدي. بل إنه بالحقيقة أبشع من أي تصور.



· شدة جرم المخطئ تجلب عليه عقوبة أشد:
إن رفض الخلاص المقدم من الله يستحق عقابًا شديدًا لقد دفع الرب ثمنًا باهظًا ليخلصنا، ولذلك يستحق كل من رفض التوبة والنعمة المقدمة له بغفران خطاياه عقابًا شديدًا، لأنه ازدرى بدم ابن الله كقول الكتاب: "فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟" (عب 10: 29). ولكن يجب ملاحظة أن عقاب الله للأشرار يختلف بحسب عدالة الله التي ستجازي الأشرار بحسب رداءة شرهم، كل منهم بحسب فظاعة شره كقول الرب: "... إِنَّ صُورَ وَصَيْدَاءَ تَكُونُ لَهُمَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالًا يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكُمَا.". (مت11: 22). مع العلم بإن طبيعة عذاب النار غير معروفة لأن الأجساد في الأبدية ليست مادية.



· أنت بلا عذر أيها الإنسان:
يعترض البعض على شدة العقاب ولا يعترضون على سعادة، وهناءة النعيم الأبدي. إن ذلك قد يوحي لنا بأنهم قد اختاروا الهلاك الأبدي، ولذلك يريدون أن يخَففوه على أنفسهم. لماذا لا يختارون النعيم الأبدي بدلًا من الهلاك الذي يخافونه، وذلك بالتأكيد متاح لهم كوعد الرب: "لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ." ( لو12: 32). حينئذ لن يخافوا كنصيحة معلمنا بولس الرسول لمن يخالف سلطان ملوك الأرض:"فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ" (رو13: 3).



· لابد أن يكون العقاب رادعًا:
إن لم يكن عقاب الشرير المصر على خطئه رادعًا فلا فائدة منه. إن المخافة شيء نافع للبشر كقول الرب "بَلْ أُرِيكُمْ مِمَّنْ تَخَافُونَ: خَافُوا مِنَ الَّذِي بَعْدَمَا يَقْتُلُ، لَهُ سُلْطَانٌ أَنْ يُلْقِيَ فِي جَهَنَّمَ. نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: مِنْ هذَا خَافُوا!" (لو12: 5).



· لا حق للأشرار في الاعتراض:
إن مَنْ تعدى على شريعة الله ولم يعبأ بسلطانه لا حق له في الاعتراض، فالمنطق البشري يعلمنا أنه ليس من حق المتهم بجريمة ما، أن يتذمر أو يشتكي ذا السلطان، لأنه شرع عقوبة شديدة، لكن عليه بالأولى تبرير ذاته أمام المحكمة، (إن كان ذلك في مقدور محاميه). إذًا الأفضل والأنفع لنا نحن الخطاة أن نلتجئ إلى محامينا، والمدافع عنا الرب يسوع المسيح فادينا وشفيعنا، طالبين منه التبرير، واثقين في قدرته على ذلك كقول الكتاب: "مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ. مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا." (رو8: 33- 34).


· تحذير:
أخيرًا نحذر من ضرر إشاعة فكر عدم إمكانية تنفيذ الله لهذا العقاب القاسي بدعوى أبوته وحنانه؛ لأن وراء هذا الفكر الخدّاع طمأنينة كاذبة تؤدي للاستهتار بالخطية، والنتيجة المؤكدة هلاك أبدي؛ لأن كلام الله صادق وسيتم في حينه بحسب قول الوحي الإلهي: "اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ" (مت24: 35).

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:16 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
13- هل من حكمة وراء ما تعانيه البشرية من أتعاب وأوجاع وآلام كثيرة؟


السؤال الثالث عشر

هل من حكمة وراء ما تعانيه البشرية من أتعاب وأوجاع وآلام كثيرة؟

الإجابة:

الألم والتعب شوكة في جسد البشرية لم يكن يريدها الله لنا، ولا نظن أن أحدًا من أبناء البشر يرحب بالألم، ولكن الخالق قد سمح به لحكمة ما، ولكي ندرك الحكمة من وراء الألم علينا أن نتخيل العالم بدون التعب أو الألم. في النقاط التالية نتأمل التأثير الإيجابي للألم في حياة البشر.



أولًا : الألم جرس ينذرُ بخطر مسبب له:
الألم الجسدي إمكانية وهبها الله للإنسان هدفها تلافي خطورة ما وراء هذا الألم، من خطر، ومعروف في علم الفسيولوجي (وظائف الأعضاء) أنه حينما يفاجئ شخص ما بوخزه بدبوس في يده أو رجله يحدث رد فعل، وذلك بإبعاده ليده أو لرجله عن المصدر المسبب للألم، وهذا ما يسمى رد الفعل الانعكاسي للألم (reflex arc). إذًا وراء الألم الجسدي حكمة وفائدة عظمى.

تطبيق عملي:
عندما يفقد الإنسان الإحساس بالألم في أجزاء من جسمه، في بعض الحالات المرضية (القدمين في بعض حالات مرض السكر) قد يتعرض المريض لجرح أو حرق في قدميه دون أن يشعر، وقد تسوء حالة هذا الجرح، والمريض لا يشعر لفقدانه الإحساس بالألم، ولذا يسعى أمثال هؤلاء المرضى في البحث عن علاج يحافظ لهم على سلامة إحساسهم بالألم. إن الآلام ضرورة للبشر الضعفاء ذوي الأجساد المادية وفي النقاط التالية نشرح تلك الضرورة:

· الألم يضمن للمتألم جدية البحث عن ما وراء ذلك الألم: يمكننا تطبيق نفس النمط السابق على الكثير من أنواع الآلام سواء جسدية أو نفسية أو معنوية أو روحية، وحينئذ سنتطلع للكثير من أنواع الألم، وكأنها نظام إنذار للتنبيه (منبه) عن خطر قائم بالفعل. إن استمرار الإحساس بالألم يضمن للمتألم جدية البحث عن ما وراء ذلك الألم من خلل، أو خطأ مسبب له ومعالجته، وعندئذ يتوقف الألم بعدما يكون قد أدى دوره العظيم.



مثال:

تألم الابن الضال بالجوع والوحدة، والخزي، وصار يشتهي طعام الخنازير، ولكن هذه الآلام كانت الدافع الأساسي في رجوعه إلى نفسه وتوبته بحسب قوله: "فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ " (لو: 15: 17- 18).



· البحث عن أسباب آلام الأسر والمجتمعات والشعوب ضرورة:
يصيب الألم الأفراد والجماعات، وكل خلل وراءه ألم، فالاضطرابات النفسية للأبناء قد يكون وراءها عدم محبة الوالدين لبعضهما البعض، وكثرة الفقراء والمشردين في الشوارع -في بلد ما- قد يكون وراءه جشع الأغنياء، وأنانية الناس، أو فساد المسئولين و... و... وهكذا. إن على الأسر والعائلات والمجتمعات والدول، بل وعلى العالم أجمع الاجتهاد لمعرفة مسببات ما يصيبهم من آلام لعلهم يتخلصون من الداء فتزول عنهم المعاناة.



· خبرة الألم تُعَلِم الحرص:
يختبر الإنسان الألم من طفولته، ويتعلم تلقائيًا الابتعاد عن أي مصدر للألم، لأن الألم له معاناته. لذلك يستغل الوالدان والمعلمون والمسئولون خبرة معاناة الألم في توظيفها للإنذار، وللتحذير من فعل الشر.


· الكتاب المقدس يوظف خبرة الألم للتحذير من الشرور:
إن الكتاب مليء بالكثير من أمثال هذه التحذيرات، والتي نذكر منها على سبيل المثال قوله:

1. "لأَنَّ شَفَتَيِ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ تَقْطُرَانِ عَسَلًا، وَحَنَكُهَا أَنْعَمُ مِنَ الزَّيْتِ، لكِنَّ عَاقِبَتَهَا مُرَّةٌ كَالأَفْسَنْتِينِ، حَادَّةٌ كَسَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ." (أم5: 3- 4).

2. وقوله عن أمة اليهود: "يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ... وَلَمْ تُرِيدُوا! هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَابًا." (مت23: 37- 38).

3. وأيضًا قوله عن الأشرار، وما ينتظرهم من آلام، وعذاب، أو عقاب أبدي: "وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ." (مت 30:25).

فإذا تخيلنا فرضًا عدم خبرة البشر بالألم، فكيف كنا سنحذر، أو ننذر الناس من الشرور المؤلمة المهلكة؟! وهل كان ممكنًا أن يستجيب الناس للتحذير من خطورة الشر دون أن يدركوا ما سيعانونه من آلام منتظرة وراء شرورهم؟!



· يكف الناس عن شرورهم وخطاياهم أثناء معاناتهم:
يحتل الألم المرتبة الأولى من اهتمام المتألمين، ويتخلص كثيرون من المتألمين من الضعفات، والرذائل أثناء معاناتهم، وذلك بحسب قول الكتاب: "فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ" (1بط4: 1).


ثانيًا: خبرة الألم تدفعنا للإحساس بمعاناة المتألمين، والتفاعل معهم بالحب:


· الشعور بالآخرين:
أعطى الله الإنسان مشاعر وأحاسيس الرحمة والرأفة تجاه إخوته من البشر، والتي تستمد فاعليتها من خلال خبرات ألم سابقة لتكون عونًا له على تقدير مشاعر الآخرين. إن خبرة الإنسان بالألم هي أعظم دافع للعطاء، وأيضًا لمشاركة المحتاجين للمعونة، وهذا ما أكده الكتاب عن الرب يسوع قائلًا: "لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ." (عب 2: 18).



· الخبرة العملية تشهد:
إن الرفاهية الكثيرة والتنعم يؤديان لنتائج سلبية سيئة، فإن افترضنا جدلًا انعدام هذه خبرة المشقة والتعب فالنتيجة الحتمية لذلك ستكون تزايد أنانية الإنسان، وعدم اكتراثه بالغير، وبالتالي تفكك الأسر والجماعات ومحبة الذات، وما سينتج عنه من انتشار الفساد لجسد البشرية.


ثالثاُ: احتمال الألم من أجل الآخرين فرصة عظيمة لإظهار الحب نحوهم:


· البذل ضرورة لإدراك حب المحبين:
يحتاج الإنسان للشعور بأنه محبوب، ومن المعروف للمتخصصين في علم النفس أن من لا يتمتع بالحب خصوصًا في طفولته لا يكون ذو نفس سوية، ولكن كيف يمكن للإنسان أن يدرك حب الآخرين له، دون أن يرى بذلهم واحتمالهم لأجله؟!



· الآلام من أجل الغير أعظم دليل على صدق حبنا لهم:
إن الحب يتأكد ويظهر جليًا في نفوس المحبوبين، عندما يتألم أحد بإرادته لأجل محبوبه. لقد أظهر الرب يسوع المسيح حبه العجيب لخليقته باحتماله الألم حتى الموت لأجلها كقول الكتاب: "لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ." (يو15: 13)، وأيضًا قوله: "وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا" (رو5: 8). فهل في غياب المشقات والأوجاع كان بإمكاننا التعبير عن حبنا لأحبائنا؟!



· الألم والوحدانية:
خلق الله الجسد من أعضاء كثيرة، ولكنه في وحدة واحدة، ولذلك عندما يتألم عضو ما في الجسد تتألم، وتتكاتف معه باقي الأعضاء كقول الكتاب: "فَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يَتَأَلَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَتَأَلَّمُ مَعَهُ. وَإِنْ كَانَ عُضْوٌ وَاحِدٌ يُكَرَّمُ، فَجَمِيعُ الأَعْضَاءِ تَفْرَحُ مَعَهُ ُ" (1كو12: 26). إن احتمالنا لأجل أحبائنا، ومشاركتنا لهم أتعابهم، وآلامهم تُوَحِدُنا معهم بالحب، فننصهر معهم في كيان واحد. وهذه هي الصفة الرئيسية للكنيسة، التي رأسها المسيح، الذي تألم لأجلها إلى المنتهى، وأفرادها هم أعضاء جسدها الذين يحملون آلام وأتعاب وأثقال بعضهم بعض بحسب قول الكتاب: "اِحْمِلُوا بَعْضُكُمْ أَثْقَالَ بَعْضٍ، وَهكَذَا تَمِّمُوا نَامُوسَ الْمَسِيحِ" (غل6: 2).



· الآلام أعظم محرك للخير:
أعطى الله الإنسان إمكانيات كثيرة من عقل راجح خلاق مبدع يمكنه تذليل الكثير مما يعيق راحة وسلام أبناء البشر. لقد كانت آلام الناس دافع قوي على العمل المبدع الخلاق. وصار الألم، ومتاعب ومشقات الناس الشغل الشاغل للكثيرون من ذوي النفوس النبيلة، فاجتهدوا وبحثوا عن أسبابها ونجحوا في تأسيس مبادئ علوم الطب والأدوية والاجتماع و.. و.. وقدموا الشفاء لأتعاب وأوجاع إخوتهم المتألمين.


رابعًا: مدى احتمال الآلام للحفاظ على المبادئ، والمعتقدات يظهر قيمة، وأهمية هذه المعتقدات:


· قوة وفاعلية تأثير الألم:
يمس التعب والمشقة، والألم حياة الإنسان بطريقة مباشرة ومؤثرة، وذلك بعكس الأشياء المادية التي قد يخسرها، أو يتركها بني البشر طواعية فداءً عن أنفسهم كما قال الكتاب متعجبًا: "أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟" (مر8: 37).



· الاستهانة بالألم من أجل القيم:
حينما يبذل، أو يتألم الإنسان من أجل الله، أو من أجل أشخاص محبوبين، أو من أجل مبادئه، أو من أجل قيمه ، أو عقائده فهو في هذه الحالة يعطي ما تألم لأجله أولوية خاصة على نفسه، ويضع من تألم لأجله في أعظم مرتبة لديه. وهذا ما شهد به الكتاب المقدس عن آباء الإيمان الذين قيل عنهم: "... وَآخَرُونَ عُذِّبُوا وَلَمْ يَقْبَلُوا النَّجَاةَ لِكَيْ يَنَالُوا قِيَامَةً أَفْضَلَ." (عب11:35).



· الألم ثمن باهظ يعبر عن أعظم اختيار:
لقد وضع الله الحياة والموت أمام الإنسان، وطالبه باختيار الحياة الأبدية بحسب قوله: "أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلْتُ قُدَّامَكَ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. الْبَرَكَةَ وَاللَّعْنَةَ. فَاخْتَرِ الْحَيَاةَ لِكَيْ تَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُك" (تث 30: 19). إن احتمالنا المشقة والألم من أجل الله يؤكد اختيارنا للحياة الأبدية، بل ويُثَّبت ذلك الاختيار، وهذا ما طالبنا به معلمنا بطرس الرسول قائلًا:" لِذلِكَ بِالأَكْثَرِ اجْتَهِدُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْعَلُوا دَعْوَتَكُمْ وَاخْتِيَارَكُمْ ثَابِتَيْنِ. لأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذلِكَ، لَنْ تَزِلُّوا أَبَدًا" (2بط1: 10).



· الألم والتزكية:
أكد معلمنا بولس الرسول أهمية احتمال الألم والضيق في تزكية المؤمنين قائلًا: "وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً" (رو5: 3- 4) وكلمة تزكية تعني الفوز بجدارة دون منافس. تعلمنا الحياة اليومية أن من يتعب للحصول على أمر ما يتمسك به أكثر منه إن لم يكن قد بذل لأجل ذلك الأمر.


خامسا: كثرة الآلام، وعموميتها من حولنا يجعل الإنسان يترجى الحياة الأبدية:
لقد شهد أب الآباء يعقوب عن كثرة أتعابه وآلامه أمام فرعون حين سأله عن سني حياته قائلا: "فَقَالَ يَعْقُوبُ لِفِرْعَوْنَ: «أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَرَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ»(تك47: 9). لقد كان أبونا يعقوب يتطلع إلى وطن سماوي آخر، وهو يستحضر أيام حياته المملوءة بالشقاء، والتي وصفها بالغربة مؤملًا في الانتقال إلى وطن دائم، لا ألم ولا تعب فيه. وكثيرًا ما لوح لنا الكتاب المقدس بالأبدية السعيدة، التي لا تعب ولا ألم فيها، وما أعذب قول القديس يوحنا الرائي: "وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ" (رؤ21: 4).


سادسًا: تحدي الألم يعطي الفرصة لنوال الأمجاد:


· الرب يسوع سابق لنا في طريق الألم:
يمثل الألم أحيانًا تحديًا للإنسان، ومَن يغلبه يطلب المجد كسيده الرب يسوع الذي شهد الكتاب لكماله قائلًا: "وَلكِنَّ الَّذِي وُضِعَ قَلِيلًا عَنِ الْمَلاَئِكَةِ، يَسُوعَ، نَرَاهُ مُكَلَّلًا بِالْمَجْدِ وَالْكَرَامَةِ، مِنْ أَجْلِ أَلَمِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَذُوقَ بِنِعْمَةِ اللهِ الْمَوْتَ لأَجْلِ كُلِّ وَاحِدٍ." (عب 2: 9).



· وسط الآلام يتلألأ القديسون:
تظهر فضائل القديسين بصورة بهية تجذب الكثيرين عند احتمالهم للآلام وذلك لأن كل الفضائل يظهر صدقها وحقيقتها عندما تصمد أمام الألم، ولهذا مدح الكتاب المتألمين قائلًا: "مَنْ هذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ كَأَعْمِدَةٍ مِنْ دُخَانٍ، مُعَطَّرَةً بِالْمُرِّ وَاللُّبَانِ وَبِكُلِّ أَذِرَّةِ التَّاجِرِ؟" (نش3: 6). فالصبر لا وجود له بدون الأتعاب والمشقات، والمحبة ترتبط بالبذل، والاتضاع يدفع المتضعين للخدمة واحتمال مخدوميهم وهكذا..



· الألم والتحدي:
عندما تعترض المشقات والأتعاب طريق الإنسان يكون أمامه اختيارين، وهما: أما أن يثبت ويتمسك بكماله، أو يخشى الألم ويتراخى عن الحق فيهلك. لقد ضرب لنا الشهداء والمعترفون والقديسون أروع الأمثلة على الثبات، ولذلك حسب لهم تمسكهم وصبرهم بالوصايا الإلهية فضل كما قال الوحي الإلهي: "لأَنَّ هذَا فَضْلٌ، إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ، يَحْتَمِلُ أَحْزَانًا مُتَأَلِّمًا بِالظُّلْمِ. لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ" (1بط2: 19- 20). لقد أعلن أيوب الصديق قبوله تحدي الألم من أجل الله قائلًا : «حَيٌّ هُوَ اللهُ الَّذِي نَزَعَ حَقِّي، وَالْقَدِيرُ الَّذِي أَمَرَّ نَفْسِي، إِنَّهُ مَا دَامَتْ نَسَمَتِي فِيَّ، وَنَفْخَةُ اللهِ فِي أَنْفِي، لَنْ تَتَكَلَّمَ شَفَتَايَ إِثْمًا، وَلاَ يَلْفِظَ لِسَانِي بِغِشٍّ" (أي27: 1- 3).

سابعًا: المشقات والأتعاب والآلام مدرسة فضائل:


· مدرسة الألم والصبر:
فضيلة الصبر ضرورية لخلاص الإنسان، بل أيضًا لحياته اليومية. إنها الضامن لكمال أي عمل، ومن المستحيل تعلمَ هذه الفضيلة دون احتمال الأتعاب، وهذا ما أشار إليه الكتاب المقدس قائلًا: "اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ." (يع1: 2-4).



· الاتضاع والآلام:
الاتضاع ثمرة أكيدة للأتعاب والآلام، لأنها تشعر الإنسان بمدى ضعفه أمام نفسه ولذلك ترنم داود النبي أثناء آلامه باتضاع قائلًا: "ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ، وَنَفْسِي قَدِ ارْتَاعَتْ جِدًّا. وَأَنْتَ يَا رَبُّ، فَحَتَّى مَتَى؟" (مز6: 2- 3).



· الشكر في الضيقات:
الحرمان والتعب والألم يعلم الإنسان الشكر والعرفان، لأن غالبية الناس لا تقدر ما وهبه لهم الله من نعم، بل يتذمرون طالبين المزيد، ولكن التعب والمعاناة يساعدان الناس على إدراك نعم الله الموهوبة لهم فيمجدون الله ولذا كثيرًا ما يستغرب الأصحاء عندما يرون المتألمين يمجدون الله ويشكرونه. ومن أعظم الأمثلة التي تؤكد ذلك تمجيد نبوخذ نصر الملك لله بعدما أعاد له الله عقله وملكه قائلًا: "اَلآيَاتُ وَالْعَجَائِبُ الَّتِي صَنَعَهَا مَعِي اللهُ الْعَلِيُّ، حَسُنَ عِنْدِي أَنْ أُخْبِرَ بِهَا. آيَاتُهُ مَا أَعْظَمَهَا، وَعَجَائِبُهُ مَا أَقْوَاهَا! مَلَكُوتُهُ مَلَكُوتٌ أَبَدِيٌّ وَسُلْطَانُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْر" (دا 4: 2- 3).


أخيرا:
أترك لك أيها القارئ العزيز تخيل انعدام الأتعاب، والمشقات في هذا العالم، فتُرى ماذا سيكون تأثير ذلك في حياة الناس؟ وفي تعاملات الناس مع بعضهم البعض؟ وهل سيكون ذلك لخير البشرية؟!

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:17 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
14- هل الخطيئة حقًا هي السبب لآلام البشرية؟ ولماذا لم يتدخل الله لمنع أبوينا الأولين من السقوط فيها؟ وكيف تتسبب الخطية في الآلام؟


السؤال الرابع عشر

هل الخطيئة حقًا هي السبب لآلام البشرية؟ ولماذا لم يتدخل الله لمنع أبوينا الأولين من السقوط فيها؟ وكيف تتسبب الخطية في الآلام؟


الإجابة:

إن الألم عرضٌ ناتج عن معرفة الإنسان للشر، وهو أيضًا صناعة بشرية خالصة، ومقياس صادق لا يخطئ (ثرموميتر thermometer) لشرور البشر وأنانيتهم. وكلما زاد بُعدَ البشر عن الله طبيب البشرية الصالح زاد فسادهم وشرورهم، وقلّ صلاحهم، وبالتالي كثرت آلامهم، والعكس صحيح، وذلك كشهادة الكتاب القائل: "وَتَعْبُدُونَ الرَّبَّ إِلهَكُمْ، فَيُبَارِكُ خُبْزَكَ وَمَاءَكَ، وَأُزِيلُ الْمَرَضَ مِنْ بَيْنِكُمْ. لاَ تَكُونُ مُسْقِطَةٌ وَلاَ عَاقِرٌ فِي أَرْضِكَ، وَأُكَمِّلُ عَدَدَ أَيَّامِكَ" (خر23: 25- 26). يتضح من الشاهد السابق إن زوال البركة عن الأشرار هي سبب الكثير من الآلام، وأما بركة الله للإنسان فَتُرِيَحهُ وتُجَنِبَهُ الكثير من الأتعاب بحسب قول الحكيم:"بَرَكَةُ الرَّبِّ هِيَ تُغْنِي، وَلاَ يَزِيدُ مَعَهَا تَعَبًا" (أم 10: 22). والآن دعنا أيها السائل العزيز نبين ذلك من خلال ما جاء في السؤال بالتتابع من خلال النقاط التالية:



أولًا: الخطية وراء آلام البشرية:
● ارتباط الألم بالخطية وفساد وشر الإنسان: بدراسة سفر التكوين نجد أن بداية آلام البشرية بدأت بالتعدي على وصية الله، بالأكل من شجرة معرفة الخير والشر. لقد أحس أبونا آدم ولأول مرة بالاضطراب النفسي والخوف نتيجة لمخالفته لوصية الله، وهذا ما يؤكد ارتباط الخطية بالألم النفسي. لقد كانت إجابة أب البشرية على سؤال الله له : "أين أنت" هي: .. «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ».( تك: 3: 9- 10). وهذه الإجابة تشهد على آثار ونتائج خطيته. إن أعظم دليل على أن أبونا آدم كان يستمد سلامه النفسي وسعادته من ارتباطه بالله هو خوفه وفقدانه للسلام بمجرد معاداته، ومخالفته لله. لقد كان ما عاناه أب البشرية من اضطراب، وخوف هو مقدمة لما عاناه البشر من أوجاع وآلام فيما بعد.

ثانيًا: لم يمنع الله الإنسان من الخطأ حفاظًا على حريته:
أن الألم هو النتيجة الحتمية للخطية، والتي فعلها الإنسان بكامل حريته الممنوحة له من الله. أما إذا منعه الله من الخطأ فكان لابد أن يسلبه نعمة الحرية والإرادة، وهذا بالطبع ما لا يُرضي الله، ولا يُرضي الإنسان المخلوق على صورة الله في الحرية والإرادة. إن مشيئة الله للإنسان هي خيره وسلامه، ولكن الإنسان رفض طريق الحياة، واختار طريق الموت والألم. لقد أكد إشعياء النبي هذه الحقيقة قائلًا: "لَيْتَكَ أَصْغَيْتَ لِوَصَايَايَ، فَكَانَ كَنَهْرٍ سَلاَمُكَ وَبِرُّكَ كَلُجَجِ الْبَحْرِ. وَكَانَ كَالرَّمْلِ نَسْلُكَ، وَذُرِّيَّةُ أَحْشَائِكَ كَأَحْشَائِهِ. لاَ يَنْقَطِعُ وَلاَ يُبَادُ اسْمُهُ مِنْ أَمَامِي." (إش48: 18- 19).

ثالثًا: كيف تسببت الخطية في آلام البشرية؟:


● تأصل الخطية في البشر، أو فساد طبيعتهم:
صار لأبوينا الأولين خبرة في معرفة الخير والشر بعد أن صدقا الحية وأطاعاها. وقد أثرت هذه الخبرة السيئة سلبيًا على سلوكهما وحياتهما، وذلك لأن الإنسان حينما يقع تحت تأثير الخطية يعتاد عليها بسهولة، ثم تتحول فيه إلى طبع يتحكم فيه، فلا يقدر التوقف عنها، حتى لو كانت تسبب له ضررًا. وأبسط دليل على ذلك هو: أن الناس كثيرًا ما يذكرون عيوب بعضهم البعض، وكأنها طبيعة فيهم، وليس كأنها شيئًا عارضًا فيقولون مثلًا: فلان طبعه أناني، أو أنه مراوغ ومخادع، أو عنيف، أو شهواني، أو... ،أو...



● الخطية تُفقِدُ الإنسان سلامه:
بتحول الخطية إلى طبيعة في الإنسان وُجد الصراع في قلبه بين الخير الذي خُلِقَ عليه، والشر الذي أصبح واقعًا في حياته، ولكن الشر أكثر قبولًا للإنسان الطبيعي من الخير. كقول الكتاب: «الْمِيَاهُ الْمَسْرُوقَةُ حُلْوَةٌ، وَخُبْزُ الْخُفْيَةِ لَذِيذٌ». (أم9: 17). لقد تملك الشر على الإنسان، حتى أنه إذا أراد فعل الخير يجد الشر حاضرًا أمامه ويمنعه أيضًا عن صنع الخير. إن فعل الحق والبر للإنسان الطبيعي يحتاج منه لصراع وجهاد، وهذا بعكس صنع الشر الذي صار سهلًا وميسورًا، كقول الكتاب: "لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ. إذًا أَجِدُ النَّامُوسَ لِي حِينَمَا أُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى أَنَّ الشَّرَّ حَاضِرٌ عِنْدِي." (رو7: 19- 21).



· البغضة والأنانية وراء الكثير من الآلام:
لقد صار الانسان مُستَعبدًا للخطية والشر، وبالتالي زادت آلام البشرية بازدياد شرور الناس، فُوجد الطمع والغيرة والحسد والشهوة التي أدت إلى العنف والإيذاء و....و...، وكلما زاد شر الإنسان زاد إبتعاده عن الله القدوس، وبالتالي صار يطلب شهوته ولذته ويبحث عن ذاته في كبرياء، ففقد النعمة الإلهية. لقد اتخذ من الشيطان مُلهِمًا وسيدًا له، بل صار الشيطان هو رئيس هذا العالم الذي يقود الناس في طريق الفساد وهكذا ملأ الغم والألم الناس.



● شر الناس وإيذاؤهم لبعضهم البعض مصدر أساسي للألم:
بتحكم الشر في البشرية اصطدم البشر بعضهم ببعض، ولم يراعِ الإنسان انسجامه، واتفاقه، ووحدانيته مع إخوته من البشر. لقد تمكنت الكراهية والبغضة من قلوب الكثيرين من أبناء البشر نحو إخوتهم، حتى تخلى الكثيرون عن محبتهم لإخوتهم، وصار لسان حالهم قول قايين لله بعد قتله لأخيه: «لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟»، ومع ازدياد شر الناس زادت العداوة والقتل بين البشر، وقامت الصراعات والحروب بين الأفراد، والعائلات، والقبائل، والشعوب، والدول، واخترع البشر الأسلحة الفتاكة المدمرة، والتي تركت آثارها على صحة البشر لأجيال متلاحقة، بل أكثر من هذا أثرت على الطبيعة نفسها كما هو الحال في استخدام الأسلحة النووية. إنها الذات وعدم المحبة علة الشقاء والألم.



● فساد الطبيعة والألم الجسدي:
بدأ الألم الجسدي يزحف إلى جسد أبوينا الأولين مع سريان الحكم الإلهي بالموت، وذلك بعدما كسرا وصية الله وأصبحا مستحقين للموت بحسب القول الإلهي: "وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتًا تَمُوتُ» (تك2: 17)، ومع أنهما لم يموتا في الحال، لكن الموت بدأ يعمل فيهما تدريجيًا من خلال الضعف والشيخوخة التي زحفت إلى كل خلية من خلايا جسديهما، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ومنذ ذلك الوقت أصبح الإنسان معرضًا لأنواع كثيرة من الأمراض، وبالتالي دخله الألم الجسدي كنتيجة للخطية، والذي لا نهاية له سوى بانفصال روح الإنسان من جسده، (أي بموته).



● الأمراض العضوية، والاضطرابات النفسية تسري في جسد البشرية:
إن الجينات الوراثية التي تحمل صفاتنا الجسمانية مصدرها واحد وهو أبوينا الأولين، ومع دخول الخطية وطمع الإنسان، وما سببه ذلك من اختراعات صناعية وحربية تأثرت البيئة الطبيعية المحيطة بنا بعوامل صناعية كثيرة، وهذا بدوره له تأثيره الضار على الجينات الوراثية للإنسان، وهكذا ظهرت أمراض عضوية كثيرة مستحدثة، توارثتها الأجيال المتعاقبة، وبالطبع صاحب الألم تلك الأمراض. إن عامل الوراثة يؤثر أيضًا في انتقال الأمراض النفسية من الآباء إلى الأبناء كما في انتقال الأمراض العضوية.



● الأرض الملعونة سبب لآلام وشقاء البشرية:
خُلق الإنسان ليكون سيدًا للخليقة كلها، لكنه بخطيته وشره أضر بالطبيعة التي أصبحت ملعونة بسببه بحسب قول الرب: «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلًا: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِك. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ». (تك 3: 17- 19). ومن ذلك الحين لم تعد الأرض تعطيه قوتها. لقد صارت الأرض الملعونة ضمن أسباب شقائه. أما الحيوانات والبهائم فقد كانت خاضعة لأبونا آدم الذي أعطاها أسماءها، ولكن ذلك لم يدم بعد الخطية، لأن الكثير منها أصبح مفترسًا للإنسان بحسب قول قايين القاتل: "... : «ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَل. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرْضِ، فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي" (تك 4: 13- 14).

رابعًا: هل نشترك مع الله الحنون في رفع آلام البشر ولا تكون سببًا في مضاعفتها؟:
أشفق الله على البشرية، وأعطاها إمكانيات كثيرة لتبرأ من آلامها، ولكن الكثير من الناس يتقاعسون، ولا يستخدمون تلك الإمكانيات لتخفيف آلام إخوتهم من البشر مضاعفين آلام أنفسهم بشرهم، وعدم محبتهم لبعضهم البعض وفيما يلي نذكر بعض هذه الإمكانات:



● المشاعر والأحاسيس الطبيعية والتي وضعها الله في قلوب البشر:
وضع الله هذه الأحاسيس النبيلة لتدفع الناس للإحساس بآلام المرضى، والمساكين، والفقراء، والمشردين، والمعاقين، والمنكوبين لنخدمهم ونهتم بهم. لقد أكد الرب في مثل السامري الصالح أهمية الإحساس بالآخرين ومسئوليتنا نحو إخوتنا المنكوبين. وفي هذا المثل فضح الرب خطية البشرية التي لا تشعر بآلام أفرادها في صورة الكاهن واللاوي، اللذين لم يكترثا بالرجل المجروح والمتألم بقوله: "فَعَرَضَ أَنَّ كَاهِنًا نَزَلَ فِي تِلْكَ الطَّرِيقِ، فَرَآهُ وَجَازَ مُقَابِلَهُ. وَكَذلِكَ لاَوِيٌّ أَيْضًا، إِذْ صَارَ عِنْدَ الْمَكَانِ جَاءَ وَنَظَرَ وَجَازَ مُقَابِلَهُ" (لو 10: 31- 32). إن الرب يريدنا كلنا أن نشعر، ونتفاعل مع إخوتنا مثله، وذلك كقول الكتاب: "فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ. مُهْتَمِّينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ اهْتِمَامًا وَاحِدًا، غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِالأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إِلَى الْمُتَّضِعِينَ. لاَ تَكُونُوا حُكَمَاءَ عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ" (رو 12: 15- 16).



● الإنسان وكيل الله على كل الإمكانيات والطاقات المعطاة لخدمة البشرية:
أعطى الله البشرية طاقات وإمكانيات جبارة لتحيا بها. لقد استأمن الله البشر على الكثير من الخيرات، سواء كانوا أفراد أو جماعات أو دول، وعندما استخدم البشر تلك الإمكانيات لحساب الخير عم السلام والفرح. لقد خفف النبلاء من البشر آلام إخوتهم بإقامتهم المستشفيات ودور الرعاية للاهتمام بالأيتام والمسنين والمشردين، وأيضًا بذهابهم في رحلات شاقة إلى بلاد لم يعرفوها بحثًا عن المتألمين والفقراء والمعذبين، وكم أيضًا صنعوا خيرًا باختراعاتهم واكتشافاتهم العلمية المفيدة و.. و.. و.. لقد اقتدوا بالرب يسوع الطبيب الشافي، وخادم البشرية الحنون والمتضع الذي قيل عنه: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا" (مت9: 35-36).


الخلاصة:
إن الألم صناعة بشرية خالصة، لأنه ثمرة شر الإنسان، ولكن الله كطبيب شفوق وضع بين أيدي البشر الكثير من الإمكانيات لتفادي آلام إخوتهم، أو على الأقل تخفيفها، ولكن على البشر أولًا أن يمتلئوا حبًا بعضهم نحو بعض وأن يستغلوا الإمكانيات الموهوبة لهم من الله في خدمة البشر إخوتهم بحسب وصية الله القائلة: "فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ، وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ." (غل 6: 10).

أما العكس فهو الشر بعينه من كبرياء البشر وأنانيتهم، وطمعهم الذي يتسبب في الحروب والإيذاء للآخرين، وعدم مد يد الحب للشعوب الفقيرة، وهذا بخلاف الحروب والعنف، وما ينتج عنها من قتل للآلاف بل للملايين من البشر، وما تتركه وراءها هذه الحروب من تشريد، وتجويع، وأمراض، بل تدمير وإفساد للطبيعة الجامدة.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:19 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
15- هل الله هو المؤدب للبشر، أم هو المعاقب الذي يترقب أخطاءهم لينزل عليهم عقوباته؟ وهل الأمراض والكوارث هي غضب إلهي؟


السؤال الخامس عشر

هل الله هو المؤدب للبشر، أم هو المعاقب الذي يترقب أخطاءهم لينزل عليهم عقوباته؟ وهل الأمراض والكوارث هي غضب إلهي؟


الإجابة:

للإجابة على هذا السؤال يلزمنا الغوص في كلمة الله وإعلاناته، وتحديد مفاهيم العقوبة والتأديب، وحب الله ومعاملاته مع البشر، إن المفاهيم المغلوطة عن الله هي السبب الرئيسي لبعض هذه الاتهامات الكاذبة التي تشكك في محبة الله، وهو ما سنعرض له من خلال النقاط التالية:



أولًا: مفهوم العقوبة:
العقوبة هي الجزاء لما ارتكبه الإنسان من خطأ، وهي تحقيق لمبدأ العدالة، وبدونها يتساوى الشرير مع البار. هي واجبة ولازمة لردع البشر من المخالفة. لقد أكد الكتاب أن عدالة الله تستوجب وجود عقاب للمخالفين، ومكافأة للأبرار والمظلومين قائلًا: "إِذْ هُوَ عَادِلٌ عِنْدَ اللهِ أَنَّ الَّذِينَ يُضَايِقُونَكُمْ يُجَازِيهِمْ ضِيقًا، وَإِيَّاكُمُ الَّذِينَ تَتَضَايَقُونَ رَاحَةً مَعَنَا، عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِيًا نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ اللهَ، وَالَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ،" (2 تس 1: 6- 8).


ثانيًا : مفهوم التأديب:
التأديب هوعمل بناء لصقل الأشخاص - خصوصًا الصغار- والرقي بهم. إنه عمل شاق يستغرق الكثير من الزمن، وأدواته هي: التعليم... والتدريب... والترغيب فيما هو جيد...والتشجيع وشحذ الهمم، وضمن أدواته أيضًا التنفير مما هو سيء... وذلك بالتوبيخ... والتخويف. وقد يستخدم المربي أحيانًا الثواب والعقاب للوصول إلى هدفه.


ثالثًا : بين العقاب والتأديب:


· الله الكامل:
الله كامل في صفاته، فهو محب، لأنه أب حقيقي، بل ومصدر كل أبوة، وهو أيضًا عادل لأنه أعظم قاضٍ، وهو مصدر العدالة، ولا تناقض بين حبه وعدالته. فالحب نصيب كل من يقبله أبًا فيتمتع بفدائه وغفرانه، والعدالة للأشرار المصريين على شرهم الرافضين لقبول غفرانه، (فدائه لهم)، ولكنه أيضًا كأب صالح يؤدب ويعلم أبناءه ليخلصوا. إننا نحن المؤمنين بالمسيح يصدق فينا قول معلمنا بولس الرسول: "إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ." (رو8: 1).



· التأديب وسيلة:
تأديب الأبناء وسيلة هدفها الإصلاح ودافعها الحب، ولا تأتي بثمارها إلا بقبولهم لها خاضعين واثقين في آبائهم. أما العقوبة فهي أدآة في يد القضاء والعدالة لحساب الحق، وتقع على المخطئ، ولا نجاة منها متى صدر الحكم بها كقول الوحي الإلهي: "أَفَتَظُنُّ هذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذه، وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا، أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟" (رو2: -3).




· التربية عمل شاق:
إن التأديب، أو التربية عملية معقدة تحتاج لصبر، وطول آناة المربي، وتحتاج أيضًا لحكمة المربي. أما العقاب فيحتاج لقانون، وقضاء عادل يحكم بالحق: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ اللهِ هِيَ حَسَبُ الْحَقِّ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ." (رو2: 2).



· العقاب الحقيقي:
العقاب الحقيقي الذي يجب أن يخشاه الإنسان هو الهلاك الأبدي. أما غير ذلك من ضيقات وكوارث، وأمراض -مهما كانت شدتها- لا تُقَارن بالعقاب، أو بالهلاك الأبدي. إن الإنسان له رجاء مادام يحيا في هذه الأرض كقول الكتاب: "... لِكُلِّ الأَحْيَاءِ يُوجَدُ رَجَاءٌ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْحَيَّ خَيْرٌ مِنَ الأَسَدِ الْمَيْتِ." (جا9: 4).

بناء على ماسبق تعتبر أمثال هذه الأوجاع (مهما بلغت شدتها) تأديب محبة من الله، لأنها تأتي بنتائج إيجابية عندما يقبلها الإنسان من يد الله، بشكر كقول معلمنا بولس الرسول: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." (رو8: 28).



· التأديب عمل محبة:
التأديب بكل أنواعه عمل محبة الله الدائم نحو جهل البشر وضعفهم، وإلا سَيَهلك الجميع لأن عدالة الله تقتضي عقاب الخاطئ بموته. ومن الواجب على أي أب محب أن يؤدب ابنه كقول الحكيم: "مَنْ يَمْنَعُ عَصَاهُ يَمْقُتِ ابْنَهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ يَطْلُبُ لَهُ التَّأْدِيبَ." (أم13: 24).

رابعًا : الله الأب الحنون والمؤدب الشافي:


· الله محبة:
عرف الكتاب المقدس الله بأنه محبة قائلًا: "وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ." (1يو4: 8). لقد أحبنا الله، ومن كثرة وعظمة حبه أنعم على كل من قبله بالبنوة. كقول معلمنا يوحنا الرسول: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ." (يو1: 12). إذًا كل مولود من الله هو ابن محبوب له.



· الحب سر قبول الأبناء لتأديب آبائهم:
إن حب الأب لابنه هو أعظم حب يمكن أن يوصف، ولا مثيل له في عالم البشر. وعظمة هذا الحب هو السر وراء قبول الأطفال لتأديب آباءهم، ودليل ذلك أن ما يقبله ولد من أبيه كعقاب من المستحيل أن يقبله من إنسان غريب عنه، والسر لقبوله هو بلا شك ثقة الابن في حب أبيه وإيمانه بحكمته. إن كثرة حب وعطاء الآباء لأبنائهم يَمُلك قلوبهم، وهو أيضًا أعظم سلاح يُبعِد عنهم أي تذمر، أو تمرد بسبب أي تأديب. إن أعظم برهان على عدم انتماء الأشرار لله، وإنكارهم لأبوة لله هو عدم قبولهم لتأديب محبته كقول الكتاب: "إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟" (عب 12: 7- 9).



· ملامح تأديب الله من خلال سفر العبرانيين:
لقد صور لنا معلمنا بولس الرسول ملامح تأديب الله كأب محب لأبنائه المؤمنين به في رسالته إلى العبرانيين. وفيما يلي نوجز تلك الملامح مؤيدة بالشواهد الكتابية:

1. تأديب الله للمؤمنين هو أحد مظاهر رعايته، وهو أيضًا واجب الأب نحو أبنائه.

الشاهد: "وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ:«يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ»" (عب12: 5- 6).

2. هي تدريبات ثمرها أكيد، وهو بر يؤدي بنا للدخول إلى حياة الفرح، والسلام مع ملك السلام.

الشاهد:"وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَم" (عب12: 11)

3. تأديب الله لأولاده غرضه الأوحد هو المنفعة والقداسة، حتى نصلح للتمتع بملكوته الأبدي.

الشاهد: "لأَنَّ أُولئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّامًا قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. " (عب12: 10).

4. تأديب الله قد يتسبب في بعض المعاناة، ويحتاج إلى الاحتمال، ولكنه بالتأكيد سيؤول إلى لفرح أخيرًا.

الشاهد: "وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ." (عب12: 11).



· تأديب الله يشترك فيه الجميع لخيرهم:
لقد صمَّم الله حياتنا بحكمته لتكون خليطًا بين الضيق والسعة، وبين الفرح والحزن، وبين الصحة والمرض، وبين .. و..و بين.. و.. أو بين الخير والشر بحسب مفهوم البشر، الذين يعتبرون ما لا يَسُرَهم شرًا، ولكن الحكيم كشف أن ذلك وراءه حكمة إلهية، ونصح بالاستفادة من كل أمور حياتنا، لأن ذلك يؤول إلى خلاصنا قائلًا: "فِي يَوْمِ الْخَيْرِ كُنْ بِخَيْرٍ، وَفِي يَوْمِ الشَّرِّ اعْتَبِرْ. إِنَّ اللهَ جَعَلَ هذَا مَعَ ذَاكَ، لِكَيْلاَ يَجِدَ الإِنْسَانُ شَيْئًا بَعْدَهُ." (جا7: 14).



· شاركنا ابن الله يسوع المسيح اللحم والدم، ووقع عليه استحقاق تأديبنا لننعم نحن بسلامه:
إن اشتراك بني آدم جميعهم في اللحم والدم (الجسد المادي) يجعلنا معرضين لآلام كثيرة بالطبيعة، وهذا نافع لخلاصنا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد شاركنا الرب هذه الطبيعة حبًا منه فينا كقول الكتاب: "فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ.. لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ.". (عب 2: 14- 18). فلماذا ننظر للأوجاع كعقوبات ولا نلتفت لحكمته وحبه وعطائه الذي جعله يشاركنا آلامنا؟!
خامسًا : الله القاضي العادل:
فيما يلي نعرض لملامح دينونة الله العادلة:



● الله لا يتغاضى عن الشر لأنه قاضٍ عادل:
الله قاضٍ عادل لا يمكنه أن يتغاضى عن الشر، لأن ذلك ضد طبيعته، وقد أعلن الوحي الإلهي ذلك في سفر ناحوم قائلًا: "اَلرَّبُّ إِلهٌ غَيُورٌ وَمُنْتَقِمٌ. الرّبُّ مُنْتَقِمٌ وَذُو سَخَطٍ. الرّبُّ مُنْتَقِمٌ مِن مُبْغِضِيهِ وَحَافِظٌ غَضَبَهُ علَى أَعْدَائِهِ." (نا1: 2).



● الله المتأني في عقابه:
يتأنى الله في عقابه كثيرًا كقول الكتاب: "الرَّبُّ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَعَظِيمُ الْقُدْرَةِ، وَلكِنَّهُ لاَ يُبَرِّئُ الْبَتَّةَ. الرَّبُّ فِي الزَّوْبَعَةِ، وَفِي الْعَاصِفِ طَرِيقُهُ، وَالسَّحَابُ غُبَارُ رِجْلَيْهِ." (نا1: 3). وأيضًا قوله: "أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" (رو 2: 4).



● الله الغفور الذي يريد خلاص الجميع:
الله المحب الغفور يعرف ضعف طبيعة الإنسان، ولذلك من المستحيل أن يطارد الله المحب الإنسان ليل نهار ليعاقبه عن كل خطأ (كما يعتقد البعض). وهذا ما شهد به المرنم في المزمور قائلًا: "إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ الآثَامَ يَا رَبُّ، يَا سَيِّدُ، فَمَنْ يَقِفُ؟ لأَنَّ عِنْدَكَ الْمَغْفِرَةَ. لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ." (مز130: 3- 4). لذلك فلابد أن يغفر الله للبشر، وإلا سيهلك البشر جميعهم.



· العقوبة نافعة للإصلاح:
العقوبة نافعة لإصلاح المخطئ، ورجوعه عن خطئه، وفي هذه الحالة تُعتَبرُ تأديبًا، وقد تخيف غيره، فلا يقدم عليها كقول الكتاب: "وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ، مُبْغِضِينَ حَتَّى الثَّوْبَ الْمُدَنَّسَ مِنَ الْجَسَدِ." (يه1: 22).



· ما يزرعه الإنسان إياه يحصد:
كثيرًا مما يعتبره الناس عقوبات إلهية هي ثمرة طبيعية لخطاياهم، وكمثال لذلك بعض الأمراض الفتاكة (مثل الإيدز) والتي تنتقل بالعدوى هي نتيجة للعلاقات الخاطئة خارج سر الزيجة. قد يتأثر بالمرض المخطئ ذاته، أو نسله، وهناك أيضًا الكثير من الأمثلة لأمراض ترجع أسبابها لمخالفة وصايا الله. فمثلًا قد تُزِيُد الانفعالات العصبية من نسبة حدوث أمراض القلب، وهكذا.. حقًا صدق الكتاب في قوله: "لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً." (غل 6: 7- 8).



· العقوبة لا تُسر قلب الله:
الله لا يسر بالعقاب، لأنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا كقوله: "هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ؟ يَقُولُ السَّيِّدُ الرب" ( حز18: 23). وأيضًا قوله: "فَإِنَّهُ وَلَوْ أَحْزَنَ يَرْحَمُ حَسَبَ كَثْرَةِ مَرَاحِمِهِ. لأَنَّهُ لاَ يُذِلُّ مِنْ قَلْبِهِ، وَلاَ يُحْزِنُ بَنِي الإِنْسَانِ." (مرا 3: 32- 33).


سادسًا : الأمراض والكوارث ليست بالضرورة غضب إلهي:


· افتراض بشري خاطئ:
ليس من الضروري أن كل مرض أو ضيقة ناتجة عن خطيئة معينة، وخير مثال لذلك ما حدث لأيوب الصديق الذي قال الرب عنه للشيطان: "... "هَلْ جَعَلْتَ قَلْبَكَ عَلَى عَبْدِي أَيُّوبَ؟ لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" (أي1: 8).



· أمر غير حقيقي:
إن افتراض غضب الله وراء كل ضيق أمر غير حقيقي، أو واقعي، وافتخار الله بأيوب أعظم مثال لذلك. ولكن ذلك الافتراض ينم عن شعور الكثيرين بضعفهم، وكثرة خطاياهم، ولهذا يشعرون بالذنب وقت آلامهم. إن ذلك يعود بنا بالذاكرة إلى قايين، الذي خاف أن يقتله كل من وجده، بعدما قتل هو أخيه. إنه الشعور بالذنب الذي يؤدي بالإنسان إلى ترقب، وانتظار وقوع المصائب، واعتبار كل ما يأتي عليه عقوبة وغضب إلهي. وللأسف تعطي هذه المشاعر السلبية صورة سيئة ومغلوطة عن الله الصالح والأب الحنون الذي قال عن نفسه: "فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ!" (مت7: 11). إننا نثق ونؤمن أن الله كامل في صلاحه وشفقته (كما أوضحنا من قبل)، وهو لا يشاء هلاك أحد بحسب قوله الصادق: "فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ." ( إش63: 9).

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:22 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
16- إن كانت الخطية وراء آلام البشر، فلماذا يتألم الأبرار الذين لم يخطئوا؟


السؤال السادس عشر

إن كانت الخطية وراء آلام البشر، فلماذا يتألم الأبرار الذين لم يخطئوا؟



الإجابة:

الألم صفة ملازمة لبني البشر جميعًا، ولا يوجد في جنس البشر من لم يذق الألم يومًا ما. لقد عَرَفَ الوحي الإلهي البشر بأنهم تحت الآلام قائلًا عن إيليا النبي أعظم أنبياء العهد القديم: "كَانَ إِيلِيَّا إِنْسَانًا تَحْتَ الآلاَمِ مِثْلَنَا، وَصَلَّى صَلاَةً أَنْ لاَ تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الأَرْضِ ثَلاَثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ" (يع5: 17). في النقاط التالية نعرض لمنطقية الألم وشموليته لجنس البشر:



أولاُ: انعدام البر بين بني البشر:
أكد معلمنا القديس يوحنا الرسول أننا لسنا بلا خطية مؤكدًا أن ذلك حق، وما هو غير ذلك كذب قائلًا : "إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا.. إِنْ قُلْنَا: إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِبًا، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا" (1يو1: 8- 10). وأيضًا معلمنا بولس الرسول أكد ذلك بقوله: "الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ." (رو3: 12). أما الرب يسوع القدوس فهو الوحيد الذي لم يعرف شر؛ لأنه القدوس الذي حبل به بالروح القدس، لذا قيل عنه: "الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ" (1بط2: 22).

ثانيًا: الوراثة نظام وقانون الحياة:
· الوراثة قانون طبيعي لجميع الأحياء:
كل إنسان هو ابن لآدم، وذاك واقع لا اختيار لبشر فيه، ولهذا ورثت البشرية من أبيها آدم الطبيعة الفاسدة التي تخطئ كثيرًا، والتي هي المسبب لكل ألم، وهذا ليس بغريب؛ فلا غرابة في مشابهة الابن لأبيه، بل ما يستحق العجب هو أن يوجد أبناء أبرار لأب البشرية آدم، فالأطفال تولد ومعهم الأنانية، وحب التملك، والغيرة من بعضهم البعض. لقد أنجب أبونا آدم ابناه قايين وهابيل بنفس طبيعته الفاسدة ، ولهذا قتل قايين أخاه هابيل بسبب غيرته وحسده له.



· الميراث التراكمي، ومسئولية الآباء نحو أبنائهم:
يرحب الإنسان بما يرثه من أبيه من ثروة، ويعتبر ذلك حقه الذي لا يمكنه التنازل عنه، ويتأثر الابن أيضًا بأخلاق أبيه، التي تؤثر في تربيته، وفي صفاته الشخصية، وأيضًا في نفسيته بطريقة مباشرة، بل قد يتأثر الابن بعلم وأخلاق أبيه. وأيضًا بصيته وسمعته الطيبة، أو الرديئة. إن هذه الحقيقة تنطبق كذلك على المجتمعات والبلاد؛ فثمرة اجتهاد أفرادها وحضارتها تورثه لأجيالها المتعاقبة.

أما المجتمعات المتخلفة فتورث أجيالها اللاحقة التخلف والفقر. إذًا هي مسئولية الآباء التي تقتضي، وتحتم عليهم السلوك بالصلاح، والقداسة خوفًا على فلذات أكبادهم (الأجيال القادمة). ولهذا حذر الرسول من نتائج الشر قائلًا: "مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" (عب12: 15).


ثالثاُ: قانون الوحدانية والشركة:


· البشرية وحدة واحدة تتأثر ببعضها البعض:
إن مَن يدعي أنه لم يخطئ يتناسى أن كل إنسان يرتبط بأب البشرية آدم، كما ترتبط كل أغصان الشجرة بجذعها، حتى وإن بعدت المسافة بين هذا الغصن وجزع الشجرة، وإن أي عطب في ساق أو جذع الشجرة يؤثر على أغصانها وثمارها.إن ما نراه تحت الميكروسوب من عينة لمادة حية، سواء من الجذع أومن الغصن يتطابق مع بعضه البعض من حيث إصابتها بأمراض النباتات أو سلامتها. لقد أوضح معلمنا بولس الرسول ما تسببه له هذه الطبيعة الفاسدة من أوجاع، وشقاء قائلًا: "وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي. وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ! مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟" (رو7: 23- 24). البشرية إذًا جسد واحد تأثر بمرض واحد (الخطية) ولهذا يتألم جميع أفراد هذا الجسد.



· علم الاجتماع يشهد بمسئولية الفرد نحو من حوله:
الألم ليس مسئولية الإنسان الشخصية فقط، ولكن المخطئ يضر بمَن حوله. ويشهد علم الاجتماع بأن تزايد الأشرار، والفاسدين في مجتمع ما يسبب آلامًا كثيرة لأفراد ذلك المجتمع، والعكس صحيح. وعلى هذا إذًا لا غرابة أن يتألم البعض لشر وخطيئة غيرهم. ولهذا حذر سليمان الحكيم من مرارة وآلام الخطية قائلًا: "اَلْحِكْمَةُ خَيْرٌ مِنْ أَدَوَاتِ الْحَرْبِ. أَمَّا خَاطِئٌ وَاحِدٌ فَيُفْسِدُ خَيْرًا جَزِيلًا." (جا9: 18).

رابعًا: المشقة طبيعة أرضنا المادية:
· أرض المشقة:
العالم الحاضر أرض مشقة، وليس أرض راحة. لقد أكد الكتاب ذلك قائلًا: "وَلكِنَّ الإِنْسَانَ مَوْلُودٌ لِلْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ الْجَوَارِحَ لارْتِفَاعِ الْجَنَاحِ." (أي 5: 7). وأكد أيضًا على ضرورة احتمال المشقات بصبر في هذا العالم قائلًا: "خُذُوا يَا إِخْوَتِي مِثَالًا لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ: الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ. هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ." (يع5: 10- 11).



· الأبدية موضع الراحة والأفراح:
وعد الرب شعبه، وخائفيه بحياة أبدية جديدة مفرحة خالية من الأوجاع والآلام يسكن فيها البر، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. واصفًا تلك الحياة قائلًا: "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هُمْ أَمَامَ عَرْشِ اللهِ، وَيَخْدِمُونَهُ نَهَارًا وَلَيْلًا فِي هَيْكَلِهِ، وَالْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ يَحِلُّ فَوْقَهُمْ. لَنْ يَجُوعُوا بَعْدُ، وَلَنْ يَعْطَشُوا بَعْدُ، وَلاَ تَقَعُ عَلَيْهِمِ الشَّمْسُ وَلاَ شَيْءٌ مِنَ الْحَرِّ، لأَنَّ الْخَرُوفَ الَّذِي فِي وَسَطِ الْعَرْشِ يَرْعَاهُمْ، وَيَقْتَادُهُمْ إِلَى يَنَابِيعِ مَاءٍ حَيَّةٍ، وَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ». (رؤ7: 15- 17). إننا الآن نجاهد بطهارة، وصبر في أرض المشقة شاكرين لكي ننال المكافأة في الأبدية بحسب قول الكتاب: "فَلْنَجْتَهِدْ أَنْ نَدْخُلَ تِلْكَ الرَّاحَةَ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدٌ فِي عِبْرَةِ الْعِصْيَانِ هذِهِ عَيْنِهَا." (عب4: 11).



· ألم المخاض:
ليس بالضرورة أن يتألم الإنسان بسبب شره، ولكن هذا الكون يتسم بصفة الألم لصعوبة الحياة ومشقتها، أو قد تكون الآلام بسبب مقاومة الأشرار للأبرار لمنعهم من صنع الخير، وعن هذا النوع من الألم قال معلمنا بطرس الرسول: "وَلكِنْ وَإِنْ تَأَلَّمْتُمْ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، فَطُوبَاكُمْ. وَأَمَّا خَوْفَهُمْ فَلاَ تَخَافُوهُ وَلاَ تَضْطَرِبُوا،" (1بط3: 14). لقد أكد الرب يسوع أن مثل هذه الآلام، وما يصاحبها من حزن ستتحول إلى أفراح قائلًا: "اَلْمَرْأَةُ وَهِيَ تَلِدُ تَحْزَنُ لأَنَّ سَاعَتَهَا قَدْ جَاءَتْ، وَلكِنْ مَتَى وَلَدَتِ الطِّفْلَ لاَ تَعُودُ تَذْكُرُ الشِّدَّةَ لِسَبَبِ الْفَرَحِ، لأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ إِنْسَانٌ فِي الْعَالَمِ" (يو16: 21).
ت

خامساُ: من هو الله، ومن هو الإنسان؟:
· حكمة الله غير المدركة:
إنها عظمة الله التي لا نستطيع إدراكها. ومن منا بمقدوره أن يخبر طفله الصغير كل ما يدركه من حقائق هذه الحياة،؟! وهل إن فعل ذلك سيدرك طفله ما يدركه هو من حقائق؟! إنه لمن المنطقي أن يعترف الإنسان بقصوره وضعفه، وأن يثق في الله، ولا يخاصمه بحسبما علمنا الوحي الإلهي القائل: "... لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ. لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا" (أي33: 12- 13).



· ثق في الله، وتمتع بإعلاناته:
لا يسعنا غير أن نقول إنها إرادة وحكمة الخالق، التي ليس بمقدورنا أن نلم بها تمامًا، فنحن كبشر ليس لنا أن نتجرأ لنطالب الله بإعطائه لنا حسابًا، أو تبريرًا عما لا ندركه، لأن طبيعتنا قاصرة، ولا تستوعب المعرفة الكاملة. لقد سبق معلمنا بولس الرسول وأجاب على مثل هذه التساؤلات قائلًا: "بَلْ مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تُجَاوِبُ اللهَ؟ أَلَعَلَّ الْجِبْلَةَ تَقُولُ لِجَابِلِهَا: «لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هكَذَا؟»" (رو9: 20). إن الله كأب حنون بحكمته قد يعلن للإنسان ما هو مناسب لفائدته، ويحجب عنه أيضًا ما هو ليس لفائدته، وقد شهد بذلك موسى النبي قائلًا: "السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِينَا إِلَى الأَبَدِ، لِنَعْمَلَ بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هذِهِ الشَّرِيعَةِ." (تث29: 29).

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:23 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
17- يشكك البعض في السلام، والفرح الداخلي الذي يتمتع به المؤمنون ويتساءلون: لماذا لا يكون ذلك وهمًا، وإيحاء صنعوه لأنفسهم؟


السؤال السابع عشر

يشكك البعض في السلام، والفرح الداخلي الذي يتمتع به المؤمنون ويتساءلون: لماذا لا يكون ذلك وهمًا، وإيحاء صنعوه لأنفسهم؟

الإجابة:

إن الدليل والإثبات على وجود غير المرئي هو قوة تأثيره في المحيط الموجود فيه. إن قوة الحياة السماوية التي يعيشها أولاد الله (القطيع الصغير) خير شاهد على صدق إيماننا الحق. وإن فرح أولاد الله القديسين، وثباتهم في المسيح لا تفسير له غير قوة الإيمان بالله. ولكننا سنشرح ذلك مؤيدًا بالأدلة في النقاط التالية.



أولًا: ما بين الحقيقة، والوهم (الخيال):


● الفرق شاسع بين الحقيقة والخيال:
الفرق بين الحقيقة والوهم شاسع جدًا، فالوهم خيال، لا وجود له في الحقيقة، ومَن ينجح في إقناع نفسه بوجود شيء لا وجود له لن ينجح في البناء على هذا الشيء؛ لأنه غير موجود أصلًا. وكتابنا المقدس يذكر عن أولاد سكاوا أحد كهنة اليهود: أنهم توهموا المقدرة على إخراج الشياطين، ولما حاولوا ذلك بالقسم على الروح النجس باسم الرب يسوع استهتر بهم الشيطان وسخر منهم وقوي عليهم قائلًا لهم: "...:«أَمَّا يَسُوعُ فَأَنَا أَعْرِفُهُ، وَبُولُسُ أَنَا أَعْلَمُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَمَنْ أَنْتُمْ؟» فَوَثَبَ عَلَيْهِمُ الإِنْسَانُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الرُّوحُ الشِّرِّيرُ، وَغَلَبَهُمْ وَقَوِيَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى هَرَبُوا مِنْ ذلِكَ الْبَيْتِ عُرَاةً وَمُجَرَّحِينَ. وَصَارَ هذَا مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ الْيَهُودِ" (أع19: 15- 17).


ثانيًا: إيمان مبني على الصخر:


● إيماننا أساسه الحقيقة لا أساطير:
إيماننا المسيحي بُنِيَ على حقائق، وليس على أساطير أو خيال. فقد تجد في الديانات القديمة آلهة أسطورية، لا وجود لها في الحقيقة كـ(إيزيس،... وأوزوريس.،.. ورع،... وآمون،... وحتحور،... و...، و...،). يبني أصحاب هذه الديانات معتقداتهم علي هذه الأساطير. أما مسيحيتنا فأساسها إلهنا الرب يسوع الذي صار إنسانًا، وسجل له التاريخ شهادة ميلاده، وعاش وسط الناس، وعَلَّمَ وعَمِلَ المعجزات، وأَنبأَ تلاميذه بما سيكون، وشهد وأجمع المؤرخون بحقيقة وجوده في فترة تجسده على الأرض، وحتى الآن تشهد وصاياه وتعاليمه لنعمته وقدرته. لقد دافع معلمنا بولس الرسول عن اتهام فستوس الوالي له بالهذيان موضحًا له بأنه يبشر بحقائق حدثت بطريقة علنية أمام الجموع الغفيرة، قائلًا له: "فَقَالَ:«لَسْتُ أَهْذِي أَيُّهَا الْعَزِيزُ فَسْتُوسُ، بَلْ أَنْطِقُ بِكَلِمَاتِ الصِّدْقِ وَالصَّحْوِ. لأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ هذِهِ الأُمُورِ، عَالِمٌ الْمَلِكُ الَّذِي أُكَلِّمُهُ جِهَارًا، إِذْ أَنَا لَسْتُ أُصَدِّقُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ، لأَنَّ هذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي زَاوِيَةٍ." (أع26: 25- 26).



● قوة روح الله القدوس العامل فينا هي برهان إيماننا:
الروح القدس غير مرئي، لأنه روح، لكنه ذو قوة وتأثير لذا يمكن إدراكه، ومعروف أن أي قوة لها تأثيرها ومفعولها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وقد شرح الرب لنيقوديموس ضرورة الولادة من الماء والروح القدس، والذي شبهه الرب في قوته بالريح الذي لا يُرى، لكن مفعوله ملموس قائلًا له: "اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ». (يو3: 8). فإن كان روح الله يعمل فينا بقوة، ويَظهرُ تأثيره في حياة المؤمنين، فالأمر إذًا حقيقي لا خيال ، ونحن لا نُوهِمُ أنفسنا. إن الحياة من حولنا تُعطِينا الكثير من الأمثلة المشابهة لذلك، فعلى سبيل المثال: من منا ينكر وجود الطاقة الكهربائية التي تسري في أسلاك الكهرباء دون أن نراها، ولكننا نوقن بوجودها، ونلمس مفعولها. كذلك أيضًا الروح القدس الساكن فينا مع أنه لا يُرىَ، لكنه يثمر فينا محبة، سلام، فرح، و... و.... إن مواهب الروح، وعطاياه قُوىَ تعمل في أولاد الله نتيجة لسُكنَى روح الله فيهم.



● انتشار كرازة الآباء الرسل بقوة الروح القدس:
مسيحيتنا ليست هي حكمة كلام فقط نضعه في عقول الناس، بل هي قوة ظهر مفعولها في حياة الآباء الرسل، ثم امتد تأثيرها ليظهر في حياة المؤمنين، ثم في أُسَرِهم، فظلل عليهم السلام والحب، وامتدت نعمة الروح لتعمل في المجتمعات لخير الناس، وتَقَدمُ البشرية وتَحَضُرِها. لقد انتشر نور الكرازة ليشرق على العالم كله بقوة ونعمة الله، وهذا ما أكده معلمنا بولس الرسول عن إيمان أهل كورنثوس قائلًا: "وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ الْحِكْمَةِ الإِنْسَانِيَّةِ الْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ الرُّوحِ وَالْقُوَّةِ، لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ النَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ اللهِ. " (1كو2: 4- 5).



● قيادة الله لكنيسته:
حمل شُعلَة الكرازة تلاميذ الرب البسطاء. كانوا نَفَرٌ قليل، وأغلبهم صيادون من منطقة الجليل (أوضع الأماكن في أرض فلسطين) التي وصفها الكتاب بقوله: "أَرْضُ زَبُولُونَ، وَأَرْضُ نَفْتَالِيمَ، طَرِيقُ الْبَحْرِ، عَبْرُ الأُرْدُنِّ، جَلِيلُ الأُمَمِ. الشَّعْبُ الْجَالِسُ فِي ظُلْمَةٍ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا، وَالْجَالِسُونَ فِي كُورَةِ الْمَوْتِ وَظِلاَلِهِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُور". (مت4: 15- 16). بشروا وسط كراهية وعداوة رؤساءهم من كهنة اليهود وشِيُوخِهم. طَرَدَهم والديهم وإخوتهم، وسلموهم للقتل. اُتهموا بأشنع الاتهامات الباطلة حتى صاروا سَيئُوا السمعة أمام السلطات الرومانية التي تعاملت معهم بوحشية منقطعة النظير. وفي كل مرة وقفوا أمام المجامع كان روح الله القدوس يعطيهم فم وحكمة كوعد الله لهم: "لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَمًا وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا" (لو21: 15)، وهكذا كان الإيمان ينتشر من موضع إلى موضع. أرسلهم الروح القدس حاملين سلام الرب وكلمته فقط، ودون أي سند مادي حسب أمر الرب القائل: "لاَ تَحْمِلُوا كِيسًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ أَحْذِيَةً، وَلاَ تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي الطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلًا: سَلاَمٌ لِهذَا الْبَيْتِ" (لو10: 4- 5). كانت خطتهم المحكمة لنشر الكرازة في العالم كله هي خطة سماوية، أما الأوامر فكانت تصدر من الروح القدس كقول الروح لكنيسة أنطاكية: "بَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الروح القدس: «أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ». فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ، ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا. فَهذَانِ إِذْ أُرْسِلاَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ انْحَدَرَا إِلَى سَلُوكِيَةَ، وَمِنْ هُنَاكَ سَافَرَا فِي الْبَحْرِ إِلَى قُبْرُسَ وَلَمَّا صَارَا فِي سَلاَمِيسَ نَادَيَا بِكَلِمَةِ اللهِ فِي مَجَامِعِ الْيَهُودِ. وَكَانَ مَعَهُمَا يُوحَنَّا خَادِمًا" (أع13: 2- 5). وهكذا انتشرت، وعمت الكرازة العالم خلال ثلاثين عامًا، أو أكثر قليلًا. فهل يا ترى يقدر قلة من البسطاء الذين توهموا خطأ في معتقدات يحاربها العالم كله تدبير خطة مُحكَمِةٍ لنشر أوهامهم في المسكونة كلها؟! أنه الهذيان نفسه أن يفترض أحد هذا.

● إيمان يعتمد على واقع خبرة عملي:
إيماننا بالله كأبناء أحباء لأبيهم، ليس هو فقط تصديق قدرته، وإمكانية حضوره لنجدتنا في وقت الضيق، ذلك لأن حضوره وسط حياتنا واقع عملي ملموس، فقيادته لنا بروحه القدوس وتدبيراته لأمور حياتنا، وفاعلية نعمته فينا متجددة، ولدى كل ابن بار لله سجل لا ينضب لأحداث واقعية، تشهد لحب الله له، وتدبيراته في حياته اليومية. وقد سجل داود النبي خبرته عن حضور الله في حياته قائلًا: "اَلَّلهُمَّ، قَدْ عَلَّمْتَنِي مُنْذُ صِبَايَ، وَإِلَى الآنَ أُخْبِرُ بِعَجَائِبِكَ". (مز:71: 17). إن إلهنا هو عمانوئيل، أو الله معنا، الذي يسند، ويعزي، ويوجه سفينة حياتنا في طريق الحياة والخلاص، ووجوده وحضوره القوي الملموس هو ما يُفَرِحُ قلب أبناءه، ويملأهم سلامًا لتفيض قلوبهم بتسبيحه كقول داود النبي:"بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ.بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ." (مز103: 1- 2).



● حضور الله، ووجوده الدائم في حياتنا امتياز:
إن وجود الله في حياة المؤمنين أعظم ما يميز إيماننا المسيحي، وهذا ما طلبه موسى النبي من الله قائلًا له: "فَإِنَّهُ بِمَاذَا يُعْلَمُ أَنِّي وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ أَنَا وَشَعْبُكَ؟ أَلَيْسَ بِمَسِيرِكَ مَعَنَا؟ فَنَمْتَازَ أَنَا وَشَعْبُكَ عَنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ».(خر33: 16).



● الله واقع حاضر في حياة أولاده:
وعد الرب بوجوده وسط كنيسته وشعبه إلى الانقضاء قائلًا: "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». آمِينَ." (مت 28: 20). وليس ذلك فقط، بل وعد بسكناه فينا بحسب قوله: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلا.ً" (يو14: 23). ووعد أيضًا أن يُظهِرُ ذاته لمن يحفظ وصاياه قائلًا: "اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي». (يو14: 21). وقد تمم الرب وعوده لنا، فظهر بعد قيامته للتلاميذ، ولمريم المجدلية، وظهر لتلميذي عمواس في الطريق، ثم لتوما، ولكثيرين، وظهر أيضًا لشاول الطرسوسي ليفتقده، وافتقد الخصي الحبشي وزير كنداكة، فأرسل له فيلبس ليفهمه نبوات سفر إشعياء، التي كان يقرأها دون فهم، وليبشره ببشارة الخلاص، ومازال الرب بحسب وعده الصادق يتابع ظهوراته وإعلاناته لكل أولاده المحبوبين: كلٌ بطريقةٍ خاصة قوية تُناسِب ظروف حياته.



● ظهور الله الدائم في حياتنا يقين وليس خيال:
ظهور الله لنا ليس بالضرورة أن يكون بصورة مرئية، لكنه محسوس بقوة عمل صلاحه في حياتنا، وذلك بتدخله للتعزية والإرشاد، وبإنارة الذهن والإدراك. إن الله يمنح طالبيه قوة الإرادة والإلهام، يدبر أمورهم، هو يضبط كل ما يجري من حولهم من أمور، بما فيها ما يبدو وكأنه شرًا لتتوافق بطريقة إعجازية لخيرهم، وذلك بحسب قول الكتاب: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." (رو8: 28). إنها قيادة الله الحكيمة لحياتنا وعين رعايته الساهرة علينا، والتي نلمسها على الدوام.

● شرط البنوة: حضور الله، وقيادته حقيقة واقعة، لكن ذلك مشروط ومرتبط بعلاقة بنوتنا لله. فالله يبسط يده للجميع، وكل من يقبله ويؤمن به يعطيه سلطان أبناء الله (أي امتياز الأبناء)، بكل ما يحمله هذا التعبير من معاني حضور الله، وقيادته لأبنائه. والابن بالطبع يعرف إرادة أبيه ويستريح لها، ولذلك يتعهده الله كأب، ويقوده بروحه القدوس الساكن فيه، بحسب قول الكتاب: "لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ." (رو8: 14).

رابعًا: جهاد الشهداء والقديسين:
ترك آباؤنا الشهداء القديسون أعظم شهادة حية على حياتهم الداخلية المملوءة قوة وسلامًا، وذلك باحتمالهم الآلام بصبر. لم يقدر المعذبون أن ينزعوا سلامهم، قابلوا الأسود المفترسة، وهم شاخصون للسماء يترنمون. أربكت بسالتهم معذبيهم. فكيف احتملوا كل صنوف العذاب والضيق في شكر؟! لم يتراجعوا ولم ينكروا الإيمان. إن ثباتهم أمام الموت ليس له تفسير إلا تفسيرًا واحدًا فقط، وهو قوة الله الفائقة التي عملت في طبيعتهم البشرية الضعيفة. لقد عانوا من عذابات وآلامات حقيقية، ولفترات طالت في بعض الأحيان لسنوات أو شهور. لم يكن إستشهادهم بطريقة سريعة مريحة لا تتعدى جزءًا من الثانية مثلما نسمع الآن عن هؤلاء الإرهابيين المضلين المتشدقين بالإيمان، والذين يضغطون على ذر لكيما ينفجر حزام ناسف مشدود حول أجسادهم. كان الحب والإيمان يدفعهم وقوة الله تثبَّتهم. لم يكن لديهم أمل في حياة مادية قادمة، ولكنهم كانوا ينتظرون الحياة السماوية الأبدية. حقًا كان احتمالهم دليل حياتهم الداخلية المملوءة من نعمة الله، والإيمان به.



· شُهداؤنا في ليبيا يشهدون بثباتهم عن حقيقة نعمة الله العاملة فينا:
وأقرب مثال لعمل قوة الله، ونعمته في المؤمنين باسمه، ما رأته أعين العالم كله من تسجيل (فيديو) لشهدائنا الواحد والعشرين في ليبيا، والذين سالت دماؤهم على أيدي جماعات الإرهاب والتعصب عام 2015 م.، ضحوا بحياتهم في ثبات لأجل الرب يسوع المسيح دون اضطراب، أو ارتباك. لقد أذهل ثباتهم العالم، وحَيّر العقول. وحاول الكثيرون أن يجدوا تفسيرًا لثباتهم، وعيونهم الشاخصة للسماء دون ارتباك أو اضطراب، ولم يجد العالم ولن يجد تفسيرًا غير اعتراف المنصفين بنعمة الله الفائقة للطبيعة، وقوته العاملة فيهم، والتي انتهت بفوزهم بالأكاليل السمائية.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:24 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
18- يدعي البعض بأن ابتعاده عن الممارسات الروحية من صلاة وصوم وقراءة للكتاب المقدس و.. و... يجنبه مشاكل، ومتاعب كثيرة؛ لأن إبليس لن يجربه، أو يحاربه. فهل هذا حق؟


السؤال الثامن عشر

يدعي البعض بأن ابتعاده عن الممارسات الروحية من صلاة وصوم وقراءة للكتاب المقدس و.. و... يجنبه مشاكل، ومتاعب كثيرة؛ لأن إبليس لن يجربه، أو يحاربه. فهل هذا حق؟


الإجابة:

الله هو النور الحقيقي، ومن يبتعد عن النور يُحَرمُ من الحياة، وتعميه الظلمة، ويُحيطه الضلال من كل جانب فيتعثر ويسقط سقوطًا متواليًا. إن سقوط وهلاك مثل ذلك المسكين أمر محتوم لا شك فيه، لأن العدو الشرير بمكره يَعمِي كل من يحيا خارج الرب يسوع النور عن طريق الحياة الأبدية ويُزَيَن له طريق الموت بخداعه فيهلك دون أن يدري. وفيما يلي نشرح ما يؤيد ضلال هذه الخدعة الماكرة:



أولًا: الله هو الضابط الكل:


· الله هو مدبر هذا الكون العظيم:
لا يحدث أمر في هذا الكون إلا بسماح من الله، سواء كان ذلك تجربة أو مرض، أو خسارة، أو شدة، أو... أو.. إن إبليس أو أي خليقة أخرى لا تقدر مهما كانت قوتها أن تسبب ضررًا للإنسان إن لم يكن الإنسان هو نفسه سببًا في ضرر نفسه. فإن افترضنا جدلًا إن هناك من يمكنه أن يضر الإنسان حسبما شاء، ووقتما شاء (إبليس) فلن يكون هناك خير إطلاقًا لبني البشر، ولن يكون الله هو إله هذا الكون الضابط الكل.



· الله يوجه كل الأشياء لخير أولاده:
إن الله بإرادته، وسلطانه يستخدم كل الأشياء لخير أولاده، حتى ولو سمح للشيطان أن يحارب أولاده؛ لأن ذلك سيؤول إلى نصرتهم وخيرهم إن ثبتوا في الله. إن أعظم مثال يؤكد هذه الحقيقة هو ذهاب الشيطان ليطلب إذنًا بالسماح بتجربته أيوب الصديق كقول الكتاب: "أَلَيْسَ أَنَّكَ سَيَّجْتَ حَوْلَهُ وَحَوْلَ بَيْتِهِ وَحَوْلَ كُلِّ مَا لَهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ؟ بَارَكْتَ أَعْمَالَ يَدَيْهِ فَانْتَشَرَتْ مَوَاشِيهِ فِي الأَرْضِ. وَلكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ».(أي10:1-11).. ولكن الرب لم يسمح له بتجربة أيوب حسبما شاء، بل حدد له مجال التجربة قائلًا لهِ: «هُوَذَا كُلُّ مَا لَهُ فِي يَدِكَ، وَإِنَّمَا إِلَيهِ لاَ تَمُدَّ يَدَكَ». ثمَّ خَرَجَ الشَّيْطَانُ مِنْ أَمَامِ وَجْهِ الرَّبِّ." (أي1: 12).


ثانيًا: الله يحفظ الإنسان من تجارب إبليس المهلكة:
· يحافظ البشر على ما لهم من أشياء، وإن تلف لهم شيء يَعتَبِرونَ ذلك خسارة شخصية لهم فما بالنا الله القدير!! فقد خلق الله الإنسان للحياة، ولا يريد هلاكه لذلك فهو يحفظه. وأكد الرب حفظه لأولاده بوعود كثيرة نذكر منها:

1. "كَثِيرَةٌ هِيَ بَلاَيَا الصِّدِّيقِ، وَمِنْ جَمِيعِهَا يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ. الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ، وَمُبْغِضُو الصِّدِّيقِ يُعَاقَبُونَ." (مز34: 19- 21).

2. "الرَّبُّ يَحْفَظُكَ مِنْ كُلِّ شَرّ. يَحْفَظُ نَفْسَكَ. الرَّبُّ يَحْفَظُ خُرُوجَكَ وَدُخُولَكَ مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ." (مز121: 7).

3. منع الله بلعام الشرير من لعن شعبه إسرائيل. ولما أصر بالاق ملك الأموريين أن يلعن له بلعام شعب الله إسرائيل أجابه بلعام مستنكرًا: "... مِنْ أَرَامَ أَتَى بِي بَالاَقُ مَلِكُ مُوآبَ، مِنْ جِبَالِ الْمَشْرِقِ: تَعَالَ الْعَنْ لِي يَعْقُوبَ، وَهَلُمَّ اشْتِمْ إِسْرَائِيلَ. كَيْفَ أَلْعَنُ مَنْ لَمْ يَلْعَنْهُ اللهُ؟ وَكَيْفَ أَشْتِمُ مَنْ لَمْ يَشْتِمْهُ الرَّبُّ؟" (عد23: 7- 8). إنها قوة حفظ الرب لشعبه، التي معها لا يوجد سبيل للعنهم، أو للإضرار بهم، لأنه إن كان الرب قد باركهم، فمن يستطيع لعنهم بعدما باركهم الله؟!


ثالثًا: أولاد الله المقيمون في النعمة:
يشيع عدو الخير، ويخيل للناس أن أولاد الله يصارعون على الدوام مع المشاكل ويعانون، وكأنهم محرومون مكتئبون دون راحة. إن ذلك ليس حقيقيًا. إنه إدعاء كاذب ومغرض، وذلك لما يلي:

1. أولاد الله مقيمون في نعمة لأن الله هو أبوهم الراعي الصالح الذي يرعاهم ويحفظهم، ويسدد كل احتياجاتهم بحسب غناه وحكمته التي لا مثيل لها. لقد أكد معلمنا بولس الرسول ذلك قائلًا: "الَّذِي بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ." (رو5: 2).

2. إنهم ممتلئون من ثمار نعمة الروح القدس الساكن في داخلهم. إن الروح القدس يثمر فيهم ثماره المباركة محبة... سلام... فرح......هم أغنياء من الداخل، لذلك فهم يتلذذون بسلام عجيب، وصفه الكتاب بأنه يفوق كل عقل (كل تخيل)، وفرح وصفه الكتاب أيضًا بالمجيد. أما فاعلي الشر فيفقدون ما لهم وبعد قليل يزولون كقول داود النبي: "كُفَّ عَنِ الْغَضَبِ، وَاتْرُكِ السَّخَطَ، وَلاَ تَغَرْ لِفِعْلِ الشَّرِّ، لأَنَّ عَامِلِي الشَّرِّ يُقْطَعُونَ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ. بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَكُونُ الشِّرِّيرُ. تَطَّلِعُ فِي مَكَانِهِ فَلاَ يَكُونُ. أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ." (مز37: 8-11). إنهم قد ابتعدوا عن الرب لذلك فهم جوعى وفقراء النفس. يعانون الاضطراب والخوف والقلق لفقدانهم سلام الله كقول إشعياء النبي: "لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ». (إش48: 22). فإن كانوا فاقدي السلام والأمان بعد أن تركوا الرب، فأي منفعة لهم بشرورهم وأموالهم، أو بممتلكاتهم أو... أو..؟!

3.إنهم يتمتعون بتعزيات الروح القدس وقت الشدة. يخبرنا الكتاب المقدس عن تعزيات الله لأولاده المجربين كيف يعطيهم رجاء ويحول ضيقهم لأفراح. لقد كان بولس الرسول يسبح الله ويرنم بينما كان مقيدًا وملقى في السجن في فيلبي، وداود النبي اختبر تعزيات الله له وهو مطارد من شاول الملك، الذي كان يريد قتله فنطق مرنمًا متهللًا قائلًا: "لَوْلاَ أَنَّ الرَّبَّ مُعِينِي، لَسَكَنَتْ نَفْسِي سَرِيعًا أَرْضَ السُّكُوتِ. إِذْ قُلْتُ: «قَدْ زَلَّتْ قَدَمِي» فَرَحْمَتُكَ يَا رَبُّ تَعْضُدُنِي. عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِي فِي دَاخِلِي، تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِي." (مز94: 17-19). لقد أخبر إرميا النبي - الذي عانى كثيرًا من الأشرار - عما اختبره من يد الله القوية التي تسند أولاده في تجاربهم قائلًا: "وَلكِنَّ الرَّبَّ مَعِي كَجَبَّارٍ قَدِيرٍ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يَعْثُرُ مُضْطَهِدِيَّ وَلاَ يَقْدِرُونَ. خَزُوا جِدًّا لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْجَحُوا، خِزْيًا أَبَدِيًّا لاَ يُنْسَى." (إر20: 11).


رابعًا: التجارب تعم الجميع أبرارًا وأشرارًا:
كثير من التجارب تصيب البشر أجمعين، فالأمراض، أو تقلبات الزمان، أو النكائب الطارئة قد تصيب البشر أجمعين، ولكن بالإضافة لذلك هناك تجارب خاصة بالأبرار لتمسكهم بمبادئهم، وتجارب خاصة بالأشرار بسبب شرورهم.



· تجارب وضيقات الأبرار:
التجارب الخاصة بالأبرار هي بسبب تمسكهم بالحق، الذي لا يطيقه الأشرار، ولذلك يُضطهدون، ولكن الله يسند أولاده، ويتمجد في حياتهم، ويحول أمثال هذه التجارب لأفراح وانتصارات بحسب قوله: "قَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي أَحُلُّكَ لِلْخَيْرِ. إِنِّي أَجْعَلُ الْعَدُوَّ يَتَضَرَّعُ إِلَيْكَ فِي وَقْتِ الشَّرِّ وَفِي وَقْتِ الضِّيقِ.". (إر15: 11). وأيضًا قول المرنم في المزمور: "يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيهِ، وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ. يَحْفَظُ الرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ الأَشْرَارِ." (مز145: 19-20).



· نكائب الأشرار:
التجارب الصعبة التي يقحم الأشرار فيها أنفسهم بفعلهم الخطايا والشرور تُشقي وتمرر حياتهم، بل تدمرهم. لقد علمنا الرب أن نصلي لكي لا ندخل في تجارب مثل هذه (الشرور والخطايا)، لذلك أوصانا أن نطلب في الصلاة الربانية قائلين: "لا تدخلنا في تجربة".(مت13:6) ثم إن الأشرار في ضيقهم لن يجدوا معينًا كالأبرار الذين يسندهم الله، بل بالعكس يشمت بهم إبليس ويفرح بهلاكهم. إنهم في يوم ضيقهم ضعفاء جدًا كالهباء أو العصافة التي لا يمكنها مقاومة العاصفة كقول داود النبي في المزمور:"لَيْسَ كَذلِكَ الأَشْرَارُ، لكِنَّهُمْ كَالْعُصَافَةِ الَّتِي تُذَرِّيهَا الرِّيحُ." (مز1: 4).ِ


خامسًا: البعد عن الله ارتماء في أحضان إبليس الشرير:
إن من يبتعد عن الله يلتقطه إبليس عدو الخير الشرير ليفترسه كما هو مكتوب عنه: "اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ." (1بط5: 8). لا توجد حالة متوسطة بين الانتماء لله أو لإبليس، وذلك بحسب قول الرب الصادق: "مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُفَرِّقُ." (لو11: 23). إن الإنسان أمامه اختياران فقط: إما أن يحيا مع الله متمتعًا بخيره، أو أن يقتحمه الشيطان (إذا وجده خاليًا من نعمة الله) ليهلكه كقول الرب: "مَتَى خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ، يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً، وَإِذْ لاَ يَجِدُ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ!». (لو11: 24- 26). إنه لأمر خطير أن يرتمي الإنسان في أحضان إبليس، ويخسر الحياة. ولكن دعونا نبحث لنعرف من هو إبليس حتى ندرك بعض الأبعاد الكارثية لتلك الخدعة الإبليسية.



· قتال وسفاك دماء:
لقد وصفه الكتاب المقدس بأنه ليس قاتل، بل قتّال أي أنه لا يكف، ولا يشبع من قتل البشر وأذيتهم "... ذَاكَ كَانَ قَتَّالًا لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ، لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ." (يو8: 44). إنه يحارب الناس بغرض قتلهم وإهلاكهم وحتى من استسلموا له خاضعين يقودهم إلى الهلاك، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. أما الرب يسوع فهو يحارب الشر ليقضي عليه، فيهب لنا سلامًا، لأنه هو ملك السلام. صور سفر الرؤيا الرب يسوع كفارس راكبًا على فرس أبيض قائلًا عنه: "ثُمَّ رَأَيْتُ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ يُدْعَى أَمِينًا وَصَادِقًا، وَبِالْعَدْلِ يَحْكُمُ وَيُحَارِبُ." (رؤ19: 11). لقد فسر القديس يوحنا الرائي معنى ظهور الرب راكبًا على فرس أبيض بقوله عنه: "أنه يدعى أمينًا وصادقًا وبالعدل يحكم ويحارب".أما إبليس فقد صوره سفر الرؤيا بوحش دموي، ولهذا وصفه بالقرمزي أي لونه لون الدماء قائلًا: "فَمَضَى بِي بِالرُّوحِ إِلَى بَرِّيَّةٍ، فَرَأَيْتُ امْرَأَةً جَالِسَةً عَلَى وَحْشٍ قِرْمِزِيٍّ مَمْلُوءٍ أَسْمَاءَ تَجْدِيفٍ، لَهُ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ وَعَشَرَةُ قُرُونٍ." (رؤ17: 3). إنه مستعد على الدوام ليؤذي أي أحد، حتى الحيوان. لقد طلب الشيطان من الرب الأذن له بالخروج من الإنسان الذي به اللجئون (عدد كبير من الشياطين)، والدخول في خنازير كانت موجود بتلك المنطقة، ولما سمح له الرب بذلك أغرق قطيع الخنازير ليحقق بذلك أكبر خسارة ممكنة، قبل خروجه من ذلك الإنسان المسكين. حقًا إنه الشرير.



· الحية القديمة أو المضل الكذاب:
إن إبليس هو المضل الذي خدع أبوانا الأولان آدم وحواء. لقد أغوى أمنا حواء لتأكل من الشجرة، ومعها أبونا آدم. شككهما في محبة وصدق الله. أكد لهما الكذاب أنهما لن يموتا إذا خالفا الوصية، بل إنهما سيصيران كالله عارفين الخير والشر. وما زال إبليس المضل يكذب على الناس ويخدعهم، ليهلكهم كقول معلمنا يوحنا الرائي: "ثُمَّ مَتَى تَمَّتِ الأَلْفُ السَّنَةِ يُحَلُّ الشَّيْطَانُ مِنْ سِجْنِهِ، وَيَخْرُجُ لِيُضِلَّ الأُمَمَ الَّذِينَ فِي أَرْبَعِ زَوَايَا الأَرْضِ: جُوجَ وَمَاجُوجَ، لِيَجْمَعَهُمْ لِلْحَرْبِ، الَّذِينَ عَدَدُهُمْ مِثْلُ رَمْلِ الْبَحْرِ." (رؤ20: 7- 8). إن إبليس الكذاب يخدع الناس واعدًا إياهم بتحقيق اللذة والسعادة من خلال الخطية، ولكنه يميتهم بعصيانهم لله، وبانفصالهم عن الله. إنه يستعبدهم بالشهوة. إنه يخفي الحقيقة عن أعين الناس، وهو أن الخطية سَتُفقِدهم سلامهم وأمانهم وسَتفصِلَهم عن ملك السلام، وينقسمون على أنفسهم إلى أن يهلكوا. لقد أوضح ذلك معلمنا يعقوب الرسول محذرًا قائلًا: "مِنْ أَيْنَ الْحُرُوبُ وَالْخُصُومَاتُ بَيْنَكُمْ؟ أَلَيْسَتْ مِنْ هُنَا: مِنْ لَذَّاتِكُمُ الْمُحَارِبَةِ فِي أَعْضَائِكُمْ؟ تَشْتَهُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ. تَقْتُلُونَ وَتَحْسِدُونَ وَلَسْتُمْ تَقْدِرُونَ أَنْ تَنَالُوا. تُخَاصِمُونَ وَتُحَارِبُونَ وَلَسْتُمْ تَمْتَلِكُونَ، لأَنَّكُمْ لاَ تَطْلُبُونَ. تَطْلُبُونَ وَلَسْتُمْ تَأْخُذُونَ، لأَنَّكُمْ تَطْلُبُونَ رَدِيًّا لِكَيْ تُنْفِقُوا فِي لَذَّاتِكُمْ. " (يع4: 1- 3).

إن فكر الهروب من الله تفاديا ً للمشاكل والمتاعب هو خداع، وغاية هذا الفكر هو هلاك البشر. إنها أيضًا فكرة محبطة يروج لها عدو الخير ليخيف الناس، ويبعدهم عن الحياة الأبدية، لقد اكتشف نحميا تلك الخدعة القديمة عندما بعث إليه أعداءه تهديدات ليخيفوه، لكنه تمسك بالله قائلًا: "لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا يُخِيفُونَنَا قَائِلِينَ: «قَدِ ارْتَخَتْ أَيْدِيهِمْ عَنِ الْعَمَلِ فَلاَ يُعْمَلُ». « فَالآنَ يَا إِلهِي شَدِّدْ يَدَيَّ». (نح6: 9). لقد حاول الشرير أن يستخدم نفس الخدعة مع الرب يسوع، فقد طلب من الرب السجود له ليعطيه ممتلكات الأرض، ولكن الرب انتهره فخزي. إن ما سيأخذه أي مخدوع بتصديقه إبليس هو لذات وشهوات تصيره عبدًا لذلك الشرير بحسب قول الكتاب: "وَاعِدِينَ إِيَّاهُمْ بِالْحُرِّيَّةِ، وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ الْفَسَادِ. لأَنَّ مَا انْغَلَبَ مِنْهُ أَحَدٌ، فَهُوَ لَهُ مُسْتَعْبَدٌ أَيْضًا! " (2بط2: 19).
ت

أخيرًا:
إن حربنا مع إبليس هي حرب للرب. لقد سبق الرب وأعلن لحسابنا غلبته على العالم بوعد صادق قائلًا: "قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ». (يو16: 33). ليتنا إذًا نلتصق بمسيحنا القوي الغالب، لأنه لا مفر من هذه الحرب، فالعدو مهلك ولن يتنازل عن إهلاك كل من يقترب منه.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:26 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
19- كيف يطلب الشهداء القديسون من الله في السماء الانتقام ممن قتلوهم، كما جاء في الأعداد التالية من سفر الرؤيا "وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَابًا بِيضًا، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَانًا يَسِيرًا أَيْضًا حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضًا، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ." (رؤ6: 10- 11).


السؤال التاسع عشر

كيف يطلب الشهداء القديسون من الله في السماء الانتقام ممن قتلوهم، كما جاء في الأعداد التالية من سفر الرؤيا "وَصَرَخُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلِينَ: «حَتَّى مَتَى أَيُّهَا السَّيِّدُ الْقُدُّوسُ وَالْحَقُّ، لاَ تَقْضِي وَتَنْتَقِمُ لِدِمَائِنَا مِنَ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ؟» فَأُعْطُوا كُلُّ وَاحِدٍ ثِيَابًا بِيضًا، وَقِيلَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَرِيحُوا زَمَانًا يَسِيرًا أَيْضًا حَتَّى يَكْمَلَ الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُمْ، وَإِخْوَتُهُمْ أَيْضًا، الْعَتِيدُونَ أَنْ يُقْتَلُوا مِثْلَهُمْ." (رؤ6: 10- 11).


الإجابة:

أرواح الشهداء هي أرواح قديسة لها صورة الله في المحبة. تطهرت قلوبهم من الحقد والكراهية، لكنهم ينتظرون مُلكَ الرب يسوع، وخضوع جميع أعدائه تحت قدميه، فليس من المعقول إذًا أنهم يحقدون وينتظرون النقمة والتشفي بعد أن فازوا برضا الله. لكنهم ينتظرون سيادة الله وملكوته الأبدي. والآن لنتناول من خلال النقاط التالية شرح ذلك تفصيلًا:



أولًا: الشهداء لا يخصون قاتليهم بالذات، ودليل ذلك ما يلي:


· الشهداء لا يطالبون بالانتقام ممن قد تاب وغفر له الرب خطاياه:
ليست هذه مطالبة بالانتقام من كل القاتلين لهؤلاء الشهداء القديسين، ولعلنا نتساءل هل القديس إسطفانوس رئيس الشماسة، وأول الشهداء يطلب الانتقام من القديس بولس الرسول؛ لأنه كان محرضًا وراضيًا بقتله؟! بالطبع لا؛ لأنه قد غفر له بحب منذ زمان بعيد قائلًا لله من لأجله: "... «يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ»..." (أع7: 60). إن توبة القديس بولس قد أراحت قلبه، وجعلته صديقًا وأخًا له. وهل يغامر القديس إسطفانوس، ويطلب انتقامًا فلا يغفر له بحسب قول الرب الصادق: "فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَّلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَّلاَتِكُمْ." (مت6: 14- 15). وهل هذه الأرواح الطاهرة يمكن أن تُخِطأ هكذا في السماء.؟!



· الشهداء لا يخصون قاتليهم الذين مازال الرب يتمهل عليهم بل يطلبون توبتهم وخلاصهم:
دليل ذلك طلبة القديس إسطفانوس السابقة لأجل مضطهديه، الذين لم يفقد القديسين الرجاء في توبتهم في يوم من الأيام، وبالفعل تحقق رجاءه بتوبة معلمنا بولس الرسول. إن الشهداء القديسون يطلبون خلاص الكل، ولا يريدون هلاك أحد حتى لو كان ذلك قاتلهم، وهل هم يتضرعون لله قائلين: "لتكن مشيئتك". ؟ وفي نفس الوقت يطلبون انتقامًا من إخوتهم الذين مازال الرب يطيل أناته عليهم ويقتادهم للتوبة كقول معلمنا بولس الرسول: "أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟" (رو2: 4). لقد أعلن القديس بولس الرسول عن مسرة قلبه لخلاص إخوته الذين ظلموه واضطهدوه قائلًا: "فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُومًا مِنَ الْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ الْجَسَدِ،" (رو9: 3).



· لم يطلبوا النقمة من قاتليهم بصفة شخصية، بل من "الساكنين على الأرض" فمن هم هؤلاء؟:
قول الشهداء الساكنين على الأرض لا يعني بالضرورة قاتليهم، بل يعني بالأولى الأرضيين المتمسكين بشرور الأرض، وذلك لما يلي:

1. ليس منطقيًا أن يكون هؤلاء الأشرار مازالوا على قيد الحياة: فقد يكون من ظلم هؤلاء الشهداء قد ماتوا منذ زمن طويل لأن قولهم: "حتى متى أيها السيد..." تعني أن انتظار الشهداء قد طال، وتعني أيضًا أن هؤلاء الأشرار لم يتوبوا، لأنهم لو تابوا لصاروا في عداد القديسين كمعلمنا بولس الرسول، أو قد يكونون قد ماتوا وهلكوا بشرورهم غير تائبين ولهذا نسبوا لسكان الأرض.

2. هم الأشرار الهالكون: بالبحث عن هذه العبارة في سفر الرؤيا والتي تكررت في سفر الرؤيا عدة مرات نجد أن استعمالها قد ارتبط بضربات، وعقاب الأشرار المؤكد هلاكهم، الذين أسماؤهم ليست مكتوبة في سفر الحياة (أتباع إبليس رئيس هذا العالم)، ومن أمثلة الشواهد المؤكدة على ذلك ما يلي:

"فَسَيَسْجُدُ لَهُ جَمِيعُ السَّاكِنِينَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ فِي سِفْرِ حَيَاةِ الْخَرُوفِ الَّذِي ذُبِحَ." (رؤ13: 8).

"الْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتَ، كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، وَهُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الْهَاوِيَةِ وَيَمْضِيَ إِلَى الْهَلاَكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنُونَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، حِينَمَا يَرَوْنَ الْوَحْشَ أَنَّهُ كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، مَعَ أَنَّهُ كَائِنٌ." (رؤ17: 8).



الاستنتاج:
الشهداء القديسون لا يطلبون النقمة بصفة محددة كل واحد من قاتله، بل يطلبون النقمة بصفة عمومية من الأشرار الظالمين الذين لا رجاء فيهم. إنهم يطلبون سرعة مجيء يوم الدينونة.

ثانيًا: طلب النقمة من الأشرار الهالكين هو مطلب عادل وحق؟!:


الله يُقَدّرُ آلام المظلومين:
لا يلوم الله من يصرخ له من الظلم والقهر؛ لأنه تألم مجربًا مثلنا، لكنه يعضده ويسنده في ضيقه، ويستجيب لصراخه كقول الكتاب: «لاَ تَظْلِمْ أَجِيرًا مِسْكِينًا وَفَقِيرًا مِنْ إِخْوَتِكَ أَوْ مِنَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ فِي أَرْضِكَ، فِي أَبْوَابِكَ. فِي يَوْمِهِ تُعْطِيهِ أُجْرَتَهُ، وَلاَ تَغْرُبْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، لأَنَّهُ فَقِيرٌ وَإِلَيْهَا حَامِلٌ نَفْسَهُ، لِئَلاَّ يَصْرُخَ عَلَيْكَ إِلَى الرَّبِّ فَتَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيَّةٌ." (تث24: 14- 15). يحذر الله من مضايقة المساكين، وظلمهم. إن صراخ الشهداء في هذه الآيات يعبر عن شوق الشهداء لإنهاء مملكة ودولة الشر، التي مازالت تسود حتى وقت صراخهم. إنهم يتضرعون إلى الله ليسرع في مجيئه. مشيئة الله تتحقق بإنفاذ عدالته: المطالبة بتحقيق عدالة الله أمر لا يخالف مشيئة الله، الذي عَلَّمنا أن نطلب في الصلاة من أجل مجيء وسيادة ملك الله بحسب قوله لتلاميذه القديسين: "... مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ." (لو11: 2). إن سيادة ملكوت الله لا تتحقق إلا بدينونة وهلاك الشيطان واتباعه. طلب العدالة أمر مقدس لا علاقة له بالكراهية والأحقاد: لقد علمنا الكتاب ألا ننتقم لأنفسنا بل نترك أمر مجازاة الأشرار لعدل الله في يوم الغضب (الدينونة) قائلًا: "لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَانًا لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ:«لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ. فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ». لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ." (رو12: 19- 21). ونلاحظ أن قول الوحي الإلهي لا تنتقموا لأنفسكم جاء بعده قوله: "بل أعطوا مكانًا للغضب". إن عدم الانتقام للنفس لا يمنع من تسليم الأمر لله، وهذا بدليل قوله أعطوا مكانًا للغضب أي اتركوا لله الدينونة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إننا نثق أن الله سَيُجَازي الأشرار بحسب أعمال ظلمهم. أما نحن أولاده فعلينا أن نحب أعدائنا ونُطعِمَهُم إذا جاعوا... ولا تعارض بين تسليم الأمر لله الذي نؤمن بعدالته، وبين الغفران والحب للأعداء ما دام الله مازال متمهلًا عليهم (لم يأت وقت دينونته بعد). لقد قيل عن الرب يسوع: "الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل." (1بط2: 23). إذًا فتسليم أمر إدانة الأشرار لله هو تطبيق طبيعي لحقيقة إيماننا بالله كديان عادل.
ثالثًا: طلبة الشهداء هي مجد الله:


· يتمجد الله بإعلان عدالته يوم الدينونة:
لقد تجلى مجد الله بتجسده من خلال خدمته وتعاليمه، ثم من خلال آلامه، وصلبه وفدائه. وبالإجمال أظهر التجسد بر الله ورحمته وقداسته وحبه، واتضاعه و.. و.. أما يوم دينونة الله، أو يوم الرب كما يُسَميه الكتاب المقدس فهو يوم مجد الله بسبب عدالته وغلبته. لقد وصف القديس يوحنا الرائي فرحة الملائكة والقوات السمائية قائلًا: وَسَمِعْتُ مَلاَكَ الْمِيَاهِ يَقُولُ:«عَادِلٌ أَنْتَ أَيُّهَا الْكَائِنُ وَالَّذِي كَانَ وَالَّذِي يَكُونُ، لأَنَّكَ حَكَمْتَ هكَذَا. لأَنَّهُمْ سَفَكُوا دَمَ قِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَاءَ... «نَعَمْ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! حَق وَعَادِلَةٌ هِيَ أَحْكَامُكَ». (رؤ16: 5- 7).



يوم الدينونة هو يوم نصرة الحق والقداسة:
يشتاق كل مؤمن أن يرى الحق والحب والقداسة، والبر الذي آمن به ينتصر على الشر والعنف، والمكر. لقد انتظر كثيرون وعد الله بانتصار الحملان بوداعتهم على الذئاب المفترسة، إنهم منتظرون يوم الرب الذي فيه تفوز الحملان بالحياة الأبدية وينهزم الأشرار خاضعين عند قدمي الرب يسوع حمل الله، الذي بلا عيب. نعم سنفرح لفناء الشر، وليس لهلاك الأشرار. وسنفرح بالله وبحكمته المقدسة، وتدبير خلاصه الذي انتصر على الشر. أنه يوم النصرة والفرح الذي يشتهيه هؤلاء الشهداء القديسين، وفيه يرتلون ترنيمة الغلبة مع موسى النبي قائلين: "... عَظِيمَةٌ وَعَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ! عَادِلَةٌ وَحَق هِيَ طُرُقُكَ يَا مَلِكَ الْقِدِّيسِينَ! مَنْ لاَ يَخَافُكَ يَا رَبُّ وَيُمَجِّدُ اسْمَكَ؟ لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ». (رؤ15: 3- 4). الوحي الإلهي سبق ونطق بمجد يوم الرب العظيم:

رأى داود النبي بروح النبوة يوم الرب فتهلل بلسان الشهداء والقديسون في المزمور التاسع معطيًا المجد لله. لقد عدد النبي أسباب فرحه وشوقه لهذا اليوم. وفيما يلي نوجز تلك الأسباب:

1. لأنه يوم إقامة الحقوق: "عِنْدَ رُجُوعِ أَعْدَائِي إِلَى خَلْفٍ، يَسْقُطُونَ وَيَهْلِكُونَ مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ" (مز9: 3).

2. إنه يوم جلوس الله قاضيًا لتحقيق العدالة وإزالة المظالم: لقد قبل الشهداء الظلم لأجل الرب الديان العادل وهم فرحون على رجاء المجد الآتي، لكن ما ظلموا به لن يمحى بدون إقامة الحق: "لأَنَّكَ أَقَمْتَ حَقِّي وَدَعْوَاي جَلَسْتَ عَلَى الْكُرْسِيِّ قَاضِيًا عَادِلًا.” (مز9: 4).

3. إنه يوم إهلاك الشرير ومحو اسمه، وخرابه إلى الأبد لتصبح الأرض للرب ولمسيحه: "انْتَهَرْتَ الأُمَمَ. أَهْلَكْتَ الشِّرِّيرَ. مَحَوْتَ اسْمَهُمْ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. اَلْعَدُوُّ تَمَّ خَرَابُهُ إِلَى الأَبَدِ... " (مز9: 5- 6).

4. يوم الفرح باستجابة الرب وبتحقيق وعوده بالنصرة: "رَنِّمُوا لِلرَّبِّ السَّاكِنِ فِي صِهْيَوْنَ، أَخْبِرُوا بَيْنَ الشُّعُوبِ بِأَفْعَالِهِ. لأَنَّهُ مُطَالِبٌ بِالدِّمَاءِ. ذَكَرَهُمْ. لَمْ يَنْسَ صُرَاخَ الْمَسَاكِينِ." (مز 9: 11- 12). إن دماء الأبرار تصرخ لله ومازالت تصرخ. كقول الرب لقايين الشرير: "... مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ" (تك4: 10). لن تكف دماء المظلومين عن الصراخ حتى تتحقق عدالة الله ودينونته.

5. إنه يوم الخلاص والنجاة من الهلاك الأبدي الذي أعده العدو الشرير للصديقين، وهو أيضًا هو يوم خلاص من العدو الشرير إلى الأبد: "... يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَاب ِالْمَوْتِ، لِكَيْ أُحَدِّثَ بِكُلِّ تَسَابِيحِكَ فِي أَبْوَابِ ابْنَةِ صِهْيَوْنَ، مُبْتَهِجًا بِخَلاَصِكَ. تَوَرَّطَتِ الأُمَمُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا. فِي الشَّبَكَةِ الَّتِي أَخْفَوْهَا انْتَشَبَتْ أَرْجُلُهُمْ.". (مز9: 13- 15).


الخلاصة:
إن الله هو الكامل في رحمته، وهو الكامل أيضًا في عدالته. أما نحن كأبناء لله فعلينا أن نثبت وجوهنا نحوه لنعرف مشيئته ولنعمل مرضاته. نحن نثق في الله القدوس، ولذلك نغفر للمسيئين إلينا كما أوصانا الرب، ونطعم ونسقي عدونا؛ لأن الرب أوصانا بحبه، ونحن أيضًا نمجد عدالة الله ونطلبها لمن قد امتلأ كأس غضب الله من نحوه. فإن قضى الرب بهلاك الشيطان وأعوانه الأشرار بحسب دينونته العادلة فمن هذا الذي يجرؤ أن يدعي أن له حبًا أو شفقة أكثر من الله أو يجرؤ على التشكيك في عدالة الله، الذي شهد الكتاب لكماله قائلًا: "حَاشَا! بَلْ لِيَكُنِ اللهُ صَادِقًا وَكُلُّ إِنْسَانٍ كَاذِبًا. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: «لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي كَلاَمِكَ، وَتَغْلِبَ مَتَى حُوكِمْتَ" (رو3: 4). إننا نسلم أمر الشيطان وأعوانه من الظَلّمة والقَتلة لعدالة الله في يوم الدينونة، وما علينا نحن غير التمتع بصلاحه وتمجيد حكمته وأحكامه في فرح، وهذا ما فعله هؤلاء الشهداء الذين طلبوا مجد الله بإدانتهم للشر وطلب سرعة انتهاء وفناء سلطان ملكهم إلى الأبد.

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:27 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
السؤال العشرون

تبث وسائل الإعلام بين الحين والآخر مقاطع من التسجيلات المرئية لمتطرفين إرهابيين يقتلون بوحشية المؤمنين بالمسيح في أنحاء متفرقة من العالم... هذا يدفع البعض للتساؤل... هل لو أتت ضيقات واضطهادات على جيلنا هذا... ترى مَن هم الذين سيثبتون للنهاية؟ وكيف أستعد أنا من الآن لمثل هذه الأزمنة الصعبة؟



الإجابة:

خلاص وتمتع البشر بملكوت السماوات هو بعينه مشيئة الله. لقد شهد الرب يسوع لذلك بمشاعر حب فياضة ليلة آلامه وقت العشاء الأخير قائلًا: "وَقَالَ لَهُمْ:«شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ»(لو22: 15-16). وأكد ذلك أيضًا بقوله: "لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ." (لو12: 32). أما قدرة الرب يسوع على الخلاص فهي معلنة بوضوح من معنى اسمه كقول الملاك ليوسف النجار قبل ولادة الرب يسوع من العذراء مريم: "فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (مت1: 21). لقد قصر الكتاب المقدس مقدرة الخلاص على الرب يسوع المسيح قائلًا: "وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أع4: 12). ومع هذا يلزم استعداد الإنسان الشخصي، وقبوله للخلاص الذي أتمه الرب يسوع، ولكن دعونا نبحث ذلك تفصيلًا فيما يلي:



أولًا: أزمنة الضيق:
· تخيل خاطئ:
يخطئ البعض بتخيله أزمنة الضيق، وكأنها أزمنة فوضوية يقف فيها الله ساكتًا، أو، بتعبير البشر "مكتوف اليدين"، بينما يَهِيجُ الشر ليُدَمِرُ دون حساب. إن هذا بالطبع لا صحة له، فالله هو الضابط الكل كقول الكتاب: "فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ" (دا 7: 14). إن الله هو الخالق المتحكم في خليقته، ومع أنه قد منح الحرية لخليقته العاقلة، لكنه يدير الكون بحسب مقاصده وحكمته، وصلاحه. لقد أكد معلمنا يوحنا الرائي أن ما سيفعله الأشرار في أزمنة آخر الأيام من أعمال يريدون بها الخراب والفساد ستتكامل في آخر الأمر لتصب في سياق تدبيرات الله الصالحة لخير أولاده قائلًا: "لأَنَّ اللهَ وَضَعَ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ يَصْنَعُوا رَأْيَهُ، وَأَنْ يَصْنَعُوا رَأْيًا وَاحِدًا، وَيُعْطُوا الْوَحْشَ مُلْكَهُمْ حَتَّى تُكْمَلَ أَقْوَالُ اللهِ." (رؤ17: 17).



· سلطان الله على أزمنة الضيق:
ورغم أن الأمور آخر الأيام ستكون صعبة لكن كل الأمور في هذه الأزمنة، وتوقيتاتها تعمل تحت سلطان الله، فهو الذي سمح بها وهو المتحكم فيها، وهو الذي سينهيها وقتما شاء. لقد سبق الرب وأنبأنا بوعد لا يحتمل التأويل بأنه سيقصر الأيام لأجل المختارين قائلًا: "وَلَوْ لَمْ تُقَصَّرْ تِلْكَ الأَيَّامُ لَمْ يَخْلُصْ جَسَدٌ. وَلكِنْ لأَجْلِ الْمُخْتَارِينَ تُقَصَّرُ تِلْكَ الأَيَّامُ." (مت24: 22).


ثانيًا: خلاص شعب الله المختارين (الكنيسة) مضمون:


· وعود الله الصادقة:
سيثبت المؤمنون حسب وعد الرب لكنيسته مهما كان الشر المحيط بها حسب قوله: "وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا." (مت 16: 18).



· الخلاص بقوة الله:
حقًا الخلاص مستحيل على الإنسان الضعيف ولكنه مستطاع بقوة الرب يسوع. لقد تساءل تلاميذ الرب عن مدى صعوبة الخلاص قائلين: "...إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟" (مت19: 25). لكن الرب أجابهم: "هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلكِنْ عِنْدَ اللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ" (مت19: 26).



· الآلام اليسيرة، وتدبيرات الخلاص عظيمة:
إن نعمة الله تسند المضطهدين والمتألمين في ضيقهم لتتميم خلاصهم، وهذا دون النظر لضعفنا الإنساني. لقد شهد لذلك معلمنا بطرس الرسول قائلًا: "وَإِلهُ كُلِّ نِعْمَةٍ الَّذِي دَعَانَا إِلَى مَجْدِهِ الأَبَدِيِّ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، بَعْدَمَا تَأَلَّمْتُمْ يَسِيرًا، هُوَ يُكَمِّلُكُمْ، وَيُثَبِّتُكُمْ، وَيُقَوِّيكُمْ، وَيُمَكِّنُكُم" (1بط5: 10).ْ لقد عاصر الرسول الشهداء، وعانى هو أيضًا، فسجن وجلد بحسب شهادة سفر أعمال الرسل، ومع ذلك وصف آلام الاضطهادات بأنها يسيرة؛ لأنها وقتية ومهما طالت مدتها لا تساوي الأمجاد الأبدية. لم يعد معلمنا بطرس الرسول يخاف الآلام فيضعف، وينكر الرب كما حدث أثناء محاكمة الرب في بيت رئيس الكهنة، لكنه تأيد بقوة الروح القدس بعد حلوله على الكنيسة، فصارت الآلام يسيرة في عينيه بسبب النعمة المؤيدة له كقوله: "إِنْ عُيِّرْتُمْ بِاسْمِ الْمَسِيحِ، فَطُوبَى لَكُمْ، لأَنَّ رُوحَ الْمَجْدِ وَاللهِ يَحِلُّ عَلَيْكُمْ. أَمَّا مِنْ جِهَتِهِمْ فَيُجَدَّفُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَتِكُمْ فَيُمَجَّدُ." (1بط4: 14).
ثالثًا: الإيمان والتخويف ضدان لا يلتقيان:


· الشدائد والضيقات حقيقة سبق وأنبأ بها الكتاب المقدس، ولكن...لا للخوف:
نعم هناك ضيقات وشدائد تنتظر المؤمنين، ولكن الكتاب المقدس يكرر مرارًا وتكرارًا أمره لنا بعدم الخوف، ومن أشهر هذه الشهادات قول الرب: "وَلاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ. " (مت10: 28). إن الإنسان المؤمن يثق في قدرة إلهه ومحبته، وبالإيمان يرى الله بمجده حاضرًا أمامه وقت الشدة، فيستهين بالشدائد؛ لأن الله في ذلك الوقت يلهب قلبه بنعمة عظيمة تفوق العقل كقول الرسول: "وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. " (في4: 7). هناك أمثلة في حياتنا اليومية للناس وهم يتناسون الألم من أجل هدف أسمى، فالأم تستهين بأي ألم أو ضرر في سبيل إنقاذ وليدها من الخطر، وهكذا... الجندي، والطبيب، ورجل الإطفاء، و.. و.. و.. كل هؤلاء لا يخافون أثناء تأدية واجبهم لأنهم حريصون على شيء أسمى، ولكن إن تمكن الخوف منهم فسيفوتهم ما هو أسمَى وأعظم، بل سيفرطون فيما لا يمكن أن يعوض.



· الإيمان يطرد الخوف بعيدًا عن الإنسان:
لقد خاف الشهداء من الله أكثر من قاتليهم، لأنهم كانوا ينظرون وجه الله ذاته -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وقد ذكر القديس إستطفانوس رؤيته للرب يسوع أثناء رجم اليهود له، وهذا كان سر ثباته، بل سر ثبات كل المضطهدين. إن علاقة المؤمنين وثقتهم في الله تثمر فيهم حبًا، وإيمانًا وقت الشدة، فيتمتعون بحضور الله القوي، الذي يرفعهم ويقويهم ويعزيهم ويخفف آلامهم، ويكشف ويعلن لهم عما ينتظرهم من أمجاد كقول معلمنا بطرس الرسول: "لِذلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1بط1: 13).



· الالتصاق والثقة بالله يقوي الإيمان:
الغلبة أكيدة لكل المتكلين على الله، لأننا وقت الشدائد نكون في حمى الرب يسوع، الذي قال: "قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو16: 33). ويمتلئ الكتاب المقدس بوعود الله الكثيرة، التي تؤكد خلاص ونصرة المؤمنين، ولكن يجب على أولاد الله المؤمنين أن يحفظوا تلك الوعود في قلوبهم ويذكروها على الدوام، ويحيوها، ولنا في ذلك آباء الإيمان أعظم مثال.، والذين شهد عنهم الكتاب المقدس قائلًا: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ." (عب11: 13).

رابعًا: الخوف سلاح الشيطان الشرير:


· الخوف يُضعِف، أو يُعدِمُ الإيمان من القلب:
يستغل الشيطان الشرير ضعف البشر، فيخيفهم لعله يرهبهم؛ فيخضعوا له، ويرتدون عن إيمانهم. لقد وضع الله في البشر مشاعر الخوف الطبيعية؛ ليحموا أنفسهم من الضرر، لكن الخوف عندما يملك القلب يصير رعبًا، بل موتًا يشل قوى الإيمان، بل يشل التفكير، وقوى العقل جميعها.

· مثال عملي: يخبرنا الكتاب عن خوف آحاز ملك يهوذا الذي ارتعب عندما أتى عليه جيش أرام، وجيش إسرائيل فأرسل الله له إشعياء؛ ليحذره؛ وليرد له إيمانه قائلًا له: "وَأُخْبِرَ بَيْتُ دَاوُدَ وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ حَلَّتْ أَرَامُ فِي أَفْرَايِمَ». فَرَجَفَ قَلْبُهُ وَقُلُوبُ شَعْبِهِ كَرَجَفَانِ شَجَرِ الْوَعْرِ قُدَّامَ الرِّيحِ. فَقَالَ الرَّبُّ لإِشَعْيَاءَ: «اخْرُجْ لِمُلاَقَاةِ آحَازَ،... وَقُلْ لَهُ: اِحْتَرِزْ وَاهْدَأْ. لاَ تَخَفْ وَلاَ يَضْعُفْ قَلْبُكَ..." (إش7: 2- 4). ثم حذره مبينًا له استحالة تمتعه بالأمان بدون إيمان قائلًا: "... إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا فَلاَ تَأْمَنُوا" (إش7: 9).



· الخوف خطية:
إن من يترك الخوف يسيطر عليه، ولا يتقوى - بالثقة في الله وطلب قوته ونعمته - يفقد إيمانه، وهذا بالطبع خطيئة؛ لأنه لم يصدق الله، ولم يتكل عليه ولهذا يحسب الكتاب المقدس الخائفين ضمن الأشرار قائلًا: "وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ، فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي» (رؤ21: 8).



· لنحذر الخوف:
إن بث مثل هذه التسجيلات المرئية (videos) وترويجها يهدف لإثارة مشاعر الخوف والرعب في نفوس أولاد الله، فيرتدون عن إيمانهم بالله المحب، والحق، والقوي: الديان العادل، وبالتأكيد من ينساق ويستسلم لمثل هذه المخاوف سيفنى إيمانه.


خامسًا: الاستعداد من الآن هو سبيل النجاة:


· ضرورة الاستعداد:
لقد رسم الرب ملامح خطة النجاة بحديثه وتأكيده على ضرورة الاستعداد من الآن قائلًا: "اِسْهَرُوا إِذًا وَتَضَرَّعُوا فِي كُلِّ حِينٍ، لِكَيْ تُحْسَبُوا أَهْلًا لِلنَّجَاةِ مِنْ جَمِيعِ هذَا الْمُزْمِعِ أَنْ يَكُونَ، وَتَقِفُوا قُدَّامَ ابْنِ الإِنْسَانِ" (لو21: 36). وأيضًا قوله:"وَصَلُّوا لِكَيْ لاَ يَكُونَ هَرَبُكُمْ فِي شِتَاءٍ وَلاَ فِي سَبْتٍ" (مت24: 20). وأيضًا قوله: "وَلَمَّا صَارَ إِلَى الْمَكَانِ قَالَ لَهُمْ:«صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ»" (لو22: 40). إن الاستعداد من الآن ضرورة تُجنب الإنسان خطر إغلاق الباب في وجهه، وسماع تلك العبارة المميتة، والتي قيلت في مثل العذارى الحكيمات والجاهلات: "... وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ." (مت25: 10).



· الصلاة وقت الضيق تحرك السماء لنجدة المضطهدين:
إن الصلاة تجلب قوة عظيمة تفوق الطبيعة في وقت الشدة، فالملائكة والسماء يتحركان سريعًا لنجدة المتعلقين بالله، وهذا ما حدث في البستان عندما ظهر للرب يسوع ملاك ليقويه بحسب الكتاب القائل: "وَانْفَصَلَ عَنْهُمْ نَحْوَ رَمْيَةِ حَجَرٍ وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى قَائِلًا: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لو22: 41-42).

سادسًا: التاريخ يشهد بإمكانية الخلاص من الضيقة العظمى:
لقد سجل لنا الكتاب المقدس مسبقًا صورًا لخلاص الله في أزمنة ضيق شديدة كان يظن وقتها عدم إمكانية النجاة منها نذكر منها على سبيل المثال ما يلي:

· خلاص بني إسرائيل من قسوة فرعون الشديدة:
لقد اضطهد فرعون شعب إسرائيل، وأمرهم أن ينبذوا أولادهم ويخرجوهم للقتل كقول الكتاب: "فَاحْتَالَ هذَا عَلَى جِنْسِنَا وَأَسَاءَ إِلَى آبَائِنَا، حَتَّى جَعَلُوا أَطْفَالَهُمْ مَنْبُوذِينَ لِكَيْ لاَ يَعِيشُوا.". (أع7: 19). ولكن الله ضرب فرعون المتجبر بعشر ضربات إلى أن اضطر أن يطلق الشعب، وعندما زاد من تجبره وأراد اللحاق بهم خلص الله شعبه بشقه البحر الأحمر ليعبروا على أرض يابسة في قاع البحر.أما فرعون وجنوده فغرقوا في قاع البحر.



· خلاص الله لشعبه من يد الفلسطينيين:
خلص الرب شعبه من قساوة وذل الفلسطينيين، وقائدهم الجبار جليات المحتمي بعدته الحربية، وذلك بيد داود الفتى الصغير الممسك بمقلاع وخمس حصوات ملساء، والمؤيد بقوة رب الجنود، الذي صرخ بإيمان في وجه الجبار قائلًا: "فَقَالَ دَاوُدُ لِلْفِلِسْطِينِيِّ: «أَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِرُمْحٍ وَبِتُرْسٍ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ بِاسْمِ رَبِّ الْجُنُودِ إِلهِ صُفُوفِ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ عَيَّرْتَهُمْ. هذَا الْيَوْمَ يَحْبِسُكَ الرَّبُّ فِي يَدِي... فَتَعْلَمُ كُلُّ الأَرْضِ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ لإِسْرَائِيلَ. " (1صم17: 45- 46).



· الخلاص من جيش مملكة آشور:
خلص إسرائيل من رئيس جيش آشور؛ حيث قتل ملاك الرب منهم في ليلة واحدة 185 ألف.



· الخلاص من إحدى عشر أمة مجتمعة على شعب الله:
عدًّد المرنم في سفر المزامير إحدى عشر أمة مجتمعة على شعب الله بل، على الله ذاته قائلًا: "لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِالْقَلْبِ مَعًا. عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْدًا. خِيَامُ أَدُومَ وَالإِسْمَاعِيلِيِّينَ، مُوآبُ وَالْهَاجَرِيُّونَ. جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ، فَلَسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ. أَشُّورُ أَيْضًا اتَّفَقَ مَعَهُمْ. صَارُوا ذِرَاعًا لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ" (مز83: 5- 8). ومع هذا لم يرتعب المرنم، بل تشدد لأنه، عاد بذاكرته لعمل الله ونصرته على المديانيين بيد جدعون، ونصرته على سيسرا، الذي حارب شعب الله الأعزل بتسعمائة مركبة حديدية، ولكنه انهزم بيد باراق ودبورة، ولهذا طلب المرنم تدخل الله بإيمان قائلًا: "اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ، كَمَا بِسِيسَرَا، كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ. بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ. صَارُوا دِمَنًا لِلأَرْضِ. اجْعَلْهُمْ، شُرَفَاءَهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ، وَمِثْلَ ذِئْبٍ. وَمِثْلَ زَبَحَ، وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمُ.." (مز83: 9- 12). وما أكثر الأمثلة.

سابعًا: معونة السماء في أزمنة الضيق:


· قوة الله الفائقة تحفظ المؤمنين:
وصف سفر الرؤيا شدة قوة الله المعطاة للكنيسة لحفظها في أزمنة الضيق قائلًا: "فَأُعْطِيَتِ الْمَرْأَةُ جَنَاحَيِ النَّسْرِ الْعَظِيمِ لِكَيْ تَطِيرَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَوْضِعِهَا، حَيْثُ تُعَالُ زَمَانًا وَزَمَانَيْنِ وَنِصْفَ زَمَانٍ، مِنْ وَجْهِ الْحَيَّةِ." (رؤ12: 14). ومعروف قوة جناحي النسر، والتي تمكنه من اختطاف، وحمل الأشياء الثقيلة والطيران بها بعيدًا دون تعب. لقد أكد الرب نفس المعنى في النص السابق بقوله: "موضعها حيث تعال.."



· مساندة الملائكة لشعب الله في أزمنة الضيق:
تخصص السماء قواتها وعلى رأسهم رئيس الملائكة الجليل ميخائيل لنجدة، ومعونة المؤمنين في أوقات الضيق بحسب وعد الله لدانيال النبي القائل: "وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يَقُومُ مِيخَائِيلُ الرَّئِيسُ الْعَظِيمُ الْقَائِمُ لِبَنِي شَعْبِكَ، وَيَكُونُ زَمَانُ ضِيق لَمْ يَكُنْ مُنْذُ كَانَتْ أُمَّةٌ إِلَى ذلِكَ الْوَقْتِ. وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ يُنَجَّى شَعْبُكَ، كُلُّ مَنْ يُوجَدُ مَكْتُوبًا فِي السِّفْرِ." (دا12: 1).



· قوة الله تشهد للمؤمنين لئلا يخوروا:
الله يقيم له شهودًا عظماء من بني البشر؛ ليشهدوا وليشددوا المؤمنين في جهادهم. ولهذا يزداد الإيمان ويتقوى وقت الضيق، وذلك على عكس المتوقع. فمثلًا يخبرنا سفر الرؤيا عن شهادة عظيمة لنبيين يصفهما قائلًا: "هذَانِ هُمَا الزَّيْتُونَتَانِ وَالْمَنَارَتَانِ الْقَائِمَتَانِ أَمَامَ رَبِّ الأَرْضِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يُؤْذِيَهُمَا، تَخْرُجُ نَارٌ مِنْ فَمِهِمَا وَتَأْكُلُ أَعْدَاءَهُمَا. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يُؤْذِيَهُمَا، فَهكَذَا لاَ بُدَّ أَنَّهُ يُقْتَلُ. هذَانِ لَهُمَا السُّلْطَانُ أَنْ يُغْلِقَا السَّمَاءَ حَتَّى لاَ تُمْطِرَ مَطَرًا فِي أَيَّامِ نُبُوَّتِهِمَا، وَلَهُمَا سُلْطَانٌ عَلَى الْمِيَاهِ أَنْ يُحَوِّلاَهَا إِلَى دَمٍ، وَأَنْ يَضْرِبَا الأَرْضَ بِكُلِّ ضَرْبَةٍ كُلَّمَا أَرَادَا." (رؤ11: 4- 6). وبالطبع ستكون قوتهما روحية، وليست جسدية.



· تأثر الله لضيقنا وتدخله:
لقد أكد النبي إشعياء إيمانه بحقيقة حضور الرب بملائكته وقت الضيق ليخلص أحباءهم قائلًا: "فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ (إش63: 9).


أخيرًا:
الذين سيخلصون هم الذين يستعدون على الدوام، وهم أيضًا المتًّكلون على الرب، والمتعلقون به. أما الآن فعلينا كمؤمنين ألا نلتفت بشغف لمثل هذه الأخبار، التي تهدف لإخافة المؤمنين، وأيضًا ألا نشيعها، بل علينا أن نتذكر قوة خلاص الله، ووعوده لنتقوى بالإيمان، واثقين في قدرة الرب وبأسه، وحبه غير المحدود.

فهرس

بشرى النهيسى 30 - 11 - 2021 08:29 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
سوف نعرض الأجزاء المتبقيه من الكتاب

من الجزء الثالث الى السادس

بأرده يســوع

Mary Naeem 01 - 12 - 2021 12:31 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 

رووووووووووعة يا استاذنا
ربنا يفرح قلبك



walaa farouk 01 - 12 - 2021 06:31 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
مجهود مميز
ربنا يفرح قلبك

بشرى النهيسى 01 - 12 - 2021 06:52 PM

رد: كتاب عندي سؤال (الجزء الثاني)
 
شكرا جدا جدا
ربنا يفرح قلبك


الساعة الآن 03:00 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025