منتدى الفرح المسيحى

منتدى الفرح المسيحى (https://www.chjoy.com/vb/index.php)
-   قسم الكتب الدينية (https://www.chjoy.com/vb/forumdisplay.php?f=56)
-   -   كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد (https://www.chjoy.com/vb/showthread.php?t=296502)

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:30 PM

كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
أ. حلمي القمص يعقوب
تقديم

الأمر الذي دفعني للكتابة في موضوع الإلحاد، أن شجرة الإلحاد مازالت حيَّة، تطرح ثمارها السامة في الغرب وفي الشرق أيضًا، فكل فتى أو شاب يقرأ كتابين أو ثلاثة عن الإلحاد، أو يدخل إلى المواقع الإلحادية على شبكة الإنترنت، يتشكَّك في إيمانه، ويقول لك: أثبت لي أن ربنا موجود، ولماذا لا يكون الله هو وليد فكر الإنسان بهدف أن يهرب من الواقع المر الذي يعيش فيه، والسماء والحياة الأخرى ما هي إلاَّ خدعة يخدع بها رجال الدين والحكماء البسطاء ليصرفونهم عن واقعهم المؤلم ويعطونهم الرجاء الكاذب في حياة لا وجود لها، ومادام ليس هناك إله، ولا حياة أخرى، ولا ثواب ولا عقاب، فما الفائدة من هذه الحياة..؟ ولماذا أتحمل فيها عناء الدراسة والتمسك بالفضيلة..؟ لماذا أتعب من أجل حياة تؤول إلى العدم..؟! ما فائدة هذه الحياة، والأيام تسرع بنا إلى الفناء الذي ينتظرنا بشغف عند باب القبر..؟! لماذا لا نشجع على الانتحار وموت الرحمة..؟! ويطرح عليك أفكار شوبنهور التشاؤمية، وأفكار نيتشه الصادمة..
ويأتي آخر ليقول: لو كان الله موجودًا، فمن الذي أوجده؟ ولماذا لا يعلن عن ذاته بصورة محسوسة؟ ولماذا يترك الإنسان للمتاعب والآلام والحروب والأمراض والموت؟ هل هو غير قادر أم غير محب؟!
ويأتي ثالث ليقول: حتى لو كان الله موجودًا، وهو قد حدَّد مصيري مسبقًا إذا كان الملكوت أو جهنم النار، فلماذا أتعِب نفسي في جهاد روحي من صوم وصلاة وتمسك بوصايا الإنجيل.. إلخ.
من أجل هذا، كان هذا الكتاب "رحلة إلى قلب الإلحاد" كمحاولة متواضعة، شمعة صغيرة، لعلها تفضح ظلمة الإلحاد، إله القتل والهلاك، وتنير الطريق للمعرَّضين للشكوك والإلحادية، ولعلها تكون فرصة نجاة لشبابنا الذين يتلظون بنيران الإلحاد، لعلهم يعيدون ترتيب أفكارهم، ويهربون من سجن الإلحاد القاسي، سجن الكآبة وظل الموت، سجن الضيق والضجر وصغر النفس، سجن التيه والضياع، ويلقون بأنفسهم في الأحضان الأبوية التي تنتظر عودتهم بشغف زائد، فيعودون إلى بساطة الإيمان،ويستردون بهجتهم التي ضاعت وفرحتهم التي سُلبت منهم، ويلتفتون إلى الوزنات التي أودعها الله إياهم، فيتاجرون ويربحون، واثقين أنه ينتظرنا باشتياق كبير على أبواب الملكوت فاتحًا أحضانه لنا لنكون معه في كل حين في سعادة أبدية لا تنتهي.
يا ربي يسوع المسيح.. يا ليت كتابي هذا يكون بلسمًا شافيًا لمن لدغته الحيَّة القديمة، ويكون وقاية لأولادنا لئلا ينزلقوا في هوة الإلحاد التي طالما ابتلعت عمالقة الفكر والذكاء، وابتلعت الملايين ولا تشبع.. يا ليت دماء ملايين شهداء الشيوعية المُلحدة تشفع من أجل كل شاب ضل الطريق، فالدماء الصارخة من الأرض لها قوتها وقدرتها، وأنت يا إلهي على كل شيء قدير، لأن لك المجد الدائم إلى الأبد آمين.
صاحب موسوعة اقرأ وافهم
والآن أتركك يا صديقي مع كتابك هذا " رحلة إلى قلب الإلحاد " ولكيما تسهل مطالعته رأيت تقسيمه إلى جزئين:
الجزء الأول: الإلحاد.. بذار ورجال
ويدور حول أسباب الإلحاد، ورجال زرعوا الإلحاد، وذلك من خلال بابين:
الباب الأول: بذار الإلحاد
ويتناول ستة فصول هي:
الفصل الأول: الصراع البروتستانتي الكاثوليكي
الفصل الثاني: نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح
الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان
الفصل الرابع: شهوة الكبرياء
الفصل الخامس: الكوارث والحروب والعقاب الأبدي
الفصل السادس: الخلط بين المسيحية والشيوعية
الباب الثاني: رجال زرعوا الإلحاد
ويتناول شخصيات كان لهم دورهم في إرساء مبادئ الإلحاد وهم:
  1. كارل ماركس (1818-1883م.)
  2. لينين (1870-1924م.)
  3. ستالين (1879-1953م.)
  4. هولباخ (1723-1789م.)
  5. جورج هيجل (1770-1831م.)
  6. آرثر شوبنهَور (1788-1860م.)
  7. فريدريك نيتشه (1844-1900م.)
  8. آدولف هتلر (1889-1945م.)
  9. ماوتسي تونج (1893-1876م.)
  10. برتراند راسل (1872-1970م.)
  11. جان بول سارتر (1905-1980م.)
الجزء الثاني: ثمار الإلحاد
ويدور حول الثمار المرة التي طرحتها شجرة الإلحاد، أي المبادئ الفاسدة التي أرساها الإلحاد، فنطرحها على بساط البحث، ونناقشها، ونرد عليها من خلال الباب الثالث والذي يشمل خمسة فصول:
الفصل الأول: إنكار وجود الله
الفصل الثاني: الاعتقاد بأزلية المادة وتطورها
الفصل الثالث: تأليه الإنسان ورفض السلطة الإلهيَّة
الفصل الرابع: الدين أفيون الشعوب
الفصل الخامس: الكتاب المقدَّس و سفر الإلحاد
ويبدأ كل باب بجزء من قصة ذئب شيوعي تصطاده الحملان، وينتهي الباب الأول والثاني بنظرة تأمل. أما الجزء الثاني فينتهي كل فصل فيه بلقطة للتاريخ بالإضافة إلى نظرة تأمل.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:31 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
شجرة الإلحاد

أصدرت جامعة أكسفورد عام 1982 " الموسوعة المسيحية العالمية " إعداد "دافيد ب. باريث"، وهي حصيلة أبحاث قام بها 370 باحثًا في 223 دولة، وقد استغرقت الدراسة نحو 12 سنة (من 1968 - 1980م) وإن كانت هذه الدراسة ينقصها بعض الدقة بسبب صعوبة الحصول على معلومات على مستوى العالم، إلاَّ أنها تُعتبر مؤشر هام للحقيقة، وقد جاء فيها أن عدد الطوائف والملل والنحل في المسيحية 20800 ملة، وأن نسبة المسيحيين في العالم سنة 500 م. كانت 22%، وفي سنة 1500م انخفضت إلى 19%، وفي سنة 1900 م. وصلت إلى 4ر34% وفي سنة 1980 انخفضت النسبة إلى 8ر32%.
وأن العلمانية (اللادينية) تتخذ أشكالًا مختلفة مثل المادية العلمية، والإلحاد، والشيوعية الملحدة، واللاادرية، والفاشية، والمذهب المادي، والمذهب الإنساني الليبرالي، وقد تزايدت نسبة العلمانية بصورة ضخمة، فبعد أن كانت نسبتها سنة 1900م لا تزيد عن 2% بلغت سنة 1980م 8ر20%، وسجلت أعلى معدلاتها في السويد حيث وصلت إلى 7ر28%، بينما جاءت في اليونان أقل نسبة حيث وصلت إلى 3ر0% وفي النرويج 7ر1%، أما في الدول الشيوعية فكانت أعلى نسبة في ألبانيا 74% والصين 2ر71% والإتحاد السوفيتي 2ر51% وأقل نسبة في هذه الدول الشيوعية في كمبوتشيا 2ر5% وفي بولندا 5ر9%0 أما في الدول الإسلامية فأعلى نسبة سجلتها الأردن 2% وأقل نسبة سجلتها تركيبا وليبيا 1ر0% أما في أفغانستان وإيران وباكستان والمغرب فوصلت النسبة إلى صفر%، وفي دول آسيا وأفريقيا سجلت اليابان أعلى نسبة 12% وسجلت غينيا أقل نسبة 1ر0%، وفي أمريكا اللاتينية سجلت أورجواي أعلى نسبة 1ر35% أما بارجواي فسجلت أقل نسبة 5ر0% للعلمانية (اللادينية).
وحول سؤال "هل تؤمن بالله؟" قام الباحثون في 12 دولة غربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة واليابان باستطلاع الرأي، وذلك بين عامي 1981، 1982، وقام قسم الاجتماع بجامعة توند نهايم بالنرويج بنشر نتائج هذا البحث، فسجلت اليابان أعلى نسبة، حيث بلغت نسبة المُلحدين 23% ونسبة اللاادريين 38%، بينما بلغت نسبة المُلحدين في السويد 35% واللاادريين 14%، بينما سجلت الولايات المتحدة أقل نسبة فكانت نسبة المُلحدين 2% واللاادريين 3%

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:32 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ذئب شيوعي تصطاده الحملان 1

هذه قصة حقيقية لذئب شيوعي لم يحتمل وداعة الحملان، فصار حملًا مثلهم.. يقول "سيرجي كورداكوف": "لقد رُبّيت على تعاليم ماركس ولينين، وكانا آلهتي، وكنت أنحني ثلاث مرات أمام الجسد الميت للينين في موسكو وكنت أوجه له صلاة حارة كأنه إله، فقد كان إلهي وسيدي" (1).

طفل في ملجأ:

تعرض والد سيرجي للقتل، وماتت أمه كمدًا عليه، وأُخذ هو إلى الملجأ، وملاجئ الشيوعية لا تعرف ذرة من الحب، فالبغضاء تسود بين الأولاد وبعضهم، وبين الأولاد والمعلمين، وبين المعلمين والمدير، وكانت السمة السائدة في الملاجئ هي الخوف الذي يستبد بالجميع، فالأولاد بسبب العقوبات الشديدة يعيشون حياة غير طبيعية، بل والمعلمون أيضًا يخافون من المديرين لأن عقوباتهم كانت صارمة، فالجميع شيوعيين، والشيوعية لا تعرف للرحمة بابًا، وترى العطف ضعفًا، وتُمجّد القوة والقسوة كما سنرى ذلك في فلسفة "نيتشه" الألماني، ويحكي " سيرجي " عن موقف من مواقف عديدة كانت تحدث في الملجأ، وكيف تعرَّض للضرب المبرح من أجل عشقه للقراءة، فيقول "لقد أدركنا في الملجأ شيئًا فشيئًا الوحشية والقسوة اللتين تعتملان في قلوب مسئولي الملجأ من نحونا. فقد كان يتم عقابنا لأتفه الأسباب. كانت إحدى قوانين الملجأ تلزم كل الأطفال بالنوم قسرًا وقت الظهر، ولم أكن ألتزم بهذا القانون، فقد كان شغفي بالقراءة يجعلني أسحب اللمبة تحت الغطاء، وأواصل قراءتي. ولكن حدث ذات يوم ما ليس في الحسبان إذ أقبل عليَّ " العم نيشي " وهو نصف سكران وأخذني على حين غرة وأنا تحت الغطاء وإذ بي أجد يدًا تسحبني من تحت الغطاء وترفعني عاليًا ثم تتركني أهوي على الأرض، ثم بدأ يضربني بكلتا يديه ورجليه بمنتهى القسوة ولم يترك جزءًا من جسمي يفلت من أذاه وهو يردد أنه سيعطيني درسًا لن أنساه لأنني أقرأ وقت الظهر، وهو يردد ويفعل هذا في نشوة سكره مقهقهًا. كم كنتُ أرتعد وأنا تحت يديه من ذلك الضرب الذي يسميه هو " فيتامين ب". ثم خلع حزامه وواصل ضربي وهو يقول: أعدد نفسك جيدًا لفيتامين ب، ولم يتركني إلاَّ بعد أن كدت أموت من شدة الضرب وسط فزع الأطفال وذعرهم إذ رأوا الدم ينزف بكثرة من أماكن عديد في جسمي. لم أخف في حياتي كما في هذه اللحظة" (2).
شاب يعبد الشيوعية:

تدرج " سيرجي " في دراسته إلى أن وصل بجهده، ورغم الظروف القاسية التي كان يعيشها إلى الأكاديمية البحرية، وقد كرَّس حياته بالكامل لروسيا الشيوعية بعد أن تربى على مبادئ الشيوعية وتشرَّب بها، بل أنه كان يقوم بتدريس المواد الشيوعية في الأكاديمية، ويعقد المؤتمرات من أجل هذا الغرض، وكان على اتصال دائم بالمسئولين من الحزب الشيوعي، الذين لمسوا مدى حبه الذي يصل إلى حد العبادة لكل ما هو شيوعي، وتفانيه من أجل رفع مبادئ الشيوعية، لذلك تم اختياره من قِبل جهاز المخابرات الروسية K.G.B سنة 1969م ليقوم بتنظيم فرقة تأديب للمؤمنين، تعمل تحت أمرة البوليس السري، لقاء 25 روبلا مقابل كل عملية. أنه مبلغ ضخم جدًا، فإن كل مصروفه في الشهر من الكلية كان سبعة روبلات، ومتى أنهى دراسته ودخل مجال العمل يصل راتبه إلى 65 روبل، فانبهر " سيرجي " بهذا العرض المغري، وتفهم طبيعة عمله جيدًا، فاختار بعض الطلبة من نفس الكلية البحرية، من أبطال الملاكمة والجودو والكراتيه، وأيضًا كان العرض مُغريًّا جدًا لهؤلاء الطلبة، فكل منهم سيتقاضى مثل سرجي 25 روبلًا عن كل عملية قبضٍ على المسيحيين، فالموضوع في حقيقته ليس موضوع قبض لكنه قتال عنيف من جانب واحد، موضوع طحن وتكسير عظام يصل إلى حد القتل، بدون أية مسئولية جنائية تقع على القاتل، فقد كانت الحرب شعواء ضد الدين وضد كل إنسان يشتم من رائحته أن لديه ميول للتدين، ويحكي "سيرجي" أنه في إحدى عملياته السرية.. (يتبع - الباب الثاني).
وترجع جذور الإلحاد إلى الأزمنة القديمة، فطالما شكَّك الشيطان في حقيقة وجود الله الخالق ضابط الكل، ولعل جولات الشيطان مع أيوب البار كانت تهدف لزعزعة إيمانه بالله الخالق، أو على الأقل بالله ضابط الكل مُحب البشر، ولا نعجب عندما نسمع داود النبي منذ القديم يقول "قال الجاهل في قلبه ليس إله.. الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم يطلب الله" (مز 14: 1).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:33 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ما هو الإلحاد؟ وما هي أنواعه؟ وما هو الفرق بين الإلحاد، واللادين، واللاأدرية؟

ولكن كبادئ ذي بدء دعنا يا صديقي نتساءل:
س1: ما هو الإلحاد؟ وما هي أنواعه؟ وما هو الفرق بين الإلحاد، واللادين، واللاأدرية؟

ج:الإلحاد Atheism:

هو مصطلح عام يستعمل لوصف تيار فكري وفلسفي يتمركز حول فكرة إنكار وجود خالق أعظم، أو أية قوة إلهية بمفهوم الديانات السائدة. وببساطة شديدة فإن الإلحاد يعني إنكار وجود الله لعدم توافر الأدلة على وجوده، فمنطق الإلحاد هو " إن ما لم تثبته التجربة العلمية يكون خاطئًا وتافهًا ومنقوصًا من أساسه، ونحن لا نؤمن إلاَّ بالعلم وبالمنهج العلمي، فما تراه العين وتسمعه الأذن وتلمسه اليد، وما يمكن أن يُقاس بالمقياس والمكيال والمخبار وما إلى ذلك من أدوات هذا الحق. وأما ما عدا ذلك مما يخرج عن دائرة العلوم التجريبية ومنهجها فلا نصدقه" (1). هذا مفهوم الإلحاد قديمًا. ثم أكتشف الإنسان أن الحواس البشرية تعجز عن إدراك أمور كثيرة وليس معنى هذا أن هذه الأمور غير موجودة، فالعين البشرية تقف عاجزة أمام رؤية الكائنات الدقيقة مثل البكتريا أو الأميبا، بينما تنجح في هذا بواسطة الميكروسكوب، وأيضًا تقف عاجزة أمام إدراك ما يدور حولنا من أجرام سماوية بعيدة جدًا. بينما تنجح في هذا بواسطة التلسكوب، وبينما طائر الكناري يرى جميع الألوان فإن العين البشرية تعجز عن هذا، وبينما للصقر قدرة على رؤية أرنب بين الحشائش، وهو يُحلق على ارتفاع نحو ثلاث كيلومترات، لأنه يُكبّر الصورة ثمان مرات، فإن الإنسان يعجز عن هذا، والأذن البشرية تعجز عن التقاط الأصوات التي تلتقطها أذن بعض الحيوانات مثل الكلاب والغزلان، التي تلتقط أصوات الزلزال قبل حدوثه بنحو عشرين دقيقة. بل أن الحواس البشرية قد تخدعنا، فالإنسان التائه في الصحراء ملتمسًا النجاة يرى السراب، والسراب ليس حقيقة، والملعقة في كوب الماء نجدها مكسورة وكذلك المجداف في المياه، وهما ليس كذلك.

أنواع الإلحاد:

بسبب ضعف الحجة التي أعتمد عليها الإلحاد قديمًا، وهي عدم إدراك الله بالحواس البشرية، وبعد أن بات العلم الحديث يثبت وجود الله بقوة، وقد تجلَّت القدرة الإلهيَّة في الخلية الحيَّة التي لا تُرى بالعين المجردة، وكذلك بعد التعمق في الفلسفة، حتى أن " فرانسيس بيكون" (1561 - 1626م) قال " أن القليل من الفلسفة يميل بعقل الإنسان إلى الإلحاد، ولكن التعمق فيها ينتهي بالعقول إلى الإيمان" (2)، ولهذا ظهر " الإلحاد المعاصر " الذي يتجاهل تمامًا وجود الله، ويؤلّه الإنسان، فإن كان الله موجودًا فليبق في سمائه وليترك الإنسان إلهًا لهذا الكون، فقال الشاعر الفرنسي " بريفير": "أبانا الذي في السموات، ابقَ فيها" (3) فالاعتقاد بوجود الله يلغي كرامة وسلطان الإنسان على الأرض، فلسان حال الإلحاد المعاصر هو " إذا كان الإنسان إلهًا، فلا يحق لله أن يوجد"، ويقول "إيتان بورن " عن الإلحاد المعاصر " أنه مبدأ أولي، أو بالأحرى تصميم أولي، فيجب أن لا يكون الله لكي يوجد الإنسان" (4) وقال " فويرباخ": "أن نقطة التحوُّل الكبرى في التاريخ ستكون في اللحظة التي سيعي فيها الإنسان أن الإله الوحيد هو الإنسان نفسه" (5) أي الإنسان هو إله الإنسان وقال " كارل ماركس": "كل كائن لن يعتبر نفسه مستقلًا إلاَّ إذا كان مكتفيًا بذاته. ولن يكون مكتفيًا بذاته إلاَّ إذا كان هو مصدر وجوده. إن الإنسان الذي يعيش من فضل غيره يشعر بنفسه كائنًا تابعًا" (6) وادَّعى "ماركس" أن الإنسان الذي يشعر أن الله هو الذي خلقه، وهو الذي يحفظ حياته، فهو إنسان تابع وليس مستقلًا، ولذلك دعا لنبذ الدين قائلًا " أن نقد الدين يُخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على أن يفكر ويعمل وينظم واقعه كرجل تخلَّص من الوهم وبلغ إلى الرشد، حتى يدور حول ذاته، حول شمسه الحقيقية، وما الدين إلاَّ الشمس الوهمية" (7) كما ادَّعى "ماركس" أن الإيمان بالله يعني هدم قيمة الإنسان وقدره، فقال " أن الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذًا كان لابد من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان" (8) ولخص "ماركس" فلسفته الإلحادية في قوله " أن الإلحاد هو إنكار الله، وبهذا الإنكار يؤكد وجود الإنسان" (9).
ويقول "نيافة الأنبا غريغوريوس": "الإلحاد المعاصر ليس إلحادًا عقلانيًا، ولا فلسفيًا، ولا منطقيًا، ولا علميًا.. إنما هو إلحاد تصميم.. تصميم بالرفض لفكرة الله.. وذلك بسبب خبرة حزينة عن بعض الأفراد أو عند بعض الشعوب، خبرة مؤلمة وقاسية.. عن الدين والمتدينين أو عن الملوك والحكام الذين يتخذون الدين غلافًا يغلفون به تصرفاتهم ويستندون فيها كذبًا وبهتانًا إلى الله" (10).
والإلحاد قد يكون ظاهرًا متى أعلنه الإنسان الذي يؤمن به للغير، وقد يكون مُبطَنًا متى أبطنه الإنسان وأخفاه عن الغير.
اللادين:

جاء تعريف " اللادين " في القواميس على أنه:
أ - انعدام الإيمان بالأديان، إما لعدم توفر المعلومات، وإما أن يكون بصورة متعمدة.
ب- عدم احترام فكرة اتخاذ الدين كفكرة مركزية لتنظيم حياة الإنسان.
ج- اختيار طريقة وأسلوب في الحياة لا تتماشى مع الدين.
وببساطة شديدة أن الإنسان اللاديني ينكر الأديان جميعها، ويرى أنها لا تصل بالإنسان لله، ويسير حسب هواه لا يتقيد بمبادئ الدين.
اللاادرية:

بين الإيمان والإلحاد تقف " اللاادرية"، ولسان حال الإنسان اللا أدري: لا أدري.. هل الله موجود..؟ هل الله غير موجود..؟ لا أدري ولا أعرف، هل هناك عالم آخر..؟ هل هناك أرواح..؟ هل هناك ثواب وعقاب..؟ لا أدري، فكل معرفة هي معرفة نسبية وليست أكيدة، ولا يمكن الجزم بأمر ما، فما أراه أنا صائبًا يراه غيري خاطئًا، والعكس قد يحدث، بل أن حكم الإنسان في أمر ما قد يختلف من وقت لآخر، ومن ظروف لأخرى، ولذلك فالأفضل أن أقول أنني لا أدري، والإنسان اللاادري مثل إنسان أعمى تائه لا يدرك طريقه، وكريشة في مهب الرياح تحملها كيفما تشاء، والفكر اللاادري لا يشبع الإنسان، بل يجرده من شخصيته ويتركه في متاهة، ولن يعفيه من مواجهة المصير المحتوم عندما يقف الإنسان ليعطي حسابًا أمام منبر الديان العادل.
وقد زاد الإلحاد واستشرى منذ القرن السابع عشر فصاعدًا، ولاسيما في دول أوربا، وبالأكثر في روسيا ودول الكتلة الشرقية، فهناك عوامل زكَّت نيران الإلحاد وساعدت على انتشاره، نذكر منها الآتي:
  1. الفصل الأول: الصراع البروتستانتي الكاثوليكي
  2. الفصل الثاني: نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح
  3. الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان
  4. الفصل الرابع: شهوة الكبرياء
  5. الفصل الخامس: الكوارث والحروب والعقاب الأبدي
  6. الفصل السادس: الخلط بين المسيحية والشيوعية

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:35 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الصراع البروتستانتي الكاثوليكي

س2: كيف أفضى الصراع البروتستانتي الكاثوليكي، ولاسيما حرب الثلاثين عامًا، إلى كراهية الله؟

ج: دعنا يا صديقي نتطرق إلى الجذور، ونعرض باختصار شديد قصة الأب الأغسطينوس الأغسطيني الذي وُلِد بألمانيا في 10 نوفمبر 1483م، وعاش طفولة قاسية معذَّبة في أسرة فقيرة تضم الوالدين وسبعة أبناء، تعاني من قلة الدخل، وقد لاقى هذا الابن معاملة سيئة في البيت والمدرسة، فتارة ضربته أمه بالسوط حتى أنفجر الدم من جسده بسبب حبة جوز، وتارة ضربه والده ضربًا مُبرحًا، حتى أنه لم يأنس إليه إلاَّ بعد عدة أيام، وفي يوم واحد ضُرب في المدرسة خمسة عشرة مرة، وعندما شبَّ تعرض لعدة حوادث جعلته يقف مواجهة أمام الموت، فتعرَّض أحد أصدقائه للمرض والموت، وأُغتيل صديقه " ألكسيس " في ظروف غامضة، وفي سنة 1503م أثناء عودته من الجامعة سقط في حفرة وتعرَّض للنزيف الحاد، وفي 2 يوليو 1505م أثناء عبوره الغابة في ستوترنهايم، هبت عاصفة شديدة، صاحبتها البروق والرعود بصورة مرعبة، وسقطت بجواره صاعقة كادت تصعقه، واقتلعت العاصفة الهوجاء شجرة ضخمة وطرحتها أمامه، فسقط على الأرض فزعًا، وفي هذه اللحظة المأسوية نذر نفسه للرهبنة متشفعًا بالقديسة حنة أم العذراء مريم قائلًا " يا قديسة حنة.. إذا أنقذتيني سأكون راهبًا بقية حياتي " وفعلًا بعد أن أنهى دراسته، دخل إلى دير القديس أوغسطين تاركًا منصبه كأستاذ في الجامعة، ولكن هذا النذر كان قسرًا، وهو ما عبَّر عنه فيما بعد الأب أغسطينوس عندما كتب لوالده يقول "أتذكَّر.. أني قلت لك أن دعوة مخيفة من السماء قد وُجهت إليَّ، فلم أصر راهبًا رغبة مني أو مسرة في الرهبنة بل دُفعت بطريقة لا تُقاوم للنطق بهذا النذر" (1) فدعوة الرهبنة المُفرحة للقلب كانت بالنسبة لهذا الراهب دعوة مخيفة أنقضت عليه من السماء، ولهذا لم ينجح في حياة الرهبنة، فمعاملة والديه ومدرسيه القاسية طبعت صورة سيئة للغاية عن الله في ذهنه، فلم يرَ في الله الأب المُحب الباذل طويل الأناة، إنما رآه الإله القاسي المنتقم الجبار الذي يسر بهلاك الإنسان، وقد أعدَّ له النار الأبدية، فصار هذا الراهب مرتعبًا من العقاب الإلهي، فاقد الرجاء، ناقمًا على الله وثائرًا ضده، ولهذا عندما رآه مرشده الروحي "يوحنا ستوبيز" عابسًا خائفًا قال له: "ليس الله هو الغاضب عليك أو الثائر ضدك، بل أنت الغاضب والثائر ضد الله".. وهكذا كانت حياة الراهب أغسطينوس، فقال: "عندما قمت بخدمة أول قداس لي شعرت أني على حافة الموت " وكان يصف حالته بأنه يعيش مُحطَّم حزين، عندما يصلي تحيط به الشياطين، ولا يجرؤ على انتهارها، وانتهى به المطاف إلى كراهية الله، فقال: "لم أستطع أن أحب هذا البار بل كرهته".

وترك الراهب أغسطينوس الأغسطيني ديره وعاد إلى حياته العلمانية، ولم يكن هذا الراهب سوى "مارتن لوثر" الذي يدعونه قائد الإصلاح، وهنا قد يتساءل أحد الأحباء البروتستانت: ما هذا التعصب الأرثوذكسي وما هذا الشطط؟ ما علاقة المُصلح بالإلحاد..؟! وهذا ما سنراه حالًا الآن.
ومن الجانب الآخر قد ساد الفساد في الوسط الكاثوليكي فتفشت الرشوة والسيمونية وصكوك الغفران، وانتشر الانحلال الخُلقي حتى بين المستويات الدينية الكاثوليكية.. إلخ، وكل هذا قد أثار لوثر، فعلَّق 95 احتجاجًا على باب كاتدرائية ويتمبرج في 31 أكتوبر 1517م، وقد أعتبر الأخوة البروتستانت هذا اليوم هو بداية تاريخ الإصلاح.
وفي 10 ديسمبر 1529م خرج لوثر على رأس حشد من الأصدقاء وأساتذة جامعة ويتمبرج، حيث أحرق كتب القانون الكنسي، ثم ذرى رمادها في مياه النهر، أمام حشود الشعب الألماني التي أخذت تهتف بأن " ألمانيا ليس ذيلًا للبابوية". وبهذا أشعل لوثر نيران الحقد في قلوب الشعب الألماني، ولاسيما الفلاحين والعمال الذين اشتعلوا غضبًا ضد الأكليروس والأمراء، وقد شجعهم لوثرعلى هذا فكانت ثورة الفلاحين، وأصدر لوثر تحذيره للأمراء قائلًا أن غضب الفلاحين يعلن لكم غضب الله، فاندفع الفلاحين في ثورة رهيبة نحو قصور الأمراء يقتلون ويسلبون ويحرقون ويهدمون ويدمرون، وفي 26 أبريل 1524م أصدر لوثر بيانه للفلاحين " تقدموا.. تقدموا إلى الأمام.. ولتظل سيوفكم ساخنة بالدماء بدون شفقة " ولكن الأمور لم تسر حسب هوى الفلاحين، حيث أسرع الأمراء باستئجار بعض المحاربين الإيطاليين، وانقلبت الدفة على الفلاحين، والأمر المدهش أن مارتن لوثر غيَّر اتجاهه 180 درجة، إذ صرخ صرخته التي سجلها له التاريخ، قائلًا للأمراء والمحاربين " قاتلوا هؤلاء الفلاحين ككلاب مسعورة" (2) وكانت نتيجة الضحايا من الطرفين 100 ألف قتيل.
وفي سنة 1526م أحاط بأسوار روما عشرون ألف مقاتل ألماني وأسباني، وفتحوا ثغرة في السور، ويقف اللسان عاجزًا عن وصف ما فعله هؤلاء الجنود بالقصور التي سلبوها وقتلوا من فيها وأشعلوا النيران بها، والكنائس التي حوَّلوها إلى إسطبلات للخيول، وما تعرَّض له الأكليروس من عذابات رهيبة وقتل وتشريد، وما تعرَّضت له الراهبات اللاتي انتزعهنَّ الجنود من أحضان الأديرة، وأرغموهنَّ على الزواج، وظل الجنود يهتفون "لوثر بابا روما" ويقول "دكتور عزت زكي": "يقول مؤرخ معاصر (للأحداث) عن قصة شاهد عيان: وتدفق الألمان والأسبان ينهبون ويقتلون دون مراعاة لأي اعتبار، حتى الأطفال والنساء، ولم تشفع لهم استرحاماتهم ودموعهم وعبثًا حاول القواد إيقاف الجند -الثملين بخمرة النصر- والويل كل الويل لمن كان يقع في أيديهم من الكرادلة الذين لم ينجحوا في الهرب، فقد كان نصيبهم السحل في شوارع روما حتى الموت. وشُوهدت جماعة تمسك بأحد الأساقفة، كلَّلت رأسه بأغصان الشجر وعرضته في السوق للبيع كالسوائم، قبل الإجهاز عليه.

أما الكنائس فقد تحوَّلت إلى إسطبلات للخيل، وتكدَّست الخيول داخل كنيسة القديس بطرس وخارجها، والويل للراهبات والعذارى، فلقد كان الجند ينتزعونهن انتزاعًا من الأديرة ومن أحضان أمهاتنا" (3) وكان نتيجة اقتحام روما قتل ثلاثة وخمسين ألف نفس وهكذا وُلدت البروتستانتية في حلبة الصراع مع الكنيسة الكاثوليكية (راجع كتابنا: يا إخوتنا البروتستانت.. هلموا نتحاور ج1 ص 8 - 52).
وبعد نحو قرن من الزمان من الصراع غرقت أوربا في صراع عنيف وحروب طاحنة عُرفت بحرب الثلاثين عامًا من 1618 - 1648م بين البروتستانت والكاثوليك، ونجم عنها خسائر بشرية فادحة، فمثلًا قُتل في أيرلندا نحو مائة ألف رجل، وقُتل ثلث رجال ألمانيا، وانتهت هذه الحروب بسلام " وستفاليا " Westphalia الذي أقرَّ الحرية الدينية للجميع، لكيما يعيش اللوثريون مع الكالفنيين مع الكاثوليك في سلام، ولكن من نتائج هذا الصراع البروتستانتي الكاثوليكي الطويل المرير القاسي أن كَرِه الناس الدين والعقيدة والكتاب المقدَّس، بل كرهوا الله ذاته.
ورأى البعض أن كراهية "مارتن لوثر" لليهود ربما قد انتقلت إلى "هتلر" ففعل بهم ما فعل من المحارق، مما كان له تأثيره في امتداد موجة الإلحاد، فيقول "ريتشارد دوكنز": "أن الكُره المسيحي لليهود ليس فقط تقليدًا كاثوليكيا، بل مارتن لوثر كان معاديًا للسامية (الشعب اليهودي)، وكتب يقول {يجب طرد جميع اليهود من ألمانيا} وكتب كتابًا كاملًا عن اليهود وأكاذيبهم، والذي ربما كان له تأثير على هتلر. لوثر وصف اليهود بـ"ذرية الأفاعي" ونفس العبارة استخدمت من قبل هتلر في خطابه المشهور عام 1922م الذي كرَّر فيه مرارًا بأن مسيحي:
شعوري كمسيحي يوجهني نحو إلهي ومخلصي كمحارب.. وبحب لا متناه كمسيحي وكرجل أقرأ من خلال العبارات التي تقول لنا كيف انتصب الإله في قدرته أخيرًا وأخذ السوط بيده لطرد ذرية الأفاعي من المعبد. كانت حربه مثالًا مثاليًا للعالم ضد السم اليهودي، واليوم بعد ألفي عام، وبأعمق العواطف، أعرف بثقة لم أعرفها قبلًا بأنه من أجل ذلك قد بذل دمائه على الصليب.." (4).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:38 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
نظرية التطوُّر والبقاء للأصلح

س3: كيف كانت حياة داروين؟ وكيف أنكر ثبات الأنواع، ونظرية الخلق الإلهي؟

ج: وُلِد شارلز روبرت داروين في 12 فبراير 1809م من أب طبيب وأم من أسرة غنية، وعندما دخل المدرسة كان يهتم بالصيد واقتناص الفئران ومطاردة الكلاب، وجمع الأصداف والأحياء البحرية والحشرات والطيور، وكان شغوفًا بالتجارب الكيميائية مما أثر في دراسته، فاتهمه مدرسوه بأن متبلد الذهن، وعندما ألحقه والده بكلية الطب باسكتلندا ورأى غرف العمليات وجثث الموتى كَرِه الكلية وتركها بعد عامين، فأرسله والده إلى كلية اللاهوت في كامبريدج في أكتوبر 1827م فحصل على المؤهل بعد ثلاث سنوات إكرامًا لوالده، وقال عن هذه السنوات أنها كانت ضياعًا للوقت، وعشق داروين دراسة التاريخ الطبيعي، والتصق بعالِم النبات "جون هنسلو" الذي ذكَّاه ليصحب سفينة الأبحاث البحرية " بيجل " التي أقلعت في 27 ديسمبر 1831م إلى جنوب المحيط الأطلنطي والمحيط الهادي لمدة خمس سنوات، واشتغل داروين بجمع عظام الحيوانات وأحضرها إلى إنجلترا، وقد انتهت هذه الرحلة في 2 أكتوبر 1836م.
وقد أمضى داروين السنوات الطويلة في بحث النباتات والحيوانات وعظامها، وانتهى إلى نظرية "الانتخاب الطبيعي" Natural Selection أو " البقاء للأصلح " Survival of the fittest فالكائنات التي استطاعت أن تتكيف تلقائيًا مع البيئة هي التي استمرت وعاشت وتكاثرت. أما الكائنات التي فشلت في التوافق مع البيئة فقد ماتت وانقرضت، وعلى مدار ملايين السنين تطوَّرت الأنواع الأدنى، وأن الإنسان هو ثمرة تطوُّر الأنواع الأدنى.
وقد تأثر داروين بالقس الإنجيلي توماس مالثوس الذي قال أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية (2 - 4 - 8 - 16 - 32.. إلخ) أما الغذاء فأنه يتزايد بمتوالية عددية (2 - 4 - 6 - 8 - 1... إلخ) مما يقود للصراع من أجل البقاء، ولذلك نادى القس مالثوس بقانون الفقراء اللاإنساني، حيث قال " لا يستحق البقاء إلاَّ من هم أقدر على الإنتاج. أما أولئك الذين وهبتهم الطبيعة حظًا أدنى لهم أجدر بالهلاك والاختفاء " وأعتبر أن موت الفقراء من الجوع يعتبر قضاء وتدبير إلهي، وبهذا برَّر القس مالثوس الثراء الفاحش ولم يتراءف على الفقراء، وعندما قامت الثورة الفرنسية ونادت بالإخاء والمساواة والحرية هاجمها مالثوس معتبرًا أن هذه أمور خيالية، ونتيجة أفكار مالثوس أوصت بعض الطبقات الحاكمة في أوربا بإهمال الفقراء وتركهم فريسة للجوع والمرض حتى يتخلص منهم المجتمع. بل أجبرت إنجلترا الأطفال في سن الثامنة والتاسعة على العمل لمدة ست ساعات يوميًا في مناجم الفحم في ظروف صحية سيئة مما تسبب في هلاك الآلاف منهم.
وطبق " داروين " فكر " مالثوس " وهو " الصراع من أجل البقاء " على المجتمع الحيواني، وتوصل إلى فكرة الانتقاء الطبيعي، فالطبيعة تختار الأصلح والأقوى للبقاء على حساب الضعفاء، وقال داروين رغم أن التكاثر يتم بمعدل كبير فإن الصراع من أجل البقاء هو الذي يضمن لجزء فقط من هذا النسل البقاء بينما يهلك الجزء الآخر، وبذلك ظهرت نظرية النشوء والارتقاء. وأطلق " هيربرت سبنسر " صديق داروين على نظرية الانتقاء الطبيعية " البقاء للأصلح " وقَبِل داروين هذا الاصطلاح، واعترض على القائلين بأن الله خلق الطيور الجميلة والأسماك البديعة، وأرجع هذا للانتقاء الجنسي، فالذكور القوية الجميلة من الطيور والحيوانات هي التي تستأثر بالإناث وتنجب جيلًا قويًا، أما الذكور الضعيفة فمصيرها للإنقراض.
ورغم أن داروين ألَّف أكثر من عشرة كتب، ولكن كتابه " أصل الأنواع" The Origin of Species الذي أصدره سنة 1859م قد أثار ضجة كبيرة، وقد طبع منه 1250 نسخة، وفي اليوم الأول لصدور الكتاب نفذت جميع نسخه، رغم أن النسخة كانت تقع في 490 صفحة، وهذا يوضح مدى تجاوب المجتمع حينذاك مع فكر داروين.
وقد أنكر داروين في كتابه هذا ثبات الأنواع، أي أن الله خلق كل نوع منفصلًا عن الآخر كقول سفر التكوين " وقال الله لتنبت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بزره فيه على الأرض. وكان كذلك. فأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبزر بزرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه.. فخلق الله التنانين العظام كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 11، 12، 21).
بل أن داروين قال أن لله لم يخلق النباتات ولا الأسماك ولا الطيور ولا الحيوانات ولا الإنسان، ولا أي كائن حي، بل كل ما فعله هو أنه أبدع جرثومة واحدة، وهذه الجرثومة أخذت تتفرع وتتنوع عبر ملايين السنين، وبذلك نسب داروين خلقة الكائنات الحية للطبيعة قائلًا " الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق" (1) لقد أنكرت نظرية التطور حقيقة " الله خالق كل شيء " وحقيقة أن الله خلق جميع الأنواع كما نراها اليوم.

وأقامت آراء داروين العالم ولم تقعده، ففي مؤتمر تقدم العلوم البريطاني بأكسفورد دارت مناقشة حادة بين " هاكسلي " مؤيد داروين، والذي يعتقد أن الإنسان سليل القردة وبين "صموئيل ولبرفورس" أسقف أكسفورد فسأل ولبرفورس هاكسلي قائلًا: هل يسمح السيد هاكسلي أن يخبرنا: هل كان القرد جده لأمه أو لأبيه؟ فاحتد هاكسلي عليه، وختم احتداده بقوله " على أية حال فإني أُفضل أيها السيد أن يكون القرد جدًا من أجدادي عن أن يكون جدي أسقفًا مثلك" (2) (ومن المعروف أن الأسقف الكاثوليكي لا يتزوج، ولكن هاكسلي هنا يتهم الأسقف لبروفورس اتهام غير مباشر بالانحلال الخلقي) ولوَّح " متزوري " ربان السفينة " بيجل " بالإنجيل وسط القاعة لاعنًا اليوم الأسود الذي وافق فيه أن يحمل داروين على ظهر سفينته.
وقد اعتزل داروين في أواخر حياته البحث، وتفرغ لكتابة مذكراته، وقالوا عنه أنه ظل متمسكًا بعقيدته المسيحية، شغوفًا بقراءة الكتاب المقدَّس، حتى أن " الليدي هوب " إحدى شريفات إنجلترا عندما التقت به وجدته يقرأ الرسالة إلى العبرانيين، وتقول الليدي هوب " فلما دخلت عليه وجدته جالسًا على فراشه.. وكان يشخص ببصره إلى الغابات وحقول الحنطة، فسرَّ عندما دخلت عليه وأشار بيده الواحدة إلى النافذة التي كان ينظر منها إلى ذلك المنظر البديع، بينما كان يمسك بيده الأخرى الكتاب المقدَّس الذي كان يطالع فيه على الدوام مدة ملازمته الفراش، فلما جلست بجانب فراشه ابتدرته بالسؤال ماذا تقرأ يا أستاذ؟ فأجابني: العبرانيين وهو السفر الملوكي، ألا ترينه ملوكيًا وعظيمًا بحق؟ ثم وضع إصبعه على بعض الأعداد وأخذ يقرأ ويشرح، فأشرت إلى بعض أفكار الناس عن الإصحاحات الأولى من سفر التكوين، فظهر عليه الملل والضجر وحرك أصابعه بسرعة وانفعال، وقال بصوت الحزين الآسف {لما كنت صغيرًا لم يكن لي فكر خاص، فنبذت عني كل المباحثات والأسئلة والظنون وكنت أتعجب كل الوقت من كل شيء، ولزيادة دهشتي انطلقت أفكاري هذه كالنار بين الناس وسرعان ما كونوا منها دينًا غير ديني} ثم صمت ونطق بجمل مختصرة عن قداسة الله وعظمة الكتاب المقدَّس وهو ينظر إلى الكتاب الذي بيده ويشير إليه" (3). ثم قال داروين لليدي هوب وهو يشير إلى الحديقة: إنني أملك بيتًا صيفيًا، فأرغب إليك من كل قلبي أن تذهبي إليه، وتعقدي اجتماعا دينيًا لأني أعرف أنك تعقدين اجتماعات دينية في القرى لقراءة الكتاب المقدَّس، فآمل أنك غدًا بعد الظهر تعقدين اجتماعا للعمال الذين يشتغلون هناك، وعندما سألته: هل أخاطبهم عن.. قاطعها قائلًا: يسوع المسيح وعن خلاصه. أليس هذا أفضل موضوع، وطلب منها أن ترتل معهم على الموسيقى، وقال: إذا ابتدأت بالاجتماع الساعة الثالثة بعد الظهر، فإن هذه النافذة ستكون مفتوحة، وتأكدي إني أشترك معكم في التراتيل (راجع الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 60، 61).
ومات داروين يوم 19 أبريل 1882م، وفي 24 أبريل شُيعت جنازته في موكب ضخم من المؤدين والمعارضين، وحمل جثمانه عشرة من كبار العلماء منهم اثنان من العائلة الملكية، ودُفن في مقبرة الخالدين بكنيسة وستمنسر بجوار إسحق نيوتن، وبينما امتدحه الكثيرون، زمَّه الآخرون، وقال عند الدكتور موريس بوكاي، الذي طالما هاجم الكتاب المقدَّس " كان داروين دائمًا وثنًا من أوثان الترسانة الإلحادية، كان دائم الاستعداد لدعم أية أفكار تدعم ما يذهبون إليه" (4).
وذهب الدارونيون إلى أكثر ما ذهب إليه هو، وأصبحوا ملكيّين أكثر من الملك، فيقارن الدكتور كمال شرقاوي غزالي بين داروين وأتباعه قائلًا " ولم يفقد داروين نفسه في سبيل نظرية التطوَّر، ويتنحى عن عقيدته الأصلية المسيحية، كما فعل كثيرون مما أُعجبوا وفتنوا بنظريته.. كان البعض من المفتونين بسحر النظرية يساهمون في تفسير بعض الأمور المتعلقة بها، فعملوا على إدماج الفروض العلمية في هيئة دين، ومن هنا نمت شجرة الكُفر والإلحاد، واستهوى ذلك الكثيرين ليستظلوا بظلها أمثال أبسن، وويلز، وبرجسون، وبرناردشو" (5).
س4: كيف أثرت نظرية داروين على الإيمان بالله، والكتاب المقدَّس، وحياة الإنسان ككل؟

ج: كان لنظرية داروين تأثيرها السلبي الشديد، فجنحت بالإنسان نحو الإلحاد، وطعنت في الوحي الإلهي، وأرست شرعية الصراع والبقاء للأصلح، وساعدت على نشر الفلسفة المادية:
1- إنكار الله الخالق:

يرى " جوليان هكسلي " أن نظرية التطوُّر جعلت الإنسان يشعر أنه ذوي قربة للكائنات الأخرى من نباتات وحيوانات، لأنه عاش هذه الأطوار قبل أن يصل إلى مرحلة الإنسانية، فيقول "أن الإنسان يعرف الآن أنه ليست ظاهرة معزولة منفصمة عن بقية الطبيعة بسبب إنفراده الذي لا مثيل له.. ولكن على الرغم من كل تميزه عن سائر الكائنات إلاَّ أن وشائج (روابط) من الاستمرار الوراثي تربطه بكل سكان كوكبه الأخرى الأحياء، والحيوانات والنباتات، والكائنات الحية المصغرة Micro - organisms هي أبناء عمه جميعًا، وتمُت إليه بصلة قربى أكثر بعدًا وهي جميعًا أجزاء لمجرى واحد متفرع ومتطور من البروتوبلازم" (6).
ويقول "دكتور كمال شرقاوي غزالي": "عندما ظهرت نظرية داروين كانت بمثابة قنبلة فكرية هزت العالم أجمع، وقلبت المفاهيم رأسًا على عقب.. كان الغرض الخفي (من هذه النظرية) هو هدم العقائد المقدَّسة والقضاء عليها، وبالفعل سادت موجة عجيبة من الإلحاد" كما يقول أيضًا " لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7).

لقد أنكر الدارونيون خلق الله للإنسان الأول (آدم وحواء) وبالتالي أنكروا سقوط الإنسان في الخطية الجدية، وفساد الطبيعة البشرية، وبالتالي فليس ثمة حاجة للمسيح المخلص الفادي، فمن أي شيء يُخلّص مادام لم يكن هناك خطية ولا سقوط ولا فساد للطبيعة البشرية؟!وأرجع الدارونيون تدني الأخلاق البشرية إلى أصل الإنسان الحيواني، فالإنسان في نظرهم قد ورث عن جده الحيوان الغرائز البهيمية التي تؤثر على سلوكه، كما أرجع التطوُّريون مبادئ الأخلاق والأدب إلى تطوُّر الإنسان من الناحية الأدبية.
ويرى "جوليان هكسلي" أن الإنسان هو الذي صنع الله من خياله، وأضفى عليه صورة الأب والقداسة فيقول: "والإنسان التطوري لم يعد يستطع الفرار من وحدته بالاحتماء نحو مأوى يقيه أحضان إله من صنع الإنسان نفسه، خلقه في صورة أب مضفيًا عليه ألوان القداسة" (8).
2- إنكار الوحي الإلهي:

خالفت نظرية التطوُّر الكتاب المقدَّس في قضيتين مهمتين:
1) قالت نظرية التطوُّر بأن الإنسان وليد النشوء والارتقاء، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله جبل الإنسان على صورته ومثاله من تراب الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة " فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم" (تك 1: 27).. " وجبل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسًا حيَّة" (تك 2: 7).
2) قالت نظرية التطوُّر أن الأنواع غير ثابتة، بل تتطوَّر وتتغير، وبذلك خالفت قول الكتاب بأن الله خلق الأنواع ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فكل عشب وبقل وشجر " يبزر بزرًا وشجرًا ذا ثمر يعمل ثمرًا كجنسه بذره فيه" (تك 1: 11).. " كل ذوات الأنفس الحيَّة الدبَّابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 21).
وبذلك أنكرت نظرية التطوُّر وحي وعصمة الكتاب المقدَّس الذي يؤكد على خلق السموات والأرض، وقد أصدر " جوليان هكسلي " كتابه " إطار المذهب الإنساني " سنة 1961م، وشارك في تأليف هذا الكتاب خمسة وعشرون عالمًا، وقال هكسلي في مقدمة هذا الكتاب " أن الأرض لم تُخلق بل تطوَّرت. وهذا هو الحال مع سائر الحيوانات والنباتات التي تسكنها بما فيها نفوسنا البشرية وما فيها من عقل وروح ومُخ وجسد. وهذا هو الحال مع الدين كذلك" (9).
وقال الأسقف " صموئيل ولبرفورس" (1805-1873م) أن " مبدأ داروين للانتحاب الطبيعي لا يتفق مُطلقًا مع (كلمة الله) فلقد أعطت نظرية التطوُّر لأعداء المسيحية في ذلك الحين وقودًا لهجومهم على الكنيسة" (10)..
وقال " نوبل لورييت جاك مونود " Monod في كتابه " الصدفة والحاجة " أنه لا يوجد إله وأن العهد (الميثاق) القديم قد انهار، فقد عرف الإنسان أخيرًا أنه وحيدًا في هذا الكون الشاسع المُوحش، وأنه لم يوجد فيه إلاَّ عن طريقة الصدفة (Jo Monod, Chance and Necessity p. 167).
ويقول "الدكتور كمال شرقاوي غزالي": "وهنا بدا للناس أن النظرية تتعارض مع النصوص الدينية، وبالذات نصوص العهد القديم، التي تقرر بوضوح كامل أن الأنواع ثابتة وأنها غير قابلة للتغيير. ولما كانت للناس في ذلك الوقت كراهية متأصلة للتعاليم الدينية والكنسية، فقد بدأ الاقتناع بصحة النظرية يغلب على الاقتناع بالتعاليم الدينية، وصارت النظرية والدين في طرفي نقيض، وأدى إقناع الناس بالنظرية إلى أن قالوا بثبوت خطأ التوراة ورفض النص الكامل للإنجيل، ودار صراع بين العلم والدين" (11). ولنا عودة لهذا الموضوع في الكتاب الثاني (ثمار الإلحاد).
3- شرعية الصراع:

لقد أدخلت نظرية التطوُّر الإنسان في صراع قاسٍ من أجل البقاء، بدلًا من التعاون بين البشر، مع أن الأصل هو التعاون بين البشر، وما أجمل قول " ألبرت أينشتاين " عن خلق الإنسان، حيث يقول "غريب وضعنا على الأرض وكل منا يأتي في زيارة قصيرة، لا يعرف لماذا؟ ولكن في بعض الأحيان يبدو بأن هناك سببًا مقدَّسًا، من وجهة نظر الحياة اليومية. على كل حال، هناك أشياء نعرفها بأن الإنسان هنا من أجل الإنسان الآخر، وقبل كل شيء لأجل هؤلاء الذين نعتمد على سعادتهم وابتساماتهم لإسعادنا" (12).
وزرعت هذه النظرية فلسفة العنف والاعتداء، فالقوى يجتهد كيما يصعد على أشلاء الضعفاء، وتمخضت النظرية عن فلسفة "نيتشه" التي كان له الباع الأكبر في الفاشية والنازية، وسيادة الجنس الأري على جميع الأجناس، فأثارت هذه النزعة الحروب ونشرت الدمار، وجاء في كتاب علم الأحياء للصف الثالث الثانوي 1990 / 1991م ص 237 " ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال الآثار التي أدت إليها نظرية داروين وبخاصة في مجال الفلسفة والسياسة والعلاقات البشرية. فقد ترتبت على نظرية الانتحاب الطبيعي ما يمكن أن يُسمى " فلسفة الاعتداء " أو فلسفة " العنف والاغتصاب " وتجاوبًا واطمئنانًا إلى هذه الفلسفة التي ساعد الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzche (1844 - 1900م) على رواجها فدخل العالم في غمار حروب عامة منها حرب السبعين عامًا والحربين العالميتين الأولى والثانية، فقد أثارت النزاعات العدائية والحروب وأطلقت الشعارات بسيادة جنس على آخر" (13).
ويقول "أيريل كيرنز": "لقد استخدمت نظرية التطوُّر Evolution لتبرير فكرة سيادة جنس على غيره من الأجناس، وذلك لأن هذه الفكرة تتلائم مع مفهوم داروين عن [البقاء للأصلح] بل وأيضًا استخدمت لتبرير عدم الاعتراف بوجود أساس مُطلق للأخلاق.. بل تم أيضًا استخدام نظرية التطوُّر لتمجيد الحرب باعتبارها ممارسة شرعية لمبدأ البقاء للأصلح" (14).
وقد نجم عن " الداروينية " الشيوعية المُلحدة، وما أكثر ضحاياها!! فيقول "هارون يحيى": "وإذا أعتبرنا المفهوم الشيوعي للنزاع الجدلي الذي قتل نحو 120 مليون شخص طوال القرن العشرين (إله القتل) يمكننا حينئذ أن نفهم بشكل أفضل حجم الكارثة التي ألحقتها الداروينية بكوكبنا" (15).
وقد تأثر أدولف هتلر بفكرة الصراع من أجل البقاء بين الأجناس، واستوحى منها أفكاره في كتابه " كفاحي " وقال عن الصراع بين الأجناس " سوف يصل التاريخ إلى أوجه في إمبراطورية ألفية جديدة تتسم بعظمة لا مثيل لها، وتستند إلى تسلسل جديد للأجناس تقرره الطبيعة ذاتها" (16) كما قال أيضًا أن " الجنس الأعلى يُخضِع لنفسه الجنس الأدنى.. وهو حق نراه في الطبيعة ويمكن اعتباره الحق الأوحد القابل للإدراك" (17).
ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "وانتقلت فكرة التطوُّر لتصبح منهجًا للبعض، وجاء هتلر يومًا فأعلن عن فكرته النازية في استيلاد سلالات بشرية قوية، وإعدام السلالات الضعيفة، واتخذت الفاشية الافتراض المتعلق بالانتقال الطبيعي والبقاء للأصلح مبررًا للقضاء على بعض الأجناس البشرية، وأتخذها تجار الحروب مبررًا لهم لأن الحروب تقضي على العناصر الضعيفة وتستبقي العناصر القوية"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:39 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الفصل الثالث: الظُلم والطُغيان

س5: ما هي سمات البيئة التي أفرزت لنا الإلحاد؟ وهل يحق لنا أن نُعامل الملحدين بقسوة؟

ج: لم يخرج الإلحاد من بيئة مسيحية متدينة تدينًا حقيقيًا، إنما نبت من بيئة تدعو نفسها بأنها مسيحية، وهي ليست كذلك، لأنها متغربة عن مبادئ الإنجيل السامية، والبيئة التي أفرزت لنا الإلحاد تتسم من ناحية بتفشي الظلم والطغيان للرؤساء والحكام، وتتسم من ناحية أخرى بضعف الكنيسة وسلبيتها، فالحكام يطغون ويظلمون، ورجال الدين يداهنون ويبرّرون، والنتيجة الثورة، فإن لم تكن متاحة بالخارج فبداخل النفس، الثورة ليس ضد الحكام الجائرين فقط، بل وضد رجال الدين المداهنين، بل ضد الدين ذاته وضد الله ذاته، وهكذا يسقط الأفراد تباعًا في الإلحاد بهدف التمرد على الظلم والطغيان، بهدف التخلص من الكبت النفسي الذي تعرضوا له، بهدف السعي نحو الحرية المفقودة.
لقد عاملت كل من الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية الملحدين بقسوة، مما دفع بهم للعناد والتمسك بآرائهم الإلحادية، ففي سنة 1670م قال الكاردينال " ليو بولدد " للملحدين بأن زمن التسامح قد ولى وفات، وكم من جرائم اقترفتها محاكم التفتيش ضد الإنسانية، وهي تعتقد أنها تفعل الصواب دائمًا، فلو عذَّبت إنسانًا مبتدعًا أو ملحدًا حتى الموت، فهو يستحق هذا، ولو عذَّبت إنسانًا وكان بريئًا إلى الموت، فهو يفدي الإيمان الصحيح، وسيصل إلى الملكوت السمائي، ولنذكر ثلاثة أمثلة فقط من فرنسا وإنجلترا وإيطاليا:
1- جيوفري فاليه Valee:

وهو أحد النبلاء في أورليانز بفرنسا وكان حسن الصورة جدًا، مهووسًا بطهارة جسده ورونقه، حتى أنه كان يلبس كل يوم قميصًا جديدًا ناصع البياض، وقبل إعدامه بعامين صرحت عائلته أنه مُختل عقليًا بسبب بعض الخلافات المالية، لكن تماسك أفكاره في النبذة التي ألفها "ذروة الصفاء الوحي عند المسيحيين" لا يتفق مع هذا الإدعاء، فقط كانت تنتابه بعض النوبات، وعندما سجن بسبب هذه النبذة حاول الانتحار، وكان " فاليه " في هذه النبذة قد أنكر وجود الله، وهاجم الكاثوليكية والبروتستانتية والإلحاد، وفضل المذهب الليبرتاني الداعي للتحرُّر الديني (هذا المذهب ينكر الوحي الإلهي ولا ينكر وجود الله) وقد هاجم فاليه الأديان لأنها تبث الهلع والفزع في النفس البشرية، ولم يقتنع بأن السيد المسيح هو النموذج الإنساني الكامل، ورغم أن فاليه كانت معرفته بالكتاب المقدَّس سطحية، فأنه تم تنفيذ حكم الإعدام فيه سنة 1574م، وأُحرق جسده مع تلك النبذة، ولم تنجو سوى نسخة واحدة منها مع السجل الذي حوى التحقيقات معه، ويقول عنه " د. رمسيس عوض": "والغريب فان فاليه الفرنسي الذي أُعدم بتهمة الإلحاد لم يكن ملحدًا حقيقيًا فهو رغم إنكاره للدين يعتقد أنه لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يشك في وجود الله" (1).

2- أيكنهد:
وهو طالب اسكتلندي أعدمته إنجلترا في نهاية القرن السابع عشر بسبب إلحاده، والأمر العجيب أن أيكنهد وهو على حبل المشنقة ألقى خطابًا أعلن فيه عداءه الشديد للدين المسيحي، وهذا يوضح لنا كم كان هذا الشخص معبأ بأفكار فاسدة لم يجرؤ من قبل أن يفصح عنها، لأن القوانين في تلك العصور كانت تبيح إعدام الملحدين، فكان الملحد يحتفظ بأفكاره لنفسه ويحاول أن يذيعها سرًا، وطالما أن مثل هذه الأفكار الإلحادية لم تخرج للنور، لذلك فلن تجد من يناقشها ويحللها ويرد عليها، ولن يجد الملحد من يحبه ويستوعبه ويرفع عن كاهله معاناته وقلقه.
3- جيوردانو برونو (1548 - 1600م):
وهو إيطالي، وفي الخامسة عشر من عمره ألتحق بأحد الأديرة، وعندما شك في بعض الحقائق الإيمانية وعُرف عنه ذلك فرَّ هاربًا من الدير، وتجوَّل في دول أوربا، ثم تلقى دعوة من شاب إيطالي أرستقراطي يُدعى " مورسينيجو " ليتولى تدريسه، ثم أكتشف مورسينيجو مدى ضلال أستاذه فشكاه لمحكمة التفتيش في البندقية لأنه يعتبر يسوع المسيح دجالًا وساحرًا لجأ إلى الحيل لخداع الناس، وأنه ينكر عقيدة الثالوث، وأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، وأن السحر أمر جيد لا غبار عليه، ويسخر من المقدَّسات المسيحية، ويعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذا الكون اللانهائي، بل أن هناك عدد لانهائي من العوالم الأخرى، والله لا يكف عن خلق المزيد منها، ويعتقد بتناسخ الأرواح، وأن الروح القدس الذي كان يرف على وجه المياه هو روح العالم، وقام " مورسينيجو " بحبس أستاذه " جيوردانو " في إحدى غرف القصر إلى أن تم تسليمه للسلطات الكنسية في البندقية سنة 1592م، وجثا " جيوردانو " على ركبتيه، مقدمًا اعترافه واعتذاره قائلًا " إني أطلب بكل اتضاع من الله ومن قداستكم مغفرة الأخطاء التي ارتكبتها.. إنني أتوسل إليكم أن توقعوا أقصى عقوبة عليَّ حتى لا أدنس رداء الكهنوت الذي أرتديته، وإن شاء الله وشاءت قداستكم إظهار الرحمة نحوي والسماح لي بأن أعيش فإني أقطع على نفسي عهدًا بإصلاح حياتي إصلاحًا كبيرًا" (2) وعفت محكمة التفتيش عنه، إلاَّ أنه رجع لأفكاره بعد ثمان سنوات، فأمهلوه ثمانين يومًا، ولكنه ضيَّع الفرصة وأخذ يتلاعب برئيس الكرادلة، فنزعوا عنه رداء الكهنوت وسلموه للسلطة المدنية مع توصية بتجنب سفك دمه، ومنحته السلطات المدنية فرصة نهائية أسبوعين، ولكنه ظل متشبثًا بآرائه وأفكاره، وأخيرًا اُقتيد إلى المحرقة.
وإن كان كل هذا قد حدث في العصور الوسطى المظلمة، فإن البعض مازال يكن البغضة للملحدين في العصر الحديث، سأل " روبرت شرمان " الرئيس الأسبق " بوش الأب " عما إذا كان الملحدون يُعتبرون وطنيّين أو حتى مواطنين، فأجابه الرئيس بوش: "لا. لا أعلم كيف نعتبر الملحدين وطنيين أو حتى مواطنين. نحن أمة واحدة تحت راية الله" (3) والحقيقة أن تعبير الرئيس الأمريكي " نحن أمة واحدة تحت راية الله " ينطبق على جماعة المؤمنين في الكنيسة. أما في الدولة فالجميع سواسية مؤمنين وغير مؤمنين ويقول أحد الملحدين أنه لا يوجد أمل لأي ملحد أن يرشح نفسه في انتخابات مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، ولا يوجد أمل على الإطلاق أن يرشح أحد نفسه لرئاسة أمريكا، وربما هذا القول حق وصحيح إذ كيف يقود إنسان ملحد مجتمع مؤمن وبينهما هذه الهوة السحيقة؟!
وعلى كلٍ فإن الإنجيل لا يقر أبدًا القسوة في معاملة المُلحدين، ويجب أن ندين الرسائل الإلكترونية القاسية الموجهة ضد الملحدين مثل " أفضل ما هنالك هو أنك ستتعذب للأبد بتلك الذنوب التي تتجاهلها تمامًا. انتقام الله لن يريك رحمة" (4).. " يا عباد الشيطان التافهون.. أرجوكم موتوا وأذهبوا للجحيم. أمل أن يصيبكم وباء مؤلم مثل سرطان القولون وتموتوا ببطء وألم، حتى تلاقوا إلهكم الشيطان.. إذا كنتم لا تحبون هذا البلد والأسس التي بُنيت عليها، أخرجوا منها وأذهبوا للجحيم" (5) والحقيقة أن الإلحاد ظلمة، ولكن أيضًا البغضة والسخرية والشتيمة ظلمة، ولا يمكن أن الظلمة تطرد الظلمة، إنما شمعة الإيمان العامل بالمحبة هي التي تنير ظلمة الإلحاد.
لقد أفرز لنا ذلك الظلم وذاك الطغيان شخصيات غير سوية أتعبوا البشرية بأفكارهم وأفعالهم، من أمثال كارل ماركس، ولينين، وستالين، وهولباخ، وجورج هيجل، وشوبنهور، ونيتشه، وماوتسي تونج، وبرتراند راسل، وجان بول سارتر، وغيرهم مما سيكون محل دراستنا في الباب الثاني هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت، وإن كان الإلحاد هو وليد الظلم والطغيان، فأنه بعد ميلاده أندمج بأبويه وأرتبط بهما، وأُعجب بهما أيما إعجاب، حتى صارت صوُّر العذاب الأحمر سمة من سمات الإلحاد.
إن الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يستمع إليه، ويصغى إلى صراخ يأسه، ويأخذ بعين الاعتبار لآرائه وانتقاداته، ولا يستخف بأفكاره، بل يحللها ويوضحها له، ويركز الأضواء على الصورة الحقيقية لإلهنا المحب الوديع المتواضع الذي تنازل إلى أن غسل أرجلنا، ويحترم حريتنا الشخصية إلى أنه مازال يلبث على باب قلوبنا يقرع، ولن يدخل إلاَّ إذا سمحنا نحن ودعوناه، فهو يحترم حريتنا الشخصية إلى أقصى درجة.. الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى الحوار الهادئ لكيما تتضح الحقائق أمامه صحيحة وليست مقلوبة (أمحو الذنب بالتعليم).. الإنسان المُلحد يحتاج بشدة إلى من يمد له يد المعونة في حب صادق لكيما ينتشله من الغرق الذي يصر عليه، يحتاج بشدة إلى من ينفذ إلى أعماقه ليكتشف أسباب إلحاده، فغالبًا ما يُسقط المُلحد مشكلاته النفسية والمادية على علاقاته مع الله.. الإنسان المُلحد يحتاج حبًا صادقًا من القلب وصلاة نقية من القلب، فإن الأيدي المرفوعة والركب المنحنية ينقذانه من الهلاك الأبدي.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:40 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
شهوة الكبرياء

س6: لماذا يلجأ الإنساني الشهواني المتكبر للإلحاد؟

ج: قيل أن "وراء كل إلحاد شهوة" وهذا القول صحيح إلى حد بعيد، فعندما يسقط الإنسان في الشهوة والشر وهو يعرف أن للشر عقوبة زمنية وأبدية، فإن كان متواضعًا فأنه يقدم توبة واعترافا ملتمسًا من الله أن يصفح عنه ويتغاضى عن خطاياه. أما إن كان متكبرًا عنيدًا، ولا يريد أن يتخلى عن الخطية والفساد، ويود أن يهرب من الدينونة والعقاب، فكيف يحل هذه المعضلة؟ وكيف يريح ضميره..؟ أنه يلجأ إلى إنكار وجود الله، وبالتالي فهو حر يفعل كل ما يشاء خيرًا كان أم شرًا. والكبرياء يلقي بالإنسان في الجهل والعمى الروحي، فعندما فتح السيد المسيح عيني المولود أعمى، وعوضًا أن يمجد الفريسيون الله تزمَّروا بشدة لأن السيد المسيح صنع طينًا وطلى عيني المولود أعمى في يوم سبت، ولم يتواضعوا ليقبلوا عمل الله " فقال يسوع لدينونة أتيتُ أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذي يبصرون" (يو 9: 39) وهذا ما أوضحه بولس الرسول في موضع آخر " إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (2 كو 4: 3) فالكبرياء هي جهل بحقيقة الله المتواضع المُحب " قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1) والكبرياء تؤدي لكسر الإنسان " قبل الكسر يتكبر قلب الإنسان" (أم 18: 12) ولا يوجد أكثر وأصعب من كسر الإلحاد وإنكار وجود الخالق، ففي الوقت الذي يظن فيه الملحد أنه أنتصر وكسب وربح وأبتعد عن العقيدة والديانة، فإنه في الحقيقة يخسر كل شيء. والكبرياء رجس، فعندما واجه السيد المسيح الفريسيين الذين يتكبرون ويستعلون على الناس " فقال لهم أنتم الذين تبرَّرون أنفسكم قدام الناس. ولكن الله يعرف قلوبكم. إن المستعلى عند الناس هو رجس قدام الله" (لو 16: 15).

لقد كان الشيطان ملاكًا وسقط بسبب الكبرياء عندما قال " أرفع كرسي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب أصير مثل العلي" (أش 14: 13، 14) والشيطان المتكبر لا يكف عن نفخ الكبرياء في أتباعه، فقال " كارل ماركس " في قصائده المشهورة ضد الله " أنني أريد فقط أن أنتقم بكل جوارحي من ذلك الواحد الذي يسكن السماء، متسلطًا على البشر.. لقد خطف مني كل شيء.. كل العوالم تبخرت بين يديَّ، ولم يبقَ لي سوى الانتقام المُر.. سوف أعلو بعرشي فوق الرؤوس" (1).
وقد يقود الإنجاز العلمي الإنسان المتكبر إلى الإلحاد، ويقول "رأفت شوقي": "أن النجاح الخارق الذي حقَّقه العلم والتقنية ملأ البعض بشحنة من الكبرياء جعلتهم يأنفون من أي ارتباط بكائن أسمى، وحملتهم على الاعتقاد بأن الإنسان هو سيد الكون بقوته الذاتية وقادر على كل شيء.. إن هناك نزعة شعبية أُعجبت بالعلم وإنجازاته وبما حققه الإنسان، وأخذت هذه النزعة تُغيّر ما كان يُنسب مباشرة إلى الله على أنه ينسب ويفسر علميًا، وبالتالي الاستغناء عن الله والإيمان به" (2) والحقيقة أن الإنجاز العلمي هو وليد العقل البشري، والله هو صاحب الفضل الذي أنعم على الإنسان بعقل مُفكر مبتكر، وهو الذي يشرق على الإنسان بنور علمه الإلهي (أعطيتني علم معرفتك) والأمر العجيب هو بدلًا أن ينسب الإنسان هذا الإنجاز إلى توفيق الله ومعونته، فأنه ينسبه لنفسه، فيُضرَب بداء الكبرياء، ويرتفع بعقله، حتى يجعله سيدًا وإلهًا، ويعبده عوضًا عن الله، وتتضخم ثقة الإنسان المتكبر بعقله بينما تتضاءل ثقته بإلهه، ونحن لا نهاجم العلم ولا نقلل من أهميته، إنما نعترض على من يُؤلّه العقل الذي أنجب لنا هذا العلم العظيم، فمن الأمور الإيجابية للعلم أنه يسعى دائمًا نحو الحقيقة المجردة، والحقيقة دائمًا تقرّبنا إلى الله، وكم تلامس العلماء العظماء مثل " إسحق نيوتن" و"أينشتين " مع عظمة الله التي أبدعت الكون بهذه الروعة " السموات تحدث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1)،والذين يدرسون أعضاء الإنسان ووظائف تلك الأعضاء كثيرًا ما يقفون لحظات عن التشريح ليسبحوا الله على عظمته وحكمته التي تفوق العقول، وأيضًا العلم جعل الإنسان يتخلى عن الخزعبلات التي آمن بها قديمًا، فقد نسب كل ما عجز عن تفسيره إلى إله معين، فجعل للبرق إلها وللرعد إلهًا وللمطر إلهًا وللنار إلهًا وللكواكب آلهة.. إلخ، والعلم هو الذي صنع ثورة الاتصالات التي ربطت بين البشر في كل مكان، حتى صار العالم كله مثل قرية صغيرة فما يحدث في ركن منها يُسمع في بقية الأركان، وأيضًا الحقائق العلمية الصحيحة نجدها متوافقة مع ما جاء في الكتاب المقدَّس.. كل هذه الأمور الإيجابية للعلم يهدرها الإنسان عندما يؤله نفسه ويقول ليس إله، ويهدرها عندما يسعى للسيطرة على الغير ويصنع حروبًا مع أخيه الإنسان (راجع أ. رأفت شوقي- الإلحاد نشأته وتصوُّره ج1ص31، 32).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:41 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الكوارث والحروب والعقاب الأبدي

س7: لو كان الله موجودًا وقادرًا وصالحًا، فلماذا يترك الإنسان يعاني من الكوارث والحروب والمرض والموت؟ هل لأنه غير صالح أم لأنه غير قادر؟ وكيف يرسل الإنسان إلى العذاب الأبدي؟

ج: إن الجهل الروحي بحكمة الله وصلاحه وقدرته وحسن تدبيره، يقود الإنسان إلى الهلاك، ولذلك قال الكتاب " قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو 4: 6) فعدم المعرفة هي الجهل، ومن السهل أن ينزلق الإنسان الجاهل إلى هوة الإلحاد، ولاسيما عندما يتعرض لتجربة قاسية، إن لم يكن يقظًا، فمن السهل أن يفقد الثقة في العناية الإلهية، وعندما وقف " إيفانجلتا دي فتيورا " يُحاكم أمام محاكم التفتيش اعترف بأن انتشار مرض الطاعون الذي قضى على أمه وأخوته وأخواته جميعًا، وأضاع ممتلكاته، آل به إلى فقدان الثقة في عناية الله، فلو كان الله موجودًا فعلًا وكلي الصلاح فلماذا يترك الإنسان لكل هذه الكوارث؟! ونحن لا ننكر أن الإنسان قد يعاني من شر الكوارث والحروب والأمراض وهو برئ، وليس له يد في جلب هذه المعاناة، ولكن يجب أن يدرك أن الله موجود وهو ضابط كل شيء، ولا يسمح بألم قط لأولاده إلاَّ بحكمة إلهية، فقد تكون هذه المعاناة تأديب وتهذيب لهم، وبلا شك أن أعظم مدرسة هي مدرسة الألم والصليب.
ويقول "أوسكار وايلد " في كتابه " من الأعماق": "إن كان العالم قد تأسَّس على أساس المعاناة، فقد أسَّسته أيدي المحبة، لأنه لا سبيل آخر تصل به النفس إلى مستوى الكمال" (1).. لقد صار الألم في المسيحية هبة غالية لا يمنحها الله إلاَّ لمن يثق في محبته " لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تُؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله" (في 1: 29).

وقد تكون هذه المعاناة قد جاءت بحسد إبليس، وستظل قصة أيوب شاهدة على هذا، ونثق أن كل الأمور داخل دائرة الضبط الإلهي، وعندما رأى التلاميذ الأعمى منذ ولادته سألوا السيد المسيح " يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى. أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه" (يو 9: 2، 3) وكذلك الأطفال الذين يُولدون معوقين (ذوي الاحتياجات الخاصة) يعطون الفرصة للآخرين لإظهار المحبة تجاههم، ويكونون بركة لأسرهم، فالأسرة المسيحية تعتز بابنها المعوق أكثر من ابنها السليم.
والذين يتساءلون عن مدى قدرة الله ومدى صلاحه، كل هدفهم هو إلقاء اللوم كل اللوم على الله، وتبرئة ساحة الإنسان تمامًا، وكأن الإنسان جماد، أو كائن يفتقد حرية الاختيار، وكأن الإنسان لا يجب أن يتحمل مسئولية تصرفاته، والحقيقة غير ذلك، لأن الله جبل الإنسان على صورته ومثاله في الخلود والمعقولية والابتكار، ووهبه حرية الاختيار وحرية التعبير وحرية التصرف، وكثير من الشرور والكوارث سببها الإنسان وليس الله الصالح، فلماذا يتمسك البعض بأن المسئول عن هذه الشرور هو الله وليس الإنسان صانع هذه الشرور؟! هل الله الذي يحذرنا من مغبة مخالفة وصاياه المقدَّسة يصبح مدانًا متى خالف الإنسان هذه الوصايا..؟! وهل الإنسان الذي يخالف الوصايا فيكره ويبغض ويغضب ويدخل في خصومات وحروب ويقتل، ويزني بالفكر أو بالفعل.. إلخ، يصبح هذا الإنسان بارًا..؟! ما هذه الموازين المقلوبة؟!! هل الله الذي حذر الإنسان من إبليس الذي يجول كأسد زائر يريد أن يبتلعه، متى سقط الإنسان في قبضته يصير الله مُدانًا..؟! وهل الإنسان الذي يتغافل التحذير الإلهي وينساق وراء إبليس ويحسبه كصديقه الصدوق، ويشرب الإثم كالماء، مثل هذا الإنسان يحسب بارًا؟!!.. هل يُعقل هذا؟! وهل ارتكاب هذه الجريمة جاء بإرادة الله أم بسماح منه..؟! إرادة الله خيّرة دائمًا وأبدًا، ولكنه لا يمنع الشرير من ارتكاب الشر، بل يسمح له بهذا، لأنه سبق ووهبه حرية الاختيار.
حقًا أن الله كلي الصلاح وكلي القدرة، وقد حدَّد وقتًا للدينونة، فيه تُخمد الشرور إلى الأبد وتبدأ الحياة الملائكية السعيدة بلا حسد من إبليس ولا محاربات من العالم والجسد، أما الذين يطالبون الله أن يقضي على الشر الآن، فأنهم لا يدركون ماذا يقولون.. تصوَّر يا صديقي أن الله قرَّر في هذه اللحظة القضاء على الشر وعلى جميع الأشرار، تُرى من ينجو من هذه الدينونة..؟! إن الله يطيل أناته علينا، فلعل الذي يخطى الآن يتوب بعد الآن، ولعل شرير اليوم يمسى قديس الغد، فهذا ما يلتمسه الله منا " إني لا أسرُّ بموت الشرير، بل بأن يرجع عن طريقه ويحيا. أرجعوا أرجعوا عن طرقكم الرديئة فلماذا تموتون يابيت إسرائيل" (حز 33: 11).. وهو لا يشاء أن يهلك أُناس. بل أن يقبل الجميع إلى التوبة. حقًا أن الإنسان الذي ينظر للأمور بمعرفة روحية يستريح، ومهما تزايدت الكوارث فإن هذا لا يمنع عنه الفرح بالرب، مثلما قال حبقوق النبي " فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعامًا ينقطع الغنم عن الحظيرة ولا بقر في المزود. فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" (حب 3: 17، 18).
أما عن العذاب الأبدي فالله لم يعده قط للإنسان، إنما أعده للشيطان وكل جنوده " أذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41) والذي تمسك بالشر فإن شره يقوده لهذا العذاب الأبدي، وما أجمل قول أحد الآباء: إن الله لن يدين الإنسان على خطيته، إنما سيدينه على عدم توبته، ويقول "بول ليتل": "عندما يسأل شخص: كيف يرسل الله الصالح الناس إلى الجحيم؟ هنا يجب أن نشير بأن الله لا يرسل أحدًا إلى الجحيم، نحن نُلقي بأنفسنا. الله صنع كل ما هو ضروري لنا لكي ننال الغفران والفداء والتبرير، ولكي نكون جاهزين للحياة معه في السماء. وكل ما تبقى هو فقط أن نستقبل هذه العطية. أما لو رفضنا نعمته فلن يكون لدى الله خيار آخر، إلاَّ أن يتمم اختيارنا، فبالنسبة للشخص الذي لا يريد أن يكون مع الله، فإن حتى السماء نفسها لن تكون سوى الجحيم بعينه"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:43 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الخلط بين المسيحية والشيوعية

س8: هل ارتبطت الشيوعية بالمسيحية أم بالإلحاد؟

ج: في البداية أخذت الشيوعية بعض سمات المسيحية مثل:
أ - الشعار السوفيتي الشيوعي إن كان أحد لا يعمل فلا يأكل أيضًا مقتبس مما ورد في رسالة معلمنا بولس الرسول الثانية لأهل تسالونيكي " إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تس 3: 10) مع الفارق، لأن النص يوضح " إن كان لا يريد " أي أنه يملك إمكانية العمل، ولكنه لا يريد أن يعمل، فلا يأكل. أما الشيوعية فقد رفضت كل من لا يعمل مهما كانت حالته الصحية لا تسمح بالعمل، وهذا هو فكر " القس توماس مالثوس " الذي أوصى بعدم مساعدة الفقراء والضعفاء على الحياة، بل يجب أن ينتهوا من الوجود، وهذه النتيجة التي وصل إليها " هتلر " إذ نفذ برنامج " القتل الرحيم " فقتل أطفال ألمانيا المعوَقين، وكان ينوي أن يقتل البالغين منهم أيضًا.
ويقول "ريتشار وورمبلاند": "عقد الشيوعيون مؤتمرًا ضم جميع الفئات المسيحية في بناية برلمان بلادنا، وحضره أربعة آلاف كاهن، واعظ وقسيس، مثَّلوا جميع المذاهب. وقد اختار هؤلاء الأربعة آلاف من رجال الدين " جوزيف ستالين " رئيسًا فخريًا للمؤتمر، في حين ترأس بذات الوقت حركة دولية جهنمية للفتك بجميع المسيحيين بالجملة. فنهض الأساقفة والوعاظ، الواحد تلو الآخر، في بناية البرلمان وصرَّحوا أن الشيوعية والمسيحية هما واحد في الأساس، وأنهما يستطيعان التعايش السلمي معًا. وقد أثنى واعظ بعد الآخر على الشيوعية، وأكدوا للحكومة الجديدة ولاء الكنيسة لها.

حضرنا هذا المؤتمر أنا وزوجتي. وما أن سمعت زوجتي ما قيل حتى ألتفتت إليَّ وقالت لي: {يا ريتشار، قف على رجليك وأغسل هذا العار عن وجه المسيح. فهم يبصقون في وجهه} فقلت لزوجتي: لو فعلت ذلك لخسرتِ زوجك. ولكنها استطردت قائلة: {أنني لا أرغب أن يكون لي زوج جبان}.
وعندما انتصبت على رجليَّ وخاطبت المؤتمر، مثنيًا، لا على سفاحي المؤمنين، بل على الله ومسيحه، مشدّدًا أن ولاءنا هو بالدرجة الأولى لله.. دفعت فيما بعد ثمن ما قلته" (1).
ب- أخذت الاشتراكية الشيوعية من المسيحية حياة الشركة في الكنيسة الأولى، والملكية العامة، فجاء في سفر الأعمال " وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول أن شيئًا من أمواله له بل كان عندهم كل شيء مشتركًا.. لم يكن فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات. ويضعونها عند أرجل الرسل فكان يُوزَّع على كل واحد كما يكون له احتياج" (أع 4: 32 - 35) فهكذا كانت تسعى الاشتراكية الشيوعية للحياة الفضلى المثالية التي يتساوى فيها الجميع، ولكن شتان بين المسيحية التي قامت على أساس الحب والبذل والتضحية، فكل من أراد أن يضحي بممتلكاته ضحى بها بطيب خاطر بدون إجبار من أحد، أما الاشتراكية الروسية فقد قامت على الإجبار والقمع والتعذيب والاضطهاد.
في البداية قامت الثورة الشيوعية على أكتاف جماعة من العمال المسيحيين بقيادة الكاهن " جابون"، وفيما بعد تعدى الشيوعيون على هذه الحركة، بل قبضوا على القس جابون وأعدموه شنقًا، ويقول "ريتشار وورميلاند": "أن المسيحية دين ثورة أكثر من الشيوعية، ولكن ثورة تختلف في مفهومها وطريقها.. فالثورات الشيوعية تبدأ بسفك الدماء.. أي دماء، حتى الأطفال والنساء والمذنبين والأبرياء على السواء. ثم يصبح شرب الدم غريزة جامحة مثل قطيع الذئاب الذي يزداد شراسة كلما تفجَّر الدم من ضحاياه.. وينتهي البرنامج الشيوعي بجلوس دكتاتور على قمة الهرم أو النظام الهرمي أكثر عنفًا وقسوة ودموية من الذي تخلصت منه الثورة.. لقد كتب لينين مرة [إن الإرهاب لازم للغاية] ولكن القيصر نيقولا الثاني الذي أطاحت به الثورة الروسية ما كان يضع الإرهاب ضمن برنامجه.. تُرى كم من الأرواح أزهقها لينين..؟ وكم اغتال السفاح ستالين؟ يُقال أن ستالين هو الذي دس السم لقتل لينين الذي علمه فن القتل، ثم قتل كل أقارب لينين وأصدقاءه. وماذا عن معسكرات العمل والسخرة في روسيا؟ وكم من الأرواح تزهق هناك أو في سيبيريا؟! وكم من الملايين سالت دماؤهم في الصين الحمراء..؟! إن الثورات الشيوعية رهيبة دموية هدامة سلبية.. ولكن ثوار المسيحية هم على نمط آخر.. إننا نستخدم سيفًا مغايّرًا هو سيف الروح، ونقتل ليس الخاطئ بل خطيته.. ليس العدو بل عدوانه.. وإني أتحدى أي إنسان في الدول الشيوعية أن يذكر لي اسم سجين واحد في أمريكا أو في أية دولة مسيحية من دول الغرب سُجن لأنه مُلحد.. لكن في الدول الشيوعية تجد مئات الألوف بين الملايين تعج بهم السجون ويقاسون العذاب والمذلة والموت أيضًا وذلك لأنهم يتمسكون بدينهم" (2).
ويقول "الأب أنتوني م. كونيارس": "فعدد المسيحيين الذين اضطُهدوا واستُشهدوا في القرن العشرين فقط، يزيد عن مجموع كل الذين استُشهدوا في التسعة عشر قرنًا السابقة.. (في الإتحاد السوفيتي) نُفي وأُبيد حوالي 60 مليون شخص كما لو كانوا حشرات، وكان بالطبع نسبة 75 بالمائة من هؤلاء مسيحيين أرثوذكس.. واحد من الذين بقوا على قيد الحياة في سجون الأشغال المرعبة ويُسمى ألكساندر أوجورودنيكوف Alexander Ogarodnikov كتب يقول {عندما أضطلع البلاشفة بالسلطة، فقد قاموا بمحاربة الكنيسة.. وفي عام 1923م كانت هناك محاولة جادة، محكمة ثورية لتقديم الله للمحاكمة، الله نفسه كان يُحاكم! كان لوناشارسكي Lunacharsky وتروتسكي Trotsky هما المفوضان لقيادة هذه العملية، وفي أثناء هذه العملية حكما على الله بالموت.. كان لابد من سحق الله والكنيسة، ونجد في العديد من خطابات لينين Lenin التشديد على التخلص من الكهنة. كانت الحرب ضد الكنيسة والدين مُخطَّطًا لها جيدًا، وكان حامية وعنيفة للغاية.. (كان) عام 1932م موجَّهًا نحو خطة اقتصادية لمدة خمس سنوات، ونفس المدة لإقامة مجتمع مُلحد. كانت الخطَّة موجَّهة على أن جميع الكنائس تكون قد أُغلقت عام 1935م وعام 1936م تكون كلمة " الله أو إله " قد اختفت تمامًا من اللغة وقواميسها.. لا يمكنني أن أصف لك أنواع الرعب والإرهاب والعذابات التي نُفذت، حتى أن كثيرًا من الأساقفة والكهنة والرهبان والعلمانيين دُفنوا أحياء، أو قتلوا بطرق أخرى متعددة}.. أُعدم كثير من قادة الكنائس، وسُجن منهم عدد آخر لا يُحصى. وفي عهد ستالين تحوَّل الأمر إلى ما هو أردأ، فقد ذُبح مائتا ألف كاهن روسي، ورهبان، وراهبات كما سُجن خمس مئة ألف آخرين أو تم نفيهم إلى سيبريا، حيث مات حوالي 90 بالمئة منهم في معسكرات الأشغال الشاقة. سجلات البوليس السوفيتية السريَّة المحفوظة تُبيّن أن أغلب الكهنة أُطلق عليهم النار أو صلبوا، ولو أنه كانت هناك طرق أخرى استخدمها الشيوعيون للإبادة الجماعية، منها تعليق الكهنة وصلبهم على أبواب الكنائس، أو تركهم ليموتوا بعد أن ينزعوا عنهم ملابسهم ويطرحونهم في بحيرات ثلج في الشتاء حتى يتجمدوا. وبالإضافة إلى قادة الكنائس الذي قُتلوا، سُجن عشرة ملايين من عامة المؤمنين، أو عُذبوا، أو قتلوا. كذلك فإن بلاد أخرى من الكتلة السوفيتية اضطهدوا المسيحيين بنفس الطريقة" (3).
س9: هل يمكن إلقاء الضوء على "مذهب الهادمين" بإنجلترا كمثال لارتكاب الشر والتجديف؟

ج: في القرن السابع عشر ظهرت بعض المذاهب الهدامة في إنجلترا مثل مذهب الصوصيان، ومذهب الهادمين، ومذهب الكويكرز، ومذهب الهادمين Ranters قام على معارضة النظام الملكي وقواعد الدين والأخلاق، والحرية غير المشروطة، حتى قالوا أن الإنسان يستطيع أن يرتكب الموبقات من سرقة وكذب وغش وزنا (باستثناء القتل) لأن الاستغراق في ملذات الجسد لا يلوث الروح، وكان لهذا المذهب اتجاهاته الشيوعية فدعا للملكية العامة، وقاوم الملكية الفردية، ونادى أصحاب مذهب الهدامين بأن الله سيخلص الجميع باستثناء الأغنياء، وقال " أبيزر كوب " أحد قادة الجماعة في كتاب " رعد طائر من اللهب " بأن الله في طريقه للأرض ليسوي عاليها بواطيها، وأن الهادم الأعظم سوف يتسلل إليهم ملوحًا بسيفه قائلًا " سلّموا حوافظ نقودكم. سلموا أيها السادة. سلموها وإلاَّ قطعت رقابكم" (4).
وفاق " أبيزر كوب " جميع أقرانه في ارتكاب الشر، ويقول عنه " دكتور موريس عوض " أنه كان " يلقي مواعظه وقد تجرَّد من كل ثيابه ويتفوَّه بتجاديفه وبذاءاته أثناء النهار، فإذا حل الليل أنصرف إلى معاقرة الشراب ومضاجعة البنات اللاتي جئن للاستماع إلى مواعظه وهن عرايا كما ولدتهن أمهاتهن" (5).
وتعرض كوب للسجن في سجن كوفنتري، وبينما كان سجينًا نشر كتابه " رعد طائر من اللهب " فأصدر مجلس العموم البريطاني أمرًا بحرق جميع نسخ هذا الكتاب، وعند التحقيق معه ادَّعى الجنون، ولكن هذه الحيلة لم تنطلي على لجنة التحقيق، وعندما ضاق ذرعًا بالسجن نشر كتابه " الرجوع إلى الحق " وألتمس من البرلمان العفو عنه، وفعلًا أُعفي عنه.
وحلمت جماعة الهادمين بمجتمع مثالي ومدينة فاضلة يختفي منها الفقر والشقاء، ونادت بأن الله موجود في كل الخليقة، كما أنه حال في الإنسان، ولذلك ينبغي أن يصل الإنسان لله الحال فيه (في الإنسان) وقال أحدهم " أنه يرى الله في كل زهرة وفي الإنسان والحيوان والسمك والدواجن وفي كل نبت أخضر" (6)، وهذا هو مذهب " وحدة الوجود " الذي ينادي أتباعه بأن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله.
وقال " أدوارد هايد": "أنه طالما أن الله موجود في كل شيء فمعنى ذلك أن الخطية والشر يتمثلان فيه" (7) بينما نفت بقية الجماعة ارتباط الشر بالله، وقالوا أن الله لا يوجد في الحروب، ولا في الظلم، ولا في الكنائس، وهذا يوضح كراهيتهم للكنائس فساووها بالحروب والظلم.

وأعتبر الهادمون أن الكتاب المقدَّس عبارة عن قصص وحكايات رمزية، ورفضوا الوصايا العشر مدَّعين أنها من وضع البشر، وقال بعضهم أن الشيطان ليس بالشيء المقيت أو الشرير لأنه من صنع الله الكامل، وأنتشر مذهب الهادمين في أرجاء البلاد، ولاسيما بين الفقراء والعمال والعاطلين والمتشردين، وكان " أبيرز كوب " يفتخر بأنه أخًا للصوص والشحاذين والعاهرات. وكان للهادمين كتبهم مثل " إنجيل الهادمين" و"عقيدة الهادمين"، وفي كتاب " النور والظلام واحد " قال مؤلفه " كلاركسون " سنة 1650م، أن " الشيطان هو الله والجحيم هو النعيم والخطيئة هي القداسة واللعنة هي الخلاص" (8). وحاول مجلس العموم البريطاني التصدي للهادمين، فأعد مشروع قانون للحكم على الهادمين بالإعدام، ثم اكتفى بسجن الهادم لمدة ستة أشهر، وفي سبتمبر 1651م أصدر مجلس العموم قانون التسامح الديني مع الكل باستثناء الصوصيان والهادمين. وكان للهادمين تجاديفهم، فقال الهادم " ريتشارد كنج " أن زوجته الحامل ستلد له الروح القدس، وقالت " ماري أدمز " أنها سوف تلد يسوع المسيح، وأدعى الهادم " توماس تاني " بأن الله تكلم إليه. وأفهمه أنه يهودي، وعليه جمع شمل اليهود والعودة بهم إلى أورشليم لإعادة بناء الهيكل، وقام توماس بختن نفسه، وكان يجوب الشوارع مبشرًا بأعلى صوته على أنه الحبر الأعظم لليهود، فزجت به السلطات في السجن، وبعد خروجه أحرق الكتاب المقدَّس علنًا، وهاجم البرلمان ملوحًا بسيفه الذي علاه الصدأ، مدعيًّا أنه سليل شارلمان وأنه الوارث لعرش فرنسا فأعادوه إلى سجنه، وأدعى الهادم " جون روبيتز " أن روح آدم تقمصته، وأنه سيخرج من إنجلترا على رأس 144 ألفًا للتوجه إلى جبل الزيتون، فزجت به السلطات في السجن مع زوجته، وإحدى عشر تابعًا له، والهادم " ريتشارد فولكنر " شرب نخب الشيطان تحية له وقال " أن المسيح مخلصنا ابن زنا" (راجع الإلحاد في الغرب ص 106 - 111) ومذهب الهادمين يلقي الضوء على الحالة التي آلت إليها شعوب الغرب في القرن السابع عشر، والطريقة التي أتبعتها الكنيسة والدولة في التعامل معهم، والتي أتسمت بالعنف، والعقوبات التي تتراوح بين السجن والإعدام، مما أدى إلى كراهية البعض للدين.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:45 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
نظرة تأمل 1

العنكبوت:

وقد وهبه الخالق أن ينسج شبكته بمهارة فائقة لاصطياد الفريسة، وكلما حاولت الفريسة تحرير نفسها ازدادت التصاقًا بخيوط الشبكة، ويبلغ قطر خيط العنكبوت واحد من الألف من الملليمتر، حتى أن 320 جم من هذا الخيط تكفي لإحاطة العالم كله، وهو أقوى من مثيله المصنوع من الصلب، فمن أعطى العنكبوت هذه الإمكانية لو إنه تطوُّر من حيوان سابق لا يمتلك بتاتًا هذه الإمكانية؟
نقَّار الخشب:

يستطيع أن ينقر في جذع الشجرة بسرعة كبيرة، وعمله هذا يشبه إنسانًا يضرب مسمارًا في الجدار برأسه، فكيف لا يصاب هذا الطائر بنزيف في المخ؟ لقد وضع الله في جمجمته نظام عجيب يُخفّف شدة الطرقات ويمتصها، ويوجد نحو 200 نوع من هذا الطائر، وجاء في مجلة العلم عنه " طائر نقار الخشب من الطيور ذات الطابع المميَّز بين سائر الطيور، فهو شرِه جدًا للطعام، فالنوع الأسود منه والذي يعيش في أمريكا الشمالية يمكن أن يأكل 900 يرقة من يرقات حشرة الخنافس، أو ألف نملة في وجبه واحدة، وهناك نقار أوربي أخضر يمكن أن يلتهم ما يصل إلى 2000 نملة في يوم واحد، ولكي يصل النقار إلى طعامه فإنه ينقر الخشب أكثر من 15 مرة في الثانية، وكل نقرة تستغرق 1 / 1000 من الثانية أو أقل من ذلك، وتعتبر سرعة النقر ضعف سرعة الرصاصة، وأكثر من ذلك فإن رأس نقار الخشب تتحرك بسرعة 2100 كيلومتر في الساعة، أي أنها أكثر من ضعف سرعة القذيفة " الطلقة".. ولعل المتتبع لكل هذه الحركات الفجائية السريعة لرأس النقار يُدهش من عدم تعرض هذه الرأس للكسر، ولكن الباحثين أثبتوا أن جمجمة هذا الطائر مقواة ومسلَّحة بإطار عظمي شديد.. كما إن المنقار والمخ مبطنان ولهما وسائد وقائية تمتص كل هذه الصدمات.. وكم في جعبة الحياة من أسرار وغرائب وعجائب وسبحان الله!!" (1).
الأسماك الكهربائية:

تستطيع هذه الأسماك أن تدافع عن نفسها، بإصدار تيار كهربائي عالٍ يُقدَّر بخمسمائة فولت، وأيضًا تحدد اتجاهاتها في الأعماق عن طريق إصدار إشارات كهربائية تصطدم بالأجسام الصلبة ثم ترتد، والأمر العجيب أنه عند استهلاك هذه الشحنة تستطيع هذه الأسماك أن تستعيدها كما يعاد شحن البطارية (راجع هارون يحيى - خديعة التطوُّر ص 192) وجاء في مجلة العلم عن هذه الأسماك المكهربة " تعيش في مياه نهري الأمازون وأورينكو بأمريكا الجنوبية نوع من السمك " الحنكليس المكهرَّب " وهما المكانان الوحيدان في العالم اللذان يعيش فيهما هذا النوع الرهيب، ويستطيع هذا الحنكليس الثعباني أن يُولّد تلقائيًا تيارًا كهربائيًا يعادل قوته 600 فولت بلمسة واحدة. أما الصدمة المشتركة التي تصدر عن حنكليسين مُكهربين فهي كافية لقتل إنسان" (2).
الطفل:

نظرة إلى الطفل الوليد تخبرنا بقصة الخلق العجيب، ويقول الدكتور " لويس ايفانز".. " في جسم الإنسان 250 عظمة تتحرك بدقة بواسطة مئات العضلات، وفي عينيه وحدها 400 مليون مخروط صغير، و300 مليون من الألياف، و500 ألف عصب صغير، وكلها تتحرك بدقة وبدون ألم، وهناك ملايين الأفران الصغيرة في الجسم (الخلايا) تحرق الغذاء لتوليد الطاقة، وعدد كبير من المؤكسدات الصغيرة، كما نجد أن الكرات البيضاء التي تضحي بنفسها في حربها ضد الأمراض، والرئتين اللتين تعملان على تنقية الدم، والقلب الأمين طول العمر، فهو يدفع 280 ألف طن من الدم سنويًا، ليصل إلى أجزاء الجسم المختلفة، حقًا إن الله وحده هو الذي يستطيع أن يصنع هذا كله" (السيد الذي ينشده الشباب ص 44، 50) (3).
وعندما نجح " كلود م. هاناواي " في تصميم المخ الإلكتروني بعد عناء شديد قال " فإذا كان هذا الجهاز (الذي اخترعه) يحتاج إلى تصميم، أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيميائي البيولوجي الذي هو جسمي، والذي ليس بدوره إلاَّ ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون في اتساعه وإبداعه إلى مبدع يبدعه" (الله يتجلى ص 92) (4).
لغة التخاطب:

حقًا إن الذي يدرس لغة التخاطب والتواصل في المملكة الحيوانية يجد عجبًا، فهناك طرق ووسائل مختلفة للتخاطب قد تكون مسموعة، أو مرئيَّة، أو حسية (كيميائية) عن طريق الشم والتذوق، ونعرض باختصار شديد لهذه الوسائل:
1- وسائل الاتصال المسموعة: وتعتمد أساسًا على الأصوات التي تصدرها الحيوانات مثل نباح الكلاب، وخوار البقر، ونقيق الضفادع، وزقزقة العصافير، وكركرة الرومي.. إلخ. وقد تُعبّر هذه الأصوات عن الخوف، أو التحذير، أو فرض السيادة والقوة، أو الغَزَل، حتى إن أحد العلماء استطاع أن يعيش وسط مجموعة من الذئاب ويتفهم لغتهم، فاستطاع أن يفرض سطوته عليهم. ووسائل الاتصال المسموعة يؤخذ عليها أنها محدودة بالمسافة التي ينتشر فيها الصوت، كما إنها قد تنبه الأعداء.
2- وسائل الاتصال المرئيَّة: وتعتمد أساسًا على الإشارات مثل تحريك الذيل، أو خفض الرأس، أو إغماض العينين، أو تحريك الشعر، أو نبش الأرض، أو تحريك الزعانف.. إلخ،فمثلًا تستطيع النحلة أن ترشد المجموعة التي تعيش معها في نفس الخلية إلى مكان الرحيق ومدى بعده، وذلك عن طريق الرقص، فعندما ترقص في دائرة فإنها تخبرهم بأن مكان رحيق الأزهار قريب من المنطقة، أما إذا رقصت رقصة الاهتزاز فإنها تخبرهن بأن مكان الرحيق بعيد، والحركة التي يبديها الكلب تعبر عن حالته إذا كان فرحًا، أو خائفًا، أو يقدم اعتذارًا، أو يستعد للهجوم، أو يرشد إلى أمر ما.. إلخ.
3- وسائل الاتصال الحسية: ويعتمد أساسًا على الإفرازات مثل الروائح أو البول، فمثلًا كل نملة تحمل رائحة خاصة تدل على العش الذي تنتمي إليه، حتى أنها لو دخلت عشًا آخر لا تجد ترحيبًا، بل تُطرد كعدوة تقتحم بيتًا لا يخصها، والنملة الميتة تحمل رائحة مميزة، فتحملها المجموعة إلى خارج العش، حتى إن أحد العلماء استطاع أن ينقل رائحة نملة ميتة إلى أخرى حية، فما كان من المجموعة إلاَّ أن حملتها خارج العش رغم أنها حية وتتحرك، وتكرَّر هذا الموقف، وعندما أزال هذا العالِم رائحة الموت هذه، استطاعت النملة أن تجد لها مأوى في عشها وقبولًا بين أخواتها.
والرائحة الصادرة من القندس وهو أحد القوارض تحدد منطقة نفوذه، فيقوم القندس بخلط بعض الطين مع نشارة خشب ويفرز عليها مادة كيماوية من غدة تقع تحت الذيل، ووجد العلماء أن هذه المادة تتركب من 45 مادة كيميائية، ويعمل القندس أقراصًا من هذه الخلطة ينشرها في المساحة التي يفرض نفوذه عليها، ويفرز الأرنب الأمريكي القطني الذيل سائلًا عديم الرائحة من غدد في الذقن، وبهذا السائل يحدد منطقة نفوذه التي تصل إلى 8000 متر مربع. أما الأرنب ذو الحذاء الثلجي فإنه يفرض سطوته على مساحة تُقدر بنحو 72 ألف متر مربع، وتُبلّل الدببة الطين بالبول وتخلط به بعض شعيرات من جسمها، وتلصق الخليط على جذوع الأشجار في المساحة التي تريد أن تفرض نفوذها عليها.
وهناك أمور تثير الدهشة أكثر من هذا، فمثلًا قد يترك أحد الكلاب رسالة إلى كلب آخر عن طريق البول، فيقراءها هذا الكلب الآخر ويرد عليها، فمثلًا إذا نبش الأرض بعنف فمعنى هذا أن الرسالة تحمل نوعًا من التحدي، وإذا أخذ ينبح فإن الرسالة تحمل نوعًا من الغَزَل، وبهذا النباح ينادي الطرف الآخر، وإذا لم يبدي الكلب اهتماما فإنها رسالة إلى صديق لا يعيره اهتماما، وقد يتبول الكلب الذي تلقى الرسالة على رسالة البول التي أُرسلت إليه وكأنه يترك بصمته بتسلم الرسالة، ووجد أحد العلماء أن أحد كلاب الصيد السلوقي التي تتلقى تدريبًا عاليًا، وعلى مستو عالٍ من الكفاءة، تتصرف تصرفًا غير مُهذب، إذ تتبول في أرجاء المنزل على السجاد والأثاث، وعندما تمعن الأمر، وجد في البيت ببغاء يُقلّد نباح الكلاب، فظن كلب الصيد أن هناك عدوًا يتحداه، وعلى الرغم أنه لا يراه لكنه راح يترك له رسائل تحدي في كل مكان عن طريق التبول (راجع دكتورة أمينة درويش - كلية التربية - جامعة الإسكندرية - علم سلوك الحيوان ص 88 - 96).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:46 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ذئب شيوعي تصطاده الحملان 2

تابع: ذئب شيوعي تصطاده الحملان (2):
هذه قصة حقيقية لذئب شيوعي لم يحتمل وداعة الحملان، فصار حملًا مثلهم.. قُتل والد " سيرجي كورداكوف " وماتت أمه كمدًا، أما هو فقد تربى في ملجأ تربية قاسية للغاية، فكان التأديب لأي مخالفة الضرب المُبرح، حتى لو كانت هذه المخالفة مجرد القراءة من تحت الغطاء في وقت النوم ظهرًا، كما حدث مع " سيرجي " الذي كاد يفارق الحياة على يد " العم نيشي"، وشبَّ " سيرجي " وألتحق بالكلية البحرية، وبسبب غيرته غير المعقولة على الشيوعية أُختير من قِبل جهاز المخابرات الروسية لتكوين فرقة تأديب للذين يعبدون الله، وأغروه بالمال الوفير إذ يتقاضى 25 روبلًا عن كل عملية قبض على المؤمنين، واختار لهذه المهمة من زملائه الطلبة العتاولة أرباب الملاكمة والجودو والكراتيه.

ويحكي " سيرجي " عن إحدى عملياته السرية، فيقول لقد وصلت لهم الأخبار بأنه على شاطئ نهر قرية " اليزوفو " أسفل الجبل، وفي ذلك المكان المنعزل سيجتمع المؤمنون لتعميد بعض الأشخاص، فاصطحب معه بعض أفراد التنظيم بحجة التنزه، وزودهم الرفيق ديمتري في الأكاديمية بالفودكا والكافيار والمأكولات، وحملوا معهم المطارق التي تحطم العظام والتي صُنعت خصيصًا للمخابرات السوفيتية في تشيكوسلوفاكيا، وأيضًا الهراوات، وحمل أحدهم جيتارًا، وعندما وصلت بهم السيارة للمكان المنشود قبل وصول المؤمنين إلى هناك، أخفى قائد السيارة " فيكتور " السيارة التي أقلتهم في وادي ضيق وسط غابة كثيفة الأشجار، وأفترشوا الأرض يأكلون الكافيار ويشربون الفودكا بينما عائلات المؤمنين وسجنائهم لا يجدون الخبز الجاف، وأخذت أنغام الجيتار تُسمع في المكان، فصاروا نصف سكارى بينما أقبل المؤمنون، وكان بينهم سبعة شباب يرتدي كل منهم روبًا أبيض استعداد لتلقي العماد المقدَّس، وكان الكاهن يُدعى " فاسيلي ليتوفشينكو" في نحو الثامنة والثلاثين من عمره، وعندما بدأ المؤمنون صلواتهم، وبدأ الكاهن في عماد الشباب، أصدر سيرجي أوامره لرجاله، ويقول "سيرجي": "هجمنا عليهم واستخدمنا كل أساليب العنف مع هؤلاء العُزَّل وتعالى الصراخ واستخدمنا المطارق لضرب كل من يحاول الهرب وبدأ الدم يسيل على ثياب السيدات والفتيات، وقام أحد رجالي بتتبع الكاهن وتركته وهو يضربه على رأسه لأنه حاول الهرب (حتى لقى حتفه). وجمعنا كل المجموعة، واضطر رجالي أن يجعلن الفتيات اللاتي لم يكن يرتدين إلاَّ الروب فقط، اضطروهن أن ينزعن عنهن تلك الثياب التي امتلأت بالدماء، وتركوا أربع من الفتيات عرايا، وقيدوا الرجال، وأخذوا المجموعة وهي تصرخ، فاضطرنا أن نضع في فم كل واحد منهم حفنة من التراب لنسكتهم، وكانت العجائز تصلين في سرهن بعد أن توقفن عن الصراخ الذي كن يقلن فيه يا رب ساعدنا، يا رب لا تتركنا. وهكذا اقتدناهم معنا في السيارة إلى الرفيق ديمتري.. وفي الطريق تم شُرب بقية الفودكا، وكان رجالي يشربون السجائر ويحرقون بها أجساد الفتيات العرايا، وقام أحد أفراد مجموعتنا ويُدعى فلاديمير بملاطفة ومغازلة إحدى السيدات في عمر السادسة والعشرين، فصفعته السيدة بشدة على وجهه صفعة جعلته مثار سخرية من كل زملائه، فهو بطل الملاكمة في مقاطعة " كمتشكا " فكيف تصفعه امرأة مسيحية؟!
بالطبع إقتدنا هذه المجموعة ودخلنا بها المدينة في وضح النهار ورآها كل الناس، ورأوا الفتيات عرايا، فهاج " ديمتري " جدًا وقال: ألم أقل لكم مرارًا أفعلوا ما يحلو لكم ولكن ليس علانية. أتريدون أن تقلبوا الناس ضد البوليس، وأصدر أوامره بأن يضعوا المجموعة في الحبس مع السكيرين والقتلة، وكانت هذه ليلة مرعبة للفتيات العرايا وسط الوحوش الأدمية (ثم يستكمل سيرجي ما يخص هذه العملية) فيقول: علمت في الغد أن العينة التي تم أخذها من الكاهن " فاسيلي " قد حدّدت سبب الوفاة بنزيف في المخ من ضربة شديدة على الجمجمة فكسرتها، وتضايقت لأن هذه أول مرة أختبر مثل هذا الموضوع، ولاحظ " ديمتري " عليَّ هذا، فقال لي: لا تتضايق ولا تنزعج، فهذا الرجل كان مطلوبًا القبض عليه، ولا تنسى أنه من أعداء الوطن.. وقد هدأت هذه الكلمات خاطري. لقد كنت أظن أن هذا الكاهن النحيف شخصية لا يعتد بها، ولكن علمت فيما بعد أنه ذو شخصية قوية وتأثير روحي هائل، وقد تعذَّب مرات كثيرة بسبب إيمانه وكان شجاعًا جدًا لا يخاف من أي أحد على الإطلاق" (1).
وكلف " ديمتري " سيرجي بأن يُبلغ زوجة الكاهن خبر موت زوجها برواية ملفقة، فكان وقع الصدمة شديدًا على تلك المرأة الجميلة التي تبلغ من العمر الخامسة والثلاثين، حتى أنها أُصيبت بالشلل التام في كل أعضاء جسمها. وتم إبلاغ ابنه البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا وهو يؤدي الخدمة العسكرية، وتم تفتيش منزل الراعي، فعثر على كتاب تراتيل وكتاب مقدَّس قديم جدًا، وكانت تلك الكتب ممنوعة منعًا باتًا، فلا يطيق شيطان الشيوعية أن يعاين كلمات الحق المدوَّنة في الإنجيل، فكانت خطته القضاء التام الكامل على كل ما يسمى إنجيل أو كتاب مقدَّس في البلاد الشيوعية. أما الأمر الذي يدعو للدهشة أن المؤمنين كانوا يعرفون الجواسيس الذين يندسون وسطهم ويبلغون أخبارهم للجهات المسئولة، ومع ذلك كانوا يتركونهم لعلهم يربحونهم للإيمان، وكانت مثل هذه الغارات التي يقوم بها سرجي تتكرر نحو ثلاث مرات أسبوعيًا، والمحاكم تتستر على الجرائم.
وفي إحدى المرات تفتق ذهن المؤمنين لإقامة صلواتهم في المدافن في أول مايو سنة 1970م حيث يزور الكثيرون المدافن، فتجمع نحو مائتي شخص من المؤمنين وأخذوا يرددون الترانيم الدينية، وبدأت المقابر تزحم، فمن يأتي لا ينصرف، والبوليس يقف عاجزًا من التصدي لهم جهارًا، فأخبر " ديمتري " سيرجي ليسرع إلى المدافن وفي صحبته فرقة موسيقية عسكرية، ووصل سرجي سريعًا، وأفسدت موسيقى الإلحاد تلك الترانيم الخالدة، وملأت الكون ضجيجًا، فانصرف المؤمنون، ولكن جميعهم قد تم تصويرهم ثم تعقبهم بعد هذا، فقد حطموا قوانين الإلحاد وعليهم أن يتحملوا عقوبة هذا.
الإنجيل أم الحياة:

يحكي سرجي عن إحدى غزواته مع أفراد عصابته الذي يُدعى بالتنظيم أنه بعد أن تم مهاجمة منزل إجتمع فيه أثنى عشر شخصًا، لمح في يد أحدهم إنجيلًا يحاول أن يخبئه، ولكن سرجي أنقض عليه وقبض على الإنجيل المتهم وأخذ يمزقه بقسوة ويُلقي به على الأرض. أما الشخص الذي كان بحوذته الإنجيل والبالغ من العمر الخامسة والستين عامًا فلم يكف عن التوسل لسرجي أن يكف عن هذا، فسدَّد له لكمة قوية أسالت الدم من وجهه غزيرًا، وأعقبها بلكمة أخرى، فسقط الرجل فاقد الوعي، وسيرجي يتعجب من هذا الرجل ذو الإرادة الحديدية، والذي يفضل الإنجيل عن الحياة. ولكيما تقنع روسيا العالم بأنها ليست ضد الحرية الدينية قامت بطبع عشرة آلاف نسخة من الإنجيل، تم إرسال نصفها للمتكلمين بالروسية خارج البلاد، والذين يتاح لهم الإنجيل بكل سهولة، وأرسلوا ثلاثة آلاف لدول شرق أوربا، وأُرسل الألفين الباقين إلى مركز مقاومة الدين. أما عن قصة الفتاة الرائعة الجمال المعترفة الجريئة ناتاشا.. (يتبع - الباب الثالث).
ما أكثر الرجال الذين زرعوا بذار الإلحاد.. مئات مئات وألوف ألوف، من مفكرين وفلاسفة وساسة ورؤساء وزعماء وحكام ومربيّن، وأجهزة تشريعية وتنفيذية، ومؤسسات مدنية.. إلخ. ولضيق المجال دعنا يا صديقي نُلقي الضوء قليلًا على عشر شخصيات فقط من الذين كان لهم باعًا كبيرًا في إرساء مبادئ الإلحاد وهم:
  1. كارل ماركس (1818-1883م.)
  2. لينين (1870-1924م.)
  3. ستالين (1879-1953م.)
  4. هولباخ (1723-1789م.)
  5. جورج هيجل (1770-1831م.)
  6. آرثر شوبنهَور (1788-1860م.)
  7. فريدريك نيتشه (1844-1900م.)
  8. آدولف هتلر (1889-1945م.)
  9. ماوتسي تونج (1893-1876م.)
  10. برتراند راسل (1872-1970م.)
  11. جان بول سارتر (1905-1980م.)

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:49 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
كارل ماركس (1818-1883م.)

س10: كيف تأثر كارل ماركس بجذوره اليهودية، والفيلسوف اليهودي "موسى هس"، و"فويرباخ"، و"داروين"، ففقد إيمانه، ولم يخفي إلحاده؟

ج: وُلِد " كارل ماركس " سنة 1818م من أبوين يهوديين في مقاطعة الراين ألمانيا، وعاش في أسرة فقيرة مُعدمة تعاني مثل غيرها من سخرة الأقطاعيين والرأسماليين. كما عانت الأسرة من الاضطهاد الواقع على اليهود والازدراء بهم وتحقيرهم من قِبل الشعب الألماني، وذلك بسبب الصراع بين السامية (اليهود أبناء سام) والآرية (الجنس الألماني) ولذلك اعتنقت هذه الأسرة المسيحية بينما كان كارل في السادسة من عمره، وطبعًا لم يكن هذا محبةً في المسيحية، إنما كان هروبًا من الاضطهاد الواقع على اليهود، وعاش ماركس في ظروف صعبة يعاني من شظف العيش، وظل هكذا حتى أنه في ديسمبر 1852م كتب إلى صديقه " كلوس " يقول له " أنني لست أفضل حالًا من سجين في بيته. ذلك لأنني لا أمتلك البنطلون الذي يستر ساقيَّ، ولا الحذاء الذي يكسو قدميَّ. وأسرتي على شفا الإفلاس والفاقة" (1).
والأمر العجيب أن ماركس كتب في فجر حياته كتابًا باسم " إتحاد المؤمن بالمسيح " قال فيه " أن الإتحاد بالمسيح يعطينا السمو في الباطن، والتعزية في الأحزان، والثقة الهادئة، وتفتح القلب نحو أخوتنا، وكل ما هو سامٍ ونبيل لأجل مطامعنا وأمجادنا، بل من أجل المسيح" (2) وكتب في أحد كتبه " أن الله قد أعطى لبني البشر هدفًا مجيدًا مباركًا: الرقي بالإنسانية والسمو بالنفس" (3) وقال أيضًا في كتابه "رأس المال": "بالنسبة لمجتمع نظيرنا، أعتقد أن المسيحية بعقيدتها عن الإنسان المجرد هي أنسب صورة للديانات جمعاء" (4) ولكن ماركس ظن أن الله يعيش في برج مشيَّد عالٍ لا يبالي بالفقراء المطحونين، وعندما التقى بالفيلسوف اليهودي "موسى هس" أفسد ذهنه، وسقاه السم في العسل، وأطعمه السم في الدسم، وزرع في قلبه كراهية الله والدين، حتى قال كارل ماركس " أن المبادئ المسيحية تبشر بضرورة وجود طبقة مسيطرة وطبقات مظلومة، وتكتفي بالتميُّز للقوي، بأن تكون الأولى محسنة للثانية. إن المبادئ الاجتماعية المسيحية تجعل من السماء التعويض من كل المخازي، وتبرر بذلك إستبقاؤهم على الأرض" (5).
التحق ماركس بجامعة برلين، وقرأ مؤلفات "جورج هيجل" صاحب الفلسفة المثالية الألمانية، الذي جعل الدول أولًا ثم الفرد ثانية، فقد أراد هيجل أن تكون الدولة متألّهة بينما الشعب هزيلًا بلا كرامة ولا سيادة، مما دعى ماركس لمهاجمة فلسفة هيجل، ويقول "بولس سلامة": "وكأن ماركس يقول لهيجل، أما إذا شئت الحرية فأعمد إلى الإنسان الواقعي المركَّب من لحم ودم، الذي يجوع ويعطش ويهوى ويتناسل ويخترع ويفكر وأفتح له باب الحرية قائلًا {تحرَّر أيها الإنسان، فليس الدين وحيًّا إلهيًّا، إنما أنت سيَّجت به على نفسك.. وليست الملكية الخاصة هدية منزَّلة من السماء، بل صنع يديك وسبب بلائك} بمثل هذه الضربات قوض ماركس الديالكتيكية المثالية" (6) وأيضًا تأثر كارل ماركس بأفكار " لودفيج فويرباخ" (1804-1872م) وهو من أتباع اليسار الهيجلي، وقال أن الله من صنع الإنسان، أي أن الإنسان هو الذي أبتدع فكرة الله، فالتقط ماركس هذه الفكرة وبنى عليها، وقال ما دام الإنسان هو الذي أبتدع فكرة وجود الله، إذًا جميع الأنظمة الدينية والاجتماعية هي من وضع الإنسان، وبالتالي فالإنسان يستطيع أن يُبدّلها ويزيد عليها أو ينتقص منها، وهكذا ألقى فويرباخ بذور الإلحاد، وجاء ماركس ليرويها ويقطف ثمارها المرة، وهكذا ارتبط كارل ماركس ارتباطا وثيقًا بهذا الفيلسوف المُلحد.

كما استهوت ماركس " نظرية التطور " التي تُنكر الله الخالق، ووجد ضالته المنشودة في كتاب " أصل الأنواع " لداروين حيث الصراع على الحياة والبقاء للأفضل، فأنكر ماركس الوحي الإلهي والأمور الميتافيزيقية من خلود وحياة أبدية، وأعتقد أن العقائد الدينية هي وليدة العقل وليس الوحي، وشيئًا فشيئًا لم يخفِ ماركس إلحاده وازدرائه بالدين، واعتقاده أن الدين يُغيّب الشعوب عن الواقع، وقال مقولته الشهيرة أن " الدين هو أفيون الشعوب " وعندما أصدر كتابه الشهير " رأس المال " أهداه إلى " داروين " قائلًا " من محب مخلص لداروين " وأعتبر " بليخانوف " مؤسس الشيوعية الروسية أن الماركسية تعد التطبيق العملي للدروانية، التي تنادي بالبقاء للأصلح، ويقول "الدكتور كمال شرقاوي": "لقد عرف ماركس ولينين ما في افتراضات داروين من اتجاه نحو المادية والإلحاد، ولم يكن ثمة حد لإعجابهما بداروين وأفكاره، فشيَّدوا متحفًا في قلب موسكو للداروينية وتمجيد داروين، ولكي تكون الخطة مُحكمة لانطلاق الماركسية على أساس نظرية داروين.، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. فقد خطط ماركس ولينين لاستخدام هكسلي في ترويج أفكار نظرية داورين، وكان (هكسلي) في ذلك مستميتًا.. من هنا كانت أفكار داروين عونًا ومددًا لترسيخ المادية والإلحاد في المواجهة التي كانت دائرة بين العلم والدين" (7).
س11: كيف تأثر ماركس بالحلم اليهودي في فردوس أرضي؟ وكيف قاده هذا إلى صراع الطبقات، وفقدان السعادة؟

ج: عاش ماركس مهمومًا جدًا برغيف العيش ومشكلات المجتمع، والحلم الذي عاشه اليهود أجداده بمجيء المسيا صاحب الفردوس الأرضي والسيطرة على العالم، هذا الحلم عاش في قلب ماركس، فصار يحلم بفردوس أرضي يتحقق على أيدي العمال المطحونين المقهورين، وعندما أنشأ جريدة ثورية في مدينة كولوني تعرضت للمصادرة، وعندما لم يسمح لماركس بالإقامة في ألمانيا هجرها، ففي عام 1843م سافر إلى فرنسا لدراسة المذهب الاشتراكي، وفي عام 1848م شارك ماركس في أحداث الثورة التي اندلعت في فرنسا وألمانيا، وعندما لجأ إلى إنجلترا، عاش حياة البؤس والفقر والمرض، ومع ذلك لم يكف عن الكتابة بمكتبة المتحف البريطاني، وهو يعيش على حلم اندلاع الثورة الاجتماعية التي كرس لها حياته. وعندما التقى ماركس بصديق عمره " فريدريك إنجلز " الذي كان يشغل مديرًا لبعض مصانع مانشستر مدَّ له إنجلز يد العون وأنقذه من الفاقة وتعاطف معه، ولاسيما أن " إنجلز " كان قد زار المناطق الصناعية في مانشستر، وتطلع إلى مئات الألوف من العمال الذين يعيشون في أسوأ حالاتهم، فيسكنون في منازل ضيقة ومهدَّمة وقذرة، لا يحصلون حتى على الهواء النقي، فالهواء مشبَّع بالرطوبة وذرات الفحم، وحتى النساء يعملنَ وهن نصف عرايا ويُعاملنَ كمعاملة الدواب، والأطفال يكدون في العمل فيدخلون إلى المناجم لفتح وإغلاق فتحات التهوية البدائية، ويقومون بأعمال شاقة لا تتناسب مع عمرهم على الإطلاق مما يؤدي لارتفاع نسبة الوفيات فيهم إلى درجة كبيرة، والعمال لا يتقاضون إلاَّ أجرًا زهيدًا لا يكفيهم قوتهم اليومي مما ترك أثرًا سيئًا للغاية في نفس إنجلز، وزاد تعاطفه مع كارل ماركس (راجع فريدريك إنجلز - ترجمة ماهر نسيم - الماركسية ص 105).

وفي سنة 1849م قام " كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز " بإصدار النداء المعروف باسم "المانيفتسو الشيوعي" وذيلاه بعبارة " يا عمال العالم أتحدوا " وانتقدا في هذا النداء النظام السائد بشدة، وعرضا لحالة الفقر والقهر التي يعيشها العمال في كل مكان، ومن هنا بدأت الأفكار الشيوعية تنتشر على أنها نصيرة العمال المطحونين، وقسم ماركس المجتمعات إلى طبقة العمال الكادحة (البروليتاربا) وطبقة أصحاب العمل والإنتاج (البورجوازية) وأتهم البورجوازية بالطغيان، وحفز طبقة البروليتاريا على السعي نحو المجتمع المثالي الذي يتساوى فيه الجميع، وتصير وسائل الإنتاج ملكًا للجميع، وتنتهي الملكية الفردية والنظام الملكي، وصوَّر ماركس المجتمع المثالي الذي يسعى إليه، بأنه مجتمع يرتفع فيه مستوى المعيشة، ويعيش الكل متحررين من البطالة والفقر والجهل، وتختفي الرغبات الأنانية وتتحول إلى مشاعر جماعية، ونادى ماركس بالاشتراكية، وفي سنة 1867 م. أصدر أهم كتبه وهو "رأس المال" حيث تعرض للنظام الرأسمالي الذي يجبر العمال وخاصة النساء والأطفال على العمل لمدة 12 ساعة يومًا، وهكذا استطاع ماركس أن يحرك العمال هنا وهناك ليستردوا حقوقهم الضائعة ويلتمسوا مستقبلًا أفضل، وظل ماركس يكيل اللطمات للنظام الرأسمالي الذي شاخ وهرم، وبذلك أرسى مبدأ صراع الطبقات.
وكان "ماركس" قد تزوج، وظل وفيًا لزوجته، ولكن في ظل الصراع الذي عاش فيه، بعيدًا عن الله، لم يذق طعم السعادة، وهذا ما نراه في قصيدته " نافخ المزمار " حيث يقول "أن أبخرة الجحيم تتصاعد وتلف رأسي حتى أُجن ويقسى قلبي.. أنظر إلى هذا السيف.. إنه لرئيس سلطان الظلمة وقد باعه لي" (8) وفي قصيدته " أولانيم " يقول "لقد إنتهيتُ.. خربتُ.. ضعفتُ.. وموعدي إلى الانتهاء. ها ساعتي وقت نهايتها.. ومسكني قد تهاوى إلى حطام سريع.. سوف أحتضن الأبدية إلى صدري. وأزمجر باللعنات الرهيبة: أيتها الأبدية أنت مصدر رعبنا الأبدي، أنت الموت الذي لا يوصف.. الهلاك الذي لا يُقاس.. ونحن إلاَّ ساعات آلية عمياء.. لا هدف لنا إلاَّ الانتماء للأحداث ثم الهلاك" (9).
وإن كانت مثالية النظام الأرستقراطي قد أهملت رغيف العيش وقهرت العمال، فإن الماركسية اهتمت برغيف العيش، ولكنها دمرت علاقة الإنسان مع الله، ويقول "بولس سلامة": "لقد أخطأت المثالية فجاوزت حدها وأهملت الرغيف، وكذلك الماركسية فأخذت الرغيف وتركت الله نكاية بالمثالية، وأذابت الإنسان في الاشتراكية. لقد زعم هيجل أن الفكرة أو المثال هي القمة، وحسبت الماركسية أن الاشتراكية هي القمة.. الحقيقة هي الوسط، فلو كان الإنسان ملاكًا لاستغنى عن الرغيف، ولو كان حيوانًا لاكتفى بالرغيف، ولكنه إنسان رجله في التراب ورأسه في السحاب"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:54 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ستالين (1879-1953م.)

س14: كيف قضى " جوزيف فيساري " طفولته؟ وكيف نفخ في نيران الإضرابات العمالية؟

ج: وُلِد " جوزيف فيساري نوفتش دجوغا شفيلي" (ستالين) في أسرة متواضعة فوالده كان يعمل إسكافي، وكان سكيرًا، وكان يعامل ابنه " جوزيف " بقسوة ويضربه ضربًا عنيفًا، وأمه " إيكاترينا " كانت تعمل في البيوت لتعول الأسرة، وأحيانًا كانت تسرف في حب ابنها " جوزيف " ولاسيما بسبب معاملة والده القاسية له، وأحيانًا كانت تضربه ضربًا مبرحًا، وعندما سألها فيما بعد: لماذا كانت تضربه كثيرًا؟ أجابته بأن الضرب لم يسبب له أي أذى، ولكنه في الحقيقة قد تأذى نفسيًا حتى أنه كره والدته، وخلال نحو 30 عامًا فيما بعد وعندما صار رئيسًا لم يلتقي بها سوى ثلاث مرات، ورفض دعوتها إلى الكرملين. بل أنه غيَّر اسمه من " جوزيف " إلى " ستالين " أي " الرجل الفولازي". كما قيل أن " لينين " هو الذي دعاه بهذا الاسم، لأنه كان ضمن مجموعة ثورية تحاول اغتيال أحد الرجال الموالين للقيصر الروسي، وكان " جوزيف " متنكرًا في ذي عامل، وكان يعمل مع بقية العمال في حديقة القصر، وعندما أبصر هذا الشخص، ألقى عليه قنبلة يدوية، وراح يكمل عمله وكأن شيئًا لم يحدث.

وفي سن الحادية عشرة أرسلته أمه إلى المدرسة الملحقة بدير أرثوذكسي في " تبيليس"، وتعلم القراءة من خلال الكتاب المقدَّس كما أعلن خرشتوف فيما بعد، وكم حزنت أمه لأنه لم يلتحق بالرهبنة، حتى بعد أن صار رئيسًا لروسيا، ولم تكن تدري كم من الجرائم سيرتكبها هذا الابن الجاحد، وكم سيناصب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية العداء، فيحرق الأيقونات، ويهدم الكنائس.. ويفعل كل ما يحلو له.
وقد عُرف ستالين بذكائه الحاد وذاكرته الخارقة، فكان متفوقًا في دراسته، كما أنه تميَّز عن أترابه بنهمه الشديد للإطلاع، وعندما كان في الخامسة عشرة من عمره اتصل بالحركات الماركسية السرية وفي الواحدة والعشرين ألقى خطابًا حماسيًا على مئات العمال في اجتماع سري، مما نتج عنه إنفجار موجة من الإضرابات العمالية، وفي سنة 1901م قام ستالين بتوزيع صحيفة " إيسكرا " أي الشرارة، والتي كان يصدرها " لينين" وهو في الخارج، ونظم مظاهرة ضمت أكثر من ألف عامل، وفي السنة التالية 1902م تظاهر ستة آلاف عامل في مدينة " باتوم " الصناعية، بفضل الحلقات السرية التي كان ينظمها ستالين، وقتل البوليس في هذه المظاهرة خمسة عشر شخصًا وأعتقل خمسمائة عامل، ثم أُعتقل " ستالين " وحُكم عليه بثلاث سنين في سيبيريا، ولكنه استطاع الهرب والعودة إلى تبليس في شهر فبراير 1904م، وأخذ يجاهد للقضاء على القيصرية في روسيا، ثم تعرَّض بعد هذا للإعتقال عدة مرات، والنفي، ولكنه استطاع العودة إلى بطرسبرج سنة 1912م وأصدر جريدته " البرافدا"، ولكن " لينين " وهو في النفي استدعاه وأرسله إلى فيينا ليتفرغ لكتابه مؤلفه " الماركسية والمسألة القومية " وقد أشاد لينين بهذا المؤَلَّف، وعندما اندلعت ثورة أكتوبر الاشتراكية سنة 1917م كان " ستالين " أحد أعضاء المركز العسكري الثوري، وطوال فترة الحرب الأهلية كان " ستالين " يقود النضال المسلح، فكان في نظر " لينين " أنه صاحب المهمات الصعبة، وعندما أُصيب " لينين " بالشلل في يده ورجله اليمنتين وحُظر عليه أي إزعاج أو نشاط سياسي، كان ستالين هناك يسهر على راحته وصحته (راجع مقال د. إبراهيم زعير (صوت الشعب) من شبكة الإنترنت).
س15: ما هي محاولات ستالين للإنفراد بالحكم، والقضاء على المسيحية، وإعدام آلاف القسوس، وإغلاق الكنائس؟

ج: بعد موت " لينين " سنة 1924م تألفت الحكومة من الثلاثي ستالين، وكامينيف، وزينوفيف، ولكن ستالين تغلَّب على كامينيف وزينوفيف، وعمل على إبادة كل المعارضين له بالداخل، وحتى رفيق دربه " تروتسكي " الذي كان منفيًا في المكسيك أرسل " ستالين " من يغتاله سنة 1940م. لقد نجح " ستالين " في أن يخلّف لينين، وأحكم قبضته الحديدية على روسيا، وقام بتأميم كل ممتلكات الطبقة المتوسطة، وكان المندبون من الجيش الأحمر يصادرون الأملاك بالكامل، ويتركون تلك الأسر لتعاني الموت جوعًا، وكانت هذه أول مجاعة مُتعَمدة في العالم مات فيها ملايين البشر.

واستخدم " ستالين " أقسى أساليب العنف ضد الهيئات الدينية والمؤمنين، والمثقفين، والفنانين، والمعارضين فرجال الكهنوت حُرموا من البطاقات التموينية، ومُنعوا من الأعمال، وحُرم أبناؤهم من الالتحاق بالمدارس أو أُخذوا بعيدًا عنهم إلى الملاجئ، وأُلغيت كافة الاحتفالات الدينية، وخلال الفترة من سنة 1929م وحتى نشوب الحرب العالمية الثانية أُعدم آلاف القسس، وأُرسل الآلاف إلى معسكر السخرة، وتحوَّلت الكنائس إلى مخازن أو مدارس أو مسارح، وفي سبتمبر 1932م نشرت جريدة "الحارس" الروسية أنه بناء على خطة السنوات الإلحادية فسوف تنتهي الكنائس في مدة خمس سنوات، ويُمحق الدين من الوجود، ويخرس للأبد صوت الله،وفي سنة 1937م فقط تم إغلاق 1100 كنيسة أرثوذكسية، و240 كنيسة كاثوليكية، و61 كنيسة بروتستانتية، و110 مسجد، وأُعتبر المسلمون أيضًا عديمي الولاء للدولة، وصارت الشيوعية دينًا، وهو الدين الماركسي اللينيني، وترك الشيوعيون القليل من الكنائس كنوافذ للمراقبة وكان معظم رعاة هذه الكنائس من عملاء البوليس السري يتعاونون مع الشيطان ضد أبنائهم، حتى أن أحد الأساقفة الأرثوذكس علَّق على جبته " المطرقة والمنجل " رمز الشيوعية، وطلب من الكهنة أن يخاطبوه بـ"الأسقف الرفيق" بدلًا من "صاحب الغبطة" وبعض الأساقفة أخذوا يشيعون أن الشيوعية والمسيحية هما واحد في الأساس (راجع ريتشار وورمبلاند - جواب المسيحية على الإلحاد الشيوعي ص19، والعذاب الأحمر ص 14، 15). أما الرعاة الأمناء فكانوا مختفين عن الأعين.
كما استخدم " ستالين " العنف ضد الفلاحين المعارضين للمزارع الجماعية التي توسع في إنشائها حتى وصلت إلى نسبة 60% من مساحة الأرض، وقام بتصدير القمح واللبن والجبن في حين مات أكثر من مليون طفل من الجوع ويقول "رتشارد كتشام": "وقد أعترف ستالين فيما بعد بأن تطبيق نظام المزارع الجماعية، كلف الإتحاد السوفيتي من الأرواح أكثر مما كلفته الحرب العالمية الثانية" (1).
كما استخدم " ستالين " العنف أيضًا مع العمال وأجبرهم على العمل في المصانع الكبرى، وأُعتبر العامل الذي يترك العمل من نفسه " هاربًا " ويعاقب بالعمل لمدة عشر سنوات في معسكر السخرة، وما أدراك ما معسكر السخرة، فالإنسان لا يجد كفايته من الخبز، فمن تتراوح نسبة إنتاجه من 75 - 80% من المعدل المطلوب يحصل على 200 جم من الخبز، ومن يحقق نسبة 81 - 99% يحصل على 400 جم، ومن يحصل على 100% يحصل على 600 جم من الخبز يوميًا، وبينما كان نصيب الإنسان من اللحم في اليوم 22 جرام، فإن نصيب الكلب كان 250 جم، وهذه الظروف الصعبة في معسكرات السخرة رفعت نسبة الوفيات من 20 - 50%، وكان يُودع في هذه المعسكرات العمال غير المرغوب فيهم، وكان العامل يُحاسب على أي ضرر يلحق بالآلة، وفي عهد " ستالين " تمت تربية الأطفال منذ الثالثة من عمرهم على المبادئ الشيوعية، وأن الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء.
س16: هل كان ستالين مجنونًا بالسلطة؟ وكيف أدت حملات التطهير لهزيمة القوات الروسية؟


ج: عندما زاد تبرُّم الشعب وضعت الدولة دستور 1936م الذي حمل باقة رائعة من حقوق الشعب مثل حق التعليم، وحق العمل، والمساواة بين الجنسين، وحرية الصحافة والاجتماعات، وحصانة الأشخاص ومنازلهم، ولكن كل هذا وُضع من أجل تحسين صورة الشيوعية، وكانت كل هذه الحقوق هي مجرد حبر على ورق، وخلال الفترة من 1935-1939م قادت حكومة ستالين حملات التطهير البشعة، حتى وصل عدد المعتقلين بالملايين، أُعدم منهم الآلاف، وقبيل غزو هتلر لروسيا، وقد رصدت المخابرات الروسية تبرُّم قادة الجيش من الشيوعية، كانت هناك حملة تطهير شرسة في الجيش، أُعدم خلالها خمسة مارشال، وإحدى عشر نائبًا لوزير الدفاع، ومن مجلس الدفاع الأول الذي كان يضم ثمانين شخصية، أُعدم منهم 75 جنرالًا وأميرالًا، وأُعدم 90% من كل الجنرالات، و80% من كل الكولونيلات، بالإضافة إلى ثلاثين ألف ضابط آخر، ومن أجل كل هذه المذابح التي صنعها " ستالين"، فإنه عندما هاجمت القوات الألمانية الإتحاد السوفيتي، نظر الروس للألمان على أنهم محرريهم، فخرجت مظاهرات روسية ضخمة تشجع الألمان (راجع رتشارد كتشام - هذه هي الشيوعية).
وفي سنة 1939م أتفق "ستالين" مع "هتلر" على غزو "بولندا" وتقسيمها بينهم، وكان هذا من أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي سنة 1941م أنقلب " هتلر " على " ستالين " وهاجم الإتحاد السوفيتي، وعندما اجتاحت القوات الألمانية الأراضي السوفيتية لم تجد مقاومة تُذكر بسبب ما قام به " ستالين " من إعدامات لجنرالات الجيش، فدخلت القوات الألمانية القرى وحرقتها عن بكرة أبيها (ولم تعتد بمعاهدة " عدم الاعتداء " التي عقدها هتلر مع ستالين في 23 أغسطس 1939م) واضطر " ستالين " إلى بذل قصارى جهده للتصدي للقوات الألمانية إلى أن أنتصر عليها في موقعة ستالنجراد في 9 مايو 1945م، فارتفعت أسهم " ستالين " إلى السماء، وأُعتبر هو المؤسس الحقيقي للإتحاد السوفيتي، وصانع النصر على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) وذلك بالرغم من أن الإتحاد السوفيتي قد تحمل خسائر بشرية أكثر من أي بلد أخرى، وفي سنة 1947م فاز في دائرته الانتخابية بنسبة 131% بحجة أن المواطنين جاءوا من الدوائر الأخرى ومنحوه أصواتهم، وصار " ستالين " موضع تكريم القيادات السوفيتية، وطالما تغنت له وسائل الإعلام، وانتشرت كتبه في أرجاء البلاد، فلم تخلو منها مكتبة.
س17: هل استطاع ستالين أن يحقق السعادة في حياته؟ وكيف أعدُّوه مجرمًا بعد موته؟

ج: لم يعش " ستالين " سعيدًا في حياته، وكان قد تزوج مرتين، الأولى يهودية وتدعى " روزا " وقد ماتت بالسل سنة 1907م أي قبل قيام الثورة بعشر سنوات، وقيل أنه لم يكن يملك المال الكافي لعلاجها، بعد أن أنفق ماله على الحزب، وكان قد أنجب منها " ياكوف " الابن الأكبر الذي حاول الانتحار ذات مرة ونجا، ثم ألتحق بالجيش، وتعرض للأسر من القوات الألمانية، ورفض ستالين أن يميزه في تبادل الأسرى، وفي محاولته للهرب قُتل. أما زوجته الثانية (ناديا) فقد تزوجها سنة 1917م وكان عمرها 17 سنة، وكانت شيوعية متحمسة وابنة أحد زملائه المقربين، وكانت تدرس الهندسة، وأنجبت له طفلين، وأخيرًا انتحرت بالرصاص بسبب خلافاتها مع ستالين، ولاسيما بسبب تعدد علاقاته العاطفية وأُعلن أنها ماتت بسبب التهاب الصفاق.

وأيضًا كان " ستالين " يعاني من فقدان الثقة بالجميع، بعد أن قتل معظم رفاقه، وكان يتوقع الاغتيال، فخصص ثمان حجرات للنوم تُغلق جميعها بإحكام، ولا يعرف أحد في أي حجرة يبيت، ولم يكن يتذوق الطعام إلاَّ بعد أن يتذوقه الطاهي أولًا، وسمعه " خروششتوف " وهو يقول "لم تعد لي ثقة في إنسان ما" (2).
وفي أول مارس 1953م في مأدبة عشاء وبحضور وزير الداخلية السوفيتي " لافرينتي بيريا" و"خروششتوف " تدهورت حالة " ستالين " الصحية، ومات بعدها بأربعة أيام بجلطة في المخ، وحُنطت جثته، ووضعت بجوار جثة لينين، وفي الجلسة العشرين للحزب الشيوعي ندَّد خروششتوف بستالين، حتى وصفه بالسفاح الجماعي، والقاتل ليس لأعدائه فقط بل ولأصدقائه أيضًا، وبين ليلة وضحاها أنقلب المديح والتكرم لستالين إلى سب ولعنات، وشيئًا فشيئًا أصدر خروششتوف أوامره السرية بقتل كل كبار المسئولين الذي شايعوا ستالين، وأن يتم ذلك بطريقة لا تثير الشكوك لدى أحد، ويقول "بيتر أوهل " رئيس وكالة الأنباء التشيكية أن " ستالين من سنة 1924 بعد الانتصار في حرب التدخل بدأ سياسة إرهابية تخريبية لم يكن لها مبرر قط.. ويعتقدون أن ستالين خان الشعب الروسي" (3).
وبعد موت ستالين في 5 مارس 1953م الذي جمع بين الإرادة الحديدية وقسوة العنف الذي لا يرحم، حكم بعده " لافرينتي بيريا " ثم " نيكيتا خروششتوف " ثم " جورجي ماللينكوف " وقد بدأت الشيوعية في تغيير ملابسها، وتحسين مظهرها، فبدأ الإتحاد السوفيتي يغير أسلوبه وليس سياسته، وبدأ يتحدث عن التعايش السلمي، وأبدى رغبته في مساعدة الدول النامية، وأجتذب إليه بعض دول الشرق الأوسط، وفتح باب البعثات العلمية إليه، ومن خلال هذه البعثات كان ينشر فكره في العالم كله، وبدأ السياسيون السوفيت ينفتحون على العالم ويزورون الدول الغربية، ويشجعون الغربيين على زيارة أراضيهم، مع تحاشى الحديث عن المذهب الشيوعي الذي فاحت رائحته، فلم يعد أحد من الشعوب يقبله، وما حققته الشيوعية من نجاحات بسبب انتصاراتها في الحرب العالمية الثانية بدأ يضمحل، ولم تعد الشعوب تقبل التواجد السوفيتي في أراضيها إلاَّ لهدف معين، وهو تحدي الولايات المتحدة وشركائها الغربيين، أما نيكيتا خروششتوف الذي أنتقد سياسة ستالين بشدة ووصفه بأنه مجرم حرب، فاستمر في نفس السياسة حيث المحاكمات السرية ورمي المعارضين بالرصاص وقمع الحريات

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:57 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هولباخ (1723-1789م.)

س18: كيف كانت حياة هولباخ أشهر فيلسوف فرنسي مُلحد؟ وكيف كان يروّج لأفكاره عن طريق صالونه الأدبي؟

ج: وُلِد " بول هينريش ديتريش هولباخ" Holbach في عام 1723م في أسرة كاثوليكية من أصل ألماني، وكان جده ثريًا، ودرس " بول " العلوم وتعلَّم اللغة الإنجليزية، وأستقر المقام به في باريس فأصبح من رعايا فرنسا، وتزوج من أسرة من خبراء المال، وسماه المحيطون به بالبارون لأنه كان يملك ضيعة ضخمة، وفي داره كان هناك صالونه الأدبي الذي أُشتهر به جدًا، حتى أن أحد الظرفاء دعاه " مقهى أوربا " فهو لم يكن صالونًا للأدب فقط، إنما كانت تقام فيه ولائم العشاء كل يوم أحد وكل يوم خميس، حيث يستضيف نحو أثنى عشر شخصًا هم في الغالب من الذين يهاجمون المسيحية، وعندما يكون الجو لطيفًا يتمشون على ضفاف نهر السين ويتناولون عشاؤهم من الأسماك، وبلغ " صالون هولباخ " من الشهرة، أن الأجانب الذين كانوا يزورون باريس، كانوا يسعون للحصول على دعاوي للحضور، وفي هذا الصالون كان الكلام مباحًا في كل شيء وضد كل شيء، الألوهية، والخلود، والموت والحياة، والإلحاد.. إلخ. وكان عدد الحاضرين يرتفع أحيانًا إلى سبعة عشر شخصًا يفتخرون بإلحادهم.

وكانت زوجة هولباخ تعيش لزوجها فقط، فمتى فرغت من الترحيب بضيوف زوجها، وتقديم ما لذ وطاب، تجلس في ركن منعزل وتنصرف في شغل الأبرة، دون أن تشارك في المناقشات، وماتت هذه الزوجة الوفية في ريعان شبابها، وظل زوجها الذي وُصف بالبساطة والوداعة والكرم يعاني من اليأس، وبعد سنتين تزوج من أخت زوجته التي لم تقل في الإخلاص عن زوجته الأولى.
وكان البارون ينظر نظرة عداء شديدة للكنيسة، فقال أنها تسيطر على التعليم وتسد الطريق أمام المعارف العلمية، وكتب هذا في مقالتين في دائرة المعارف وهما "آباء الكنيسة" و"الحكومة الدينية". وفي سنة 1761 م. كتب "هولباخ" "المسيحية في خطر " ونسبه إلى " بولانجيه " الذي مات من سنوات، ومُنع هذا الكتاب من التداول، حتى أنه عندما ضُبط أحد الباعة المتجولين وهو يبيع الكتاب حُوكم، وحُكم عليه بالتجديف في المراكب الشراعية لمدة خمس سنوات. كما حُكم على غلام آخر أشترى الكتاب ليعيد بيعه، بنفس الحكم السابق لمدة تسع سنوات، وجاء في الكتاب العبارة التي استخدمت كثيرًا فيما بعد وهي " الدين أفيون الشعوب".
وفي سنة 1766م كتب " هولباخ " الأدب المعادي للكنيسة " قائمة القديسين" و"الوقفة المقدَّسة" و"آباء الكنيسة بغير قناع" و"القساوسة الدينية وتحطيم الجحيم " وهاجم الكنيسة بعنف، كما هاجم تحالف الملوك مع الكنيسة والذي وصفه بالشر الأساسي في فرنسا، وفي سنة 1767م أصدر "هولباخ" كتاب "اللاهوت السهل الحمل" سخر فيه كل السخرية من المبادئ اللاهوتية، وأجمل القول بأن اللاهوت هو رغبة الكنيسة في التسلط على الشعب، وفي سنة 1768م نشر " هولباخ " كتاب " العدوى المقدَّسة أو التاريخ الطبيعي للخرافة " وإدعى أنه مجرد ترجمة من كتاب جان ترتشارد الإنجليزي.
وفي سنة 1770م أصدر " هولباخ " أقوى كتبه ضد المسيحية وهو " فضح أسرار المسيحية ومنهج الطبيعة " حيث طُبع في مجلدين باسم مستعار وهو مسيو ميرابو Mirabaud وطُبع في أمستردام بهولندا، وكان ميرابو يشغل منصف سكرتير الأكاديمية الفرنسية من قبل ومات منذ عشر سنوات، ووصل الكتاب مُهرَّبًا من هولندا إلى فرنسا، حيث تهافت الناس على شرائه. مما دعى الملك لويس الخامس للتدخل، فأمر النائب العام باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال هذه الكتب، فشجب النائب العام سبع كتب منها كتاب " منهج الطبيعة " لأنها تدعو الشعب للتمرد على الديانة والحكومة، وتم اعتقال مؤلفي هذه الكتب، ورغم أن كثيرين كانوا يعلمون أن هولباخ هو مؤلف كتاب " نهج الطبيعة " إلاَّ أنهم لم يرشدوا عنه، فلم يُعتقل، وقالوا عن كتاب " منهج الطبيعة " أنه أشمل وأكمل وأصرح عرض للمادية والإلحاد في تاريخ الفلسفة بأسره. أما " فريدريك الأكبر " الذي كان يخطب ود الفلاسفة، فقد أنقلب عليهم بسبب كتاب " منهج الطبيعة " الذي يهاجم فيه " هولباخ " رجال الدين والملوك، ويحقر من الملوك، وينال من الإله.
س19: كيف كانت نظرة هولباخ للدين، والمادة؟


ج: نظر " هولباخ " للدين على أنه وليد خيال الإنسان وجهله، فالجهل يجعل الإنسان يفسر الأمور المجهولة عن طريق الدين، والجهل يقود الإنسان للإيمان بالآلهة، فسبب إيمان الإنسان بالله هو عدم فهمه للطبيعة والمادة التي هي في حركة دائمة، أما العلم والاستنارة فأنهما يقضيان على الدين، وقال " هولباخ " أن الإنسان اعتقد بإله غاضب دائمًا، ولذلك فهو يسعى لتهدئة غضبه بالتدين، وقال " هولباخ " أن المستفيد الأول هم الحكام ورجال الدين، فالحكام يقنعون الناس بأن سلطتهم من الله، ورجال الدين كوّنوا ثراواتهم من التجارة بالدين ولذلك فإن العالم سيكون أفضل كثيرًا بدون رجال الدين والملوك وقال " هولباخ": "أن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس، بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بها حكامهم على هذه الأرض وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر" (1)كما قال " هولباخ": "أن الإنسان الذي يسمح لنفسه أن يؤمن بالدين، سوف يكون على أهبة الاستعداد للإيمان بأي شيء يقول به الدين" (2).
واستنكر " هولباخ " لفظة الجلالة " الله " حتى لو أُطلقت خطأ على الطبيعة، فلم يوافق على " وحدة الوجود " أي أن الله كل شيء، وكل شيء هو الله، وقال أن لفظتي " الله" و"يخلق " ينبغي أن تختفيان تمامًا من لغة الذين يريدون أن يتحدثوا بلغة مفهومة، فهاتان اللفظتان أبتدعهما الجهل، و"أن صديق الجنس البشري لا يمكن أن يكون صديقًا للإله الذي كان في كل الأوقات سوطًا مُسلطًا على الأرض " ومن أجل تصلف " هولباخ " هذا أطلق عليه المعاصرون له " العدو الشخصي لله سبحانه وتعالى".
ويرى " هولباخ " أن الدين يقود الإنسان للخزعبلات، فيقول "أنه عندما حلت المجاعة بباريس عام (1725م) وبدأت مقدمات الثورة تظهر في الأفق، قام الناس بإحضار التابوت الصغير الذي يضم رفات القديسة جنفياف راعية باريس، التي يعبدها الباريسيون، وأخذوا يطوفون في شوارع باريس حتى يقضوا على الكارثة التي نزلت بهم" (3).
وقال " هولباخ " أن بناء الفضيلة والأخلاق على المعتقدات الدينية عمل فيه مجازفة ومخاطرة، لأن الفضيلة والأخلاق تصير وهمية مثل الدين الذي قامت عليه، ولذلك فالذي يكتشف زيف الدين فإنه سيكتشف زيف الأخلاق التي بنيت على الدين، وحتى لو ساعد الدين على اقتناء الأخلاق، فهذا لا يتوازن مع الضرر الذي يُلحقه الدين بالإنسان، ورد " هولباخ " على الذين ربطوا بين الإلحاد والانحلال الخُلقي، وقال أن الإلحاد لن يغير طبيعة الإنسان من طيب إلى شرير أو من شرير إلى طيب، فالإنسان وما جُبل عليه، وهاجم فكرة توارث الخطية وقال أنها فكرة سخيفة، فالإنسان شرير ليس لأنه وُلِد هكذا، بل لأنهم صيَّروه شريرًا، والإلحاد لا يصلح أن يكون عقيدة، وبالتالي فلن تنجم من ورائه أية أخطار سياسية، أما الإنسان الذي يكبح جماحه بسبب عقيدة الجحيم فهو إنسان جبان، وأكثر من هذا أن " هولباخ " ربط بين الإلحاد والفضائل الاجتماعية، وقال أن الإلحاد يشجع على اقتناء هذه الفضائل، وأن العقل والذكاء هما أسمى فضيلة تصل بالإنسان للسعادة.
أما نظرة " هولباخ " للمادة، فإنه كان يرى أن الطبيعة هي كل شيء، وهي الخالقة لكل شيء فالنظام والتناسق الرائعان في الكون لا يرجعان لوجود الله، بل للطبيعة التي تعمل بطريقة ميكانيكية، وهي التي تدفع بالإنسان للإقلاع عن الشرور، وهي التي تهب السعادة للإنسان، وأن الطبيعة لا تعمل بمحض الصدفة، ولا تعرف الفوضى إنما تعمل طبقًا لقوانين ثابتة وقوامس لا تتغير، والمادة ليست شيئًا خاملًا، إنما هي في حركة دائبة، وقال " هولباخ": "أن الطبيعة تدفع الناس إلى التغلب على الشرور والانتصار عليها عن طريق إدراك القوانين التي تسير الطبيعة بمقتضاها، في حين أن الدين يحول بينهم وبين السعي لتحقيق هذا الهدف لأنه يجعلهم يتطلعون إلى السماء ويشخصون بعيونهم إليها ويركزون أبصارهم عليها" (4).

وفي سنة 1704م عندما أصدر " صامويل كلارك " كتابه " مبحث عن وجود الله وصفاته " ونسب لله الصفات الإلهية مثل الخلود وعدم المحدودية واللانهائية، قال " هولباخ " أن جميع الصفات التي نسبها كلارك لله مثل الخلود واللانهائية غير قابلة للفهم، بل هي تنطبق على المادة والطبيعة بصورة أوضح. لقد كاد " هولباخ " يصوّر الطبيعة كأنها الله، مع أنه رفض فكر الذين يعتقدون أن الطبيعة هي الله، أي الذين يؤمنون بوحدة الوجود، وفي فقرة ختامية بكتابه " منهج الطبيعة " أخذ يناجي الطبيعة قائلًا " أيتها الطبيعة، يا سيدة كل الكائنات!! أن بناتك الفاتنات الجديرات بالتوقير والعبادة - الفضيلة والعقل والحقيقة - يبقين إلى الأبد معبوداتنا الوحيدات: أن إليكِ تتجه كل تسابيح الجنس البشري وينصب عليك ثناؤه، وإليكِ يقدم كل ولائه وإجلاله" (موقع بالنت) ورأى " هولباخ " في العوامل الطبيعية من رياح وعواصف وزوابع وبراكين، وأيضًا في الحروب والطاعون والمرض، كلها أمور ضرورية لمسيرة الطبيعة الأدبية، مثلها مثل حرارة الشمس.
ورأى " هولباخ " أن " الروح " ما هي إلاَّ مجرد تنظيم الجسم ونشاطه، ولا يمكن أن يكون لها كيان مستقل عن الجسد، وأن القول بأن الروح بعد الموت وفناء الجسم تحس وتفكر وتنعم وتعاني، مثل الزعم أن الساعة التي تتهشم إلى ألف قطعة تستمر دقاتها ساعة بعد ساعة تعلن مرور الوقت، فقد أنكر " هولباخ " طبيعة الروح والخلود والحياة الأبدية.
ويقول "رأفت شوقي": "يقول هولباخ أن الإيمان بوجود حياة أخرى لا يعدو أن يكون سرابًا خادعًا من شأنه أن يصرف أنظار الناس عما هو أهم منها، وهو المجتمع في الوقت الحالي.. ويعزي هولباخ نشأة الدين إلى الخوف الذي يشعر به الإنسان البدائي نحو المجهول.. فالدين في الأصل يرجع إلى الإيمان بوجود إله غاضب وأنه بالإمكان تهدئة غضبه، والكهنة يقيمون حقوقهم ومعابدهم ومحرابهم وثروتهم ومعتقداتهم الجامدة على أساس هذه الفكرة الصبيانية المضحكة.. إن الدين أصبح في يومنا الراهن فنًا جعل الناس سكارى بالحماس بهدف صرف انتباههم عن الشرور التي يلحقها بهم حكامهم على هذه الأرض، وجعلهم يقبلون التعاسة في هذا العالم على رجاء الحياة السعيدة في العالم الآخر، ويرى هذا الفيلسوف المُلحد أن هذه النظرة تسئ إساءة بالغة إلى مبادئ الأخلاق لأن الإنسان الذي يكشف زيف الإحساس الديني الذي تبنى عليه الأخلاق يفترض أن مثل هذه الأخلاق لابد أن تكون زائفة زيف الدين نفسه.. إن صديق الإنسان الحقيقي هو من يحطم فكرة وجود الله.. إن الطبيعة هي كل شيء والخالقة لكل شيء" (5).
وقد أخذت الماركسية من الفكر المادي للفلاسفة الفرنسيين مثل فكر هولباخ في القرن الثامن عشر، وبنت عليها فلسفتها الإلحادية. أما الرد على هولباخ فنرجئه إلى الكتاب القادم عندما نتحدث عن ثمار الإلحاد والرد عليها.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 03:58 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
جورج هيجل (1770-1831م.)

س20: كيف نظر هيجل للأديان؟ وكيف نظر لنجوم السماء؟

ج: درس " هيجل " Hegel في كلية اللاهوت البروتستانتية، وكان مهيئًا أن يصبح قسًا إنجيليًا، ولكنه غير طريقه من اللاهوت إلى الفلسفة، وقالوا عنه أنه أعظم فلاسفة ألمانيا، وقد سكن في شبابه في غرفة واحدة مع صديقه " هولدرين " أعظم شعراء ألمانيا، وتعرَّض هولدرين للجنون، أما " هيجل " فقد ترك الإيمان المسيحي وأقتنع بالفلسفة العقلانية التي تؤلّه وتسيّد وتعبد العقل، كما تأثر جورج هيجل بالداروينية، وقال أن داروين بنظريته عن التطوُّر قد سحق الاعتقاد برواية الخلق الإلهية (التي سجلها سفر التكوين) بضربة واحدة، وراح " هيجل " يطبق " نظرية التطوُّر " على الأديان، وقال أن الأديان تُعبر عن مراحل مختلفة من مراحل تطوُّر الفكر البشري، فالدين تطوَّر من العصر التوتمي إلى السحر إلى العبادات الوثنية إلى اليهودية إلى المسيحية، وكل دين يُعبر عن أعلى مستوى وصل إليه العقل البشري حينذاك، ولذلك فإن كل الأديان تعتمد على الأساطير التي تختلف من عصر إلى عصر، وأنكر هيجل وجود الله الخالق، وكذلك الوحي الإلهي، وادعى أنه قادر على صنع إنسان، فقال " أعطني هواء ومواد كيميائية ووقتًا وأنا أعطيك إنسانًا".
وكان " هنرش هاين " معجبًا بأعمال الله في الخليقة، فكتب يقول "أن أعماق الخليقة الحيَّة المسطَّرة في أسرار صفحة السماء الزرقاء.. أسرار الشروق وجمال الغروب. أسرار الولادة وأسرار الموت، بل دراما النفس البشرية بكافة صوَّرها هي مسطَّرة في كتاب واحد. ذلك هو كتاب الكتب (يقصد الكتاب المقدَّس) " ويحكي " هنرش هاين " عن حديثه ذات مرة مع أستاذ هيجل فيقول "في ليلة جميلة صافية كنت أقف مع أستاذي هيجل نتطلع إلى السماء من خلال النافذة، وأبديتُ تحمسًا عظيمًا وأنا أتحدث عن النجوم، وألقّبها بمساكن المطوبين، أما أستاذي (هيجل) فأنه أبدى الضيق من حديثي وهو يقول: هذه النجوم؟ أنها البرص الذي يلطخ صفحة السماء؟

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:02 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
آرثر شوبنهَور (1788-1860م.)

نظرًا للتأثير الكبير الذي تركه " شوبنهور " على " نيتشه " الذي تتلمذ على كتبه وأفكاره، وهو ما أنتقل بالتبعية إلى " هتلر " والنازية، وما نجم عنها من مآسي خلال الحرب العالمية الثانية لذلك تجدني مضطرًا لفرد مساحة أكبر لشوبنهور، ذلك الفيلسوف المُلحد، لنتحدث قليلا عن حياته، وإلحاده وازدراءه بالدين، وتشاؤمه ومخاوفه، وفلسفته، وتناقضه مع نفسه، وبعض أقواله، وموته. ولك يا صديقي أن تلاحظ أفكار شوبنهور تنتقل إلى تلميذه نيتشه، وتسري أفكار نيتشه المسممة في عروق هتلر، وهذا يدعونا للتدقيق في أي فكر يُعرَّض علينا، ولا نقبل الأفكار بسهولة، ولا ننقل الأفكار الهدَّامة.
س21: هل تأثر شوبنهور بانتحار أبيه وجنون جدته؟ وهل نجح في حياته العملية والأكاديمية؟


ج: وُلِد الفيلسوف الألماني " آرثر شوبنهَور " في مدينة " دانزج " في 22 فبراير سنة 1788م، وكان والده ثريًا وصاحب مصرف كبير، فعاش آرثر حياة الرفاهية التي ربما لم تتاح لعباقرة التاريخ، وكان والده يحب الترحال، وكان معجبًا بالفيلسوف الفرنسي " فولتير"، ولم يكن مقتنعًا بالتعليم المدرسي لذلك كان يصبو إلى أن يكون ابنه من رجال الأعمال، وعندما كان آرثر في سن الخامسة أصطحبه والده في رحلة إلى إنجلترا، وفيها ألتحق هذا الطفل بمدرسة داخلية لمدة ثلاثة أشهر، وكان ناظر المدرسة قسًا، يبالغ في ممارسة الطقوس مما جعل " آرثر " أن ينفر من الممارسات الدينية.
وفي سن السابعة عشرة مات والد آرثر منتحرًا، كما أُصيبت جدته لأبيه بلوثة عقلية، ربما بسبب حزنها المُفرط على ابنها المُنتحر، وانقلبت حياة آرثر إلى حياة شقاء بعد أن فقد أبيه، وأيضًا بسبب خلافاته المستمرة مع أمه الروائية التي كانت تعشق الأدب، وقد افتتحت صالونًا أدبيًا يؤمه كبار رجال الأدب، مثل أستاذه " جوته"، وعاشت الأم حياة التحرُّر من كل قيود الفضيلة، فكان الابن دائم الخلاف معها، وفي إحدى المرات تشاجر معها فدفعته على درج السلم فسقط بعض الدرجات، فقاطعها ولم يرها ثانية حتى موتها، وربما ما عاناه من هذه الأم التي لم تحتويه بعد موت أبيه، جعله يعزف عن الزواج نهائيًا.
وحاول " آرثر شوبنهَور " العمل بالتجارة كما كان يرغب أباه فالتحق بمكتب تجاري لمدة عامين، إلاَّ أن هذا العمل لم يستهويه، فتركه وأتجه لدراسة اللغتين اليونانية واللاتينية، والتحق بمدرسة " جوثا " ولكن بسبب تعاركه مع أحد المدرسين تعرَّض للطرد من المدرسة، فالتحق بجامعة جوتنجن لدراسة الطب، وأمضى بها عامين (1809-1811) فلم توافق ميوله أيضًا فتركها، واتجه إلى جامعة برلين لدراسة الفلسفة، فدرس أفلاطون، وعمانويل كانط وتأثر بهما، ورأى أن الإنسان يجب أن يتحرَّر من قيود الدين وهو يدرس الفلسفة، وفي سنة 1813م حصل على درجة الدكتوراه تحت عنوان " الأصول الأربعة لمبدأ السبب الكافي " وقصد بالسبب الكافي علاقتنا مع العالم الخارجي، وقصد بالأصول الأربعة العلاقة بين المبدأ والنتيجة، وبين العلة والمعلول، وبين الزمان والمكان، وبين الداع والفعل، والصور الثلاث الأولى تخص التطوُّر النظري، أما الرابعة فتخص العمل والفعل، وطبع الرسالة على نفقته، وقدم لها الفيلسوف الألماني " جوته " ومع ذلك فإن الكتاب لم يلاقي نجاحًا، وكان كثيرًا ما يحتقر "شوبنهَور" أساتذته في الفلسفة، وهم بدورهم وصفوه بالكبرياء والغرور.
ولم يشغل " شوبنهَور " نفسه بالعمل نظرًا لعدم حاجته للمال، فكان يعيش بلا قيود، وفي سنة 1814م قدم أهم أعماله الفلسفية كتاب بعنوان " العالم كإرادة وفكرة " وكان منبهرًا بهذا العمل، حيث أظهر اهتمامه بفلسفة " توماس هوبز " وبناء على هذا العمل حصل على وظيفة مُحاضر في جامعة برلين، ولكن لسوء حظه أنه كان يُحاضر في ذلك الوقت فيلسوف ألمانيا "جورج هيجل"، فانصرف الطلبة عن محاضرات " شوبنهَور " وفشل في حياته الأكاديمية، ولم يتم رواج كتابه كما كان يتوقع، بل أن الناشر اضطر إلى بيعه بعد عشرة سنوات كأوراق مستعملة، وعزىَ " شوبنهوَر " هذا الفشل إلى أن هناك مؤامرة تُحاك حوله من جميع المفكرين والفلاسفة الذين نعتهم بالحمير قائلًا " أن كتابي هذا مثل المرآة، فإذا نظر فيها حمار فلا تنتظر أن يرى وجه ملاك " وكان " شوبنهوَر " يشعر بالغرور دائمًا، فيقول "أن فلسفتي هي في حدود المعرفة بصفة عامة، الحل الحقيقي للغز العالم، وبهذا المعنى يمكن أن نسميها " رؤيا " وهي مُستوحاة من روح الحقيقة. بل هناك في الكتاب الرابع (العالم كإرادة وفكرة) بعض الفقرات التي يمكن أن نقول أنها مستوحاة من الروح القدس"(10).

وفي سنة 1831م عندما انتشر مرض الكوليرا في برلين أسرع " شوبنهَور " بالفرار منها متجهًا إلى فرانكفورت، فعاش فيها 27 عامًا حتى موته، ورغم أن كتبه لم تجد صدى لدى القراء إلاَّ أنه أصدر بحثه المنشور سنة 1851م بعنوان " باربيرجيا " يشرح فيه رأيه في الدين والأدب وعلم النفس، ويُهاجم الفلسفات التي تُدرَّس في الجامعات الألمانية، ولم يحفل " شوبنهور " بالسياسة، بل فضل حياة الاستقرار وكان نصيرًا للنظام، وأبغض الثورة التي نشبت في ألمانيا سنة 1848م لأنها تخل بالنظام القائم، وتعاطف مع الجنود النمساويين وساعدهم على إخماد الثورة، وتبرع بجزء كبير من ماله للجنود الجرحى، ولم يكن لدى " شوبنهور " الحس الوطني، لأنه كان يرى في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا أوطانًا بجوار وطنه.
س22: كيف نظر شوبنهور للطبيعة الجامدة؟ وكيف تنكر للدين، وأحتقر رجال الدين، وأُعجب بالبوذية؟

ج: أقرَّ " شوبنهور " بالإبداع والإتقان والإرادة في خلق الكون، ولكنه لم يُرجع هذا لله، إنما أرجعه إلى الطبيعة الجامدة، وقال أن فكرة الدين هي من صُنع البشر الذين ابتكروها لتفسير الأمور المجهولة لديهم من ظواهر طبيعية أو نفسية أو اجتماعية، وكان الغرض من الدين تنظيم حياة مجموعة من الناس بحسب ما يراه مؤسس الدين، وليس حسب الاحتياجات الحقيقية للناس، الذين عن جهل قرَّروا الالتزام بمجموعة القيم البالية، وأن الديانات من المستحيل أن تكون صادرة من مصدر واحد، فالإله الذي قتل كل أبكار المصريين، ليس هو الإله الذي ينصحك بالتسامح وتحويل الخد للآخر [وكأنه يريد إلهًا إما أن يكون عادلًا فقط وإما أن يكون رحيمًا فقط].
وكان " شوبنهور " بحكم تربيته يحتقر رجال الدين والدين والكنيسة، وكان يعتبر أن الدين هو ميتافيزيقيا الشعوب، ورغم أنه كان يزدري بالمسيحية إلاَّ أنه لم يخفي إعجابه بها لأنها تكبح جماح الشهوات عن طريق الصوم، ولم يُخفي إعجابه بالقديسين لأنهم ينكرون إرادتهم الفردية، ولكنه فضل البوزية جدًا عن المسيحية، لأنها تفوق المسيحية في إنكار الإرادة والأنا، ولأنها المنفذ الذي يُخرِج الإنسان من شقائه، وأعتقد " شوبنهور " إن أسمى درجات الكينونة تتمثل في حالة " النيرفانا " أي تلاشي " الأنا " في الواحد السرمدي كما تقول الديانة الهندوسية، وأعتقد أيضًا " شوبنهور " بتناسخ الأرواح، وقال حتى لو كان ليست حقيقية، لكنها تنقل لنا الحقيقية في شكل أسطورة. ويقول عنه " دكتور رمسيس عوض": "ورغم إيمانه بأن فكرة تناسخ الأرواح ليست حقيقة بمعناها الحرفي فإنها تنقل لنا الحقيقة في شكل أسطورة. ولم يجد شوبنهور مخرجًا من شقاء الإرادة الإنسانية غير الإيمان بالبوذية وضرورة تحطيم هذه الإرادة وإفنائها.. والرجل الفاضل في نظره يصل إلى حالة الزهد عن طريق التمسك بأهداب الطُهر والعفاف ومداومة الصيام وتعذيب الذات وانتهاج طريق الفقر طواعية واختيارا، وهو يفعل كل هذه الأشياء سعيًا وراء تحطيم إرادته كفرد، وليس بهدف تحقيق التوازن والانسجام بينه وبين الله كما هو الحال مع المتصوفيين الغربيين" (1).

وقال " شوبنهور " مُنكرًا الوجود الإلهي " أنا وحدي الموجود، ولا شيء يوجد عداي، لأن العالم من امتثالي وتصوُّري" (2).. كما قال أيضًا مُنكرًا فكرة الثواب والعقاب " يُقال أن السماء تحاسبنا بعد الموت على ما فعلنا في الحياة الدنيا.. وأنا أظن أنه بإمكاننا أن نحاسبها أولًا عن " المزحة الثقيلة " للوجود الذي فُرض علينا من دون أن نعلم لماذا؟ وإلى أي هدف؟"(11).
س23: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على فلسفة شوبنهور التشاؤمية؟

ج: كان " شونبهور " ينظر للحياة على أنها شر مُطلق وتعاسة وشقاء، فليس كل تعاسة إلى سعادة، بل كل سعادة إلى تعاسة، وليس كل شقاء إلى راحة، بل كل راحة إلى شقاء، وليس كل مرض إلى شقاء، بل كل صحة إلى مرض، فرأى أن الشقاء والعناء والمرض والألم والموت الأصل والأساس، وماعدا ذلك فهو الإستنثاء، ورأى في الحياة أنها صراع مستمر وقتال متواصل لا يهدأ، وغض النظر عن صور التعاون الفائقة في الطبيعة، ولذلك فضل الانتحار عن الحياة.
ومما زاد من تشاؤم " شوبنهور " المزاج الغير سوي الذي لازمه، والحقد والكراهية اللذان ملأ قلبه، وفقدانه للود، فلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء، ولم يكن له سوى كلب أطلق عليه اسم " أطمأ " وهو اسم يُطلق على الروح الكلي عند البراهما، أما سكان الفندق والقريبون منه فقد دعوا هذا الكلب باسم " شوبنهاور الصغير". فكان " شوبنهور "يشعر بالعداء للحياة والأحياء، وأيضًا زاد من شؤمه قراءته في كتب الديانة الهندوسية والبوذية، والتي تعتبر أن المادة شر والطبيعة شر والجسد شر، ولا يصل الإنسان للخلاص، إلاَّ بالوصول إلى حالة النيرفانا، وأيضًا زاد من تشاؤمه فشله في الدراسة الأكاديمية، وفي الاحتفاظ بمنصبه في التدريس بالجامعة، وفي عزوف الناس عن كتبه، وزاد من تشاؤمه انتحار أبيه وانشغال أمه عنه وإصابة جدته بلوثة عقلية، وأستاذه الذي كان يجله الفيلسوف " جوته " يصرف أوقاته مع أمه، وأيضًا عاش " شوبنهور " في فترة دمرت الحروب كل ما هو جميل في أوربا، وشردت آلاف الأسر، ونشرت الفقر والبؤس والشقاء، وهذا ما رآه شوبنهور في الحياة أنها تعاسة وشقاء وعناء وألم ومرض وموت.
وهكذا كان " شوبنهور " يعيش في قلق زائد وتوجس لا يأمن لأحد، فيغلق الأبواب بعناية شديدة، ولا ينام إلاَّ وسلاحه بجواره محشو بالرصاص، ولم يُسلم رقبته لموسى الحلاق طوال حياته، لئلا يتآمر مع الآخرين ويذبحه، فقد كان يسئ الظن بجميع الناس، ويرى نفسه هدفًا لتآمر الناس واللصوص، ويقول عنه " دكتور عبد الرحمن بدوي": "ويقولون لنا أنه كان طوال حياته فريسة لكثير من المخاوف الشاذة التي تصل إلى حد الفزع المرضي، وفي سنة السادسة في أثناء تريّضه توقف مرة وشعر بالوحدة المخيفة وتخيل أن أبويه يريدان الخلاص منه، وحينما كان طالبًا في جامعة برلين كان يتصوَّر أنه مصاب بالتدُّرن، ولا يكاد يسمع دنو الحرب من برلين حتى يولي هاربًا مذعورًا، وظل دائمًا يَحذر الناس، ويعتقد أنهم جميعًا أعداء واقفون لإيذائه بالمرصاد" (3).
وقامت فلسفة شوبنهور على:

أ - الوجود يقتصر على المادة، والمادة فقط، فكل ما هو في العالم المادة لا غير.

ب -الطبيعة هي التي تحافظ على استمرار الحياة، والوسيلة لحفظ النوع الإنساني العاقل بالإضافة للغريزة الجنسية، فقد رأى " شوبنهور " أن الجنس هو الركيزة الأولى عند الإنسان والحيوان، فتدور حوله حياة الفرد والجماعة والحياة كلها، وأنه مفتاح السلوك الأساسي، وعلى أساسه يمكن تفسير كل السلوك الإنساني من الألف للياء.
ج- رأى " شبنهور " أن الطبيعة تحافظ على استمرار الحياة بغض النظر عن الأشخاص الذين تطحنهم الآلام ويعذبهم الشقاء ويغرقون في بحور من المآسي والشرور، والموت هو العدو الأول للطبيعة، لأنه يحاول أن يقضي على الحياة والأحياء.
د - الحياة في حقيقتها ما هي إلاَّ شرور وأحزان ومشقات ومآسي، فلا مكان للخير، ولا معنى للسعادة، وأقصى ما يوجد من خير في الوجود هو أن تقل الشرور بعض الشيء ، أو تخف الآلام شيئًا ما، فالتعاسة هي جوهر الحياة وحقيقة الوجود، والسعادة ليس إلاَّ التفسير السلبي، أي أنها تعني اختفاء الآلام والشقاء، والتعاسة بعض الشيء .
ه- لأن الحياة كلها شرور وشقاء وعناء لذلك ينبذ " شوبنهور " الحياة ويدعو للانتحار، مستهينًا بالموت، فالموت في نظره لا يسبب أي ألم للإنسان، ولكن ما يؤلم الإنسان هو فكرة الموت أكثر من الموت نفسه، لأن الإنسان لا يلتقي بالموت، وبالتالي فأنه لن يتألم منه، فطالما الإنسان يعيش حيًّا فهو لم يلتقي بالموت بعد، وبمجرد أن يقبل الموت على الإنسان يذهب الإنسان ويستريح من شقاء الحياة وآلامها.
س24: كيف عاش شوبنهور يناقض نفسه؟ وكيف كان موته؟

ج: إتسمت حياة شوبنهور بالتناقض مع آراءه وأفكاره، ومن أمثلة ذلك:
أ - مع أن " شبونهور " كان يحبذ الانتحار، وبالرغم من أنه عاش وحيدًا تنتابه الوساوس والمخاوف، وكان أحق إنسان بالانتحار، لكنه لم ينتحر، بل أنه كان يتمنى العمر الطويل.
ب - رغم أن " شوبنهور " نادى بالتشاؤم، لكنه لم يحيا حياة التشاؤم، ولم يقم بتمثيل البطل ولا أحد الأفراد البارزين في التشاؤم، فقالوا عنه أن ابن الجمعة (لأنه وُلد يوم جمعة) لم يعش ابن الجمعة حقًا (أي الجمعة الحزينة) وإنما عاش ابن الأحد (إشارة للحياة الناعمة والراحة).
ج- كان ينظر للقداسة باحترام ويبجل القديس لأنه استطاع أن يكبح لجام شهواته، ومع ذلك اعترف بأن لم يعش لا قديسًا ولا شبه قديس، ولم يمنع نفسه من الملاذ والشهوات والمغامرات الغرامية، فتارة تراه مع الممثلة المشهورة " كارولين ياجمن " في ألمانيا، وتارة مع فتاة تُدعى " تريزا " في إيطاليا، حتى أنه فكر في الزواج منها رغم أنه كان ينظر للزواج على أنه نقمة على العبقرية، وعندما كان شيخًا في السبعين من عمره جاءت فتاة تُدعى " اليزابث نيه " لتعمل له تمثالًا نصفيًا، فأبدى إعجابه بها، وقال: "لم أكن أتصوَّر وجود فتاة خليقة بالحب كهذه الفتاة" (4). وتناسى ما قاله من قبل عن المرأة بأنها " إنسان ناقص أشبه ما يكون بالطفل، أو هي وسط بين الطفل والرجل" (5).
د - مع أنه كان يعتقد أن الألم يساعد الإنسان على إنكار ذاته، إلاَّ أنه أمضى حياة ناعمة متنقلًا بين ربوع إيطاليا وهو يقول "هذا البلد الجميل الذي فيه يشع الغناء " ورغم أنه كان يعتقد بأهمية الزهد والنسك إلاَّ أنه كان حريصًا على حضور الحفلات الموسيقية والمسرحية، وأيضًا كان حريصًا على أمواله، فعندما أستثمر أمواله في " دانزج " وكذلك فعلت أخته وأمه لدى تاجر يُدعى " ابراهام لودفيج مول " وأفلس هذا التاجر قبلت أخته وأمه باسترداد ثلث الودائع، أما هو فقد أصر على استرداد كل ما دفعه، وضغط على التاجر وهدَّده برفع الأمر للقضاء، حتى أستوفى كل ما أودعه بالإضافة للفوائد خلال عشرة أشهر، وقد قال له " بوسع المرء أن يكون فيلسوفًا، دون أن يكون بسبب ذلك مغفلًا " وكتب إلى " يوهان أدوار ايرومان " يقول "لقد كنت رجلًا موفقًا وذا حظ عظيم، أعلمُ كيف أؤمّن مصدر عيشي على الدوام، ولا أضطر للعمل من أجل النقود أو البحث عن وظيفة".

وقال عنه " الدكتور رمسيس عوض": "ومن الخطل أن نظن أن شوبنهوَر كان يضع تعاليمه موضع التنفيذ، فمن المعروف عنه أنه كان يستمتع بالطعام الهنيء والشراب الطيب ويلبي شهوات الجنس من آن لآخر" (6).
ومع كل هذا فقد قال البعض أنه لا يجب إدانة شوبنهور على هذه التناقض، وقال " فاوست": "أن في صدري تسكن، ويا للأسف! نفسان، كل منهما تريد أن تنزع نفسها من الأخرى، فأحداها تُنشب مخالبها في العالم بشهوة جامحة قاسية، والأخرى ترتفع من التراب بقوة إلى ساحة الأسلاف العالين" (7).
ومن بعض أقوال شوبنهور:
أ - الضوضاء: كان " شوبنهور " يتضايق جدًا من الضوضاء ويعتبرها معيار التخلف، وعندما ضاق ذرعًا من جارته التي تعمل بحياكة الملابس دفعها على درج السلم، فأُصيبت بعجز، ورفعت الأمر للقضاء، فحكم عليه بدفع جزء من تكاليف الحياة لها، فظل يدفع لها حتى موتها، وقال عن الضوضاء أنها الأكثر وقاحة في كل أشكال الإزعاج، وهي ليست إزعاج، لكنها أيضًا إرباك الفكر.
ب- الشهوة: قال " شوبنهور " في شبابه " أيتها الشهوة، أيها الجحيم! أيها الإحساس، أيها الحب الذي لا يُشبع ولا يقوى على قهره شيء" (8) وظل شيطان الشهوة يطارده كالجلاد في شبابه ورجولته، فكان يصبو للشيخوخة قائلًا " ففيها يبلغ المرء حالة الهدوء الصافي التي يعانيها من فُكت عنه القيود بعد أن ظلَّ مكبَّلًا بها طويلًا، فصار الآن يتحرك حرًا مُطلقًا من كل قيد" (9).
ج- السعادة: قال " شوبنهور": "كل شيء في الحياة الدنيا يدل على أن السعادة على وجه البسيطة محكوم عليها بأن تكون معكَّرة إن لم تُدمَر تمامًا.. كل الحياة خدعة، وهي لا تهبنا سوى الأوهام جملة وتفصيلًا"(12).
د - الحياة والموت: قال " شوبنهور": "هذه الحياة محزنة جدًا، ولهذا فقد قرَّرتُ أن أقضيها بالتأمل فيها " كما قال " يالها من هوة بين بداية الحياة ونهايتها. تبدأ الحياة في الدفء وفي الإغتباط المبهج. ثم تنتهي بتدمير الأعضاء وسط رائحة تعفن الجثث " وأيضًا قال " نحن نعزي أنفسنا بالموت لمواجهة مصائب الحياة، وبمصائب الحياة لمواجهة الموت. ياله من وضع رائع"(13).
وظل " شوبنهور " مغمورًا معظم حياته، ولكن في سنة 1854م بدأت فلسفته التشاؤمية تلقى اهتماما، وصار معروفًا في إنجلترا وروسيا والولايات المتحدة، وأصبح له بعض الأتباع الذين يقدّسون أفكاره، فشعر ببعض الرضى، وفي 21 سبتمبر سنة 1860م بينما كان جالسًا في الفندق يتناول إفطاره، وبعد ساعة من جلوسه لاحظت صاحبة الفندق أنه أطال الجلسة، فاقتربت منه، وإذ بالحياة قد فارقته، ومن أكثر من تأثر بفلسفة شوبنهور الفيلسوف الألماني "نيتشه"، والذي كان له تأثير كبير جدًا بدوره على الآخرين ولاسيما " هتلر"، وهكذا تتوالى فلسفة الإلحاد ورفض وجود الله، وهكذا تسير الحياة بدون الله من سيء إلى أسوأ.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:06 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
فريدريك نيتشه (1844-1900م.)

رغم أن عمر نيتشه العاقل لم يتعدى الأربعة وأربعين عامًا فأنه ترك أثرًا بالغًا في الفكر الإلحادي، وأعتنق الكثيرون أفكاره الصادمة، فهو الذي بدأ طفلًا متدينًا كابن لقس إنجيلي، حتى دعوه بـ"القسيس الصغير"، وعندما شبَّ أنقلب رأسًا على عقب، فمجَّد القوة والحرب، وأشاد بالإنسان السوبرمان، وفلسفته التي مجَّدت القوة والقسوة هي التي أفرزت لنا الفاشية والنازية، كما أنه كان له باع كبير في زرع بذور الإلحاد، وفي التهكم على العزة الإلهيَّة فهو صاحب مقولة " لقد مات الله"، وفي الهجوم على المسيحية، حتى أنه قال عنها أنها اللعنة الكبرى والوصمة الخالدة في جبين البشرية، ووصف أخلاقها بأنها أخلاق العبيد الجبناء، وهاجم المرأة والإنسان والأصدقاء، وتخاصم مع الكل حتى مع نفسه، ورأى في ذاته أنه الإنسان الذي لا يعلو عليه آخر، وأستعذب الألم، وهاجم الموت العادي الذي يأتي في وقت غير مناسب، وشجع على الانتحار.. إلخ. وقال عنه " هنري موريس": "أما فلسفة نيتشه فقد أثرت بعمق في اتجاهات السياسة الألمانية حتى أصحبت أساس القوة الحربية الألمانية المكثفة التي حشدتها في فترة الثلاثينيات من هذا القرن وكانت سببًا من أسباب الحرب العالمية الثانية، وكان موسيلليني واحدًا من أكبر المتابعين المتحمسين لنيتشه، وكانت الفاشية هي النتيجة النهائية، كذلك وُلدت النازية في نفس البالوعة" (1).. لذلك لا مناص من فرد مساحة أكبر لهذا الفيلسوف الألماني معجزة الشر (الذي دعى نفسه تارة بديونسيوس المصلوب، وتارة بضد المسيح، وتارة بالله) لكي يتعلَّم ويتعظ من تراوده أفكار الإلحاد وتغريه وتجذبه وتعمي عينيه نحو المصير المآسوي..
س25: هل يمكن إلقاء الضوء على القسيس الصغير ابن القس الإنجيلي في طفولته وشبابه؟


ج: وُلد " نيتشه " في 15 أكتوبر 1844م في "ريكن" بالقرب من مدينة لوتسن بمقاطعة "سكسونيا " الألمانية، وكان يوافق عيد ميلاد وليم الرابع ملك بروسيا، فكان يفرح بعيد ميلاده عندما يرى الفرحة تعم البلاد بعيد ميلاد الملك، وكان والده " كارل لدفج نيتشه " من أصول بولندية وأمه " فِرَنْسِسكا إيلَر " ألمانية خالصة، وكانت له أخت تُدعى أليصابات كانت قريبة منه جدًا، وهي التي نقلت لنا أخبار نيتشه في فترة شبابه. وكان والد نيتشه قسًا بروتستانتيًا محبوبًا من رعيته، بل كان كثير من أجداده من جهة الأب أو الأم قساوسة ورجال دين، وقد تأثر نيتشه في طفولته بهذه الروح، حتى دعاه أترابه في المدرسة وهو مازال صغيرًا بـ"القسيس الصغير"، وكان قادرًا على أن ينشد بعض آيات الإنجيل والتراتيل الدينية المؤثرة، التي تكاد أن تثير البكاء، وقال عن نفسه " في سن الثانية عشرة رأيت الله في تمام جلاله " وفي المرحلة الثانوية (1858-1864 م) ألَّف قصيدة رائعة وجهها إلى الله المجهول حيث قال:
" مرة أخرى، وقبل أن أستمر في طريقي..
وأطلق نظراتي إلى الأمام..
أرفع يدي العاريتين..
إليك، فأنت ملجأي وملاذي..
وأنت الذي كرَّست له أعمق أعماق قلبي..
مذابح يُقدَّس عليها اسمك..
لكي يدعوني صوتك..
دائمًا إليك..
وعلى هذه المذابح تتلألأ..
هذه الكلمة: إلى الله المجهول..
إني أريد أن أعرفك أيها المجهول..
أنت يا من نفذت إلى صميم روحي..
ويا من تمر على حياتي مرور العاصفة..
أنت يا من لا يدركك شيء، ومع هذا فأنت قريب مني وذو نسب إليَّ
أريد أن أعرفك وبنفسي أن أعبدك" (2)
بعد موت والده، ذهبت الأسرة إلى مدينة " ناومبرج " حيث أتم دراسته الابتدائية، ثم أمضى نيتشه دراسته الثانوية في مدرسة " أليفورتا " الملحقة بأحد الأديرة، وفي الفترة 1864-1865م ألتحق بجامعة بون ليدرس اللاهوت والفيلولوجيا، وفي هذه الجامعة حدثت مناظرة شديدة بين أستاذين هما " رتشل"، و"يان " واحتدم النزاع بينهما فترك " رتشل " جامعة بون وأتجه إلى جامعة ليبتسج، وتبعه تلميذه نيتشه الذي كان معجبًا به، وأمضى نيتشه الفترة من 1865-1867م بجامعة ليبتسج.
وفي شبابه كان نيتشه القصير القامة الأنيق الهندام يرتدي سِروالًا فاتح اللون ومن فوقه سترة قصيرة ويحكم رباط العنق، يتدلى شعر رأسه الطويل، يعاني من قصر شديد في النظر، وفي سيره يكاد يمشي مشية المتعب، أما كلامه فكان رقيقًا بسيطًا خاليًا من التصنيع، ولكنه كان يصدر من أعماق نفسه، هكذا وصفه شِيفْلر (راجع د. عبد الرحمن بدوي - نيتشه ص 41) وبالرغم من أنه كان هادي ويتحدث برقة شديدة، فإن نظراته كانت حادة تعكس الثورة الداخلية التي يعيش فيها، حتى أن أصحابه لا يتفوَّهون بكلمات نابية أمامه، وعلى حد تعبير أحد أصحابه الذي قال أنه لا يستطيع أن يتفوه بكلمات خارجة في حضور نيتشه، وعندما سأله زميله: لماذا؟ قال أنه يرمقك بنظرة تجعل الكلمات تقف في فمك.
ووصفته " لواندرياس سالوميه " التي صاحبته مدة من الزمن فقالت " أول إحساس تشعر به إذا ما رأيتَ نيتشه هو إحساسك بأنك بإزاء وجدان عنيف مستور وشعور بالوحشة كتمه في نفسه.. هذا الرجل المتوسط القامة، البسيط في ملبسه الذي عنى به، الهادئ في سيماه، ذي الشعر الأسمر المُلقى إلى الوراء، دون أن يلتفت إليه أو يديم النظر فيه.. وله ابتسامة خفيفة، وبهجة هادئة في الحديث، ومشية متئدة حذره، تقتضي منه أن يحني كتفيه قليلًا.. وتكاد عيناه تنطقان حقًا، وعلى الرغم من أنهما شبه عمياوين إلاَّ أنه لم يكن يبرقهما ولا يُسفُّ النظر، كما هي عادة الكثير من قصار النظر. بل كانا يبدوان وكأنهما حارسان لكنوز.. كان يحدقان في الأعماق كما يحدقان في أفق بعيد.. أما في حياته العادية فكان مؤدبًا كل الأدب رقيقًا رقة تقرب من رقة النساء، هادئ المزاج، ساكن الضمير، متصل الوقار" (3). وهذا يذكرنا بقول الكتاب عن الخطية أن كل قتلاها أقوياء.
وفي نحو سن الثامنة عشر بدأ " نيتشه " يفقد إيمانه بالله وبالدين ففارقته البهجة، لأن الدين كان يمثل ركنًا أساسيًا في حياته، وقرأ نيتشه كتاب " شوبنهور " عن " العالم كإرادة وفكرة " الذي يوضح فيه أن على الإنسان أن يبذل الجهد والكفاح اللذان يحملان في طياتهما البؤس والشقاء، وعندما أنهى قراءة الكتاب قال عن هذا الكتاب أنه " مرآة طالعت فيها العالم والحياة، بل وطبيعة نفسي مرسومة في جلال مخيف.. أنه ليبدو لي أن شوبنهور كان يخاطبني أنا. لقد أحسست فيه شعوره المتحمس وخيل إليَّ أني أشهده ماثلًا أمامي في كل سطر كإنما يناديني نداءً صارخًا" (4) وأعتبر نيتشه نفسه أنه خليفة شوبنهور وتأثر بنظرته التشاؤمية، وعندما مات والده تأثر كثيرًا لموته، حتى قال عنه " مات والدي في سن السادسة والثلاثين، وكان رجلًا رقيقًا محبوبًا وعلى سيماه طابع المرض، وكل شيء كان يدل على أنه مخلوق قُدّر له أن يمر بالحياة مرور العابرين الكرام، فهو ذكرى جميلة للحياة، أولى منه أن يكون الحياة نفسها، وقد بدأت حياتي في الزوال في نفس اللحظة التي ذهبتْ فيها حياته، ففي سن السادسة والثلاثين وصلت إلى أحط درجة في حياتي وحيويتي، أجل قد عشت من بعد، ولكن هذه الحياة التي حييتها لم أكن أستطيع أن أنظر فيها إلى أبعد من ثلاث خطوات" (5) وكان " نيتشه " قد ورث عن أبيه روح التدين والشفقة والمثالية وحب الموسيقى، وورث عن أمه الإحساس المرهف، ولكن في شبابه أجتهد أن يتخلص من الشفقة قائلًا " الشفقة أعظم خطر عليَّ. هذه الشفقة نتيجة سيئة من نتائج طبيعة والدي الشاذة، وهو الذي كان كل من عرفوه يضعونه في صفوف الملائكة قبل أن يضعوه في مصاف بني الإنسان" (6) أما والدة نيتشه المتدينة فكانت دائمة الصلاة من أجله، وكانت على وشك حرق كتاباته المملوءة بالتجديف.

س26: كيف تشبع نيتشه بفكرة موت الله، وأعتقد أنه هو "الإله ديونسيوس"؟ وهل وجد راحته في الإلحاد؟

ج: بعد أن كان " نيتشه" في فجر حياته يظهر محبته العميقة لله، وصل لمرحلة الإلحاد وهاجم الله، وقال بالرغم من أن إله اليهود الذي اتسع نطاقه في المسيحية حتى صار يملك على نصف البشرية، إلاَّ أنه بقى بالغ الشحوب، بالغ الضعف، منحطًّا، فقال " في زمن ماضٍ لم يكن الله يمتلك غير شعبه (شعبه المختار) لكن.. مضى صوب الغريب (يقصد أتجه للأمم) وتغرَّب، ومنذ ذلك الحين لم يقدر بعد أن يبقى ساكنًا في مكان واحد.. أمتلك من جهته الرقم الأكبر ونصف البشرية.. لم يتحوَّل رغم هذا إلى إله فخور وثني: لقد أستمر يهوديًا، وإله الزوايا.. إله كل القرافي المعتمة والأماكن المظلمة، والأحياء الوخيمة، للعالم الكامل!
مملكته العالمية بقيت معدودة، كما قبلًا، مملكة للعالم السفلي، ومصحة، مملكة تحت أرضية - سردابية، مملكة (جيتو).. وبقى هو نفسه، بالغ الشحوب، بالغ الضعف، ومنحطًّا.. انهيار إله وتحطُمَهُ.. الله يتحوَّل إلى (شيء في ذاته)" (7).
وطالب " نيتشه " بإله شرير ماكر عنيف هدَّام، فقال " فالمرء يحتاج تمامًا إلى إله شرير بمقدار ما يحتاج إلهًا صالحًا.. بأي شيء يفيد إله لا يعرف الغضب والإنتقام والحسد والسخرية والمكر والعنف، والذي حتى لا يعرف الأوار الساحر والاضطرام الخلاب للغلبة والتدمير الهدَّام" (8) وأعتبر " نيتشه " أن الإيمان بوجود إله يعد تحقيرًا للحياة وازدراء بالعالم وهروبًا من المسئوليات الملقاة على عاتق الإنسان.
وكان " نيتشه " يهاجم ذبيحة الصليب، فقال أنها " الذبيحة التكفيرية في شكلها الأكثر إثارة للاشمئزاز، والأكثر بربرية، التضحية بالبريء لغفران خطايا المذنبين. أية وثنية هائلة!!" (9) وبالرغم من ذلك فإن " نيتشه " أعتبر نفسه أنه هو الإله اليوناني الجبار " ديونسيوس " وأسقط على هذا الإله صورة المسيح المصلوب، وقد تشبَّع " نيتشه " بالإله ديونسيوس إله الحضارة اليونانية، ولهذا كرَّس دراساته الأولى في علم الفيلولوجيا اليونانية القديمة، وتأثر نيتشه بأول مظهر لديونسيوس وهو الألم، فالمأساة اليونانية تصوّره على أنه فريسة الآلام العنيفة التي تنتابه كل حين ومن كل ناحية، فالروح اليونانية كلها تشاؤم وصراع مع قوى الطبيعة، ولهذا درس نيتشه فلسفة "شوبنهور" التشاؤمية وأحب شوبنهور، وأعجب بفاجنر جدًا هو وموسيقاه.. لماذا؟ لأنه تلميذ شوبنهور، ورأى في فاجنر أنه ابن الإله ديونسيوس، وقد تجسدت فيه روح الإله، فتعرَّف " نيتشه " على فاجنر في نوفمبر 1868م في ليبتسج، وصادقه وأحبه.
وكان " نيتشه " يمهر رسائله التي يرسلها إلى أصحابه بتوقيع " ديونسيوس " وأحيانًا " المصلوب " وأحيانًا " عدو المسيح " وكثيرًا ما كان يبدأ (يبتدر) أصحابه بهذه التحية (كونوا سعداء، لقد تنكرت بهذا الزيّ، ولكني أنا الله)" (10).

وقال نيتشه قولته الشهيرة "لقد مات الله" فكان يفتخر قائلًا: لقد قتلنا الإله وهو عمل جد عظيم، فيجب أن نكون نحن الآلهة بعد هذا العمل الذي ليس أعظم منه، وعندما سُئل نيتشه: لماذا مات الله؟ أجاب: شفقة على الأشرار، وقال "نيتشه" نحن لا نريد ملكوت السموات لأننا نحن بشر، إنما نريد ملكوتًا أرضيًا، كما يقول في كتابه "زرادشت": "صادف زرادشت وهو يهبط إلى أسفل الجبل شيخًا ناسكًا أخذ يحدثه عن الله، فتعجب زرادشت في نفسه كيف أن هذا الناسك لم يسمع وهو في غابته أن الله قد مات وماتت معه جميع الآلهة" (11).
وعندما قال نيتشه " لقد مات الله " احتار المفسرون في قصده من هذه العبارة، هل كان لله وجود ولم يعد له وجود حقيقي الآن، أم أنه مات في نظر الناس فلم يعودوا يشعرون بوجوده، أم أنه مات على الصليب شفقة على الأشرار، ويقول "الدكتور رمسيس عوض " عن هذا الاصطلاح النيتشاوي " أن نيتشه استخدمه على نحو غامض حار المفسرون في فهمه، فنحن لا نعرف إذا كان نيتشه يريد أن يقول أن الله غير موجود ولم يكن في أي وقت من الأوقات موجودًا، أو أنه يعني أن الله موجود ولكن المسيحيين وغيرهم أساؤوا فهمه بطريقة بشعة، ومن ثمَّ فإن القول بموت الله هو رفض لهذه المفاهيم الخاطئة. هل يريد نيتشه بقوله هذا أن يهاجم فكرة الألوهية كفكرة أم أنه يريد أن يهاجم فكرة الألوهية كما هي واردة في الحضارات الغربية. والجدير بالذكر أن جان بول سارتر يفسر قول نيتشه بموت الله بأن نيتشه يريد أن يقول أن الله غير موجود، وأن على البشر أن يواجهوا وحدتهم وغربتهم في هذا الكون بشجاعة" (12).
أما "ريتشارد وورمبلاند" فقد أخذ الجانب الحسن في هذه المقولة، فقال "لكن نيتشه كان في أعماقه أكثر توقيرًا لله من تلامذته، وكان يتحدث عن موت الله بما نسميه الرعب المقدَّس، وحينما أصابه الجنون بعد ذلك كان يرتاد الكنائس وهو يردد لحنًا لاتينيًا حزينًا يُبكي به الله الميت! لقد مات الله بالنسبة له، ولكن موت الله كان أقسى دراما أثرت في حياته وهدمت أركان عقله المضطرب، لقد كان يشعر بالحزن العميق والأسى لأن إلهه لم يعد حيًّا بعد" (13).
وبينما كان " نيتشه " على فراش الموت قال لأخته " أعطني وعدًا إذا متُ ألاَّ يقف حول جثتي إلاَّ الأصدقاء، فلا يُسمح بذلك للجمهور المحب للاستطلاع، ولا تسمحي لقسيس أو غيره أن ينطق الأباطيل بجانب قبري، في وقت لا أستطيع أن أدافع فيه عن نفسي. أنني أريد أن أهبط إلى قبري وثنيًّا شريفًا" (14).
ولم يجد " نيتشه " راحته في الإلحاد، فالإنسان جُبل على صورة الله، فلا تشبع نفسه إلاَّ بالله غير المحدود، ويقول "بولس سلامة " عن " نيتشه": "وظلت اللانهائية تستهويه.. أنه يريد البقاء في هذا العالم ولكنه لا يستقر على شيء فيه.. بالرغم من إلحاده الظاهر كان عطشًا إلى الله.. فهو صوفي انقلب على أم رأسه فبات ينظر إلى الأشياء معكوسة. أنه عطشان ضل طريقه إلى النبع.. وكلما أبتعد خطوة أشتد عوزه إلى الماء. ألم يقل عن المسيحية التي تنكَّر لها {أنها أطيب حقبة صادفتها في حياتي الفكرية، ومنذ بدأت أنسى متعتها في منعطفات كثيرة، وأعتقد أنني في صميم نفسي لم أكن حيالها فظًا غليظًا}.. فقد كان مزاجه عصبيًا.. وثار أول ما ثار على نفسه.. لقد طرد نفسه بنفسه من الفردوس وأدار له ظهره باحثًا عنه في القفر، ولكن أرواح الفردوس ما برحت تُلقي أشباحها أمامه فينحني ليجتني الثمار ولا يجد إلاَّ خيالها. يظهر مما تقدم أن الإيمان لم يُشبع نفسه فأصلاه حربًا ضروسًا، شأنه في ذلك شأن المنتحر، يقتل ذاته لا كُرهًا للحياة بل لشدة حبه لها ولأنه يبغيها" (15).

س27: كيف نظر "نيتشه" للمسيحية والكنيسة؟

ج: يقول "نيتشه": "لقد كانت المسيحية حتى اليوم البلية المشئومة الأكبر ضد البشرية "(16) كما يقول أيضًا "بهذا أكون قد وصلت إلى النهاية فأُعبر عن حكمي. أنا أدين المسيحية وأرفع ضد الكنيسة المسيحية الاتهامات الأكثر ترويعًا التي قيّض لمتهم أبدًا أن يحملها في فمه. إنها عندي الفساد الأكبر بين كل ما يمكن تخيله من فساد، أنها قد ملكت إرادة الوصول إلى الغاية الممكنة من الفساد.
الكنيسة المسيحية لم تَدَع شيئًا دون أن تلمسه بفسادها، كل قيمة حوَّلتها إلى لا قيمة، وكل حقيقة إلى كذب، وكل أمر مُشرّف إلى حطَّة للروح. أفيتجاسر أحد مع ذلك ويكلمني عن بركتها الإنسانية.. لقد عاشت على حالة الحاجة والبؤس.. التطفل هو الممارسة العملية الوحيدة للكنيسة! الكنيسة بأفكارها ذات اليرقان وفقر الدم والقداسة، التي تنغب حتى الأخير كل دم، كل أمل، وكل محبة في الحياة.. تُضاد الصحة والجمال والإتقان، والإقدام، والهمة، وكرم النفس، تضاد الحياة ذاتها.
هذا الاتهام الأبدي ضد المسيحية أريد أن أكتبه فوق كل الجدران، حيث توجد جدران، فأنا أملك حروفًا مرئية حتى من العميان .
أنني أدعو المسيحية اللعنة الكبيرة الوحيدة، الشذوذ الباطني الأكبر والوحيد، والغريزة الأكثر تفردًا للانتقام، الذي لأجله ليس ثمة أداة سامة كفاية، خفيَّة، سردابيَّة، لئيمة، مثلها.
أنني أدعوها اللطخة الأبدية فوق البشرية" (17).
ويقول "نيتشه " عن الكنيسة " والكنيسة نفسها؟! أليست أنها مأوى المجانين الكاثوليكي.. إن الإنسان المتدين -كما تريده الكنيسة- منحط نموذجي" (18).
وقبل تعرض " نيتشه " للجنون بنحو شهرين أو ثلاثة قاد هجومًا محمومًا ضد المسيحية، ورأى أن هذا الهجوم سيمثل تاريخًا جديدًا للعالم عوضًا عن التاريخ الميلادي الزائف، وقد مَهر هجومه هذا المكون من سبعة بنود بـ"ضد المسيح " فكتب:
" تشريع ضد المسيحية"
أُعطي في يوم الخلاص، في اليوم الأول للعام واحد (30 سبتمبر عام 1888م من التقويم الزائف) حرب حتى الموت ضد الرذيلة، والرذيلة هي المسيحية:
البند الأول: رذيل كل نوع ضد الطبيعة، النوع الأكثر رذيلة بين البشر هو الكاهن..
البند الثاني: كل مشاركة في خدمة إلهيَّة هو تعدٍ على الأخلاق العامة. يتوجب التشدد والقسوة ضد البروتستانتيين أكثر من الكاثوليكيين..
البند الثالث: المكان اللعين، حيث حضنت المسيحية بيوض الأفاعي.. سيكون مُدمَرًا وسويٍ بالأرض..
البند الرابع: الواعظ بالعفة هو تحريض عمد في الحضارة الطبيعية. كل احتقار للحياة الجنسية.. هو خطيئة أصلية ضد الروح المقدَّس للحياة.
البند الخامس: تناول الطعام فوق مائدة واحدة مع كاهن يسبب الطرد..
البند السادس: التاريخ " المقدس " يجب أن يُلقَّب بالاسم الذي يستحقه: تاريخ ملعون وكلمة " الله"، " المخلص"، " الفادي"، " قديس " تستعمل كسُبَّة، كتمييز للمجرمين.
البند السابع: البقية تستنبط من هنا
الأنتي كريستو" (19)
ولم يسلم الإنسان المسيحي من لسان نيتشه، حيث قال عنه " المسيحي معنى مؤكد على الفظاظة والقسوة ضد ذاته، وضد الآخرين، وعلى البغضاء ضد من يفكرون بطريقة مختلفة.. المسيحية عداوة حتى الموت ضد أسياد الأرض وجبابرتها، وضد النبلاء.. المسيحي هو بغضاء.. أنه ضد الحرية، وضد التحرر الروحي، المسيحي بغضاء معادية للأحاسيس، وضد سرور الأحاسيس، وضد الفرح في النهاية" (20) كما يقول أيضًا " المسيحي والفوضوي: كلاهما منحط، وكلاهما غير قادر أن يعمل بطريقة أخرى سوى التفسيخ والحل، والتسميم، وخسف الحيوية، ومص الدماء، كلاهما مع غريزة البغضاء حتى الموت لكل ما هو منتصب، متشامخ، ويمتلك ديمومة، ولكل ما يعد الحياة بمستقبل.. لقد كانت المسيحية مصاص دماء الإمبراطورية الرومانية" (21).

رأى "نيتشه" في "الأخلاق المسيحية" أنها أخلاق العبيد، وأن الموعظة على الجبل تشمل أخلاقيات العبيد، وبالتالي فأنها تحط من قدر الإنسان، وأزدرى " نيتشه " بالسيد المسيح لأنه صلى لكيما تعبر عنه كأس الموت، وأعاب " نيتشه " على المسيحية لأنها تستأنس شجاعة الإنسان وتروض جسارته، فالحيوان المتوحش متى تم استئناسه فأنه يفقد روعته،ويقول "نيتشه": "ما الذي نحاربه في المسيحية؟ نحن نحارب فيها سعيها إلى تحطيم الأقوياء وكسر أرواحهم واستغلال لحظات تعبهم وعجزهم، وسعيها إلى تحويل الفخور بالذات إلى حالة من القلق وتنغيص الضمير، ونحن نحارب فيها أنها تعرف كيف تسمّم أنبل الغرائز وتصيبها بالسقم والمرض حتى تتجه قوتها وإرادتها في الحياة إلى دخيلة الذات وتدمر نفسها" (22).
ويقول "الدكتور لويس عوض": "وقد قدّر لابن القس هذا أن يكون أكبر داعية عرفه التاريخ لمناهضة الأخلاق المسيحية.. فهو من فرض خشيته أن يكون قديسًا آثر أن يكون شيطانًا. وقد كان نيتشه شيطانًا بالفكر" (23).. " لذلك تدور أكثر كتابات نيتشه حول فكرة واحدة هي تحرير الإنسانية من الأخلاق المسيحية.. فالأخلاق كلمة لا معنى لها ألاَّ في قاموس العبيد، والفضيلة عملة يشترى بها الضعفاء السعادة في الحياة الدنيا أو في الدار الآخرة.. الأخلاق المسيحية عند نيتشه " أخلاق المنفعة"، والمسيحية هي {اللعنة الوحيدة الكبرى، وهي الانحراف الوحيد الهائل المتغلغل الذي تجوز مقاومته بأية وسيلة.. وأنا أسميها الوصمة الوحيدة الخالدة في جبين البشرية}.." (24).
كما هاجم نيتشه الثورة الفرنسية لأنها تنادي بالمساواة والإخاء بين الناس، وهي ضد فكرة السوبرمان الذي يتميز بالفخر والعظمة والمعرفة وركوب الأخطار وخوض المعارك، وقال نيتشه أن " المسيحي كائن بطال، مغرور، ضائع. أنه غريب عن نشاط الأرض.. فلهذا فإن الحياة تنتهي حيث يبتدي ملكوت الله" (25) وأيضًا قال نيتشه " فأول واجب علينا إذا أردنا أن نمهد لظهور السوبرمان هو ليس التخلي عن الأخلاق المسيحية فحسب، بل مقاومة هذه الأخلاق التي تمجد الضعف وتحوُل دون ظهور السوبرمان الذي يتوكل على نفسه فقط ولا يتوكل على الله.. فالمجد للأقوياء وسحقًا للضعفاء والمحتاجين، والخير والرحمة كلمتان ينبغي إزالتهما من القاموس. كن صلبًا، لا تراع جارك.. فالخطر الأول على الإنسانية الفاضلة كامن في الأخلاق المسيحية" (26) وعندما أصدر نيتشه كتابه " فيما وراء الخير والشر " دافع فيه عن الشر وهاجم الخير، بل وهاجم الفيلسوف الإنجليزي " جون ستيوارت ميل " الذي قال أن من واجب الإنسان أن يعمل على انتصار الخير واندثار الشر.
س28: كيف كانت نظرة نيتشه التشاؤمية للإنسان، وحلمه بالإنسان السوبرمان، ونظرته التشاؤمية للمرأة؟


ج: - نظرة نيتشه للإنسان: هاجم نيتشه الإنسان الحالي بوصفه الدودة الحقيرة والقرد والحيوان، وكان يحلم بالإنسان السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي يحطم كل المقاييس البشرية، فعن الإنسان الحالي يقول "أن الذي يثير اشمئزازنا هو هذه الدودة الحقيرة، الإنسان الذي ما برح يتناسل.. يمكننا التساؤل عما إذا كان هؤلاء المسافرون الجوابون قد شهدوا في طوافهم شيئًا يبعث على الكراهية والتقزز أكثر من وجه الإنسان.. إذا كان الله خلق الإنسان فإنما خلقه قردًا يلهو به في أبديته الطويلة.. الإنسان أقسى الحيوانات وأشجعها، وعندما يفكر فهو الحيوان الذي يصدر أحكامًا.. فهو مرادف للمرض والاعتلال. وأنه لا يدرك نفسه إلاَّ من خارج" (27) أما عن الإنسان السوبرمان فقال نيتشه " لقد ماتت الآلهة جميعًا، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان أو الإنسان الأعلى.. أنني أبشركم بالإنسان الأعلى. يجب أن يأتي من الإنسان من يفوق الإنسان" (28) ويقول الدكتور " لويس عوض " أيضًا: "فقد تأثر نيتشه بنظرية داروين في التطوُّر، وبنى عليها نظرية أخرى خلاصتها أن في الإنسان غزوًا طبيعيًا يجعله يعتقد أنه آخر مرحلة من مراحل الحياة العضوية، ولكن تاريخ تطوُّر الأحياء يدلنا على أن عملية التطوُّر لن تقف عند حد الإنسان، بل ستستمر في المستقبل ومنها سينشأ نموذج من البشر أرقى من الإنسان الحالي وأقرب إلى الكمال، يمكن أن نسميه السوبرمان. فإن لم تكن عوامل التطوُّر الموجودة تؤدي بالضرورة إلى ظهور السوبرمان فيمكن أن نعمل على توجيهها بحيث تنتهي بظهوره.. والسوبرمان أو الإنسان الفاضل لا يختلف عن الإنسان العادي في أنه أدنى إلى السعادة، بل يتميز عنه بالقوة، وتتمثل هذه القوة في الإرادة الجبارة وفي مباشرة السلطان.. ولكي توطئ لظهور هذه الفصيلة الراقية من البشر لابد أن يتعلم الناس القوة والصلابة والقسوة، وأن يبغضوا الضعف والدعة والراحة والقناعة والتسامح والرحمة والتواضع والإخاء والمساواة" (29).
أما نظرة تيتشه للمرأة فهي نظرة احتقار شديد، فقد أظهر نيتشه كراهيته الشديدة للمرأة بالرغم من أن أمه كانت سيدة متدينة، وأخته أليصابات كانت من أقرب الناس إليه، وقد وصف النساء في كتابه " هكذا تكلم زرادشت " بأنهن قطط وطيور وأبقار، وأن دورهن في الحياة مجرد الترفيه عن الرجال المقاتلين، ودائمًا ينشغلن بالرقص وأدوات الزينة والكلام الفارغ والعواطف الهوجاء، ومن أقواله {إذا ذهبت إلى امرأة فلا تنسى أن تأخذ معك سوطك} (30) ويرى أن المرأة التي تريد أن تستقل بذاتها ولا تخضع لإرادة الرجل فأنها فظيعة، وأن الشرقيين محقين لأنهم ينظرون للمرأة كقطعة تُباع.
س29: كيف مجَّد نيتشه الحرب، وشجَّع على الانتحار؟

ج: كان " نيتشه " متيمًا بالحروب وصراع القوة، ففي سن الثالثة والعشرين التحق نيتشه بالجيش، بالرغم من أنه كان يعاني من قصر نظر شديد، وحساسية مرهفة بالعينين حتى أنه لم يكن يستطع أن يعاين نور الشمس أكثر من ساعة ونصف في اليوم، وأعجب نيتشه بالضبط والربط، والطاعة، وتحمل المهام الشاقة، ولكن بعد خمسة أشهر سقط من على جواده فأصيب في صدره وجنبه الأيسر، وتم تسريحه والاستغناء عنه، وأمضى الفترة من 1869-1879م أستاذًا مساعدًا للفيلولوجيا بجامعة باذل، وفي سنة 1870م عندما نشبت الحرب بين بلاده الألمانية وفرنسا، عاد وتقدم للجيش ثانية، ولكن بسبب اعتلال صحته وضعف بصره لم يقوَ على المشاركة في القتال، فعمل في صف التمريض في فرانكفورت من أغسطس إلى أكتوبر سنة 1780م، وعندما رأى كوكبة من الفرسان اهتز وجدانه، ولمعت في ذهنه فكرة "السوبرمان" فصارت أبرز فكرة في فلسفته التي تسعى للقوة، حتى أنه قال " ما هو الخير..؟ كل ما يعلو في الإنسان، بشعور القوة وإرادة القوة والقوة نفسها.

ما الشر..؟ كل ما يصدر عن الضعف.
ما السعادة..؟ الشعور بأن القوة تنمو وتزيد..
لا رضى، بل قوة أكثر وأكثر، لا سلام مطلقًا، بل حربًا، لا فضيلة بل مهارة..
الضعفاء العجزى يجب أن يفنوا: هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية..
أي الرذائل أشد ضررًا..؟ الشفقة على الضعفاء العجائزين؟" (31).
وأشاد " نيتشه " باحتقار الإسلام للمسيحية، لأنه يُمجّد القوة بينما المسيحية تُمجّد الضعف والخنوع في نظره، فيقول "أن الإسلام لدى احتقاره المسيحية يمتلك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك، إذ الإسلام يتطلب رجالًا. لقد حرمتنا المسيحية من مجاني (جني ثمار) الحضارة القديمة (يقصد الإمبراطورية الرومانية التي أشاد بها في كتاباته إذ كان مغرمًا بقوتها) وفيما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام" (32).
ويقول "الدكتور لويس عوض": "هذه هي الشعارات التي نادى بها نيتشه {إن الحرب والشجاعة قد أثمرتا أشياء أعظم مما أثمر الإحسان.. فلتحيا حياة الطاعة والحرب} الألم يُطهّر النفس والخطر مدرسة الأبطال، أما الشكوى والأنين وانتظار الرحمن فمن سجايا العبيد.. والعبيد لا يستحقون إلاَّ السعادة أما الأقوياء فهم يستحقون السيادة و[كل ما نبع من القوة فهو خير، وكل ما ينبع من الضعف فهو شر] فهل غريب بعد كل هذا أن يقترن اسم نيتشه بالدعوة للحرب وأن يُعرف بأنه أكبر عدو للسلام؟ وهل غريب بعد كل هذا أن تجد النازية في فلسفته الدعامة الفكرية والروحية التي أقامت عليها دعوتها للقوة والسيادة والتفوق السوبرماني" (33).
ويقول "القمص بولس عطية " أن "نيتشه" مجَّد تنازع البقاء وتنازع السلطان بين الأفراد، ورأى البعض أن جنون " نيتشه " لم يبدأ في نهاية أيامه، إنما لازمه طوال حياته، لأن ما كتبه ما هو إلاَّ هذيان مجنون، ومع هذا فإن أحدًا لا يستطيع أن ينكر مدى تأثر الفكر المعاصر بما كتبه نيتشه (راجع دراسات في علم اللاهوت ص 160، 161).
ورأى " نيتشه " أن الإنسان يجب أن يحيا طالما يملك القدرة على العطاء، وليس المطلوب أن يحيا الإنسان طويلًا، إنما المطلوب أن يحيا حياة حافلة خصبة زاخرة، وأن الإنسان عندما يشعر أنه لا يستطيع أن يعلو أكثر مما هو عليه، فأنه يشعر بحاجته الشديدة للموت، ولذلك يجب أن يجعل الإنسان من موته عيدًا، حتى لو تطاول على الحياة، أي أقبل على الانتحار، فنيتشه لا يفضل الموت الطبيعي، ويقول عنه أنه " موت لا دخل لإرادة المرء فيه، وهو موت في وقت غير مناسب، وهو موت الجبناء" (34) كما قال " أنا لا أريد الحياة، وما الذي يجبرني على تحملها، بل على النظر إليها، ولا أدري كيف أستطيع النظر إلى عاشقيها" (35) وقال أيضًا " يجب أن نفرح بالمنية (الموت) المنقذة من الحياة والمعيدة إلى العدم" (36)، فإن " نيتشه " قد فقد إيمانه تمامًا بالله وبالحياة الأخروية وسقط في هوة الإلحاد المظلمة.

س30: كيف أُغرم نيتشه بالترحال، رغم حالته الصحية المتردية؟

ج:عاش " نيتشه " يعشق الموسيقى والقراءة والكتابة، فكان إنتاجه من الكتب غزير جدًا، وهوى الترحال وأُغرم به فانتقل من مكان إلى آخر في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، كالطير الذي لا عش له، مفضلًا إقامة مجتمع عالمي، معتقدًا أن المستقبل للمواطن العالمي، فالسوبرمان لا يقترن بموطن معين، إنما جميع الأوطان هي وطنه، مثل نابليون وجوته وبيتهوفن وشوبنهَور، وعاش نيتشه حياته بلا زوجة ولا أولاد ولا أصدقاء ولا إله، فقد كان يتعبَّد في محراب ذاته ويشعر بالاستعلاء على كل أحد، لم يعتز بالقومية الألمانية، إنما كان فخورًا بجذوره البولندية، وأيضًا الشعب الألماني لم يحفل به أثناء حياته ولم يهتم بآراءه الصادمة.
ويقول عنه " بولس سلامة": "كان مترجرجًا لا يطمئن به بلد، ولا يستقر في أرض. فكذلك أضحت فلسفته رجراجة تثب من أفق إلى أفق، ومن واد إلى ربوة، ومن صخر إلى كثب.. فهو شريد شاذ، لا زواج ولا وطن.. لا يكاد يعتنق فكرة حتى يفرُّ منها إلى سواها، دائم التجوال ودائم البحث عن جديد. كذلك شأنه في التفكير وفي الصداقات.. أو لم يكتب وهو تلميذ في الخامسة عشرة من سنه: لا يحق لأحد أن يتجاسر فيسألني عن وطني، فلستُ مرتبطًا بالمكان ولا بالزمان الذي يمر، إني طليق كالهواء.. وهو دائم التناقض لا يتروى ولا يبرم أمرًا، فتراه دائم العراك مع أصحابه ومع نفسه.. ولا ريب أن كبرياءه كانت من الأسباب التي جرت عليه وعلى الملائكة من قبله ما جرت من النكبات. ألم يكتب إلى أمه وهو بعد تلميذ رخص العود: لن يؤثر عليَّ أحد، لأني لم أرَ حتى الآن من هو فوقي. وكتب إلى أخته.. لا أحسب في مقدوري التعلق بأحد، لأن ذلك يفترض إني لقيتُ إنسانًا في مرتبتي.. لقد كان الرجل في عزلة رهيبة، أليس هو القائل: اشتهيت البشر ونشدتهم فلم أجد سوى ذاتي، ولقد سئمت من ذاتي.. ولقد كتب إلى أخته في سنة 1888م قبل انتهاء حياته العاقلة بقليل: لا يكاد يبلغني صوت صديق، أنا الآن وحدي، ولقد مرت بي سنون أقفرت من العزاء" (37).
ويقول "د. عبد الرحمن بدوي " عن نيتشه وعدم استقراره " هذا الذي طارده شيطانه طوال حياته، وأبعد بينه وبين الواقع، فحرمه الاستقرار والثبات على شيء ما من الأشياء، أو علاقة ما من العلاقات، وجعله مضطربًا كل الاضطراب، قلقًا لا يعرف الاطمئنان سبيلًا إلى قلبه ولا الاستقرار منفذًا في حياته. فحرمه أول ما حرمه من البيت والأبوة والزوجة. ولا يكاد يستقر في مكان حتى ينتقل عنه إلى مكان آخر، فظل طوال حياته شريدًا طريدًا" (38).
أما عن حالة الصحية المترديَّة فقد تكاثرت الأمراض عليه نحو عشرين عامًا، لا يكاد ينتهي من مرض ألاَّ ويبدأ في مرض جديد، فكان يعاني من قصر نظر شديد، وكانت عيناه تتورمان لأقل مجهود تبذلانه، أو تبكيان بكاءًا شديدًا. وإذا أستمر في عمله على الرغم من ذلك، أصابهما التهاب شديد يحرم صاحبهما من القراءة، حتى أنه وهو في سن الخامسة والعشرين كان يستعين بمن يقرأ له ويكتب، وكان يسير بخطى بطيئة متثاقلة، كمن يسير في بحر لا يدري أغواره، ولا يستطيع أن يعاين نور الشمس أكثر من ساعة ونصف كل يوم، وبينما كان ينقل المرضى والجرحى من الجنود في حرب ألمانيا مع فرنسا سنة 1870م أصيب بالدوزنتريا، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي " عن الآلام التي كانت تنتاب نيتشه " تارة في صورة أوجاع في الرأس وصداع يصحبه إبراق في العينين، وطورًا على شكل قئ مؤلم مختنق، يتلوه شعور عام بشيء يشبه الشلل، وطورًا ثالثًا يكون هذا المرض إغماء يفقد صاحبه الشعور لمدة غير قصيرة.. ثم شعور بضغط في الدماغ يستمر طويلًا، ولا يكاد ينقطع عنه من بعد إلاَّ سويعات بسيطة وأوقات متناثرة نادرة" (39).

والأمر العجيب أن " نيتشه " لم يمل المرض، بل تعايش معه، وأفتخر به، فتراه يقول "تألم فالألم مصدر العظمة" (40). ولم يضق " نيتشه " بمرضه، بل كان يشعر أن المرض هو الذي يخلص الروح ويحرّرها، فقال " لا أريد أن أودع هذه الفترة من المرض والألم دون أن أعترف بالجميل الذي طوَّق عنقي به، والذي لا أزال أنعم بآثاره التي لا تفنى ولا تنفذ " والمرض لدى نيتشه يجمع بين شاطئين، شاطئ الألم المظلم وشاطئ الشفاء الباهر النور، وأعتبر أن الألم شرط لبلوغ السرور، وأيضًا الألم يجعل العقل يسمو والإنسان يزداد في الروحانية. ولعل حياة المرض المتصلة والآلام المبرحة التي كابدها نيتشه تفسر لنا حلمه ببلوغ الإنسانية مرحلة " الصحة العظمى". وفي سنة 1879م استقال من التدريس في جامعة باذل بسبب المرض، وظل أستاذًا على المعاش وعندما تعافى نيتشه من المرض قليلًا خلال الفترة 1881-1884م كتب " الفجر" و"العلم المسرور " والجزء الأول والثاني من " زرادشت".
س31: كيف تفنَّن نيتشه في فقدان الأصدقاء، وعاش متقلب المزاج؟

ج: تفنَّن " نيتشه " في كيفية فقدان الأصدقاء، فقد كان يعيش حياة الاستعلاء، فكتب لشقيقته يقول "عندما أتكلم عن أفلاطون وبسكال وسبينوزا أشعر أن دمهم يجري في عروقي.. سأقيم الحواجز حول أفكاري لئلا تدوس الخنازير بستاني، ومن جملة الخنازير أولئك الثقلاء المعجبون بي من غير تفهُّم" (41) فبعد أن كان نيتشه معجبًا أشد الإعجاب بفاجنر، وأستمر يصادقه لمدة ثمان سنوات، وقال عنه " أن روحه تسودها مثالية مطلقة، وإنسانية عميقة، وفيها جلال رائع، وكل هذا يشعرني وأنا بالقرب منه، بأني في حضرة إله" (42).
ولكن عندما ظهرت الروح المسرحيَّة الهزليَّة لفاجنر في مسرع بايْروْيت سنة 1876م فقد نيتشه إعجابه به وأنتقده قائلًا " هل رجل عظيم؟ أنا لا أدري فيه دائمًا إلاَّ إنسانًا قد مثَّل مهزلة مَثَلهِ الأعلى" (43) وأفترق عنه، مع أنه أراد أن لا يفقد صداقته، حتى قال " نحن كأصدقاء لا يجمعنا شيء، ولكن كلًا منا يجد سعادته عند الآخر، إلى درجة أن الواحد منا يعين الآخر على السير في اتجاهه ويغذيه، حتى ولو كان هذا الاتجاه مضادًا لاتجاهه" (44) كما قال " لقد أحببت فاجنر وأعجبت به أكثر من أي إنسان آخر في العالم.. ما كان لي القدرة على احتمال أيام شبابي لولا موسيقى فاجنر.. وإني لأُسمي فاجنر أعظم من أفادني في حياتي" (45) ورغم هذا فإن نيتشه قد فارق فاجنر وفقد صداقته، وفي سنة 1878م أصدر كتابه " إنساني، إنساني جدًا " فأعلن فاجنر اشمئزازه منه.
وإنصرف الناس عن " نيتشه " وعن كتاباته، حتى أنه عندما أصدر الجزء الرابع من "زرادشت" لم يطبع أكثر من 40 نسخة، ولم يُباع منها إلاَّ سبعة نسخ فقط، بالرغم من استخدامه الأسلوب الأدبي ذو الموسيقى الساحرة، حتى أن نيتشه أظهر ألمه من هذا قائلًا " أن لا أسمع، بعد دعوة صادرة من أعماق نفسي مثل كتاب "زرادشت" أية إجابة أو كلمة رد أو صدى، لا شيء، لا شيء مطلقًا، وإني لا أجد دائمًا غير وحدة صامتة يتضاعف ألمها آلاف المرات، في هذا كله ما يفوق كل ما يستطيع المرء تصوُّره من فزع وهلع. وأن أعظم الناس قوة وأشدهم جلدًا وصبرًا ليمكن أن يُقضَى عليه منه" (46).

وكلما أصدر نيتشه كتابًا جديدًا كلما فقد أصدقاء جدد، حتى دخل في وحدة رهيبة، وكان يسلي نفسه قائلًا " كل من قُدّر له أن يذيع شيئًا جليلًا في يوم من الأيام، لابد أن يظل وقتًا طويلًا مطويًا في داخل صمته. وكل من قُدّر له أن يشعل البرق يومًا ما، لابد وأن يظل سحابًا لمدة طويلة" (47) كما قال أيضًا " آه لو كان في استطاعتي إعطاؤك فكرة عن إحساسي بالوحدة، فلست أجد من بين الأحياء ولا الأموات من أحسُّ بأن بيني وبينه شبهًا وقرابة، وهذا مخيف، مخيف جدًا جدًا" (48) وكان يسلي نفسه أيضًا عن وحدته بأنه متميز عن جميع البشر فقال:
" أجل! إني لا أعلمُ من أنا، ومن أين نشأتُ
أنا كاللهيب ألتهَم
أحترق وآكل نفسي
نورُ، كل ما أمسكته
ورمادُ، كل ما أتركه
أجل، إني لهيب حقًا "
ثم أرسل نداءًا أخيرًا جاء فيه: "هؤلاء أنتم يا أصدقائي - آه!.. ولكن هل أنتم لا تسيرون إليَّ..؟ ماذا!! هل تغيرتُ فأصبحت إنسانًا آخر، غريبًا حتى عن نفسي..؟ أتبتعدون؟ - أيه أيها القلب، لقد عانيت من هذا الشيء الكثير! ولكن أمَلكَ لا يزال قويًا بعد: فدع أبوابك مفتوحة لأصدقاء " جديدين "!.. إنهم أصبحوا " قدماء " - وهذا ما أبعدهم عني: فإن من يتطوَّر هو وحده القريب مني، ذو الصلة بي.. إيه يانهار الحياة! أيها الشاب الثاني!.. إيه أيها السرور القلق، الذي فيه ينتظر المرء واقفًا يراقب ويترصَّد!.. أصدقائي، إنني لأنتظرهم إناء الليل وأطراف النهار.. أي أصدقائي " الجديدين " تعالوا إليَّ، فهذا وقتكم" (49) وقال " نيتشه": "أيتها الوحدة أنتِ وطني" (50) وفي أواخر حياته العقلية كتب لأخته متألمًا يقول "أوَّاه! لم يبقَ لي صديق ولا من إله" (51).
وكان " نيتشه " متقلب المزاج بحدة، فقد كان يسجل خواطره وأفكاره التي أشبه بالصواعق، وبعد قليل يتخلى عنها، فتجده يقول "مهما يكن الشيء الذي أخلقه عظيمًا ومهما يبلغ حبي له، فلا ألبث أن أنقلب عليه وأن أصير خصمًا لحبي.. إن هذا المفكر العظيم (يقصد نفسه) لا يحتاج إلى من يهدمه لأنه يهدم نفسه" (52).
ويعلق " بولس سلامة " قائلًا " ومن جملة الأسباب التي جعلت نيتشه لغزًا على نفسه قلة تعمقه في التاريخ العام، ونقص مداركه القانونية، وضآلة معارفه اللاهوتية، وتطرفه في كل شيء إلى حد التهور" (53) ولذلك ليس بالأمر العجيب أن نيتشه الذي طالما أنتقد الإيمان المسيحي عاد يعترف بفضله، فيقول "حتى نحن رواد المعرفة اليوم ومضادو الميتافيزيقيين، والذين نفخر بأنه لا وجود لله، فنستمد نارنا من لهيب عمره ألفي عام - هذا الإيمان المسيحي الذي نادى به أفلاطون من قبل - والذي خلاصته أن الله حق، وأن الحق إلهي" (54) ومما يذكر أنه بعد أن جدف على سر التجسد الإلهي، عاد وقال: قد يكون التجسد مظهرًا من مظاهر العظمة الإلهية، وفي كتاب " هكذا تكلم زرادشت " يقول "المرأة التي تحب تضحي بشرفها، والفيلسوف الذي يحب يضحي بإنسانيته، وإله أحبَّ فجعل نفسه يهوديًا" (55) فهذا نوع من الحب الكاره أو الكراهية المُحبَّة.

ونستطيع أن نقول أن القرن التاسع عشر الذي أفرز لنا نيتشه هو القرن الذي رفع فيه الإنسان لواء العقلانية، ولا شيء غير العقل وعبادته، ويقول "دكتور عبد الرحمن بدوي": "فعبادة العقل إذًا هي الطابع الرئيسي لهذا القرن ومبادئ العقل هي وحدها التي يجب أن يقوم عليها بناء الجماعة الإنسانية ومبانيها الروحية" (56) كما تميز ذلك القرن بالروح الإنكارية، فيقول "الدكتور عبد الرحمن بدوي " ثم تستمر المدنية " في سيرها حتى تصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حالة من الشك والانحلال، فيها يطرح الناس ما كان لهم بالأمس من مُثل عليا: دينية وسياسية وفنية وأخلاقية، وتصبح كل القيم المقدَّسة حتى ذلك الحين أوهامًا وأباطيل، ولا يجدون بعد معنى للحياة، وغاية لهم من الوجود، ويشعرون بأنهم قد خُدعوا في كل القيم التي اتخذوها حتى الآن، وينقلب هذا الشعور إلى يأس في كل شيء، وإنكار لكل شيء، فالشك إذًا والإنكار المطلق هو الطابع السائد لهذه الحالة، ولذلك سُميت " الروح الإنكارية " وهذه الروح الإنكارية هي التي وصفها نيتشه وصفًا دقيقًا.. وبعد أن تم له هذا حمل عليها حملة شعواء" (57).
س32: كيف كانت نهاية نيتشه؟ وما هي ثمار فلسفته؟

ج: أمضى " نيتشه " نحو الاثني عشر سنة الأخيرة من حياته في خلل عقلي، فبدأ هذه المرحلة في يناير 1889م، وكان قبيل هذه الفترة يشعر أنه هو الإله "ديونسيوس" القادر على التأثير على العالم كله، وأنه هو الفيلسوف الأكبر الذي سيُقسَّم التاريخ إلى ما قبله وما بعده، وازداد إنتاجه الفكري بدرجة كبيرة جدًا، فالكتاب لا يستغرق منه سوى عشرة أو خمسة عشر يومًا، وتميزت كتبه بالهجوم الشرس كما هو واضح في كتابه "مسألة فاجنر" و"عدو المسيح" وفي فترة جنونه كان يبدو عليه السرور والابتهاج، فبعد أن كان يعاني من الوحدة، وفقدان الأصدقاء، والأمراض، بدأ يشعر بأن الدنيا والناس يبتسمون له، وفي 22 ديسمبر 1888م كتب إلى صديقه " جاست " يقول "غنني أغنية جديدة، أن العالم يتجلى نوره والسموات في نعيم"، وظل نيتشه في حالة الجنون هذه حتى موته في 25 أغسطس 1900م.

ومات " نيتشه " واختلفت فيه الآراء، فمنهم من رأى أنه رسول الحرب، عدو السلام، مُلهم الروح النازية، معتمدين في هذا على كتاباته مثل " الإنسان الكامل"، و"السوبرمان"، ومنهم من دافع عنه قائلًا أن هذه النظرة التشائمية لنيتشه ترجع إلى أن الناس قرأوا عن نيتشه أكثر مما قرأوا لنيتشه، فهم يعبرون عن أفكار الآخرين عنه، وسخر منه " برتراند راسل " واصفًا إياه بأنه الإنسان الضعيف والسقيم الذي تراوده أحلام اليقظة ليتحوَّل إلى مقاتل سوبرمان، ومصدر دعوته للقوة والقسوة هو إحساسه بالضعف، وترجع كراهيته للمرأة ودعوته لاستخدام السوط معها إلى إدراكه لضعفه، وأنه يعرف أنه لن يستطيع السيطرة عليها، ويرى راسل أن فلسفة نيتشه التي تدعو للعنف والقسوة هي وراء الفاشية والنازية الألمانية (راجع د. رمسيس عوض - ملحدون محدثون ومعاصرون ص 22، 23).
ومن ثمار فلسفة نيتشه الإلحادية " بونيتو موسوليني " الإيطالي مؤسس الفاشية، و"هتلر" مؤسس النازية، فموسوليني كان يقول أن العلم قد أثبت أنه لا يوجد إله، وأنه إن كان الله موجود فليميتني الآن، والحقيقة أن الدين مجرد مرض نفسي، والسيد المسيح كان جاهلًا ومجنونًا، والمسيحية تشيع روح الجبن، والخنوع، وأحيانًا كان موسوليني يُظهر نفسه كأنه مازال مسيحيًا متمسكًا بالمسيحية، ففي عام 1924م أرسل ثلاثة من أولاده ليحضروا القداس ويتناولون من الأسرار المقدَّسة، وفي سنة 1925م دخل الكنيسة مع زوجته التي تزوجها منذ عشر سنوات مدنيًا، وعقد قرانه دينيًا على يد كاهن، وفي سنة 1929م أعترف البابا " بيوس الحادي عشر " بابا الفاتيكان بالحكم الفاشي لإيطاليا بزعامة " بونيتو موسوليني". أما "آدولف هتلر" Adolf Hitler وما نتج عن سياسته النازية، فلابد من فرد مساحة له في هذا البحث.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:09 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
آدولف هتلر (1889-1945م.)

س33: كيف تأثر هتلر بمسقط رأسه، وبنظرية التطوُّر، وفكر نيتشه؟ ولماذا أحرق اليهود؟

ج: وُلِد " أدولف ألويس هتلر " في 20 أبريل سنة 1889 في بلدة " برادانو " أعلى النمسا وبالقرب من الحدود البافارية، وهذه البلدة تفصل سياسيًا بين شعبين من الألمان، ولذلك لمع في ذهنه أنه من الواجب عليه توحيد الشعوب الألمانية، وهذا ما سعى إليه في حياته. وُلِد هتلر من أبوين كاثوليكيّين، هما" "الويس هتلر" و"كلارا بولزل " اللذان أنجبا ستة أبناء، مات منهم أربعة وتبقى " أدولف "وأخته الصغرى " باولا"، ولذلك كانت أمه تحبه حبًا مفرطًا، وقد أمضى " هتلر " طفولة مضطربة، لأن أبيه كان عنيفًا في معاملته له ولأمه، حتى أن " هتلر " قال فيما بعد " عقدت -حينئذ- العزم على ألاَّ أبكي مرة أخرى عندما ينهال عليَّ والدي بالسوط. وبعد ذلك بأيام، سنحت لي الفرصة كي أضع إرادتي موضع الاختبار. أما والدتي، فقد وقفت في رعب تحتمي وراء الباب. أما أنا فأخذت أحصي في صمت عدد الضربات التي كانت تنهال على مؤخرتي".

ودرس " هتلر " في مدرسة كاثوليكية، وفي طفولته زار كنائس كاثوليكية، وكانت أمنية الأب الذي يعمل موظفًا بسيطًا في مصلحة الجمارك أن يرى ابنه موظفًا في الحكومة، ولكن ميول الابن كانت تتجه بقوة نحو الفن (الرسم)، وفي نحو الثالثة عشرة مات أبوه في يناير 1903م، وفي السادسة عشر ترك " هتلر " المدرسة الثانوية دون الحصول على شهادته. وفي نحو الثامنة عشر لحقته أمه التي أصيبت بالسرطان، وكانت قد أُجريت لها جراحة بإزالة أحد ثدييها، ولم تعد تتحمل صعود السلم فأجر لها ابنها أدولف الذي كان يحبها جدًا شقة بالطابق الأول، وكان الطبيب المعالج لها يهوديًا، وربط " جوشيم ريكر " في كتابه "التاسع من نوفمبر - كيف قادت الحرب العالمية الأولى إلى المحرقة" بين هذا الطبيب اليهودي "إدوارد بلوخ" الذي حقن أم هتلر بمادة "ابودوفورم" وهي مادة خطرة، وكانت تستعمل حينذاك لعلاج السرطان، مما أدى إلى تسممها وموتها سنة 1907م ولها من العمر 47 عامًا، وبين كراهية هتلر لليهود، فقال "هتلر" أن اليهود جميعهم مرضى، وعليه (على هتلر) أن يكون الطبيب المداوي.
وصار أدولف هتلر وحيدًا بعد موت والديه، ولم يكمل تعليمه الثانوي بعد، فنزل إلى ساحة العمل ليكسب قوته، وترك "برادناو" واتجه إلى "فيينا" حتى يمكنه أن يعمل ويدرس في آن واحد، فعكف على رسم المناظر الطبيعية والبيوت وبيعها إلى التجار والسائحين، كما كانت الحكومة تصرف له راتبًا ضئيلًا لأنه بلا عائل، وقد رُفد مرتين من مدرسة فيينا للفنون الجميلة، وتوقفت إعانته المالية من الحكومة، فنزل ليعمل كعامل في البناء، ومن ثمَّ عرف هتلر معنى الجوع والفقر والحرمان، وفي عام 1909م عاش " هتلر " في مأوى للمشردين، وفي سنة 1910م أستقر في منزل يسكن فيه فقراء العمال، والأوضاع المتردية للعمال جعلته يهتم بأخبار السياسة، وتأثر بشخصية "شنيرر" Schonerer صاحب فكرة الوحدة الجرمانية، وأيضًا شخصية "ليجر" Luger عمدة فيينا ومؤسس الحزب المسيحي الاشتراكي، وفي خلال عمله في أعمال البناء كان يدخل في مجادلات حول الماركسية، وقد أقتنع تمامًا أنها لا تُصلح الشعوب ولا تُسعِدها، مما حدا بزملائه الماركسيين في العمل إلى محاولة التخلص منه بقذفه من أعلى المباني التي ينشئونها، وفي عدة مرات أرغموه على ترك العمل، ومن كثرة مساجلاته مع العمال فهم طريقة تفكيرهم ونفسيتهم ومزاجهم، وتعلّم كيف يملك زمام الحديث معهم، وكيف يقنعهم بأفكاره، وأدرك أن العامل الألماني ليس منحط النفس، بخس المعدن، ماركسي النزعة، ولكنه وقع فريسة للدعاية للماركسية.
وفي أبريل 1914م ترك "آدولف هتلر" فيينا واتجه إلى ميونخ عاصمة بافاريا، ومركز الفنون، فذهب ليحقق رغبته في ممارسة الفن من جانب، ومن جانب آخر يتفادى التجنيد الإجباري، ومع هذا تم القبض عليه من قبل الجيش النمساوي، ولكنه أُعفي من الخدمة العسكرية لعدم لياقته الطبية، وفي أغسطس من نفس العام أُعلنت الحرب العالمية الأولى فتطوَّع في الفرقة السادسة عشرة بالجيش الألماني، وعمل كساعي بريد، وهو عمل غير مُحبَّب بسبب التعرض الكثير لنيران العدو، وفي أكتوبر سافر مع فرقته إلى ميدان القتال وهو يشعر أنه محظوظ أن يخدم في الجيش الألماني الذي يعتبر المثل الأعلى للوحدة الألمانية، وكتب في كتابه " كفاحي " يقول أنني عندما سمعتُ خبر إعلان الحرب العالمية الأولى " جثوت على ركبتي وشكرت السماء من كل قلبي، والتي جعلتني أعيش في الزمان الذي جعل فيه ما يحصل الآن" (1). صار هتلر جنديًا شجاعًا مُطيعًا، وحصل على وسام " الصليب الحديدي " من الدرجة الثانية سنة 1914م، ومن الدرجة الأولى سنة 1918م غير أنه لم يُرقىَ، لأنه أُجري له تحليلًا نفسيًّا فاتضح أنه مضطرب عقليًا وغير مؤهل لقيادة مجموعة من الجنود، ثم أُصيب بشظية قنبلة إصابة بالغة فلزم المستشفى عدة شهور، وبعد شفائه تطوَّع للخدمة العسكرية مرة ثانية وبقى فيها حتى سنة 1918م، ولكن أُصيب مرة ثانية بغاز الفوسجين، وكاد يفقد بصره فعاد إلى المستشفى، وفي 9 نوفمبر 1918م وقفت ألمانيا على " معاهدة فرساي " التي حملت ألمانيا مسئولية الحرب، وأرغمتها على دفع تعويضات للمتضررين، وأعادت بولندا للوجود، فكان هذا بمثابة هزيمة ساحقة للشعب الألماني زلزلت كيان آدولف هتلر الذي كان يعتقد أن الجيش الألماني لا يُهزم، فقد كان " هتلر " متحمسًا أشد الحماس للدفاع عن ألمانيا، بالرغم من أنه لم يصبح مواطنًا ألمانيًا حتى سنة 1932م وألقى باللوم على الساسة، ومن هذا اليوم عزم على النزول لميدان الكفاح السياسي.

كما تأثر " هتلر " بنظرية داروين، فشجع فكرة الصراع بين الأجناس مقتنعًا بأن البقاء للأصلح، حتى أنه طالب بإبادة الضعفاء حتى يكون المجتمع أصح وأفضل وأقوى مما هو عليه، وأيضًا طالب بإعدام السلالات الضعيفة من البشر واستيلاد سلالات قوية، ويقول المؤرخ " هيكمان " عن هتلر: "لقد كان مؤمنًا راسخًا بالتطوُّر ومبشرًا به، وأيًّا كانت عقده النفسية الأعمق والأغوص، فأنه من المؤكد أن (فكرة الصراع كانت مهمة بالنسبة له) لأن في كتاب " كفاحي " Mein Kampt بيَّن بوضوح عددًا من الأفكار التطوُّريَّة، وخاصة تلك التي تؤكد على الصراع، والبقاء للأصلح، وإبادة الضعفاء لإنتاج مجتمع أفضل" (2).
وقد تشبَّع "هتلر" بفكر "نيتشه" الذي ركز كل اهتمامه وكتاباته في مقولة " لقد مات الله " مع الإشادة بفكرة " الإنسان السوبرمان"، وأقتنع هتلر بالإنسان السوبرمان، فراح يشعل العالم كله من خلال الحرب العالمية الثانية، وهو غارق في أحلام العظمة والسوبرمان، وتأكد للجميع أن فلسفة نيتشه التي تدعو للقسوة والعنف هي وراء النازية.
وتأثر أيضًا " هتلر " بما كتبه "مارتن لوثر" من دراسة بعنوان "عن اليهود وأكاذيبهم" وكراهية لوثر لليهود، ووصفه إياهم بذرية الأفاعي، وكتب " فيلهلم روبك " عقب " الهولوكوست " يقول "مما لا شك فيه أن مذهب مارتن لوثر كان له تأثير على التاريخ السياسي والروحي والاجتماعي في ألمانيا"، وفي سنة 1923م قال " هتلر " في خطابه في ميونخ " أول ما يجب أن نفعله هو أن ننقذ ألمانيا من اليهود الذين يخربون بلادنا.. علينا أن نحمي بلادنا من المعاناة التي عاناها الذي مات على الصليب" (3) وكره " هتلر " اليهود، فعندما كان في فيينا كان هناك جالية كبيرة من اليهود، وأعتبرهم " هتلر " أنهم أعداء الجنس الآري، وألقى اللوم عليهم في هزيمة الجيش الألماني في الحرب العالمية الأولى، وأتهمهم بأنهم السبب في المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها ألمانيا، وأنهم حطموا آمال ألمانيا التوسعية، ولم يتورع عن حرق الملايين منهم، ولم يرحم حتى النساء والأطفال منهم.
ويقول "جون تولاند " في كتابه " آدولف هتلر: سيرة الحياة الأكيدة": "لازال (هتلر) عضوًا مميزًا في كنيسة الروم الكاثوليك، وعلى الرغم من كرهه للقائمين عليها، فأنه لا يزال يحمل تعاليمها عن أن اليهود هم قتلة الإله، ولذلك كان القضاء عليهم ممكنًا بدون أي تفكير ضميري، ومن مبدأ كونه اليد التي تنتقم لله، وبذلك يتم الموضوع كما لو أنه ليس شخصيًا وليس فيه أي ظلم" (4)،وهكذا تعفي النازية الإنسان من المسئولية الأخلاقية، وتجرده من الشعوب بالذنب. كما قيل عن " هتلر " أنه كان ضد المسيحية، ففي سنة 1941م سجل سكرتيره الخاص أن " هتلر " أوضح " أن الضربة الأقوى التي أصابت الإنسانية هي قيام المسيحية. المسيحية هي الطفل الغير الشرعي للبلشفية، وكلاهما من اختراع اليهود. إن الكذبة المدبَّرة فيما يختص بالدين هي ما قدمته المسيحية للعالم.. إن السبب الحقيقي في كون العالم القديم نقيًّا وصادقًا ومضيئًا هي أنهم لم يعرفوا السوطين الرئيسيين.. الطاعون والمسيحية" (5).
س34: كيف جر أدولف هتلر العالم كله إلى ويلات الحرب العالمية الثانية؟

ج: بعد الهزيمة الساحقة للقوات الألمانية في الحرب العالمية الأولى، كان لابد للألمان من البحث عن كبش فداء، فكان كبش الفداء هم اليهود والشيوعيين والساسة، وصار " هتلر " يخطب في الجنود ويحرضهم على كراهية اليهود، وقد تدرب " هتلر " على فن الخطابة، حتى صار خطيبًا مفوَّهًا يأخذ بألباب ومشاعر سامعيه، وكان يضرب بيده على المنصة، وهو يحدث الناس بما يريدون أن يسمعوا منه مثل الخيانة التي أدت لاستسلام ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، والخطة اليهودية الماركسية لغزو العالم. وفي سنة 1919م ألتحق " هتلر " بحزب العمال الألمان الوطني، وفي مذكرة كتبها لرئيسه حينذاك قال فيها " يجب أن نقضي على الحقوق المتاحة لليهود بصورة قانونية مما سيؤدي إلى إزالتهم من حولنا بلا رجعة " وفي السنة التالية تم تسريح " هتلر " من الجيش وتفرغ للعمل في الحزب، وتدرج فيه، حتى صار رئيسًا له، وغير اسمه إلى " حزب العمال الألمان الاشتراكي الوطني " وتم اختصار الاسم في كلمة واحدة، وهي كلمة " نازي " وأتخذ الحزب الصليب المعكوف شعارًا له، وصارت التحية الرومانية بمد الذراع للأمام هي تحية رجال الحزب، وقامت الأجهزة الإعلانية بالحزب بالترويج لهتلر مبعوث العناية الإلهيَّة الذي سينقذ ألمانيا من الكساد الاقتصادي، ومن الحركات الشيوعية، ومن الخطر اليهودي، فاقتنع الألمان بهذا، ولا سميا أن البوليس السري " جيستابو " مع معسكرات التهجير والإبادة قد أشاعوا الرعب في قلوب الجميع، وسحر " هتلر " شعبه بفكرة الرسالة. وأذاب إرادة الفرد في إرادة الجماعة، وأذاب إرادة الجماعة في إرادة التاريخ، فأظهر لشعبه أنهم الضحية البريئة للدول الأخرى، ولأن " هتلر " كان من أسرة متواضعة كان يخفي نشأته وأصوله قائلًا لا أحد يعرف من أين جئتُ؟ ولكنني جئتُ لأنقذ الأمة الألمانية، وأجاد " هتلر " فمن الخطابة أمام الحشود الكبيرة، ففي فبراير سنة 1921م خطب في ميونخ أمام حشد يضم ستة آلاف فرد، وجاءت خُطبه دائمًا مناهضة للماركسيين ولليهود. هذه الكراهية المتأصلة لليهود تطوَّرت فيما بعد سنة 1941م إلى عمليات إبادة جماعية عن طريق التسمم بالغاز، ثم حرق الجثث في معسكرات الاعتقال، حتى أباد " هتلر " ستة ملايين شخص يهودي.
وفي 2 أغسطس سنة 1934م مات " باول فون هيندنبرج " رئيس الدولة الألمانية، فخلَّفه " هتلر " بالإضافة إلى عمله الأساسي كمستشار لألمانيا، وفي السنة التالية مباشرة بدأ " هتلر " يتخذ الإجراءات التعسفية الشديدة مع اليهود، فحرمهم من حق المواطنة الألمانية، وفصلهم من الأعمال الحكومية، وأمر بتمييزهم بأن يضع كل واحد منهم نجمة صفراء على ملابسه، فأسرع بعض اليهود بمغادرة ألمانيا، فوصل عدد من غادروها 180 ألف يهودي ألماني. أما بقية اليهود فكم ندموا لأنهم لم يتركوا ألمانيا مع أخوتهم الذين تركوها.
واستطاع " هتلر " بحكمة النازي القوي أن يخطو خطوات واسعة تجاه الانتعاش الاقتصادي والنهضة بالصناعات الألمانية، حتى أنه لم يكن هناك مواطن ألماني بلا عمل، وجدَّد خطوط السكك الحديدية، وأهتم بالطرق السريعة التي تسير عليها المركبات، وأقام عشرات الجسور لسهولة الربط بين شبكة المواصلات، كما اهتمت حكومة " هتلر " بفن العمارة على نطاق واسع، وفي سنة 1936م قامت " برلين " باستضافة دورة الألعاب الأوليمبية الصيفية التي أفتتحها " هتلر"، ووُضعت أناشيدها وألحانها التي تُظهر تفوق الجنس الآري على جميع الأجناس الأخرى، مما رفع من شعبية " هتلر " إلى عنان السماء.

وفي أكتوبر سنة 1936م تحالف هتلر مع " بينيتو موسوليني " حاكم إيطاليا الفاشستي، ثم ضم معه اليابان، وهنغاريا، ورومانيا، وبلغاريا، وفي نوفمبر سنة 1937م عقد " هتلر " اجتماعا سريًّا مع مستشاريه، وأفصح لهم عن رغبته في توسيع رقعة ألمانيا الجغرافية، وطالب بوضع خطة سرية لهذا التوسع، لا يُعلن عنها، وضغط " هتلر " على النمسا لتتحد معه، ورغم أن بريطانيا بذلت مساعي جادة لإخماد شعلة الحرب التي يسعى إليها " هتلر " بكل قوته، فإن " هتلر " كان مصرًا على موقفه في تكوين إمبراطورية ألمانية تمثل القوة الأولى في العالم، ولهذا أعتبر بريطانيا العدو الأول له بدلًا من الإتحاد السوفيتي، ووضع خطة لتطوير القوات البحرية والجوية بخطوات واسعة بهدف سحق البحرية الملكية البريطانية، وإبادة المدن وسفن الشحن البريطانية، وأطلق " هتلر " حملة دعائية ضخمة ضد بريطانيا التي تقمع انتفاضة العرب في فلسطين، وسياستها في الهند متهمًا إياها بالنفاق، مقابل الحفاظ على إمبراطوريتها، وفي يناير سنة 1939م أصدر " هتلر " أوامره بقتل جميع الأطفال المعاقين الذين يولدون في ألمانيا تحت مُسمى " برنامج القتل الرحيم"، وفي نفس الشهر ألقى خطابه الشهير المعروف بخطاب النبؤة، والذي قال فيه بأنه في الماضي عندما تنبأ بأنه سيصل إلى السلطة " كان اليهود هم أول من قابل نبوءاتي بقدر من السخرية خاصة عندما صرحت بأنني سأتولى زعامة الدولة في يوم من الأيام، وزعامة الأمة بأسرها، وأنني سأتمكن حينها من تسوية مشكلة اليهود وأقوم بالكثير من الأمور الأخرى، وكانت ضحكاتهم صاخبة " ثم أطلق " هتلر" "نبؤة أخرى " مهددًا اليهود بأنه لو نجحت القوى الألمانية اليهودية خارج أوربا لإقحام الأمم في حرب عالمية جديدة، فإن هذا سيكون بمثابة إهلاك العرق اليهودي في أوربا، فقد كان " هتلر " يبوح بآماله في القضاء على اليهود، وهذا ما سعى إليه وبدأ في تنفيذه سنة 1941م.
وكان " هتلر " قد أعدَّ جيشه، وبدأ في تنفيذ الخطة السرية بخطوات واسعة، ففي مارس سنة 1939م غزا تشيكوسلوفاكيا ووصل للعاصمة التشيكية " براغ"، وبعد نحو خمسة أشهر أراد أن يُحيّد الإتحاد السوفيتي ويُخرِجه من الساحة، فعقد مع " ستالين " معاهدة " عدم الاعتداء " في أغسطس 1939م، فلا يعتدي أحدهما على الآخر، وكان من البنود السرية لهذه المعاهدة الاتفاق على تقسيم بولندا بينهما، ومع بداية سبتمبر قام " هتلر " بغزو بولندا بدون حرب، لأنه عرف بالتجسس المكان البديل للحكومة والقيادات البولندية ساعة نشوب الحرب، فسيطر على هذا المكان، فسقطت بولندا في يده بدون حرب، فلم يجد الإنجليز والفرنسيين بدًا من إعلان الحرب على ألمانيا وتوسعاتها غير المشروعة، أما " هتلر " فلم يتوقف عند حد، ففي شهر أبريل سنة 1940م غزا كل من الدنمارك والنرويج، وفي شهر مايو هاجم هولندا وبلجيكا وحارب فرنسا، التي ما لبست أن انهارت أمام القوات الألمانية خلال ستة أسابيع فقط، وهاجمت القوات الألمانية الجوية القواعد الجوية ومحطات الرادار البريطانية، ولكنها فشلت في هزيمتها، فأخذت تقصف المدن البريطانية ليلًا. وفي أبريل سنة 1941م قام " هتلر "بغزو يوغوسلافيا واليونان، وفي ذات الوقت كانت القوات الألمانية في شمال أفريقيا بقيادة المارشال " أروين روميل " قد كبدت القوات البريطانية خسائر فادحة، حتى أنها أسرت منهم في طبرق ثمانية وعشرين ألف جندي، مما دعى القوات البريطانية لمواصلة انسحاباتها حتى إلى العلمين، وخندقت فيها، وبدأت الإمدادات الأمريكية تتدفق عليها من البحر، دبابات ومدافع وطائرات بلا حصر، بل وإمدادات بشرية أيضًا من فرنسا وأمريكا وروسيا واليونان ونيوزيلندا وأستراليا وتركيا والهند وجنوب أفريقيا، فكل هؤلاء يسعون إلى تفشيل خطة القوات الألمانية التي تسعى للوصول إلى قناة السويس والشرق الأوسط.

وفي غمرة هذه الانتصارات المذهلة التي حققتها ألمانيا، نقض " هتلر " معاهدة عدم الاعتداء " التي عقدها مع " ستالين"، ففي يونيو سنة 1941م قام ثلاثة ملايين جندي ألماني بمهاجمة الأراضي الروسية في أوروبا، تمهيدًا لخطة أوسع لإخضاع العالم للإمبراطورية الألمانية، ولم يُقابل الألمان مقاومة تذكر، لأن " ستالين " كان قد أعدم عدد ضخم جدًا من جنرالات الجيش، واستولت ألمانيا على دول البلطيق وروسيا البيضاء وأوكرانيا وخرجت المظاهرات في أنحاء روسيا تهتف للقوات الألمانية، وتنظر إليها على أنها المخلص الذي سينقذها من قبضة " ستالين " والشيوعية، أما القوات الألمانية التي لا ترحم فقد دخلت القرى الروسية وأحرقتها بكل ما فيها ومن فيها، حتى أن الإتحاد السوفيتي بلغت خسائره خلال الحرب العالمية الثانية من نحو 21 إلى 28 مليون شخص، وبينما كانت تمثل القوات الألمانية تهديدًا قويًا لموسكو حلَّ فصل الشتاء القاسي فتوقف القتال الألماني، على أمل استمرار الزحف إلى موسكو، وكان " هتلر " واثقًا من هذه الخطوة القادمة، حتى أنه عندما سأله " هيترش هيلمر": "ماذا سنفعل مع يهود روسيا؟ " أجابه " هتلر": "قم بإبادتهم على أنهم أعضاء القوات غير النظامية التي تزعج القوات الألمانية المحتلة بشن الغارات المتكرَّرة عليها " وتم تسجيل هذا في دفتر المقابلات.
ونجح " ستالين " في شحذ همم الجيش الروسي والشعب الروسي للدفاع عن وطنه، ومع بداية الصيف أشتعلت نيران الحرب الألمانية الروسية، وبعد ستة أيام من اقتراب القوات النازية من موسكو، ومرور أربعة أيام على ضرب القوات اليابانية للأسطول الأمريكي في ميناء " بيرل هاربور " في هاواي، أعلن " هتلر " الحرب على الولايات المتحدة الأمريكية في 11 ديسمبر 1941م، ولكن نتائج معركة ستالينجراد حيث حطمت القوات الروسية الجيش السادس الألماني، قلب الموازين رأسًا على عقب.
لقد نجحت القوات الروسية في إلحاق الهزيمة الأولى للقوات الألمانية، ولم تكتفي القوات الروسية بتحرير أراضيها من الألمان، إنما زحفت تجاه الأراضي الألمانية.
وأيضًا ما حطم آمال " هتلر " هو نتائج معركة العلمين، فبعد أن كاد " روميل " يعبر إلى مصر عندما نجح في فتح ثغرة في قوات التحالف، وتسرَّع وأعلن انتصاره على الحلفاء وأن قواته في طريقها إلى وادي النيل، جاءت المعركة الفاصلة في 23 أكتوبر 1942م إذ أغارت ألف طائرة من طائرات الحلفاء على الطائرات الألمانية، ولم يكن هناك غير 550 طائرة ألمانية تحط في المطارات ومعظمها معطل ولا وقود لها، وفي 2 نوفمبر 1942م كانت معركة الدبابات الفاصلة أيضًا حيث تحطمت 260 دبابة ألمانية وإيطالية، ونجح " روميل " في الانسحاب المنظم مستخدمًا وسائل النقل المتاحة، بينما سقطت القوات الإيطالية في الأسر، وبهذا فشلت القوات الألمانية في الوصول إلى قناة السويس والشرق الأوسط.

وفي سنة 1943م تم الإطاحة بـ"موسوليني " حليف " هتلر"، وفي 6 يونيو 1944م وصلت القوات البريطانية إلى الشواطئ الشمالية الفرنسية، وفي نفس اليوم تمت عملية إنزال جيوش الحلفاء الغربيون في شمال فرنسا، وكانت هذه العملية من أكبر العمليات البرمائية التي حدثت في تاريخ العسكرية، وشعر القادة الألمان أن الهزيمة على الأبواب، فقرروا الخلاص من " هتلر"، فقام " كلاوس فون " بزرع قنبلة في مركز قيادة " هتلر " والذي عُرف بوكر الذئب، ونجا " هتلر " من الموت بأعجوبة، وكان رد فعله شديدًا إذ أصدر حكم بإعدام أكثر من 4900 شخص، وذلك عن طريق التجويع في الحبس الانفرادي ثم الاختناق البطيء، فهذه هي ثمرة أفكار "نيتشه" الإلحادية، واستمر " هتلر " في عناده واستخفافه بالحقائق العسكرية، وظل مستمرًا في إحراق اليهود.
وفي ديسمبر 1944م تمكنت قوات الحلفاء من الوصول إلى نهر الراين، وفي أبريل 1945م هاجمت القوات الروسية ضواحي برلين، وكان معاوني " هتلر " قد هربوا إلى بافاريا والنمسا، فأمر " هتلر " بتدمير كل شيء، المصانع الحربية، والمنشآت العسكرية، وخطوط المواصلات والاتصالات.. إلخ. وفي وصية عيَّن " هيتريك هيلمر " مستشارًا لألمانيا عوضًا عنه، وفي أبريل سنة 1945م كان " هتلر " في قبو من أقبية برلين فانتحر وانتحرت معه عشيقته " إيفا براون " التي تزوجها في اليوم السابق، وقام " أوتوجونش " وبعض الضباط المعاونين بسكب البنزين على الجثتين وإحراقهما.
وبسبب تجرأ اليابان على تحطيم الأسطول البحري الأمريكي تجرأت أمريكا واستخدمت لأول مرة السلاح النووي، فألقت بقنبلتين على اليابان، الأولى في 6 أغطس 1945م على هيروشيما، والثانية في 9 أغسطس من نفس العام على نجازاكي، وعندما انفجرت قنبلة هيروشيما على ارتفاع 600 متر من الأرض ظهر مكان الانفجار كرة نارية أخذت في الاتساع، ووصلت درجة حرارتها إلى ملايين الدرجات المئوية، وكأنها قطعة من الشمس سقطت على الأرض، وأحدث الانفجار موجة شديدة من الضغط الذي حطم مباني المدينة، فصارت المدينة خرابًا وضاعت معالمها في لحظات، ووصل عدد القتلى لعشرات الآلاف، فالطاقة التفجيرية للقنبلة الذرية تغطي مساحة تتراوح من 15 - 100 كم2 وفقًا لحجم القنبلة، وذلك خلال ثلاث دقائق، ووصل عدد القتلى في هيروشيما إلى 80 ألف والجرحى 100 ألف والمشردين 200 ألف، وفي نجازاكي بلغ عدد القتلى عشرة آلاف والجرحى 20 ألفًا والمشردين 90 ألفًا، بالإضافة إلى ما أحدثته القنبلتان من تأثير سيء على البيئة (راجع مجلة العلم عدد 277 - أكتوبر 1999 ص 32، 33) وانتهت الحرب العالمية الثانية التي تسبب فيها " هتلر " بفكره النازي، وبفضل ما تشبع به من أفكار "نيتشه"، وقد خلفت وراءها نحو 60 مليون قتيل.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:10 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ماوتسي تونج (1893-1876م.)

س35: كيف كانت حياة "ماو"؟ وكيف جرَّت "الماوية" الشيوعية الويلات على شعب الصين؟

ج: وُلِد "ماو" في 26 ديسمبر 1893م بقرية "شوشان" من إقليم "هونان" بالصين، من أب فلاح ميسور، وأم بوذية، ومنذ طفولته وهو يتميز بالعناد والتمرد والفوضوية، وظل هكذا طوال حياته، وكان "ماو" هو الابن الثالث الذي عاش بعد أن مات كل من شقيقاه عقب ولادتهما، وأُضيف إلى اسمه "تسي تونج" أي "الذي يتألق على الشروق"، فصار اسمه "ماوتسي تونج"، وعُرِف باسم "ماو"، وكانت أمه وديعة متسامحة، فأحبها كثيرًا وقال أنها لم ترفع صوتها في وجهه قط، وظل طوال حياته يتحدث عنها بحنان، وعاش طفولته يدرس، ويعمل قليلًا في الزراعة، وبسبب عناده طُرد ثلاث مرات من المدرسة، فكان والده يضربه، وفي إحدى المرات أنَّبه والده أمام ضيوفه، ويقول "ماو": "فوصفني بأنني كسول وبلا فائدة. فتعصبتُ كثيرًا ولعنته وتركتُ المنزل، فلعنني هو أيضًا وألحق بي، فوقفت على حافة جسر وهدَّدتُ بالقفز إذا أقترب أكثر، فتراجع. إن العجائز أمثاله لا يريدون أن يفقدوا أبناءهم، تلك نقطة ضعفهم، وقد استغللتها "وكان يكره والده، حتى أنه كان يقول للجلادين الذين يتولون تعذيب خصومه السياسيين" لقد كان أبي سيئًا، ولو كان حيًّا الآن لوجب قتله". وكان لدى "ماو" رغبة جامحة في القراءة، حتى أنه عندما حكم الصين كان نصف سريره المتسع يمتلئ دائمًا بالكتب، والنصف الآخر بالفتيات.

وكانت الصين خاضعة للدول الكبرى مثل بريطانيا وأمريكا، وقد أغرقت بريطانيا الصين بالأفيون، مما نشب عنه حرب الأفيون، وبينما كان " ماو " في الثامنة عشر شبت الثورة ضد "تشينغ"، وبعد عدة شهور انتهت الملكية تمامًا، وأُعلنت "جمهورية الصين" التي عاشت في فوضى ولم تعرف الاستقرار حتى سنة 1949م عندما اعتلى " ماو " السلطة.
وكان "ماو" قد أراد أن يصبح أستاذًا فدخل جامعة بكين سنة 1919م، وهناك اعتنق الشيوعية ودرس الماركسية وأقتنع بها حتى صار ماركسيًا متعصبًا، وفي سنة 1921م أسَّس مع أحد عشر شخصًا آخرين الحزب الشيوعي في شنغهاي، وبينما أعتمد ماركس على العمال في دعوته، تغير فكر "ماو" سنة 1925م وصار يعتمد بالأكثر على الفلاحين، وطوَّر الشيوعية إلى مفهوم جديد نسبه لنفسه، فدُعي بـ"الماوية " وهي مزيج من شيوعية لينين وماركس، وسعى للتحالف مع الإتحاد السوفيتي، وأهتم بالفلاحين والتنمية الزراعية.
وفي سنة 1927م تعرض " ماو " مع الشيوعيين للاضطهاد من الجيوش القومية بقيادة " شيانج كاي " الذي كان يقتل الشيوعيين، فهرب " ماو " مع زملائه للجبال على حدود " هيزان " وشكَّلوا أول حكومة صينية سوفيتية ترتكز على الفلاحين، وفي سنة 1934م عندما هاجم القوميون " سوفت هيوان - كيا نجسي " أضطر مائة ألف رجل وامرأة وطفل للهرب إلى الحدود الغربية للبلاد، فقطعوا رحلة 6000 ميل في عام، وعبروا خلالها على 12 مقاطعة، 24 نهرًا، وسلاسل جبلية، وغابات كثيفة، وصحاري مهجورة، فمات معظمهم ولم ينجو منهم إلاَّ 20000 نفس.
وبعد اغتيال القادة الشيوعيين لم يبقَ إلاَّ " ماو " الذي وضع خطة بطيئة للسيطرة على الحكم، وأنتظر حتى سنة 1947م حيث بدأ بالتحرك لقلب نظام الحكم، وفي سنة 1949م أنتصرت القوات الشيوعية، وكانت البلاد قد أنهكتها الحروب ووصلت لحالة شديدة من الفقر والتخلف، وكان " ماو " في السادسة والخمسين من عمره، فتولى السلطة، وأحكم قبضته على الصين، وقتل عددًا كبيرًا من أعداء الثورة.
وحاول " ماو " أن يلحق بركب الحضارة، فاهتم بالتعليم والصحة والتصنيع، وحوَّل النظام الرأسمالي إلى نظام اشتراكي، واستخدم أجهزة الدعاية، فبعد أن كان الصينيون يقدّسون الآباء والأجداد منذ آلاف السنين، أخذوا يقدّسون الوطن، ووضع " ماو " مشروع " القفزة الكبرى " الذي يرتكز على الصناعات الصغيرة في الحقول والقرى، وأجبر ملايين العمال والفلاحيين على العمل في هذا المشروع بمعدل سريع، ولم يستطع الشعب أن يواكب هذا المشروع الذي تعرَّض للانهيار، واضطر " ماو " لشراء القمح من الدول الرأسمالية ليطعم شعبه، وعندما قرَّرت روسيا التعايش السلمي مع الولايات المتحدة هاجم " ماو " القادة الروس لأنهم لم يخلصوا لفكر لينينالماركسي الذي يدعو لتدمير الرأسمالية.

وفي سنة 1966م أشعل "ماو" ما أسماه بالثورة الثقافية بهدف سحق المعارضة، فتجمع في بكين أكثر من مليون شاب من أعضاء الحرس الأحمر تحت شعار "العصيان حق" وكانت أعمارهم تتراوح بين 15-19 سنة، وبتحريض من " ماو " أخذوا يفتشون لدى أي شخص مهما علت مرتبته عن أية أثار أو دلائل يُستشف منها ميوله للغرب، وضبط كل شخص يشتم منه أنه غير مخلص للثورة أو خائن لمنهجها، فتعرض الكثيرون لإهانات بالغة، وعدد كبير من الذين يشغلون مواقع قيادية عليا زُفوا في مواكب كبيرة، وعلى رأس كل منهم " طرطور " وعلى صدره لوحة كبيرة عُلقت بحبل يتدلى من رقبته ومكتوب عليها شعارات ثورية غاضبة، فتحوَّلت الأمور إلى فوضى، وعمت الفوضى البلاد بسبب الثورة الثقافية، التي سادت لمدة ثلاث سنوات، حتى صارت البلاد على حافة حرب أهلية، فتدخل " ماو " وأنهى هذه الثورة الفوضوية سنة 1969م، ويعتبر " ماو " أقوى رجل حكم مليار شخص لمدة 25 سنة في الصين حتى قيل عنه أنه الرجل الأقوى خلال تاريخ الصين، وكم قتل من أبناء شعبه!!
وكتب " ريتشار وورمبلاند " يقول "يرتعب العالم اليوم عما يجري في شوارع الصين. فعلى مرأى من جميع الناس ينفذ الحارس الأحمر عمله الإرهابي. والآن تصوَّر ماذا يحدث لبعض المؤمنين في سجون شيوعية بعيدًا عن أعين الناس. إن آخر الأخبار التي وردتنا من هناك هي أن أحد الكتاب الإنجيليين الصينيين المشهورين، مع بعض المؤمنين الآخرين والذين رفضوا نكران إيمانهم، قُطعت آذانهم، وألسنتهم وأرجلهم أيضًا.. وفي الصين اليوم، هناك موجة جديدة من البربرية تفوق في وحشيتها عهد ستالين. فقد تلاشت الحياة الكنسية العلنية هناك تمامًا.. وبين بليون شخص في بلدان محكومة بالشيوعية وبأعمال الإرهاب والخديعة، ينشأ الجيل الجديد بكراهية عظمى لكل ما هو غربي، خاصة الديانة المسيحية" (1).
أما عن زوجات " ماو " فقد تزوج لأول مرة وهو في الرابعة عشر من عمره بفتاة تكبره أربعة أعوام، ثم تزوج عدة مرات، فزوجته الثانية تعرضت للقتل على يد القوميون المتشددون، والثالثة أصيبت بجرح أثناء المسيرة الكبرى، والرابعة هي الممثلة " شيانج شينج " وقد أنجب منها خمسة أولاد وبنات، بالإضافة لعدد من الأولاد والبنات من الزوجات السابقات، وقُتل له ولد في حرب كوبا، وكان أحد أبناءه مُختل عقليًا، أما رد فعل " ماو " فانصب على الكتب، والنساء، فكان له سرير متسع جدًا يحمله أينما ذهب، حتى دعوه بالبساط السحري، ويزدحم على السرير الكتب، وأيضًا بعض الفتيات التي يصل عددهن إلى خمسة أو ست فتيات، وقد تواكبت الأمراض على " ماوسي تونج " من 1972م وحتى موته سنة 1976م.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:11 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
برتراند راسل (1872-1970م.)

س36: ما الذي دفع راسل لفقدان إيمانه، وانتقاده للسيد المسيح، ودعوته للإلحاد؟

ج: وُلِد " برتراند راسل " سنة 1872م من عائلة أرستقراطية في إنجلترا، ومنذ عام 1896م كان يصدر كتابًا كل عام وأحيانًا كتابين، بالإضافة إلى مقالاته العديدة بالمجلات، وظل نشيطًا مُنتجًا حتى وفاته سنة 1970م، ولقيت مؤلفاته إقبالًا منقطع النظير، وقد تُرجمت بعض كتبه إلى الألمانية، فحتى عام 1953م كان قد تُرجم له سبعة عشر كتابًا للغة الألمانية، ففي عام 1910م أصدر كتابه "مبادئ الرياضة" وهو يعمل أستاذًا بجامعة كامبريدج ثم أتبع بثلاثة أجزاء أخرى، وقالوا عنه أنه كان فيلسوفًا وضع كُتب عديدة عن دور العقل في الفلسفة مثل "مُجمل الفلسفة" و"تحليل العقل" و"المدخل إلى الفلسفة الرياضية" و"المنطق والمعرفة" و"المعرفة الإنسانية" و"مشاكل الفلسفة" و"تاريخ الفلسفة الغربية".

وكان " برتراند راسل " مُفكرًا اجتماعيًا ومُصلحًا سياسيًا، فكان " راسل " عضوًا في مجلس اللوردات، فهو سليل اللوردات النبلاء، وفي الحرب العالمية الأولى دافع عن شاب مسيحي مُجند رفض أن يحمل السلاح لأن عقيدته المسيحية تدعو للسلام، ونشر دفاعه هذا فقامت المحكمة بتغريمه مائة جنيهًا، وبعد ستة أشهر عندما استخدمت الدولة قوات الجيش بدلًا من قوات الشرطة لقمع إضراب العمال أحتج على هذا فحوكم وحُكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر، وفي الحرب العالمية الأولى أيضًا نادى بالسلم، لأن الحرب لن تحل مشاكل ألمانيا مع الدول الأخرى، فجُرد من لقبه كلورد، وعُزل من وظيفته كأستاذ بجامعة كامبردج.
وفي الحرب العالمية الثانية قاد "راسل" المظاهرات وأخذ يندد باستخدام السلاح الذري، وفي 9 يوليو 1955م عقد مؤتمرًا صحفيًا، وعرض فيه نداءًا وقَّعه معه أعظم علماء العالم ومنهم صديقه البرت أينشتاين الذي سلم للبشرية مفاتيح الطاقة النووية، وهذا نص البيان " نظرًا لأن الأسلحة النووية ستستخدم لا محالة في أية حرب قادمة. ونظرًا لأن هذه الأسلحة تهدد بقاء الجنس البشري، فنحن نهيب بحكومات العالم أن تدرك، وأن تصرح علنًا، أن مراميها لا يمكن أن تخدمها حرب عالمية، ونحن نهيب بها، بناء على ذلك، أن تجد الوسائل السلمية لتسوية كل ما بينها من أسباب الخلاف" (1). ودافع " راسل " عن السلام العالمي، ورأى أنه يستحق أي ثمن يُدفع لأجله، وفي كتابه " المجتمع الإنساني بين الأخلاق والسياسة " ألقى باللوم على الزعماء السياسيين الذي يقنعون شعوبهم بأن دوافعهم خيرية، وهم يعزفون على وتر الانفعال، تحت تأثير الموسيقى النحاسية، وخطابة الرعاع، وشنق الخصوم بلا مُحاكمة، وخداع الجماهير، وإلغاء دور العقل في حل المشكلات.
وأدان " راسل " الصراع البروتستانتيالكاثوليكي الذي شوَّه واجهة أوربا، فجعلها قارة الاضطهاد قائلًا: "طالما كان البروتستانت والكاثوليك يأملون في إبادة بعضهم بعضًا، وصحيفة الأوربيين في هذا الصدد أشد سوادًا من صحيفة المسلمين والهنود والصينيين.." (2) وفي سنة 1950م نال " برتراند راسل " جائزة نوبل كصاحب فضل على الإنسانية، وهذا دور مشكور قام به راسل وتحمَّل من أجله السجن، والنفي إلى نيويورك.
وعندما كان " راسل" في سنة الثامنة عشر كان مؤمنًا بوجود الله، ولكن عندما قرأ سيرة حياة " جون ستيوارت مل " الذي تساءل: إن كان لكل سبب مُسبّب، ولكل فعل فاعل، ولكل حركة مُحرّك، فمن الذي أوجد المُسبّب الأول والفاعل الأول والمُحرّك الأول، لم يجد " راسل " جوابًا لتساؤل ستيوارت، وقال في كتابه " لماذا لستُ مسيحيًا" أنه عندما كنتُ طفلًا كانوا يقدمون لي " الله " باعتباره إجابة على كل الأسئلة التي تُثار عن الوجود، ولكن عندما لم أجد إجابة عمن خلق الله انهار إيماني جملة، ولم يقبل " راسل " أن الله هو الكائن الوحيد الأزلي غير المخلوق، مكوّن الأكوان، وهو علة وسبب كل شيء، فهو الكائن بذاته، وعلة جميع الموجودات.

إن ما أضاع "برتراند راسل" هو إعلاؤه للعقل لدرجة العبادة والتأليه، فجعل العقل هو مقياس كل شيء من أخلاق وقيم ومعتقدات وتقاليد وغرائز وسلوك وعواطف ومصالح.. إلخ، وهذا ما حدا براسل إلى رفض الإيمان لأنه فوق مستوى العقل، وفي 6 مارس 1927م ألقى " راسل " محاضرة بعنوان " لماذا لستُ مسيحيًا " في قاعة بلدية باترسي بانجلترا، وركز حديثه على عدم إيمانه بالله الخالق، وأنه لا يعترف بأن السيد المسيح أفضل الشخصيات وأكثرهم حكمة. وكتب أيضًا " مقالات شكَّاك " بقصد التشكيك في الإيمان المسيحي أيضًا، وكتب " الزواج والأخلاق " الذي نسف فيه مقدَّسات الحياة الزوجية.
وقال " راسل " أن هناك سببين للإيمان بالله، أولهما: أن الأطفال يرضعون هذا الإيمان من أمهاتهم، وثانيهما: خوف الإنسان من المجهول، وسعيه لقوة أعظم تحميه من المخاطر التي قد يتعرض لها، وأن الخوف يوُلد القسوة، ولذلك فإن القسوة تسير جنبًا إلى جنب مع الدين، فيرى " راسل " أن الدين مرض وليد الخوف، ويقول "أن الإنسان أستمد فكرة الإيمان بالله من نظم الطغيان والجبروت السائدة في الشرق، فعلاقة الإنسان بالله أشبه ما تكون بعلاقة العبد الذليل بالحاكم المستبد، وهي ذلة تأباها كل نفس تشعر بالمعزة والكرامة" (3).

وقال " راسل " أيضًا أن الدين مبني على ثلاث دوافع وهي الخوف والكراهية والغرور، وأتهم " راسل " الدين بأنه وراء التحيز والتعصب، ونشوب الحروب، ومحاكم التفتيش، وإحراق الساحرات، وقتل اللذة الجنسية، كما هاجم عدم الطلاق في الكنيسة الكاثوليكية، وبينما هاجم " راسل " الدين بشدة فأنه أعترف أن الدين هو الذي يعصم البشر من الرذيلة والذلل.
وأسَّس برتراندراسل " جامعة الرسل " التي دعت للإلحاد، وضم معه أثنين آخرين، وهما "جورج مور" و"جون الفيس ماك"، وكان "جورج مور" (1852-1933م) لا أدريًّا، فهو لا يدري إن كان الله موجودًا أو غير موجود، ويقول: "أنني كافر يعتقد أن الله غير موجود.. وبقدر ما أعتقد أنه لا يوجد دليل على وجوده، فإني أعتقد كذلك أنه لا يوجد دليل على عدم وجوده. ومن ثمَ فإني لستُ مُلحدًا بمعنى ما. إنني لا أنكر أن الله موجود، فالمحاجات التي أسوقها هي لمجرد حث الناس على أنه لا يوجد ثمة أسباب للاعتقاد بوجوده.. إني لا أؤمن أن الله موجود ولكن في الوقت نفسه لا أؤمن بعدم وجوده. ليس هناك ذرة واحدة من دليل ينم عن أدنى احتمال لوجود الله أو لعدم وجوده" (4).
وهاجَم "برتراند راسل" السيد المسيح تبارك اسمه، فقال كما أن له فضائل فهو له نقائص أيضًا، وأن مقوله المسيح "من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر أيضًا" سبق وقالها بوذا من قبله، وأنه لا يوجد أي دليل تاريخي على أن المسيح كان موجودًا بالفعل (وهذا يثبت مدى جهل راسل بالتاريخ، ولو نظر لتاريخ اليوم الذي يعيشه لأدرك أن هذا التاريخ الذي يستخدمه العالم كله، إنما هو تأريخ لميلاد السيد المسيح) وأوقع "راسل" اللوم على السيد المسيح لأنه أنذر الخطاة بنار الجحيم، وقال: أنه لو كان شفوقًا ما كان يذهب إلى هذه القسوة البالغة، وقارن "راسل" بين أسلوب سقراط الدمث مع معارضيه وأسلوب المسيح الذي يدفع بالخطاة إلى النار، وقال: أن تكرار تهديد المسيح للخطاة بسعير جهنم، ينم عن تلذذه بمنظرهم وهم يكتوون بلظاها (ولم يستطع " راسل " أن يرى في إنذارات السيد المسيح صوت المحبة الأبوية التي تحذر الأبناء عاقبة العصيان) كما أنتقد السيد المسيح لأنه لعن شجرة التين التي لم تثمر. في وقت لم يكن فيه إثمار (ولم يعرف راسل أن الله حرُ في خلائقه، ويستخدمها من أجل تعليم الإنسان كما في هذه الشجرة، وأيضًا في قصة هلاك الخنازير).
وفي سنة 1925م وهو في سنة الثالثة والخمسين كان يعتقد أن الموت قريب منه (رغم أن الله منحه عمرًا طويلًا إذ عاش ثمانية وتسعون سنة) فكتب تحت عنوان " ما أؤمن به " يقول "أؤمن بأنني عندما سأموت فأنني سأتعفن، ولن يبقى شيء مني. لست شابًا، ولا أزال أحب الحياة، ولكن علىَّ أن أزدري الارتجاف برعب من فكرة الزوال. السعادة بذاتها هي سعادة حقيقية لأنها ستصل لنهايتها. لا يفقد الحب والفكرة قيمتهما بسبب أنهما غير دائمين، الكثيرون من الرجال مضوا محمولين على السقالة بفخرٍ، وبالتأكيد فإن الفخر ذاته يجب أن يعلمنا أن نفكر بمكانة الإنسان في العالم" (5).. قارن يا صديقي بين مشاعر الإنسان اللاأدري هذا، وبين اليقين المسيحي تجاه الموت والملكوت الآتي " لي اشتهاء أنت أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:14 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
نظرة تأمل 2

رحيق الأزهار ونبات النديَّة:

لقد أودع الله الأزهار رحيقاُ يشد الحشرات، فتنقل حبوب اللقاح، ويقول دكتور " سيسل هامان".. " سر في طريق مشمس وتأمل بدائع تركيب الأزهار واستمع إلى تغريد الطيور، وانظر إلى عجائب الأعشاش، وقل لي أولًا: هل كان محض مصادفة أن تنتج الأزهار ذلك الرحيق الحلو الذي يجتذب الحشرات، فتُلّقح الأزهار وتؤدي إلى زيادة المحصول في العام التالي؟ وهل هو محض مصادفة أن تهبط حبوب اللقاح الرقيقة على مبسم الزهرة فتثبت وتسير في القلم حتى تصل المبيض فيتم التلقيح وتتكون البذور؟ أفليس من المنطق أن نعتقد أن يد الله التي لا نراها هي التي أوجدت هذه الأشياء ورتبتها ونظمتها تبعًا لقوانين مازلنا في بداية الطريق نحو معرفتها والكشف عنها" (الله يتجلى ص 141، 142) (1).
وينمو في جنوب أفريقيا نبات " النديَّة " Sandew الذي يفرد أوراقه وعلى أطرافها مادة لزجة تجتذب الحشرات، فتلتصق الحشرة بالمادة اللزجة، ثم تنثني عليها ورقة النبات، وتهضم هذه الحشرة (راجع هارون يحيى - خديعة التطوُّر ص 198) بل إن الأمر الأكثر عجبًا أن بعض النباتات التي تمسك بالحشرات التي تأتي إليها وتمتصها من الأزهار المؤنثة، أنه عندما تأتي الحشرات على الذكور من هذه الأزهار تتركها طليقة لكيما تنقل حبوب اللقاح للإناث، ومتى جاءت هذه الحشرات للإناث وهي تحمل حبوب اللقاح تطبق عليها هذه الأزهار وتمتصها.

البعوضة:

لكيما يتغذى البعوض على دم الفريسة، فإنه " يثقب الجلد بمخالبه التي تتكون من ست شفرات فيقطع الجلد كالمنشار، وفي خلال عملية ثقب الجلد يفرز البعوض مادة تخدر أنسجة الجلد فلا يشعر الإنسان بأن البعوض يمص دمه، وهذا السائل يمنع - في الوقت نفسه - تخثر الدم، ويضمن استمرار البعوض في عملية المص، فلو نقص مجرد عنصر واحد فقط من هذه العناصر، لما تمكن البعوض من التغذي على الدم، ولما استطاع الحفاظ على حياته واستمرار نسله" (2).
النمل الأبيض:

رغم إنه لا يبصر، ولا يتعرض لضوء الشمس، فإنه يبني بيوته كتحفة معمارية رائعة يبلغ ارتفاعها 5 أو 6 أمتار، وتجد في بيوته نظام للتهوية، وغرف للجو الحار وأخرى للجو البارد، وغرف لليرقات وممرات..
النحل:

يبني خلاياه بشكل سداسي منتظم جدًا، ويعمل في هذا جميع أفراده، فلو توقف أحد الأفراد يأتي الآخر يستكمل العمل من حيث انتهى سابقه، وقد وُجِد أن هذا النظام السداسي يحتاج كمية أقل من الشمع في بناء الخلايا، ويسمح بتخزين كمية أكبر من العسل، وقال " داروين " نفسه " ويصل إلى مسامعنا من علماء الرياضيات أن النحل قد توصل بالفعل إلى حل لمشكلة عويصة، وأنه قد صنع خلاياه على الشكل الصحيح لتستوعب أكبر كمية ممكنة من العسل، مع أقل استهلاك ممكن للشمع الثمين المستخدم في التشييد، وقد كان من اللافت للنظر أن أي عامل ماهر مزود بأدوات التركيب والقياس، سوف يجد أنه من الصعب جدًا عليه أن يصنع خلايا من الشمع على الشكل الصحيح، مع إن هذا يتم إنجازه بواسطة مجموعة من النحل تعمل في ملجأ مظلم.. كيف يستطيع النحل أن يقوم بعمل جميع المستويات والزوايا اللازمة!!" (3).
كما قال " داروين " أيضًا " إن ما يزيد من صعوبة فهم الكيفية التي يتم بها صنع الخلايا، أن هناك أعدادًا كبيرة من النحل تعمل كلها مع بعضها البعض، وبعد أن تعمل نحله ما لمدة قصيرة من الزمن في خلية ما، فإنها تذهب إلى خلية أخرى، وبهذا الشكل، وكما أعلن " جوبر " فإننا نجد عددًا لا حصر له من الأفراد منهمكين في العمل حتى عند ابتداء العمل في أول خلية.. ويبدو أن العمل في التشييد نوع من التوازن المبرم بين العديد من النحل، كل منها تقف بطريقة غريزية على نفس المسافة النسبية عن بعضها البعض، وكلها تحاول أن تحفر كرات متساوية، وبعد ذلك تبني.. وقد كان من المدهش حقًا ملاحظة أنه عند قيام إحدى الصعوبات، مثل عدم تطابق قطعتان من المشط (القرص) عند زاوية، فما أكثر المرات التي قد يقوم فيها النحل بالهدم ثم يقوم بإعادة البناء لنفس الخلية بطرق مختلفة، وفي بعض الأحيان قد يعود إلى شكل سبق له وأن تم لفظه من قبل" (4)وقد أرجع داروين هذه المهارة العجيبة إلى الغريزة، ولكنه لم يتساءل من وضع هذه الغريزة في هذه الحشرة بالذات؟!!

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:17 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ذئب شيوعي تصطاده الحملان 3

هذه قصة حقيقة لذئب شيوعي لم يحتمل وداعة الحملان، فصار حملًا مثلهم.. قُتِل والد "سيرجي كورداكوف" وماتت أمه كمدًا، أما هو فقد تربى في الملجأ تربية قاسية للغاية، حتى شبَّ ووصل في دراسته إلى الكلية البحرية، وبسبب محبته الفائقة للشيوعية أُختير لتكوين تنظيم أو فرقة لتأديب المؤمنين، مقابل مبلغ مُغري من المال في كل مرة يقبض فيها على المؤمنين مع رجاله الذين يجيدون الملاكمة والجودو والكراتيه، لزوم طحن المسيحيين وتحطيم عظامهم، دون أية مسئولية جنائية تقع عليهم حتى لو وصل الأمر إلى الضرب المُفضي للموت، فهؤلاء المؤمنون هم أعداء الوطن، ومن الضروري القضاء على اسم الله والكتاب المقدَّس، لكيما تستمر الشيوعية، وفي إحدى العمليات التي قام بها سيرجي، وما أكثر العمليات التي قام بها والتي كانت تصل إلى ثلاث غارات أسبوعيًا، يحكي سيرجي أنه أقتحم مع أفراد عصابته منزلًا حوى في أحشائه خمسة عشر شخصًا قد اجتمعوا ليعبدوا الله في الخفاء، وكانوا يصلون ويرتلون وهم راكعين، ويقول "سيرجي": "هؤلاء الناس مدهشين جدًا، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من الإعجاب الشديد بشجاعتهم التي جعلتني أزداد غيظًا فصرخت فيهم: ماذا تفعلون؟ فأجاب أحدهم: نحن نُصلي، فقلت لمن؟ فقالوا: لله.
فصرختُ فيهم: أيها الأغبياء لا يوجد شيء اسمه الله. ألآَّ تعرفون هذا..؟ أين هو إلهكم الآن؟ فليأتِ ليساعدكم!
وبدأ رجالي في استعراض مهاراتهم في الملاكمة والمصارعة والجودو على هؤلاء المساكين.. أُصيب كل الرجال إصابات بالغة، وسال الدم منهم مدرارًا، وقد تحطمت على أيدينا كل أثاثات ذلك المنزل، وقد لاحظت أن " فيكتور " أحد أفراد الفرقة يطارد فتاة جميلة تحاول الهرب من حجرة لأخرى.. أمسك " فيكتور " بها، ورفعها وهي تستغيث: لا تفعل هذا من فضلك. لا تفعل هذا. هلمَّ إلى معونتي أيها الإله العزيز.
ثم قام " فيكتور " بدهسها في الحائط، ثم رماها أرضًا، وصارت في شبه إغماء وهي تتأوه وتنوح، وعاد " فيكتور " وهو يضحك ويقول: كنتُ أريد أن أنزع فكرة وجود الله من رأسها" (5).
وبعد ثلاثة أيام كان " سيرجي " يقود غارة أخرى على بعض المؤمنين، فيقول "ورأيتُ شيئًا أذهلني تمامًا، أنها الفتاة الجميلة " ناتاشا".. ووجدتُ أن جمالها يفوق الوصف وشعرها أشقر يتدلى على كتفها ولها عيون زرقاء واسعة.. وعندما رآها " فيكتور " هتف قائلًا لنا: ها هي مرة أخرى أيها الفتيان.

فقلت لفيكتور: يبدو أنك لم تفلح في إعطاءها الدرس حسنًا تلك المرة، لذلك دعها لي هذه المرة.
وقمت برفعها على منضدة، وقام اثنان من رجالي بنزع ثيابها، وآخر ثبَّتها على تلك المنضدة، وقمت بضربها بشدة بكف يدي بضربات متوالية حتى بدأت يدي تؤلمني، ولكني لم أتوقف، وتخضب كل جسدها بالدم وبدأت قطع جلدية مهراة تنفصل من جسمها.. ولما وجدت أن يدي ما عدت أستطيع رفعها، وقد تهرأ كل جسدها دفعتها بيدي فسقطت من فوق تلك المنضدة، ثم تركتها وأنا مُنهك، ونظرت حولي وإذا كل شباب المؤمنين مُلقى على الأرض مضرجًا في الدماء يتأوه" (6).
واهتم " سيرجي " بتتبع قصة " ناتاشا " فذهب إلى مكان عملها حيث كانت تعمل في جريدة، وفوجئ بشهادة الزملاء لها بأنها موظفة ممتازة لا تسبب أية مشاكل، وأنها ظريفة وجادة في عملها وأهلًا للثقة، وتعمل باجتهاد، ولكن عندما علم الزملاء أنها مؤمنة وقد ضُبطت في أحد اجتماعات المؤمنين، صاروا يغتابونها وينعتونها بصفات رديئة. وقارن " سيرجي " بين الشيوعيين وأخلاقهم المنحلة وسكرهم وبين هؤلاء المؤمنين الذين يعملون بجد واجتهاد، لهم علاقات طيبة مع الكل، وهم أهل للثقة، لا يسكرون على الإطلاق.
ثم استدعى سيرجي " ناتاشا " وهدَّدها وتوعدها بأنها ستتعرض لمضايقات شديدة لو استمرت في ذلك الطريق، ومع كل هذا لم تهتز ولم تتزعزع، ولم تحقد في قلبها على ذلك الذئب، بل كانت قادرة على أن تغفر له، والدليل على ذلك أنها أخذت تقصُّ له كيف قبلت الإيمان بالله، تمامًا كما كان بولس الرسول أمام الملك أغريباس.. أخذت " ناتاشا " تحكي قصة إيمانها، وقد شوهت ضربات سيرجي وجهها الجميل، أما سيرجي فقد صرفها بوابل من التوبيخ والتقريع والإذلال الوحشي، هذا من الخارج، أما من الداخل فقد كان يشعر بالانهزامية أمام ملك القوة الجبارة الغافرة والتي بلا عيب.
وبعد أسبوع في إحدى الغارات فوجئ " سيرجي " بناتاشا وهو لا يصدق نفسه: ناتاشا لثالث مرة، وكاد أحد رجاله يضربها بالمطرقة على رأسها، ولكن تصدى له زميل آخر، واندهش " سيرجي " كيف يحمي أحد من رجاله إحدى المؤمنات، والأمر الذي عجز سيرجي عن تفسيره، أنه نفسه أومأ لهذا الرجل بأن يعطي " ناتاشا " الفرصة للهرب، وقد كان. وبعدها تركت المنطقة وعادت إلى قريتها في أوكرانيا، ولكنها تركت أثرًا عميقًا في نفس سيرجي، وهزمته تمامًا، فتخلى عن شيوعيته الذئبية. كما أن دماء العشرات من الذين أصيبوا على يد سيرجي ورجاله، شفعت فيه، فتحوَّل هذا الذئب إلى حمل، وهكذا اصطادت الحملان الذئب.
ومما ساعد " سيرجي " في التخلي عن أفكار الشيوعية التي كان متيمًا بها أنه أكتشف البؤس والشقاء النفسي الذي يعاني منه قادة الشيوعية، حتى أنهم بينهم وبين أنفسهم لا يقتنعون بمبادئ الشيوعية، ففي إحدى المرات دعى " أورلوف " أحد قادة الشيوعية " سيرجي " إلى صالة الطعام والشراب، حيث كبار القادة، فيقول "سيرجي": "فترددت في الدخول، فأين سأذهب أنا وسط هؤلاء الكبار، وأخذني الرفيق " أورلوف " وكان بالداخل حوالي عشرين من كبار المسئولين أمام مائدة ملآنة بمأكولات ومشروبات وفيرة جدًا.. من سجق وكافيار وكل أنواع المأكولات الأخرى والنبيذ اليوناني وأشياء أخرى لا يمكن للإنسان في الإتحاد السوفيتي أن يتخيلها،وطلب " أورلوف " المعذرة وذهب للتواليت لأنه أسهل من كثرة المأكولات والمشروبات التي ألتهمها، ووجدت أمامي كل قادة الحزب في المقاطعة وهم سكارى بدرجة كبيرة.. وآخرين في أوضاع غير لائقة، وقد اشمأزت نفسي من هذا الذي أراه أمامي وقلت لنفسي: هل هؤلاء هم الناس الذين صارت مقدرات وحياة الناس في أيديهم؟ حتى أن أحدهم اضطر أن يتقيأ على ملابسه من كثرة الإفراط في الأكل والشرب. وعاد " أورلوف".. وقد كان منظره مثيرًا للسخرية من الأكل الذي قد جعل كل ملابسه تتسخ كطفل صغير، ثم رفع زيه وأطلعني على أثر جرح قديم قد تسبب " ستالين " فيه، وقال لي أنظر: هذا بسبب " ستالين " الذي أرسلني للمقدمة، وقد استخدمنا أجسادنا بدلًا من الأسلحة، وبدا يلعن " ستالين " بصوت عالٍ، ثم لعن الآخرين، ثم تكلم على بريجنيف وقال أن هذا الإنسان منافق ومتطفل، وقد قام بمسح حذاء ستالين.. لم أصدق ما أسمعه، فها هو " أورلوف " ينتقل من صوت الديك إلى الحمار مستخدمًا ألفاظًا خارجة يصف بها زميله بريجنيف.. ثم وضع "أورلوف" رأسه على المنضدة كأنه نائم، ثم قام فجأة ولعن الشيوعية ذاتها بألفاظ لا أستطيع أن أكتبها.. إن لقائي بأورلوف وزملاءه جعلني أكتشف كيف أن الشيوعية تقوم على الرياء والتملق.. ووجدت أن الشيوعيين بلا قلب، أفظاظ، مخادعين، لا يؤمنون بالشيوعية، بل يتخذونها وسيلة لتحقيق طموحاتهم الشخصية، ووجدت أن القادة يحيون حياة البذخ والترف بينما عامة الشعب يعيشون في فقر مدقع" (7).
وبينما كان هذا حال الشيوعيين كان عدد المؤمنين يتزايد رغم الاضطهادات الرهيبة وخطورة الموت التي تهدد كل إنسان مسيحي، ويقول "سيرجي": "وهناك شيء آخر زود الإحباط في نفوسنا وهو أنه يبدو أن عدد المؤمنين كان يزداد كلما ازدادت غاراتنا قسوة ووحشية.. في كل غارة تقابل وجوهًا جديدة لم نقابلها من قبل.. لقد ازداد الوضع سوءًا وأصبح من اللازم لنا أن نزيد عدد الغارات وننظمها لأننا ما عدنا قادرين على مواكبة سرعة تحرك وازدياد عدد المؤمنين. وكنتُ أنا وديمتري وكأننا في غرفة عمليات " حربية " دائمة الانعقاد للتداول والتشاور بسبب ازدياد الوضع صعوبة، خصوصًا وأن نسبة الشباب قد ازدادت جدًا في هذه الاجتماعات، بل أن الاجتماعات لم تعد تخلو من الأطفال" (8).
وفي هذا الباب يا صديقي نكتفي بطرح خمسة مبادئ رئيسية للإلحاد، نناقشها، ونرد عليها بحسب الوقت المُتاح، وهذه المبادئ نعرضها في خمسة فصول هي:
الفصل الأول: إنكار وجود الله
الفصل الثاني: الاعتقاد بأزلية المادة وتطورها
الفصل الثالث: تأليه الإنسان ورفض السلطة الإلهيَّة
الفصل الرابع: الدين أفيون الشعوب
الفصل الخامس: الكتاب المقدَّس و سفر الإلحاد
وفي نهاية كل فصل، أضع أمامك يا صديقي "لقطة للتاريخ" تشهد على ظلم وقسوة الإلحاد، إله القتل، ثم نلتقي بـ"نظرة تأمل " .

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:17 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الفصل الأول: إنكار وجود الله


  1. ما هي المبررات التي أعتمد عليها بعض الفلاسفة لإنكار وجود الله؟
  2. هل يمكن أن تكون فكرة وجود الله من صنع الإنسان وخياله؟
  3. هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على الكون الذي نعيش فيه؟
  4. هل يمكن أن يكون الكون أزليًّا؟
  5. لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي وضع قوانين الكون؟
  6. لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي أوجد العناصر؟
  7. لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي يضبط الكون؟
  8. كيف تشهد أعضاء الإنسان وأجهزته على وجود الله؟
  9. ما هو دليل القصد أو الغاية؟ وكيف ينطبق على العين والمُخ والقلب؟
  10. كيف تشهد عظمة الخلية الحيَّة على وجود الله؟
  11. لقطة للتاريخ

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:19 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ما هي المبررات التي أعتمد عليها بعض الفلاسفة لإنكار وجود الله؟

س40: تُرى ما هي المبررات التي أعتمد عليها بعض الفلاسفة لإنكار وجود الله؟
ج: في القديم ناقش " أبيقور " صاحب الفلسفة الأبيقورية الطبيعية الإلهيَّة، وأنكر تمامًا وجود الله، ولذلك أنصبت هذه الفلسفة على التمتع بملاذ العالم الحاضر، وكان شعارهم لنأكل ونشرب لأننا غدًا نموت، وقال " أرسطو " أن الروح مرتبطة بالجسد ارتباطا وثيقًا فلا يمكن فكاكه، ولذلك فإن موت الإنسان يعني أيضا فناء الروح، وبالتالي لن يكون هناك ثواب أو عقاب خارج نطاق الحياة (راجع د. رمسيس عوض - الإلحاد في الغرب ص 26).
وما أكثر حجج المُلحدين على إنكار وجود الله، نسوق بعضها في عرض سريع، مع التركيز على حجة القائلين بأن الله من صنع الإنسان:
1- إحتج بعض المُلحدين على وجود الله قائلين:
لو كان الله موجودًا فلماذا لا نراه؟


تعليق: إن هناك أشياء كثيرة لا نراها ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر وجودها، فمن منا رأى الكهرباء؟ لا أحد يراها، ولكننا نلمس آثارها في إضاءة المصابيح وحركة المواتير.. إلخ. والجميع يصدقون أن هناك كهرباء، ولذلك يحذرون من لمس سلك مكهرب، وهناك الموجات الصوتية والكهرومغناطيسية، ويلمسون آثارها دون أن يروها، وهناك الكائنات الدقيقة التي لا تراها العين المُجردة ونصدق أنها كائنة ونستطيع أن نراها بالمجهر، وهناك الأصوات الخافتة التي لا تلتقطها الأذن البشرية بينما تلتقطها أذن بعض الحيوانات، وقال أحد المؤمنين البسطاء الروس ردًا على المُحاضِر المُلحد بأنني لم أرى اليابان ولكنني أصدق أنها موجودة، وإن جيشنا أشتبك في حرب معها.
2- احتج بعض المُلحدين بأنه:
لو كان الله موجودًا وهو روح فكيف خلق العالم المادي؟

وفي سنة 1616م أصدر الإيطالي " جوليو سيزار فانيني " كتابًا في باريس أنكر فيه وجود الله وكان الكتاب عبارة عن حوار دار بين الإسكندر ويوليوس قيصر حول قضية كيف يمكن لإله غير مادي أن يخلق عالمًا ماديًا؟ وهل تستطيع الكائنات الروحية الاتصال بالكائنات المادية؟ وقالوا أن القول بأن الله روح يساوي القول بأن الله لا شيء، والقول بأن الملائكة أرواح يساوي القول بأن الملائكة لا شيء.
تعليق: إن المادة ليست هي كل شيء، بدليل أن الإنسان به الجانب المادي المتمثل في الجسد والجانب الروحي المتمثل في الروح، وفي اللحظة التي تنطلق فيها الروح من الجسد يتحول هذا الجسد الحي إلى جثة هامدة سريعًا ما تتحلل وتعود للتراب، فمن يقول أن الروح تعني لا شيء، فهو يساوي بين الإنسان الحي الذي له روح والإنسان الميت الذي لا روح له.. الله هو الروح البسيط الأزلي، كلي الوجود، غير المحدود مالئ كل زمان ومكان، القادر على كل شيء، خالق كل شيء وضابط كل شيء، هكذا نؤمن وهكذا نصدق، وهكذا علمتنا الكتب المقدَّسة وهكذا قال مخلصنا الصالح " طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يو 20: 28) ونؤمن أن الله غير المرئي قد تجسد ملء الزمان، وهوذا التاريخ يقف شاهدًا لتجسده، فقد فصل التاريخ بين ما قبل الميلاد وما بعده، وإيماننا به إيمان اختباري، نعاينه بعين الإيمان، ونتحاور معه " الذي كان من البدء. الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا" (1 يو 1: 1).
3- احتج بعض المُلحدين بأنه:
لم يعد أحد من الموت ليخبرنا بوجود الله والعالم الآخر.

وعندما وقف " كومودو كانوف " أمام محكمة التفتيش وسُئل عن سبب عدم إيمانه، قال " نحن لم نرَ أبدًا رجلًا ميتًا يعود من العالم الآخر إلى الحياة ليُخبرنا عن وجود الجنة.. أو الجحيم. كل هذه الأمور من خلق الرهبان والقساوسة الذي يريدون العيش بدون بذل جهد في العمل وأن يتمتعوا بالأطايب التي توفرها الكنيسة لهم" (9).
وقال " سكريفن " Michael Scriven أن الإيمان بوجود الله يشبه إيمان الأطفال بسانت كلوز (بابا نويل) أو إيمان البعض بالجنيات والشياطين، ولكن عندما ينضج الإنسان يعرف أن هذه كلها مجرد أوهام (راجع د. رمسيس عوض - مُلحدون محدثون ومعاصرون ص 85)
تعليق: الذي لا يؤمن بالأسفار المقدَّسة، حتى لو قام إنسان من الموت وأخبره بالحقيقة فلن يؤمن، بل سيقول له: ما هو دليلك المادي على قولك؟ فربما أنك تكذب ولا تقول الصدق، وهذا ما قاله السيد المسيح في مثل لعازر " إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدّقون" (لو 16: 31) وهذا ما حدث، لقد قام السيد المسيح من بين الأموات ولم يظهر لواحد أو عشرة إنما ظهر للمئات وظل كثير من اليهود في ضلالهم ولم يؤمنوا.
وهذا الإيمان بالله والحياة الأخرى ليس من خلق الرهبان والقساوسة، لأنه لا هؤلاء ولا أولئك هم الذين كتبوا الأسفار المقدَّسة، إنما حقيقة وجود الله والحياة الأخرى فهما واضحان وضوح الشمس في الأسفار المقدَّسة التي كتبها رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس، ويعلم " سكريفن " بأن سانت كلوز هو حقيقة تاريخية تعكس حياة الخير التي تمثلت في القديس نيقولاوس، وأن الشياطين حقيقة وكثيرًا ما يتلبسون الإنسان فيختل عقله، ويتحدث بصوت غير صوته.
4- احتج بعض المُلحدين أن:
الإيمان ضد العقل والتقدم العلمي والثقافي.

فقال "جورج ه. سميث" George H. Smith أن الإيمان بوجود إله قائم مبني على الزيف، فضلًا عن أنه شيء ضار، والبديل هو الإلحاد، فالإلحاد هو وليد العقلانية، وهو النتيجة الطبيعية لاستخدام العقل، وكتب "ليلو سوزيني" الإيطالي إلى "جون كالفن" سنة 1549م يقول له " معظم أصدقائي بلغوا قدرًا عاليًا من التعليم لدرجة أنهم جميعًا يكادون ألاَّ يؤمنوا بوجود الله" (10) و"باولو ساري " الإيطالي أيضًا والذي شغل منصب مستشار الشئون اللاهوتية سنة 1606م في البندقية ألَّف كتابًا بعنوان "تأملات حول الدين" أنكر فيه وجود الله الخالق، وأنكر الخلود، وقال " إننا نؤمن بالله بسبب جهلنا وعجزنا. وأن العاقل أو الحكيم فينا هو الذي يحيا حياة أخلاقية، دون الحاجة إلى الإيمان بالله أو الآخرة" (11) وقال " ساربي " أن البندقية تعج بالمُلحدين ولاسيما من علياء القوم، وسخر من عقائد التثليث والتوحيد، وألوهية المسيح، والمقدسات المسيحية.
تعليق: الإيمان بالله والأمور الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) ليست ضد العقل على الإطلاق، إنما هي فوق مستوى العقل، فالعقل يصل بنا إلى مرحلة معينة ويقف، فيكمل الإيمان المسيرة نحو الله واللانهائية والحياة الأبدية، ومعظم العلماء كانوا يؤمنون بالله وبعضهم كان من رجال الدين، والحياة الأخلاقية هي في الحقيقة نابعة من الدين الصحيح، وإن كان " ساربي " يفتخر بأن البندقية في زمن معين كانت تعج بالمُلحدين فلينظر نهاية الشيوعية المُلحدة في الإتحاد السوفيتي، وعودة الملايين إلى الإيمان المسيحي، فالإيمان قد تحدى كل عذابات الشيطان.. تُرى هل هؤلاء المُلحدون العقلاء لم يسألوا أنفسهم: لو كان الدين جهل وعجز وتخلُف وكذب وخداع، فلماذا تمسك الملايين رجال ونساء وأطفال بعقيدتهم، وضحوا بحياتهم وسُفكت دمائهم رخيصة على مذابح الإيمان..؟! ألاَ تحدثنا دماء ملايين الشهداء عن قوة وصحة وصدق الإيمان المسيحي..؟! تُرى هل لو تعرض هؤلاء المُلحدون، من أجل عقيدتهم، للعذابات التي تعرَّض لها المسيحيون، هل سيثبتون على عقيدتهم لحظة واحدة؟ أم أنهم سينكرون سريعًا الإلحاد؟

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:21 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن أن تكون فكرة وجود الله من صنع الإنسان وخياله؟

س41: هل يمكن أن تكون فكرة وجود الله من صنع الإنسان وخياله كقول فويرباخ وماركس؟

قال " فويرباخ": "من الواضح كالشمس، ومن الظاهر كالنهار، أنه ليس هناك إله ولن يكون هناك إله" (12) وتارة يعلل " فويرباخ " فكرة وجود الله بأنها انعكاس لعظمة الإنسان وصفاته الكاملة، فيقول أن الإنسان قذف بالعظمة الكامنة فيه نحو سماء وهمية وسماها الله " إن الجوهر الذي يعبدهالإنسان ويؤلهه (أي الله) كجوهر غريب عنه، هو بالحقيقة جوه الخاص " وتارة يعلل " فويرباخ " فكرة وجود الله بأنها وليدة بحث الإنسان البائس عن السعادة التي لا يجدها، فيتوهم وجودها في كائن أُطلق عليه اسم الله، فيقول "الإنسان الشقي الذي يبحث عن السعادة، وإذا لم يجدها في ذاته، ولا على الأرض يتوَّهم أنه وجدها في شخص غريب عن الدنيا اختلقته مخيلته ويسميه الله" (13).
وأيد " ماركس " فكر فويرباخ، فنظر للأديان على أنها أوهام تقدم كائنًا يتحلى بصفات الكمال الإنسانية، والصفات المثالية التي وجدها الإنسان في ذاته أطلقها على الله، والإنسان يطيع ويخدم إلهًا هو في الحقيقة من صنع خياله، وبهذا يجعل الإنسان نفسه عبدًا لشيء غير موجود، وكان الأجدى بالإنسان أن يبحث عن هذه الكنوز في داخله، وليس خارجًا عنه (راجع رأفت شوقي - الإلحاد.. نشأته وتطوُّره ج 1 ص 121، 122) كما أيد " ماركس " فكر " فويرباخ " أيضًا في أن الدين هو انعكاس لواقع الإنسان فقال " الدولة والمجتمع يُنتجان الدين، الذي هو وعي زائف للكون.. الدين هو تنهد المخلوق الرازح، وهو قلب عالم لا قلب له، كما أنه فكر زمن لا فكر له، أنه أفيون الشعب" (14).
ج: 1- لو كان " الله " هو انعكاس للصفات المثالية والعظمة الإنسانية، لكان الإنسان يصوّر الله على أنه الإنسان المثالي، ولم يكن ينسب إليه الصفات الإلهيَّة التي لا توجد على الإطلاق في الإنسان، فالاعتراف بأن الله روح بسيط غير مركَّب لا ينقسم ولا يتجزأ، سرمدي أي أزلي بلا بداية أبدي بلا نهاية، غير محدود وغير متناه لأنه كائن في كل مكان ولا يخلو منه زمان، غير متغيّر لأنه كمال مُطلق.. إلخ. فكل هذه الصفات وغيرها من الصفات الإلهيَّة هي بعيدة كل البُعد عن الصفات الإنسانية مهما عظمَّت، ولو كان فكرة وجود الله هي انعكاس للكمالات الإنسانية، ما كان الإنسان ينسب لله الصفات الإلهيَّة.

2- لو كان الله وليد أماني الإنسان، فإن أماني الإنسان محدودة، فكيف يصوَّر الله بصفات غير محدودة، ويقول "رأفت شوقي": "يدعي ماركس بأن الإنسان خلق الله على صورة أمانيه، ولكنه لم يوضح لنا من أين للإنسان المحدود هذه الآماني اللامحدودة؟! من أين له.. هذا العطش إلى الأبدية والخلود وهو الإنسان التي تآكله الزمن، ويرى حوله كل حي يموت..؟ لم يخلق الإنسان الله على صورة أمانيه، ولكن أماني الإنسان اللامحدودة هي في صورة الله غير المحدود" (15).
3- في الأصل خلق الله الإنسان على صورته في الخلود والتفكير والابتكار وحرية الإرادة، ولذلك ففي داخل الإنسان شوق لا يرتوي إلاَّ بلقاء الله، وهذا ما عبر عنه " القديس أغسطينوس" عندما قال " يا رب لقد خلقتنا متجهين إليك ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلاَّ إذا استقرت فيك " وضرب البعض على ذلك مثلًا قائلين أن علم الهندسة موجود قبل أن يستخدمه الإنسان، وعندما احتاج إليه الإنسان القديم في المعمار وغيره أكتشف هذا العلم، وليس معنى هذا أن الإنسان هو الذي أوجد هذا العلم، إنما الإنسان أكتشفه وتعامل معه، ولذلك قال " ماسينيون " أن " الله اكتشاف وليس اختراعًا" (16).
4- لو كان الله في الحقيقة هو جوهر الإنسان، فلماذا نرى هذا التفاوت الضخم بين الله (كجوهر الإنسان) وبين الإنسان..؟! إننا نرى أن الإنسان كلما تقدم في المعرفة كلما شعر بجهله، وكلما تقدم في الكمال كلما أكتشف نقصه، وكلما تقدم في حياة الفضيلة كلما شعر بتقصيره، وكلما اغتنى كلما شعر بفقره، وكان من المفروض (لو كان الله هو جوهر الإنسان الكامل) إن الإنسان كلما تقدم في المعرفة، والكمال، والفضيلة، والغنى، كلما رضى عن نفسه وشعر أنه يقترب من الجوهر الكامل،ولكن الحقيقة أن الشعور بالجهل والنقص والخطية والفقر ناتج عن نظرة الإنسان الدائمة لله غير المحدود، الكمال المطلق، الذي ليس هو جوهر إنساني قط، إنما هو جوهر إلهي كامل في ذاته متكامل في صفاته.
5- لو كان الدين هو انعكاس لواقع الإنسان، فتعالوا ننظر للدين اليهودي، هل هو انعكاس للشعب اليهودي..؟! كلاَّ، لأن اليهود كانوا حينذاك ذو حضارة بدائية، بينما كانت هناك شعوب أخرى لها حضارات متقدمة، ومع ذلك فقد أكد العهد القديم على وحدانية الله بينما سقطت الشعوب الأخرى في التعددية، بل نسبوا لآلهتهم الصراع والزواج والإنجاب والموت.. إلخ، ويقول "رأفت شوقي": "لو كان الله مجرد صورة للأوضاع الاجتماعية التي يمر بها الإنسان، كيف يُفسَر كون الشعب اليهودي، وقد كان شعبًا ذا حضارة بدائية إذا قسناها بحضارات الشعوب الأخرى المعاصرة والمجاورة، وقد توصل إلى تكوين فكرة عن الله أنقى وأسمى من كل التصوُّرات الدينية السائدة؟ كيف أمكن هذا الشعب الذي لم تكن له فلسفة ولم تكن له ثقافة تجاري (من مجاراة) حتى من بعيد ثقافة المصريين أن يتوصل إلى أرفع فكرة عن تعالي الله وعلاقته بالكون؟ ثم كيف أمكن لهذا الشعب الصغير أن يعتقد بإله واحد سيد الكون قاطبة والأمم بأسرها بينما الإمبراطوريات الكبيرة حوله من أشورية ومصرية وغيرها تدين بتعدد الآلهة، وأن يحافظ على هذا الاعتقاد في مراحل تاريخه المختلفة، في البداوة والحضر، في أسره في مصر ونفيه إلى بابل، في ظل حكم ملوكه وتحت نير الاستعمار الروماني، دون أن تحوله عن إيمانه هذه الاعتقادات الوثنية السائدة عند جيرانه الذين كان يتأثر بهم" (17).
الدليل الأول: الكون يشهد لوجود الله:
" السموات تُحدّث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه" (مز 19: 1).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:23 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على الكون الذي نعيش فيه؟

س42: هل يمكن إلقاء الضوء قليلًا على الكون الذي نعيش فيه؟
ما أوسع الكون الذي نعيش فيه، فمجموعتنا الشمسية تشمل الشمس التي تدور حول نفسها مرة كل فترة تتراوح بين 25-34 يومًا، وهي عبارة عن مُفاعل نووي ضخم، تصل درجة حرارة السطح 6000 درجة مئوية، وترتفع حرارة جوفها إلى 20 مليون درجة مئوية، وترسل ضوءها وحرارتها إلى نحو 200 ألف ميل، ويدور حولها الكواكب كل في مداره بعضها صلد (عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ) وبعضها غازي، ويدور حولها أيضًا الكويكبات التي تقع بين المريخ والمُشترى، كما تدور الأقمار حول الكواكب فإن كان الأرض يتبعها قمر واحد، فإن المشترى يتبعه ستة عشر قمرًا، ويختلف اليوم من كوكب لآخر بحسب سرعة دورانه حول محوره، فيوم عطارد مثلًا يساوي 59 يومًا من أيام الأرض بينما يوم زُحل يساوي عشر ساعات وأربعين دقيقة، وأيضًا تختلف السنة من كوكب لآخر، فسنة عطارد تساوي 88 يومًا من أيامنا وذلك لقربه من الشمس، أما كوكب زحل فتبلغ سنته 2946 سنة من سنى الأرض وذلك لبعده عن الشمس، وتشغل هذه المجموعة الشمسية مساحة تقدَّر بنحو 12 ألف مليون كيلومترًا، وتتمتع بفراغ كوني يقدر بنحو 26 مليون ميل لا يزاحمها فيه نجم آخر، وتدور المجموعة الشمسية بكاملها في اتجاه واحد بسرعة 750 ميلًا في الدقيقة، في مدار تقطعه في مليوني سنة، وتمثل هذه المجموعة جزء صغير جدًا من مجرة درب التبانة التي تمتد إلى مسافة نحو 50 ألف سنة ضوئية، وهذه المجرة الهائلة تمثل واحدة من مائة ألف مليون (مليار) مجرة في الكون، بعضها مجرات صغيرة تمتد إلى 100 سنة ضوئية، وتشمل 100 ألف نجم، وبعضها كبيرة تمتد إلى 160 ألف سنة ضوئية، وتشمل نحو عشرة آلاف مليار نجم، وكل هذه المجرات تمثل 10% من حجم الكون ككل، أما بقية الكون فيقع في منطقة المجهول تمامًا، وبعض المجرات يعيش مستقلًا، بينما بعضها يعيش في مجموعات، فمجرتنا تنتمي إلى المجموعة المحلية التي تشمل نحو ثلاثين مجرة، وبعض المجموعات الكبيرة يصل عددها إلى 2500 مجرة.. فإن كان هذا حال الكون المادي، فكيف تكون السماء والأبدية؟!!

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:24 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن أن يكون الكون أزليًّا؟

س43: هل يمكن أن يكون الكون أزليًّا؟
ج: أولًا: من المستحيل أن يكون الكون أزلي للأسباب الآتية :
1- ظاهرة تراجع المجرات:

أثبت العلم الحديث أن الكون يتمدَّد والمجرات النجمية تتباعد عن بعضها بسرعات آخذة في التزايد، وجاء في مجلة العلم " هل يتمدَّد الكون المحيط بنا كما يقول بعض علماء الفلك؟ في يناير 1998م أكتشف فريق من علماء الفلك دليلًا يثبت أن الكون المحيط بنا يتمدَّد بمعدلات تزيد بشكل مستمر، ومعنى ذلك أن هناك قوة مضادة للجاذبية تعمل في هذا الكون على تمدده.. قوة طاردة تبلغ ضعف الجاذبية. أجبَرَ ذلك علماء الفلك على إعادة التفكير في نظرياتهم حول الطبيعة والمصير النهائي للكون" (18) فلو كان الكون أزليًّا، لتباعدت هذه المعجزات عن بعضها بمسافات غير محدودة، وما كنتَ تجد في السماء نجمًا واحدًا لامعًا، لأن هذه النجوم كانت ستفارقنا وتبعد عنا مسافات طويلة جدًا يصعب معها رؤية أي لمعان لهذا النجم أو ذاك.
2- تحوُّل كتلة الشمس إلى طاقة وضمور الأجرام السمائية:

يبلغ حجم الشمس مليون وثلثمائة ألف مرة قدر حجم الأرض، وتبلغ كتلتها 330 ألف مرة من كتلة الأرض، ويصل وزنها 6600 بليون بليون طن من المادة، وكل ثانية تمر يتحوَّل 7ر4 مليون طن من كتلة الشمس إلى طاقة، فكم يتحوَّل منها إلى طاقة في الساعة وفي السنة وفي آلاف السنين، فبلا شك لو كان الكون أزليًا أي ليس له بداية ما كنتَ تجد على الإطلاق أي أثر لهذه الشمس، ولانحلت من حولها الكواكب بما فيها كوكب الأرض، وهكذا كل نجم يفقد يومًا فيومًا جزءًا من جسمه، فهو ليس أسعد حالًا من الشمس، وبالإجمال فإن الكون كله آخذ في الضمور والتضاؤل والتلاشي والانحلال، وهذا يتفق تمامًا مع ما جاء في المزمور " من قِدَم أسَّست الأرض والسموات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تُبلى. كرداء تغيرهنَّ فتتغيرَّ. وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مز 102: 25-27).

3- قانون اضمحلال الطاقة:

فالجسم الساخن يظل يفقد حرارته تدريجيًا إلى أن يصل إلى درجة حرارة الوسط المحيط به، وهذا ما نلاحظه مع كل كوب نتناوله من مشروب ساخن نشربه، فإننا نتركه قليلًا حتى يفقد حرارته المرتفعة ويمكن قبوله، أما لو تركناه فترة أطول فأنه يبرد، ولم يعد مشروبًا ساخنًا. وبالرغم من أن درجة حرارة سطح الشمس 6000 درجة مئوية إلاَّ أنه يحدث أحيانًا أن بعض المساحات منها تنخفض حرارتها فتنطفئ وتظهر كبقع معتمة على وجه الشمس، وهي الكَلف الشمسي، وقد " بلغت مساحة إحداها 230 ألف كيلومترًا مربعًا. وباستخدام المطياف لدراسة هذه المناطق ثبت أن هناك انخفاضًا في درجة حرارة هذه البقع بالنسبة لقرص الشمس، أي أنه هناك انطفاء جزئي في هذه المناطق" (19) ومتى وصلت حرارة الكون إلى درجة الصفر المُطلق (16ر273 درجة مئوية تحت الصفر) فحينئذ يموت الكون ويُباد، فلو كان الكون أزليًّا لوصل إلى درجة الصفر المُطلق، ولانتهى من زمن بعيد.
4- العناصر المُشعة:

مازالت العناصر المُشعة لها وجود في العالم، وهذه العناصر مثل اليورانيوم والراديوم، فهي ذات وزن ذري كبير، وأنويتها غير مستقرة، لأنها تنبعث منها جسيمات ألفا وبيتا وأشعة جاما، وهي بالتالي تتحوَّل من عناصر مشعة إلى عنصر غير مشع وهو الرصاص، بمعدل ثابت لا يتأثر بالبيئة ولا درجة الحرارة ولا غيرها، وهذه النسبة هي 1 /..0ر600ر7 من الجرام، أي أن جرام اليورانيوم يحتاج 7 مليون وستمائة ألف سنة لكيما يتحوَّل بالكامل إلى رصاص،إذًا وجود هذه العناصر المُشعة للآن هو إثبات أن الكون غير أزلي، ولو كان الكون أزليًّا لما وجدت على الإطلاق أية عناصر مُشعة.
5- الكون مركَّب ومتغير:

ومادام الكون مُركَّب إذًا لابد أن يكون له بداية، فمثلًا المياه المكوَّنة من الهيدروجين والأكسجين لا يمكن أن تكون أزلية، لأنها قبل أن توجد كان هناك عنصري الهيدروجين والأكسجين، كلٍ على حدى، وتحت درجة حرارة معينة اتحدا معًا وكوَّنا المياه. وأيضًا الكون في حالة تغيير دائم ومستمر، فهذا نجم يوُلد وذاك نجم يموت، وهذا كائن يُولد وينمو وذاك يشيخ ويموت، وصدق من قال أن الطبيعة تلاقي الشمس كل يوم بثوب جديد، ومن المعروف أن الشيء المتغير لا يمكن أن يكون أزليًا، ولهذا لا يمكن أن ندَّعي أن الكون المتغير هو أزلي.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:26 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي وضع قوانين الكون؟

س44: لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي وضع قوانين الكون؟
ج: يسير الكون بنظام عجيب في منتهى الدقة فالكون له قوانينه الطبيعية التي تحكمه، مثل قانون الجاذبية وغيره، فمن الذي وضع للكون هذا النظام العجيب..؟ وهل يمكن لإنسان عاقل أن يصدق أن هناك عمارة ضخمة مؤسسة بأثاث فاخر وُجدت بالصدفة، بدون مهندس تصميم، وبدون مهندس إشراف على التنفيذ، وبدون عمال خرسانات، ومباني، وكهرباء، وسباكة، وتركيب بلاط، ودهانات، وديكورات، وبدون مشتروات للأثاث والأجهزة الكهربائية بأنواعها المختلفة. وهل يمكن لإنسان عاقل أن يرى لوحة فنية ويصدق أنها وُجدت وليدة الصدفة، بدون يد فنان ابتدعتها.. من يغوص في شرم الشيخ أو الغردقة، أو حتى ينظر مجرد النظر بنظارة مياه إلى قاع المياه بما تحويه من شُعاب مرجانية وأسماك بأشكال وأحجام مختلفة، تحمل ألوانًا في منتهى الروعة، فأنه يتحسس يد ذاك الفنان المُبدع.. في إحدى المرات مرَّ أحد المسيحيين مع شخص مُلحد على الطبيعة الخلابة من نهر وأشجار وحيوانات، فتسأل المسيحي: من خلق كل هذا؟
فقال المُلحد: لا تضايقني بحديثك السخيف عن الله.. إنها الطبيعة وليدة الصدفة.
وبعد عدة أيام زار الأخ المُلحد صديقه المسيحي، وإذ رأى لوحة فنية أعجبته سأل: من رسم هذه اللوحة؟

فقال المسيحي: أتريد أن تدخلني في حديث ديني سخيف.. إنها وليدة الصدفة، فالصدفة هي التي جاءت باللوحة والألوان، وصنعت هذا المنظر الخلاب وجعلته في مكانه بهدف أن يتمتع به كل من ينظر إليه.
وتضايق المُلحد وشعر أن هذا استخفاف بعقله، فقال له صديقه المسيحي: إن كنت تعتقد أن الطبيعة الخلابة التي تفوق هذا "التابلوه" آلاف المرات هي وليدة الصدفة، فلماذا لا تصدق أن تكون هذه اللوحة أيضًا وليدة الصدفة..؟!
حقًا صدق " أفلاطون " عندما قال " أن العالم آية فنية غاية في الجمال ولا يمكن أن يكون ما فيه من نظام نتيجة الصدفة. بل لابد من وجود عقل كامل ومهندس أزلي صنع كل شيء ورتبه بقصد" (20).
وقال " جون وليامز كلونس " عالِم الوراثة " أن هذا العالم الذي نعيش فيه قد بلغ من الإتقان والتعقيد درجة تجعل من المُحال أن يكون قد نشأ بمحض الصدفة" (21).
وكان المسيحيون في رومانيا الشيوعية يتحدثون عن وجود الله بطريقة بسيطة فيقولون " لنفرض أنك دُعيت إلى وليمة تحتوي على جميع أنواع الأطعمة اللذيذة، فهل تصدق أنه لم يوجد أي طهاة لهذه الأطعمة؟ فالطبيعة هي وليمة هيئت لأجلنا.. فمن هو الذي هيأ كل هذه الأشياء للناس؟ فالطبيعة عمياء، وإن كنتَ لا تؤمن بوجود الله، فكيف تستطيع إذًا أن تفسر أن الطبيعة العمياء قد نجحت في تهيئة جميع ما نحتاجه نحن من هذه الأشياء المتعددة المتنوعة" (22).. بل أقول لك يا صديقي لو أنك سرت في الصحراء ووجدت ثلاثة أحجار متساوية في حجم واحد رُصت فوق بعضها البعض، فإنك تجزم أن هذا لابد أن يكون من صنع الإنسان، لأنه من المستحيل أن تسوي الطبيعة الأحجار بشكل واحد هكذا، ويستحيل أن ترصَّها بهذا الشكل الهندسي، فكم وكم بالنسبة للكون؟
حقًا أن الطبيعة الخلابة والكون الفسيح والفضاء المتسع ونظام الكون العجيب في الربط بين الشموس والكواكب، والنجوم التي تعد بالآلاف والملايين، وكل يجري في فلكه، دون أن يصطدم نجم بآخر ولا كوكب بآخر، وبينما تبلغ المسافة بين الأرض والشمس ثمانية دقائق ضوئية، فإن بعض النجوم تبعد عنا مئات السنين الضوئية، كل هذا وغيره الكثير والكثير كتاب مفتوح يحكي لنا عن قدرات الله الإعجازية ومحبته ورعايته حقًا " ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صُنعت. ملأت الأرض من غناك" (مز 10: 24) قال أحد الفلاسفة أن الكون هو كتاب اللاهوت الذي قرأه الفلاسفة فكان لهم إنجيلًا.
وقال " القديس يوحنا ذهبي الفم": "لو كان الله أعلمنا ذاته من خلال كتب وحروف فقط، لصار الذين يعرفونه هم المثقفون فقط، ولكنه أعلمنا ذاته من خلال الطبيعة أيضًا، ليعرفه الجميع" (23).
وقال " إسحق نيوتن": "إني رأيتُ الله في أعمال ونواميس الطبيعة التي تؤكد وجود حكمة وقوة لا تختلط بالمادة" (24) كما يقول أيضًا " أن هذا النظام الكوني هو بتخطيط، وتحت سلطان كائن حكيم مقتدر" (25) وعندما أراد " نيوتن " أن يسخر من أصدقائه الملحدين صنع نموذج مصغر للنظام الشمسي، وعندما سأله أحدهم: من الذي صنع هذا النموذج الرائع؟ أجاب: لا يوجد، فغضب المُلحد قائلًا: إنها كذبة، كذبة حمقاء. فقال " نيوتن ": إن كنت تستنكر أن هذا النموذج البسيط قد قام بصنع نفسه، فكيف تقبل أن النظام الكوني العجيب وُجد بلا إله مدبر وصانع قدير؟!

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:27 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي أوجد العناصر؟

س45: لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي أوجد العناصر؟
ج: في العالم 92 عنصرًا مختلفًا (بالإضافة إلى بعض العناصر التي استُحدثت نتيجة التفاعلات النووية) والأمر العجيب أن كل ما يوجد على كوكب الأرض هو في الحقيقة يرجع لهذه العناصر، فمن هذه العناصر تتكوَّن جميع المركَّبات في هذا الكوكب الذي نعيش فيه، وبعض هذه العناصر صلب والبعض سائل، والبعض غازي، وجميعها تتكون من ذرات، وكل ذرة مكوَّنة من نواة موجبة الشحنة، يحيط بها بروتونات ونيوترونات، وحولهما إلكترونات سالبة الشحنة، ويختلف عدد البروتونات والنيوترونات والإلكترونات من عنصر إلى آخر، وبناء على هذا يكون الوزن الذري والعدد الذري لكل عنصر ثابت، وعليه تتوقف الصفات الكيميائية، وكما أن المسافات بين النجوم شاسعة، فإن المسافات بين مكونات الذرة متناهية الصغر، والإلكترونات تدور حول نفسها وحول النواة بسرعة 7 آلاف مليون دورة في الثانية الواحدة. فهذه العناصر هي بمثابة الحروف الهجائية التي يتكون منها كل ما هو موجود على سطح الأرض وفي باطنها، وليس الإعجاز في إيجاد العناصر بقدر ما هو في طرق إتحادها معًا لتكون المواد المختلفة، يقول المُلحدون أن هذه العناصر أتحدت مع بعضها البعض بطرق الصدفة، أو نتيجة لقوانين الإتحاد الكيميائي، أو نتيجة لقوى الطبيعة. أما كل إنسان منصف فيعترف بسهولة أن الله هو وراء جميع المواد التي تتكوَّن من هذه العناصر بنسب معينة لا تتغير، فمثلًا " جزئ البروتين " يتكون من خمس عناصر وهي الكربون والكبريت والأكسجين والأيدروجين والنيتروجين تتآلف معًا بنسبة معينة، فيتكون جزئ البروتين هذا من 40 ألف ذرة من هذه العناصر بنسب محدَّدة، فمن له القدرة على جمع هذه العناصر الخمسة من الاثنين والتسعين عنصرًا، وجمعها بنسب معينة حتى يتكون جزئ البروتين..؟ قال البعض " مثلًا لكي نحصل على الجواب الحقيقي لأي مسألة (رياضية) وأمامنا على المنضدة العشرة حروف الرياضية، فلو جعلنا هذه الحروف تقفز في الهواء وترتب نفسها على هيئة الجواب، فلكي نحصل على الجواب الصحيح يجب أن تتم العملية مائة مليون مرة.. هذه هي المصادفة، فكيف يكون الحال إذا كنا نتعامل مع 92 عنصرًا وليس على عشرة أحرف، ونريد أن نخلق الكون بأسره؟ قطعًا أن العقل يرفض أن يصدق أن المصادفة قادرة على الخلقة" (26).
ويقول "برسوم ميخائيل": "فذرات الكربون إذا رُكِبت في جملة بسيطة من جمل الخليقة بطريقة معينة داخل الشبكة البلورية لصار لنا ما نسميه " الماس " بينما لو ارتبطت بطريقة أخرى لصار لنا " الجرافيت " وشتان بين الأثنين. أما لو دخلت ذرات الكربون على ذرات غيرها من العناصر في جملة مُركَّبة لحصلنا على كل المُركبَّات العضوية، وما أكثر أعداد هذه المُركبَّات، فهي حوالي نصف مليون مُركَّب" (27) والأمر العجيب أن العالِم الروسي " مندليف " منذ أكثر من مائة عام عندما رتب العناصر الكيماوية طبقًا لأوزانها الذرية تنبأ عن وجود عناصر لم تُكتشف بعد، وترك لها خانات خالية في الجدول، وتنبأ بخواص هذه العناصر، وفيما بعد صدقت تنبؤاته وتم اكتشاف هذه العناصر وجاءت صفاتها مطابقة لتنبؤات مندليف.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:29 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
لو كان الكون وليد الصدفة، فَمَنْ الذي يضبط الكون؟


س46: لو كان الكون وليد الصدفة، فمن الذي يضبط الكون؟
ج: لابد أن يكون هناك ضابطًا للكون، ومن أمثلة ضبط الكون ما يلي:
أ - ضبط المسافات بين الشمس والكواكب التي تدور في فلكها، وبين الكواكب والأقمار التي تدور في أفلاكها، والمذنبات، فالأمر العجيب أن مُذنَّب هالي الذي ظهر سنة 1910م تنبأ الفلكيون بظهوره مرة أخرى سنة 1986م وفعلًا حدث هذا، مما يظهر أن الفلك يسير بنظام في منتهى الدقة.

ب - ضبط المسافة بين الأرض والشمس بدقة متناهية (93 مليون ميل) فلو أن هذه المسافة زادت أو قلت عدة ملايين من الأميال، لانخفضت أو ارتفعت درجة الحرارة واستحالت الحياة على الأرض.


ج- ضبط سرعة دوران الأرض حول نفسها مرة كل أربعة وعشرين ساعة بسرعة 1000 ميل / الساعة، تصوَّر لو أن هذه السرعة قد انخفضت إلى 100 ميل / ساعة وأبطأت الأرض حركتها، لصار الليل والنهار 240 ساعة، ولاستحالت الحياة على الأرض.

د - تدور الأرض بزاوية مائلة تبلغ 5ر35 درجة، ولولا هذا الميل لصار كل من القطب الشمالي والجنوبي في ظلام دائم، ولتكونت قارات من الجليد، كما أن هذا الميل في دوران الأرض هو الذي يصنع تعاقب المواسم.

ه- ضبط المسافة بين الأرض والقمر (238 ألف ميل)، ولو تصوَّرنا أن القمر أقترب إلى 50 ألف ميل لغمرت المياه كل الأراضي التي تقع تحت منسوب الماء مرتين يوميًا، بقوة دفع تزيح الجبال، ولأحدث المد أعاصير يوميًا.

و - ضبط سُمك الغلاف الجوي بنحو 500 ميل فيحمي الأرض من الشهب والنيازك وعددها في اليوم الواحد قد يصل إلى 20 مليون، تندفع نحو الأرض بسرعة رهيبة، فلولا الغلاف لدمرت الأرض وكل ما عليها، وما كانت هناك طائرات تستطيع أن تُحلق في الهواء، كما أن الغلاف يسمح بمرور الأشعة التي تحتاج إليها النباتات، فتقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ولا تضر الإنسان، ولو قل سُمك هذا الغلاف لنفذت الأشعة الضارة للأرض بقدر يضر بكل الكائنات الحية، ولو كان حجم الأرض ضعف الحجم الحالي لازدادت الجاذبية وأنكمش الغلاف الجوي.

ز - ضبط نسبة الأكسجين 21%، فلو زادت نسبة الأكسجين لكثرت الحرائق على الأرض، ولو قلت النسبة لأدت لضيق التنفس، والإنسان والحيوان في تنفسهم يأخذون الأكسجين ويطردون ثاني أكسيد الكربون، وهذا الغاز ضروري للنباتات فتأخذ منه حاجتها لصنع المواد الأزوتية لتبني أجسامها، وتطرد الأكسجين، أي أن هناك تبادلًا وتوازنًا بين الإنسان والحيوان من جانب، والنباتات من جانب آخر.

ح - ضبط مساحة المياه (72%) إلى مساحة اليابس (28%)، وهذه النسبة لها دور أساسي في ضبط حرارة الأرض، وأيضًا في إنتاج الأكسجين اللازم للحياة من خلال البلانكتون الذي يعيش في المياه وينتج 70% من كمية الأكسجين الجوي، ولذلك أودع الله المياه عندما تصل درجتها بين 4 - 5 مئوية أن تنقلب ظاهرة التمدد والانكماش، فتتمدَّد بالبرودة وتنكمش بالحرارة، وعندما تتمدد المياه يزداد حجمها وتقل كثافتها، ولهذا فالثلج يطفو فوق سطح المياه، وعندما تتعرض البحار والمحيطات إلى برودة شديدة يتجمد سطحها بسُمك معين، ويصير هذا الجليد كعازل حراري بين الغلاف الجوي الذي تقل حرارته عن الصفر وبين ما تحته من مياه، وعندما يتجمد سطح المياه يطرد جزء من الأملاح تذوب في الطبقة التالية، ومن المعروف أن المياه المالحة تحتاج لدرجة حرارة أقل لكيما تتجمد، وبذلك تستمر الحياة في البحار أسفل الجليد، وعندما ترتفع درجة الحرارة يذوب الجليد وتعود الحياة لطبيعتها الأولى، ولنا أن نتصور المياه بدون هذه الخاصة أي تنكمش بالبرودة وتزداد كثافتها وتغوص في أعماق البحار والمحيطات، ولا تقوى أشعة الشمس على إذابتها، وهكذا يتراكم الجليد عام بعد عام ويقضي على الحياة البحرية، وبالأكثر على البلانكتون الذي ينتج لنا 70% من كمية الأكسجين في العالم، هذا بالإضافة للصفات الأخرى التي وضعها الله في المياه مثل قوة الإذابة، والخاصية الشعرية، وأنها لا تحمل لونًا ولا طعمًا ولا رائحة، وتعتبر أهم مذيب، ولها خاصية التوتر السطحي.. إلخ. (راجع مدارس النقد ج 3 ص 113 - 116).

وإن تجرأ أحد وقال أن الصدفة هي التي صنعت كل هذا، فيتجرأ " تول فرانس " ويقول "أن الصدفة هي الاسم الآخر لله، حينما يرفض أن يوقع بإمضائه" (28)، وإن تجرأ أحد وقال أن الكون قد خلق نفسه فيرد عليه " د. أيريل دافيز " رئيس قسم البحوث الذرية بالبحرية الأمريكية ببروكلن قائلًا " إذا سلمنا بقدرة الكون على خلق نفسه، فإننا بذلك نصف الكون بالألوهية، ومعنى ذلك أن نعترف بوجود إله ولكننا نعتبره إلهًا ماديًا وروحيًا في نفس الوقت، وأنا أفضل أن أؤمن بإله غير مادي خالق لهذا الكون تظهر منه آياته وتتجلى فيه أياديه" (29) وقال " سقراط": "أموت شهيد الإقرار بإله واحد " وقال " شيشرون": "لا توجد أمة مهما بلغت من عراقة في الخشونة، وتمكن في الوحشية، تجهل وجوب عبادة الله" (30) وقال " كريستوس": "لا مسألة رياضية تتبرهن بأكثر جلاء كما تتبرهن مسألة وجود الله" (31).
ويقول "بول ليتل " عن القوانين الطبيعية والتي وُضعت بحكمة إلهيَّة " تتسم تلك القوانين بالدقة المتناهية لدرجة أنه لو حدث تغيير ضئيل جدًا في أي منها. فإن هذا لم يكن ليسمح لنا بالوجود. وقد ذكر " هيو روس " 25 من هذه القوانين التي تؤثر على درجة حرارة الأرض وفصول السنة والغلاف الجوي بأكمله. ولو أن هذه القوانين حدث فيها تعديل بمقدار شعرة، لتعذر وجود الحياة على الأرض.. قوة الجاذبية والتجاذب القطبي، ونسبة الأكسجين للنيتروجين في الغلاف الجوي، مستوى الأوزون، النشاط الزلزالي، مستويات ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، سرعة النجوم الطائرة بعيدًا عن أحدها الأخرى، تمدُّد الكون، سرعة الضوء، قوة الكهرباء وكتلة البروتون. إن وجود هذه الثوابت يشهد على عدم إمكانية أن تكون الصدفة هي التي أوجدت وحافظت على هذه الثوابت" (32).
ويقول "عمانويل كانت": "من المُحال علينا أن نتأمل في صُنع هذا العالم دون أن نرى يد الله الظاهرة البارزة في كمال اتساقه.. لابد أن يكون (العالم) وليد حكمة عالية عجيبة صاغت فكرته وقوة لا نهائية حوَّلت هذه الفكرة وأخرجتها إلى عالم الحقيقة والواقع، وكل الأشياء التي توضح هذا الانسجام المتبادل في الطبيعة لابد أن ترجع آخر الأمر إلى وجود واحد منفرد يضمها معًا، وهكذا يوجد كائن كل الكائنات والفهم اللانهائي والحكمة الذاتية التي أخذت منه الطبيعة كل أقسامها واستمدت وجودها" (33).
وقال " أينشتين": "أن العقل البشري مهما بلغ من عظيم التدريب وسمو التفكير عاجز عن الإحاطة بالكون، فنحن أشبه بطفل دخل مكتبة كبيرة ارتفعت كتبها حتى السقف، فغطت جدرانها. وهي مكتوبة بلغات كثيرة، فالطفل يعلم أنه لابد أن يكون هناك شخص قد كتب تلك الكتب، ولكنه لا يعرف من كتبها، ولا كيف كانت كتابته لها، وهو لا يفهم اللغات التي كُتبت بها. ثم أن الطفل يلاحظ أن هناك طريقة معينة في ترتيب الكتب ونظامًا لا يدركه هو، ولكنه يعلم بوجود علمًا مُبهمًا، وهذا على ما أرى موقف العقل الإنساني من الله مهما بلغ ذلك العقل من السمو والعظمة والتثقيف العالي" (34).
كما يقول "أينشتين " أيضًا وهو يتعجب من هذا الكون " أن أعظم جائشة من جائشات النفس وأجملها تلك التي تستشعرها النفس عند الوقوف في روعة أمام هذا الخفاء الكوني، الذي لا نستطيع أن نشق حُجبه، ومع هذا فنحن ندرك أن وراءه شيئًا هو أحكم الحكمة وأجمل الجمال. وهي حكمة وجمال لا تستطيع إدراكها عقولنا القاصرة إلاَّ في صوُّر بدائية.
وهذا الإدراك للحكمة وهذا الإحساس بالجمال هو الباعث في روعة إلى التسبيح عند الخليقة. إن الشعور الإلهي الذي يشعره الباحث في الكون هو أقوى وأنبل حافز على البحث العلمي، وإن إيماني هو إعجابي في تواضع بتلك الروح السامية التي لا حد لها، تلك التي تترائى في التفاصيل الصغيرة القليلة، التي لا تستطيع إدراكها عقولنا الضعيفة العاجزة" (35).
والعالِم الإنجليزي " أدينجتون " الذي درس أحوال النجوم قال " أنني لأعلم حق العلم أن الله موجود، كما أعلم تمامًا أن أصدقائي موجودين. فلست بحاجة إلى إثبات وجوده بقدر ما أنا في غير حاجة إلى إثبات وجودهم" (36).
وبينما قال " جاجارين " أول عالِم فضاء روسي هبط على سطح القمر أنني جلت في الفضاء بحثًا عن الله فلم أجده، فإن عالِم الفضاء " تل هارمسترونج " أول رائد فضاء هبط على سطح القمر قال لقد رأيت الله من خلال مصنوعاته. وقال عالِم الحيوان " فابر": "أن ثمة عقلًا لا متناهيًا يحكم العالم، وكلما أمعنت النظر استطعت أن أبصر ذلك العقل الذي يشع خلف أسرار الأشياء. أنني أعلم أن البعض قد يجد في هذا القول مدعاة للسخرية، ولكن هذا لا يعنيني في كثير أو قليل.. لن تستطيعوا أن تنتزعوا من عقلي إيماني بالله، أستغفر الله، فأنني لا أؤمن بالله بل أنا أراه" (37) وقال " أكسكل": "إننا نقرأ في الطبيعة سيمفونية متكاملة" (38) وقال العالِم الجيولوجي " كلوس": "إننا نسمع في طبقات الأرض موسيقاها الحلوة" (39) وقال ربنا يسوع المسيح " من له أذنان للسمع فليسمع" (مت 11: 15).

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:30 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
كيف تشهد أعضاء الإنسان وأجهزته على وجود الله؟

الدليل الثاني: الإنسان يشهد لوجود الله
س47: كيف تشهد أعضاء الإنسان وأجهزته على وجود الله؟

ج: الإنسان هو عالم صغير، وأجهزة الجسم تشهد بقوة على وجود خالق قدير قوي حكيم عظيم، فلكل عضو وظيفته، ولكل جهاز عمله، والأعضاء تتآلف وتتعاون معًا بدون أدنى صدام، إنما الكل يجري إلى قصد واحد وهو حفظ الحياة والصحة والسعادة لهذا الجسم، فالجهاز الهضمي يهضم الطعام، والجهاز الدوري يأخذ الغذاء المهضوم ويوزعه على الجسم، والجهاز التنفسي يمنح الجسم الأكسجين الذي يحتاج إليه لأكسدة الغذاء وتكوين الطاقة التي يحتاج إليها الإنسان ويخلص الجسم من غاز ثاني أكسيد الكربون، والجهاز الإخراجي الذي يتكون من الكُلى والجلد يطرد الفضلات الناتجة عن عمليات الأكسدة، والجهاز العصبي يحكم السيطرة على العمليات الحيوية التي يقوم بها الإنسان، والجهاز التناسلي يعمل على استمرار الجنس البشري على هذا الكوكب،ولذلك فإن علم التشريح يعطي فرصة للإنسان للتلامس مع قدرة الله وحكمته، وقال أحد الفلاسفة " كلما تقدم علم التشريح ازداد الإنسان إيمانًا بالله" (40) وقال أحد الأشخاص، أن أفقر إنسان في الوجود يمتلك نحو 45 مليونًا من الدولارات الأمريكية، هي قيمة أعضاء جسده التي وهبها الله له، وإن كان الإنسان نجح في تصنيع رئة صناعية، وقلب صناعي، وكلية صناعية، وعقل إلكتروني، لكن ولا واحدة منها في حجم العضو الطبيعي، ولا تعمل بكفاءة العضو الطبيعي الذي يعمل بدون صيانة بشريَّة طوال عمر الإنسان على الأرض، فهذه الأعضاء التي صنعها الإنسان، بالنسبة للأعضاء الحقيقية، تعتبر مثل لعب الأطفال.
ويقول "تيكرز شامبرز " في كتابه " وتنس " أي " شهادة " أن " حادثة بسيطة كانت هي نقطة التحوُّل في حياته. ذلك أنه كان مرة يرقب ابنته الصغيرة وفجأة أتجه بصره إلى شكل أذنيها الدقيقتين وما بهما من التواءات جميلة وانحناءات رائعة، وكأنهما تحفة فنان عظيم، ففكر في نفسه: لا يمكن أن يكون كل هذا الجمال صدفة عشوائية، لابد أنه من تصميم سابق، ولابد أنه من خالق فنان، ولكنه طرد الفكرة عن نفسه، لأنه كان مُلحدًا لا يؤمن بوجود الخالق في ذلك الوقت.." (41).. سأل أحد الأشخاص الذين يشكون في وجود الله صديقه المؤمن: ما هو الدليل على وجود الله؟ فأجابه الصديق: أن الدليل هو في إبهام يدك، فهناك مليارات من البشر وبصمة كل منهم تختلف عن الأخرى.. كيف..؟! إنها القدرة الإلهيَّة التي وضعت بصمتها على الإنسان الذي جبله الله على صورته ومثاله في الخلود والتفكير والتعقل والابتكار وحرية الإرادة.
ونظرة إلى الطفل الوليد تخبرنا بقصة الخلق العجيب، فيقول الدكتور " لويس إيفانز": "في جسم الإنسان 250 عظمة تتحرك بدقة بواسطة مئات العضلات، وفي عينيه وحدها 400 مليون مخروط صغير، و300 مليون من الألياف، و500 ألف عصب صغير، وكلها تتحرك بدقة وبدون ألم، وهناك ملايين الأفران الصغيرة في الجسم (الخلايا) تحرق الغذاء لتوليد الطاقة، وعدد كبير من المؤكسدات الصغيرة، كما نجد أن الكرات البيضاء التي تضحي بنفسها في حربها ضد الأمراض، والرئتين اللتين تعملان على تنقية الدم، والقلب الأمين طول العمر، فهو يدفع 280 ألف طن من الدم سنويًا، ليصل إلى أجزاء الجسم المختلفة، حقًا أن الله وحده هو الذي يستطيع أن يصنع هذا كله" (السيد الذي ينشده الشباب ص 44، 50) (42) ويقول "فولتير": "أن العالم قد صُنع بذكاء.. لذلك لابد وأن يكون نتيجة تصميم ذكاء.. أن ذكاء العالِم نيوتن لابد وأن يكون نتيجة ذكاء آخر"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:31 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
ما هو دليل القصد أو الغاية؟ وكيف ينطبق على العين والمُخ والقلب؟

س48: ما هو دليل القصد أو الغاية؟ وكيف ينطبق على العين والمُخ والقلب؟
ج: إن كل آلة لها صانعها الذي صنعها لهدف معين، فيقول "الدكتور حليم عطية سوريال": "أن الأدلة على وجود الخالق كثيرة، ولكن أعظمها وأوضحها وأسهلها فهمًا ما يُسمى دليل القصد أو الغاية أو الغرض Design، ويعرف عند الغربيين بدليل " بالي " Paley، وهو فيلسوف إنجليزي من رجال الدين، أثبت وجود الله بالقول، أن كل آلة لها صانع، وقال أن دراسة تشريح العين مثلًا يبين لنا غاية واضحة وقصدًا بينًا وهي أنها صُنعت للنظر.. ولا يُعقل وجود آلة دقيقة بدون صانع لها.. إن كل آلة يصنعها الإنسان يمكن بمجرد رؤيتها الاستدلال على وجود صانع لها وذلك من الغاية والقصد التي صُنعت لهما، فإن أبسط الآلات الحجرية التي صنعها الإنسان الأول في العصر الحجري جميعها تدل على وجود عقل مُفكر وصنع تصميمها قبل صنعها" (44).
فالعين عضو مُعقَّد، وكل ما فيه من خلايا عصبية وشبكية وقرنية وقزحية تتعاون معًا وتتكامل لتعطي الإنسان الإبصار، إذًا الله خلق أجزاء العين بهذا الشكل الرائع بقصد منح الإنسان الرؤية، فهنا نلتقي مع دليل القصد من جانب، ومن الجانب الآخر صلاح الله، لأنه لو لم يكن الله صالحًا ما كان يهتم بخلق العين بهذه الصورة الكاملة. ومن أهم عيوب نظرية التطوُّر أنها عجزت عن تفسير كيفية تكوُّن الأعضاء البالغة التعقيد مثل العين، فلو أنها في مراحل تطوُّرها لم تكتمل فأنها تصبح عديمة الفائدة، وكذلك جناح الطائر ما فائدته إن لم يكن مكتملًا، وأيضًا زلومة الفيل ما فائدتها لو كان طولها مثلًا عشرة سنتيمترات، وبالرغم من أن " أنكين قورور " من دعاة التطوُّر فأنه يقول "أن الخاصية المشتركة في العيون والأجنحة هي أنهما لا تؤديان وظائفهما إلاَّ إذا أكتمل نموهما، وبعبارة أخرى، لا يمكن لعين نصف نامية أن ترى، ولا يمكن لطائر أجنحته نصف مكتملة أن يطير، وفيما يتعلق بالكيفية التي تكوَّنت بها هذه الأعضاء، فإن الأمر مازال يمثل أحد أسرار الطبيعة التي تحتاج إلى توضيح" (45) أما " داروين " ففي خطابه إلى آساغراي في 3 أبريل 1860م كتب يقول "كلما تأملت العين (يقصد العين بتركيباتها المعتقدة) انطفأت حماستي لنظريتي" (46) كما قال في كتابه " أصل الأنواع": "يبدو لي أن الافتراض بأن العين بكل ما فيها من أجزاء عديدة تعمل معًا.. يمكن أن تكون قد تكوَّنت بواسطة الاختيار الطبيعي. أعترف بحرية، بأنه افتراض سخيف بكل معنى الكلمة" (47).

أما مُخ الإنسان فهو الذي يتحكم في التنفس، ودقات القلب، وضبط درجات الحرارة، وهضم الطعام، وإخراج الفضلات، وهو يُخزن آلاف وملايين المعلومات والصور والقصص، ويستطيع الإنسان أن يستدعي أي منها فتمثُل أمامه في أقل من لحظة، فهو يحتوي على عشرة بلايين من الخلايا التي تستقبل وتسجل وتنقل الطاقة، وأي تغيير أو تأثير كيميائي في هذا الخلايا يؤدي إلى ارتباك حياة الإنسان، وتغيُّر مشاعرهوأيضًا من الأمور العجيبة في الإنسان العمليات الكيميائية التي يقوم بها الجسم ليل نهار، بدون وعي من الإنسان، مثل تعادل الأحماض في الجهاز الهضمي، وتعادل الأحماض داخل الجسم، وتكوين الأجسام المناعية التي تتصدى للميكروبات الضارة، ولكل ميكروب له الأجسام المناعية التي تقضي عليه.
ويقول "نيافة المتنيح الأنبا غريغوريوس" عن بعض أعضاء الجسم البشري "أنظر إلى عين الإنسان وتركيبها من مقلة تحميها، ومن قزحية وقرنية وعدسة وشبكية وعصب بصري.. إلى غير ذلك من أجزاء وجزئيات وما بها من أهداب وشعيرات وشرايين وأوردة فضلًا عن العضلات والأنسجة والغدد.. ولكل جزء منها وظيفة وعمل واختصاص، وتتعاون كلها ويكمل بعضها عمل بعض بصورة عجيبة.. وما نقوله عن العين نقوله عن القلب، هذا العضو العجيب الذي يعمل بلا توقف ليلًا ونهارًا، وينبض سبعين مرة في الدقيقة الواحدة ولا يستريح لحظة واحدة عن العمل المتواصل.. أرني آلة صنعها الإنسان يمكن أن تعمل بلا توقف وبلا راحة كما يعمل القلب، وهو يحمل عبء الجسم كله.. ولا يقتصر عمله على بيولوجيا الجسم بل أنه أيضًا مركز العواطف من حب وكراهية، ومركز الانفعالات السارة والحزينة من فرح إلى حزن وهم إلى خوف وخجل وحماس ويأس..
وما قلناه عن العين والقلب نقوله عن المخ، هذا العضو العجيب حقًا الذي يتقبل إشارات ويرسل إشارات غيرها، يستقبل ويصدر، ويحكم جميع أجهزة الجسم وعلى رأسها الجهاز العصبي.. ثم هو يتقبل المعارف والخبرات ويرتبها ويصنّفها ويحتجزها للانتفاع بها في مستقبل الأيام. فكيف يختزن المعرفة على تنوعها في كافة ميادين العلم وتشعباته وفروعه؟! وكيف يحتفظ باللغات ومفرداتها وقواعدها وأساليبها..؟ وكيف لا تختلط هذه المعلومات ببعضها؟ كيف يخرجها عند الاقتضاء واضحة متميزة مستقلة عن بعضها؟ وكيف مع ذلك يمكنه أن يقارن بينها ويوازن بينها ويوفق بينها ويعارض بينها وينقدها ويفحصها ويحكم على صدقها أو على زيفها؟ فكيف عند اللازم يجمع بينها حين يحاضر أو يتحدث أو يكتب كتابًا أو يحرر مقالًا أو بحثًا مستعينًا بها كما يشاء مثله في ذلك مثل الطباخ الذي يجمع ما يلزمه من مواد مختلفة ليصنع من مجموعها معًا، وبمقاييس مضبوطة، ضبخة شهية! ما هذه الآلة العجيبة التي تُسمى المُخ؟ ومَنْ من العلماء يمكنه أن يصنع مثلها أو يركّب نظيرها..؟
زد على ذلك سر الحياة نفسها وسر النمو والتكيُّف والتغذية وتمثيل الغذاء واحتراقه.. وبالإجمال كل شيء في الإنسان جسمًا ونفسًا وعقلًا وروحًا ينطق بأدلة صارخة على وجود الله"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:32 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
كيف تشهد عظمة الخلية الحيَّة على وجود الله؟

س49: كيف تشهد عظمة الخلية الحيَّة على وجود الله؟
ج: تُعتبر الخلية الحيَّة وحدة البناء الأولى، فهي الوحدة الأساسية لجميع الأجسام النباتية والحيوانية والبشرية، وفي الكائنات الراقية تتحد الخلايا لتكون نوعًا واحدًا من الأنسجة العضلية أو العصبية..إلخ وتشبه الخلية الصندوق أو العلبة أو قالب الطوب، تحتوي داخل غلافها الخارجي على مادة الحياة (البروتوبلازما Protoplasm) وتتكون من قطعتين Proto أي "أولي"، وPlasm أي "شكل" فالبروتوبلازما تعني المادة الأولية، ومن الناحية الكيميائية تتركب من عدد كبير من العناصر المعروفة أهمها:
1- الأكسجين 2- الكربون 3- الأيدروجين 4- النيتروجين 5- الفسفور 6- البوتاسيوم 7- الصوديوم 8- الكبريت 9- الكلور 10- المغنسيوم 11- الكوبالت 12- اليود وغيرها.
ويوجد بالخلية " النواة " التي تعتبر العقل المُنظِم للتفاعلات الحيوية في الخلية، فهي المركز الواعي، فإذا فُصلت عن البروتوبلازم لا يمكن لأحدهما أن يعيش بمفرده، ويحيط بالنواة غلاف رقيق يتحكم فيما يمر داخل النواة، وبه الكروموزومات أو الصبغيات، وهي جسيمات عضوية دقيقة، وتحمل الصفات الوراثية، وعددها ثابت في كل نوع من أنواع الكائنات الحيَّة، ففي الإنسان يوجد 46 من الكروموزومات بينما تبلغ في الكلب 78، وتحوي المادة الوراثية الحامض النووي (نسبة إلى النواة) وهذا الحامض على نوعين، الأول DNA وهو اختصار دي أكس ريبونيو كليك Desoxyribonucleic Acid، والثاني RNA وهي اختصار الرَيبونيوكليك Ribonucleic Acid.

وهذه الخلية التي لا تُرى بالعين المجردة لأنها بالغة الدقة، فقد لا يزيد طولها عن واحد على الألف من المليمتر، فأنها تقوم بكافة الوظائف الحيوية من تنفس وتغذية وحركة ونمو وتكاثر، ويمكن تشبيه الخلية بدولة تضم مدن عديدة وقرى كثيرة، وشبكة من الأنهار والمواصلات والاتصالات، وتتبادل هذه الوحدات السلع المختلفة من مواد خام ومواد مُصنَّعة وغازات وطاقة، ومهما بلغت بساطة الخلية فهي في منتهى التعقيد، بل وتفوق أعظم آلة صنعها الإنسان حتى الآن، فرغم كثرة التفاعلات، لا يختلط تفاعل مع آخر، والخلية قادرة على حفظ كيانها، فتحتوي على محطات لتوليد الطاقة ومصانع لإنتاج الأنزيمات والهرمونات، وبنك معلومات ونُظم نقل وخطوط أنابيب معقدة، ومحطة تكرير متقدمة، والبروتينات التي تغلف أغشية الخلية تراقب المواد الداخلة إليها والخارجة منها، فعلى سطح الخلية ملايين الفتحات التي تنفتح وتنغلق لتسمح بمرور أو منع المواد العابرة إليها، إن الخلية تمثل عالم من التكنولوجيا البالغ التعقيد والذي يفوق إبداع الإنسان، وكل هذا يُكذّب القول بأن الخلية وجدت بمجرد الصدفة.
ومن كثرة تعقد الخلية قال " فْرِد هويل " عالِم الرياضيات والفلك الإنجليزي، وهو من دعاة التطوُّر " أن احتمال ظهور الحياة العليا بهذه الطريقة يقارن بفرصة قيام إعصار جارف، يمر بساحة خردة، بتجميع طائرة بوينج 747 من المواد الموجودة في الساحة" (49) وتتكون الخلية من مئات الألوف من الجزئيات البروتينية المعقدة، بالإضافة إلى الأحماض النووية، والكربوهيدرات، والدهون، والفيتامينات، والكيماويات الأخرى في تصميم فائق للطبيعة، فإن كان يصعب الحديث عن الخلية الحيَّة، فدعنا يا صديقي نتحدث عن جزئ البروتين الواحد، ولننظر هل يمكن أن يتكون هذا الجزيء بمجرد الصدفة؟!
يتكوَّن جزئ البروتين الواحد من خمسة عناصر (الكربون والأيدروجين والنيتروجين والأكسجين والكبريت) بينما يوجد في الطبيعة أكثر من مائة عنصر، فتكوين الجزئي لكيما يتكون يحتاج:
أ - تجمع العناصر الخمسة بالذات دون غيرها، ودون أن ينقص منها عنصر واحد.
ب- يجب أن تجتمع هذه العناصر بنسب معينة، وفي مجموعها تكون 40 ألف ذرة لكيما يتكون الجزيء، ولو نقصت أو زادت نسبة أحد العناصر الخمسة عن النسبة المقرَّرة لها فلن يتكون الجزيء.
ج- يتكون جزئ البروتين من أحماض أمينية تتراوح من 50 إلى عدة آلاف. فغياب حمض واحد لا يسمح لجزئ البروتين أن يتكون، فإذا كان مثلًا جزئ البروتين يتكون من 288 حمضًا أمينيًا، فاحتمال اجتماع هذه الأحماض بمجرد الصدفة يساوي فرصة واحدة إلى 10 30..
د - لكيما يتكون جزئ البروتين لابد أن جميع الأحماض الأمينية تكون عسراء وليست يمناء، فدخول حمض واحد أيمن قد يؤدي لتركيب جزئ غير مفيد أو ضار، وبالرغم من أن الموسوعة البريطانية تدافع عن التطوُّر فأنها تؤكد أن تجمع الأحماض الأمينية العسراء لتكوين جزئ البروتين تدخل في دائرة المستحيل، فهي تشبه إلقاء عملة في الهواء مليون مرة، وفي كل مرة وبدون استثناء نحصل على ذات الوجه.
ه- لكيما يتكون جزئ البروتين لابد أن الأحماض الأمينية تكون بترتيب معين، فكل حمض لابد أن يأخذ مكانه في الترتيب المقرَّر له.
و - هناك أمر مدهش آخر في تكوين جزئ البروتين، فحتى لو تجمعت هذه الأحماض العسراء، فإن كلٍ منها يمتلك أكثر من ذراع للترابط، ولكيما يتكون الجزيء يلزم أن هذه الأحماض تترابط معًا بطريقة معينة أُطلق عليها طريقة ببتايد.
ولذلك عندما أحتسب " تشالز يوجين " العالِم السويسري نسبة احتمال تكوين جزئ البروتين بمجرد الصدفة وجده نسبة 1: 10 160 أي فرصة واحدة من رقم 10 ويمينه 160 صفرًا، ويعلق "نيافة الأنبا بولا أسقف طنطا" وأستاذ مادة العلم والدين بالإكليريكيات على هذا الرقم قائلًا " وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات، بل وُجِد بالدراسة أن كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة -حيث ينتج جزئ واحد- أكبر من أن يتسع لها هذا الكون بلايين المرات. بل ويتطلب تكون هذا الجزيء على سطح الأرض وحدها عن طريق المصادفة بلايين لا تُحصى من السنوات قدَّرها العالِم السويسري (تشالز يوجين) بأنها عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنوات 10 243..
حتى لو تجمعت كل هذه الذرات بالنسبة المطلوبة فهذا لا يعني تكوين جزئ البروتين.. لأن البروتين له الكثير من الأشكال والتي تختلف عن بعضها في نوعية وشكل وترتيب الذرات فيها، مما ينتج عن ذلك أنواعًا كثيرة من البروتين، منها ما هو نافع، ومنها ما هو شديد السُمية0ولقد حصر العالِم الإنجليزي " ج. ب. ليثز B. Leaihes الطرق التي يمكن بها أن تتألف الذرات في أحد الجزئيات البسيطة من البروتينات فوجد أن عددها يبلغ (4810) وعلى ذلك فأنه من المُحال عقليًا أن تصنع الصدفة جزيئًا بروتينيًا واحدًا"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:34 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
لقطة للتاريخ

الهدف من هذه اللقطة يا صديقي هو أن أكشف لك قليلًا عن المآسي التي عانت منها البشرية بسبب الإلحاد، إله القتل، فالإنسان متى فقد الإيمان، وأعتقد أنه ليس إله، ولا ثواب ولا عقاب، يتدنى لمستوى أدنى من الحيوانات المتوحشة، قد يفترس غيره، أو يفترس نفسه.
يصف " ريتشار وورمبلاند " شيئًا من العذابات التي تعرض لها أبطال الإيمان فيقول "عُذب " فلورسكو " أحد قسوس الكنيسة بواسطة أسياخ حديدية محمأة بالنار وبالسكاكين أيضًا، وقد عذبوه بضراوة، ثم أطلقوا جرذانًا جائعة بواسطة أنبوب حديدي إلى غرفة سجنه، فلم يستطع النوم بتاتًا إذ حاول أن يدافع عن نفسه بطردها عنه، متى توقف قليلًا كانت الجرذان تهاجمه وتنهش جسمه، ولقد اضطر أن يقف على رجليه لمدة أسبوعين كاملين.. لمدة أسبوعين كاملين ليلًا ونهارًا، فقد أراد الشيوعيون أن يرغموه على تسليم إخوانه في الإيمان، ولكنه قاوم تعذيبهم بشدة وصبر.
وفي النهاية أحضروا ابنه الذي كان له من العمر أربع عشرة سنة فقط، وأخذوا يجلدونه أمامه بسياطهم قائلين له أنهم سيستمرون بضربه إلى أن يعترف لهم بما أرادوه منه، فكاد الرجل المسكين أن يُجن، وقد تحمل ذلك قدر استطاعته، ولكنه لما عجز عن الاحتمال نظر إلى المتألم وقال له {يا ولدي إسكندر، عليَّ أن أعترف لهم بما يريدونه، فلا أستطيع أن أراهم يضربونك فيما بعد} فأجابه ابنه {يا والدي لا تظلمني بجعل نفسك والدًا خائنًا. أثبت يا والدي، فإن قتلوني فسأموت وعلى شفتي الكلمات يا يسوع ومسقط رأسي} وعلى إثر ذلك جُن جنون الشيوعيين وانهالوا يكيلون للابن الضربات القاسية إلى أن أزهقوا روحه الطاهرة، والدم يتناثر على جدران الغرفة في السجن. لقد مات وهو يحمد الله {أيها الفتى إسكندر أطلب من أجل ضعفي}.

لقد كبلوا أيدينا بقيود حديدية ذات أسنان حادة من الداخل، فهي لا تؤثر علينا إن لم نأت بحركة، ولكن عندما كانت غرفنا باردة وارتعدنا من البرد القاسي، نهشت تلك الأسنان أيدينا إلى أن مزقت جلودنا.
وقد عُلق بعض المؤمنين الآخرين بحبال رأسًا على عقب، وضُربوا بوحشية ضارية مما جعل جسمهم يتأرجح ذات اليمين وذات الشمال بسبب عنف الضربات، ووُضع مؤمنون آخرون في صناديق للثلج وقد غشاها الجليد من الداخل، وقد وضعوني أنا أيضًا في إحداها بثياب رقيقة جدًا، وكان أطباء السجون يراقبون السجناء داخلها من خلال ثقوب صغيرة في جوانبها، وما أن لاحظوا مظاهر التجلُّد المميت علينا حتى نادوا الحراس لكي يخرجونا منها بسرعة ويدفئوننا مرة أخرى، حتى إذا ما نلنا قسطًا من الدفء أعادونا إليها ثانية لتجليدنا، وقد أعادوا الكرة مرارًا وتكرارًا.. وهذا ما يجعلني أخشى اليوم أن أفتح ثلاجة الطعام.
وضعونا نحن المؤمنين في صناديق خشبية أكبر من حجمنا بشيء زهيد جدًا، مما لم يترك لنا مجالًا للحراك أبدًا، وقد دقوا في هذه الصناديق من كل جهاته عشرات المسامير تبلغ رؤوسها من الداخل حدة الموس. كان الأمر سهلًا إذا وقفنا فيها بسكون تام، ولكنهم أرغمونا على الوقوف في هذه الصناديق لمدة عدة ساعات طويلة، وعندما شعرنا بالتعب والإعياء وألقينا جسمنا على جوانب الصندوق طلبًا للراحة غُرزت هذه المسامير في أجسادنا.. فما صنعه الشيوعيون بالمؤمنين يفوق وصف العقل البشري وإدراكه. شاهدت الشيوعيين يعذبون المؤمنين وقد تألقت وجوههم بالبهجة، وكانوا يصرخون في وجوههم وهم يعذبونهم " نحن الأبالسة!". إننا لا نحارب مع لحم أو دم، بل مع الرياسات والسلاطين وقوات الشر الجهنمية.." (51).
وكان " أريك " أحد أعضاء اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي يخاطب فريسته من المسيحيين قائلًا " أتعلم أنني أنا الله! فبيدي سلطان الحياة والموت، والذي في السماء لا يستطيع أن يقرّر في استبقائك حيًّا، فكل شيء يتوقف عليَّ أنا. فإن شئتُ عشتَ وإن شئتُ متَ، فأنا الله" (52).
نظرة تأمل:

الصقور:

إن الصقور التي تُحلق على ارتفاع قد يصل إلى أربعة كيلومترات ونصف تكشف مساحات متسعة، حتى أنها تستطيع أن تُميّز أرنب كامن بين الأعشاب على ارتفاع كيلومتر ونصف، وتتميَّز عيون هذا الطائر القنَّاص بأنها تحتوي على أكثر من مليون خلية بصرية، ولها قدرة على تكبير صورة الأجسام التي تراها ثمانية أضعاف، كما تتميَّز الأسماك التي تعيش على أعماق ثلاثين مترًا بأن عدسات أعينها كروية تساعدها على الرؤية في هذه الظروف الخاصة.. من أودع هذه الصقور وتلك الأسماك هذه الإمكانات الرائعة التي تحتاج إليها؟!

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:35 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
الاعتقاد بأزلية المادة وتطورها



https://st-takla.org/Gallery/var/albu...s-job-1386.jpg
اعتقد المُلحدون بأن المادة هي الحقيقة الوحيدة الثابتة، وإنها أزلية لا بداية لها، وأنها تطوَّرت إلى كائنات حيَّة، وقد أوجد التطوُّر التنوع في الكائنات، وقال " كارل ماركس " أن المادة " ديالكتيكية " أي لها قوة قادرة على الفعل، وقال المُلحدون أن " الكائنات وُجدت من ذاتها، وكان أصلها ذرات أتت بطريقة الصدفة.. وأخذت تتكامل دورًا فدورًا بتفاعلات كيماوية من المواد غير الآلية الموجودة في تربة الأرض وغيرها من العناصر إلى أن وصلت لحالتها الحاضرة.. إن المادة قديمة أزلية، وهي مصدر كل كائن ومرجعه، وأصل الحياة، ومركز الروحيات، وذات قوة وحكمة سامية تلازمها خصائص لا تنفك عنها، تصلح لأن ترقى بها من الجماد إلى الإنسان، وذلك بتدرجها إلى أدوار متعاقبة مقودة بنواميس ثابتة" (53).
وقال "هولباخ" أن المادة ليست ساكنة، إنما هي في حركة دائبة مستمرة، ويقول "ريتشار وورمبلاند " أن الملحدين يعتبرون " أن المادة كائنة منذ الأزل وأن هذه المادة في حركة دائبة مستمرة. وأن المادة خلاَّقة خَلقت الحياة" (54).
  1. هل يمكن أن تكون المادة أزلية؟
  2. هل يمكن أن تتطوَّر المادة إلى كائنات حيَّة؟
  3. هل هناك أدلة تثبت بطلان نظرية التطوُّر؟
  4. هل يمكن أن يكون الإنسان وليد تطوُّر القردة؟
  5. هل استطاع المُلحدون تفسير ظاهرة الموت؟ وماذا كان موقفهم عند مواجهته؟
  6. المادة حقيقة ثابتة نلمسها ونحسها وندركها، فهل عدم إدراك الله بالحواس يعني عدم وجوده؟
  7. لقطة للتاريخ 2 | نظرة تأمل

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:37 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن أن تكون المادة أزلية؟

س50: هل يمكن أن تكون المادة أزلية؟
ج: في سنة 400 ق.م. إقترح " ديموكريتوس " أن المادة تتكون من جزيئات، ولأن العين البشرية لا تقوى على رؤية تلك الجزئيات لذلك تعطلت نظريته أكثر من عشر قرنًا، وفي منتصف القرن السابع عشر تبنى " روبرت بويل " فكرة " ديموكريتوس " وقال أن المادة تتكوَّن من عناصر غير العناصر الأربعة التي أقترحها أرسطو قديمًا وهي التراب والنار والهواء والماء. وفي سنة 1774م أكتشف " القس جون بريستلي " الأكسجين، وفي سنة 1776م أكتشف " اللورد هنري كافندش " غاز الأيدروجين، ثم أكتشف بعد ذلك بقليل " لافوازيه " أن الهواء يتكون من الأكسجين والأيدروجين. وفي سنة 1808م قال " جون دالتون " أن المادة تتكون من ذرات، وأن الذرات في العنصر الواحد متشابهة، وذرات عنصر تختلف عن ذرات عنصر آخر، وأن هذه الذرات تعتبر أصغر وحدة بنائية فهي لا تنقسم، وأن الخواص الطبيعية والكيماوية تختلف من عنصر إلى آخر تبعًا لاختلاف الذرات المكوّنة لهذا العنصر.. ثم أكتشف " جيسلر" و"كروكسي" و"تومسون " الإلكترونات، واكتشفت " مدام كوري " ما يشعه الراديوم.
وتوصل العلم إلى أن الذرة ليست وحدة جامدة، بل هي أشبه بالمجموعة الشمسية ففي وسطها النواة، وتدور حولها الإلكترونات سالبة الشحنة، والبروتونات موجبة الشحنة، وأن الإلكترونات لها مدارات معينة، وأعداد معينة، وبناء على هذه الإلكترونات يتحدَّد نوع العنصر، وأوضح " أينشتين " أن المادة يمكن أن تتحوَّل إلى طاقة، ووضع معادلته الشهيرة:
الطاقة الناتجة = كتلة المادة المتحولة إلى طاقة × مربع سرعة الضوء (360000 كم/ثانية)2
والمادة ذاتها تحدثنا عن وجود الخالق، ومن أبلغ الأمثلة على هذا جدول مندليف، وخصائص المياه. فبالنسبة لجدول مندليف الذي وضعه " مندليف " العالِم الروسي، وفيه رتب العناصر بناء على الوزن الذري، ولاحظ أن كل مجموعة متقاربة من العناصر لها خواص مشتركة، فرتب حدود لها، ولاحظ غياب بعض العناصر، فترك لها خانات شاغرة، وحدد مواصفات هذه العناصر، وبعد موته صدقت نبؤاته وتم اكتشاف هذه العناصر بتلك المواصفات.. فهل يمكن أن يكون هذا النظام الرائع وليد الصدفة؟!

فالذرة تحتوي على ثلاثة أنواع من الأجسام الكهربية:
1- بروتونات وشحنتها موجبة.
2- إلكترونات وشحنتها سالبة.
3- نيوترونات متعادلة الشحنة.
وتتجمع البروتونات والنيوترونات في نواة الذرة، بينما تدور الإلكترونات حول النواة في مدارات مختلفة بسرعة كبيرة جدًا، ففي خلال جزء من مائة ألف من الثانية تدور ملايين المرات، وهذا ما يوحي بأن الذرات صامدة، بينما معظمها في الحقيقة فراغ، وكل عنصر يختلف عن الآخر باختلاف عدد البروتونات والنيوترونات داخل النواة، وكيفية انتظام الإلكترونات وعددها حول النواة، فجميع ذرات العناصر يسودها النظام المُحكم الدقيق، وتتكوَّن العناصر من عائلات، وكل عائلة متشابهة في الخواص الكيميائية مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم، فلا يوجد أي مجال لأي صدفة عمياء أو عبث أهوج.
أما " الماء " فهو المادة الوحيدة في العالم كله التي إذا تجمدت تقل كثافتها، فكثافة الماء السائل في درجة الحرارة العادية تبلغ 1 جم، ولكن كثافة الماء المجمَّد (الثلج) فتصل إلى نصف جرام، وبالتالي فإن المسطحات المائية التي تتعرض للتجمُّد تطفو فوقها الثلوج فتصنع عازلًا بينها وبين الطبقة الأسفل، مما يتيح الحياة للكائنات البحرية، وأيضًا البلانكتون الذي ينتج لنا 70% من الأكسجين الجوي.. فهل يمكن أن يكون هذا وليد الصدفة..؟!
ولا يمكن أن تكون المادة أزلية، ولا يمكن أن يكون الكون أزليًا، وقد سبق وأوردنا الأسباب التي تدعو للجزم بأن الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، وهي ظاهرة تراجع المجرات، وتحول كتلة الشمس إلى طاقة وضمور الأجرام السمائية، وقانون اضمحلال الطاقة، ووجود المواد المشعة للآن والكون مركّب متغيّر، فيُرجى الرجوع إلى إجابة السؤال رقم 43.
ولو كانت المادة أزلية، فمن ذا الذين وضع لها القوانين الطبيعية التي تحكم الكون كله لكيما يكون في انسجام يفوق الإدراك..؟! وكيف تلاحمت العناصر المختلفة لتكوّن جميع المواد التي توجد على سطح الأرض..؟! ومن الذي يضبط الكون بهذه الدقة المتناهية؟! (راجع س 44، 45، 46).
وتعبير أن " المادة أزلية " هو تعبير غير منطقي لأن المادة قابلة للتغيير، وليس من المعقول أن المتغير يكون أزليًا، والمادة تحمل في طياتها عنصر الضعف، وليس من المعقول أن يكون الضعيف أزليًا، وقال أحد علماء اللاهوت " هذا العالم إما أن يكون أزليًا أو محدثًا، ولا يمكن أن يكون أزليًا لأنه متغيّر.. والتغيُّر صورة من صور الاضمحلال، والاضمحلال يدل على الحدوث، وحيث أن هذا العالم مُحدَث، فلابد أن يكون له مُحدِث أحدَثه" (55).
ويقول "إدوارد لوثر كيل " أستاذ علم الأحياء " إننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزليًا، وإلاَّ لاستهلكت طاقته منذ زمن وتوقف كل نشاط في الوجود، وهكذا توصلت العلوم دون قصد إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون قد بدأ بنفسه، ولابد من مبتدئ أو من مُحرك أول أو من خالق وهو الله" (56).
كما أن تعبير " المادة أوجدت نفسها " تعبير غير منطقي، إذ كيف تُوجد المادة نفسها، وهي أصلًا غير موجودة؟! وعندما قال " كارل ماركس " أن المادة ديالكتيكية لها قوة قادرة على الفعل، رد عليه " بردياييف " المُلحد بعد عودته للإيمان وقال أن عبارة ماركس بها تناقض لفظي، لأنه كيف يمكن للمادة الصلدة الجامدة أن يكون لها قوة قادرة على الفعل؟ وقال " جورج أيريل دافيز " عالِم الطبيعة " أنه ليس هناك شيء مادي يستطيع أن يخلق نفسه، وإذا سلَّمنا بقدرة الكون على خلق نفسه فإننا بذلك نصف الكون بالألوهية، ومعنى ذلك إننا نعترف بوجود إله" (57).
وردًا على القائلين بأن الصدفة أوجدت الحياة التي تطوَّرت وصارت كما نراها الآن في شكل نباتات وأسماك وزواحف وطيور وحيوانات وإنسان، نقول له هب أن الصدفة والارتقاء نجحا في إيجاد الرجل بكل أعضاءه وأجهزته التي تفوق الخيال، فهل يمكن للصدفة والارتقاء أن ينجحا في إيجاد كائن مماثل للرجل تمامًا ومخالف له في الجهاز التناسلي وهو المرأة، بهدف التناسل واستمرار الحياة على الأرض؟!!ويقول "دكتور توماس دافبر باركس " أستاذ الكيمياء " لا أستطيع أن أُسلّم بأن يكون كل ذلك قد تم بمحض الصدفة العمياء التي جعلت ذرات هذا الكون تتآلف بهذه الصورة العجيبة. إن هذا التصميم يحتاج إلى مُبدع، ونحن نطلق على هذا المُبدع الله" (58).
وإن قال " هولباخ " أن المادة ليست ساكنة لكنها في حركة دائبة مستمرة، فنحن نوافقه على هذا، ولكن ليس معنى هذا أن المادة حيَّة، وأن الحركة في المادة مثل الحركة في الكائنات الحيَّة، فحركة الذرات في الجماد لا يمكن إيقافها، بينما يمكن للإنسان التحكم في حركات الكائنات الحيَّة، وإن الكائنات الحيَّة متى ماتت فأنها تكف عن الحركة، بينما المادة الصلدة لا تموت وذراتها لا تكف عن الحركة، ومن الأمور الطريفة أن أحد المُلحدين وهو يحاضر أخذ يدلل على أن الإنسان ما هو إلاَّ مادة، فاستأذنه أحد العمال الحاضرين، وما أن سُمح له حتى رفع كرسي وألقى به على الأرض وسط تعجب الحاضرين، ثم تقدم وصفع المُحاضر على وجهه، فهاج المُحاضر وماج، وطالب رفقائه أن يعتقلونه وهو يصيح في وجهه: لماذا تصفعني على وجهي؟ فأجابه العامل بهدوء " لقد أثبت لنا على أنك كاذب يا أستاذ. فقد قلت أن كل شيء في الوجود هو مادة لا أكثر ولا أقل، فقد رفعت الكرسي ورميت به أرضًا، لكنه لم يغضب حيث أنه مادة بالفعل. ولكنني لما صفعتك على وجهك لم تفعل أنت ما فعله الكرسي، فقد اختلف رد فعلك عنه، فالمادة لا تغضب ولم تحنق كما فعلت أنت. لذلك أيها الأستاذ الرفيق، أنك على خطأ جسيم، فالإنسان هو أكثر من مادة، نحن شخصيات روحية"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:53 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن أن تتطوَّر المادة إلى كائنات حيَّة؟

س51: هل يمكن أن تتطوَّر المادة إلى كائنات حيَّة؟
إن الهوة سحيقة بين المادة والكائنات الحيَّة، لا يمكن عبورها على الإطلاق، فالمادة يستحيل أن تصير يومًا ما كائنًا حيًّا، حتى لو خلية بسيطة كقول المُلحدين، وأن هذه الخلية أخذت في النمو والتطوُّر والتنوع، فصارت نباتات وأسماك وكائنات برمائية وزواحف وطيور وحيوانات وبشر، وهذا ضرب من المستحيل، إذ كيف تهب المادة الصلدة الحياة والعقل والغرائز الطبيعية والضمير للكائنات الحيَّة؟!
1- كيف تهب المادة الصلدة الحياة: من أين أتت الحياة للمادة؟ وهنا نلتقي برأيين، الأول أن الحياة تولَّدت من تلقاء ذاتها نتيجة التوالد الذاتي، والثاني أن الصدفة كوَّنت الخلية الأولى التي تطوَّرت خلال ملايين السنين.
أولًا: هل يمكن أن تكون الحياة تولَّدت من تلقاء ذاتها؟ والذين قالوا بنظرية التوالد الذاتي اعتمدوا على خروج الكتكوت من البيضة، والديدان من الجبن ومن اللحوم التي تترك في الهواء، وأيضًا خروج الديدان من الأرض الرطبة، ومع تقدم العلم جاء "باستير" وأوضح الحقيقة، عندما استخدم أسلوب التعقيم، فقضى على ظهور حياة من التوالد الذاتي، فالجبن واللحم اللذان يعقمان لا يظهر فيهما ديدان.

ويقول "الدكتور حليم سوريال": "ولكن تجارب العلامة "باستير" صدمت نظرية التوالد الذاتي صدمة قاتلة، فإن ذلك الباحث العبقري (باستير) أكتشف أعظم ناموس حيوي وهو أن الكائنات الحيَّة لا يمكن أن تأتي إلاَّ من كائنات حيَّة مثلها، وهذا الناموس يسري على أصغر الميكروبات كما يسري على الحيوانات الكبيرة.. وعلى ذلك نرى أنه كان يجب أن لا يكون مجال للتكلم عن التوالد الذاتي بعد باستير، ولكن عقلية الماديين غريبة ومدهشة لا تقبل التسليم بالواقع.. يناقضون أنفسهم تناقضًا بينًا ويخلقون لأنفسهم مشاكل لا يمكنهم حلها..
(أولًا) أنهم يعترفون أن التوالد الذاتي لا يحدث الآن.. ألاَّ يحق لنا أن نسأل: ما الذي جعل قوة الطبيعة والمادة تشيخ وتهدم، مالها عقمت وعجزت عن خلق كائنات حيَّة من الجمادات كما فعلت سابقًا؟ إذًا نواميس الطبيعة مُتغيرة مُتقلبة لا تثبت على حال، فإذا قالوا بذلك يُواجِهون مشكلة أخرى، لأن القول بعدم ثبات نواميس الطبيعة يترتب عليه انهيار العلم كله.
(ثانيا) أنهم يقولون أن أول الكائنات الحيَّة أعني التي نشأت بالتوالد الذاتي كانت صغيرة جدًا وعلى غاية البساطة.. هذا القول لا يتفق مع الحقائق العلمية لأن المخلوقات الحيَّة مهما كانت صغيرة الحجم لا يعتبرها العلم بسيطة، لأن البساطة لا تتفق مع مميزات الحياة، لأنه بين أصغر خلية حيوانية أو نباتية وبين المواد الغير عضوية الجمادية هوة عميقة لا يمكننا أن نتصوَّر عبورها.. إن الخلايا الحيَّة مهما صغر حجمها فهي عالم في ذاتها.. تأخذ المواد الغذائية التي تصلح لها من الوسط الذي تعيش فيه وتهضمها.. وبعد هضمها تنبذ فضلات الطعام بطرق غاية في الدقة، وبعد ذلك تستخدم الطعام المهضوم.. تخلق منه مادة برتوبلازمية تشبه المادة المكوَّن منها جسمها وتعوض بذلك المواد التي استهلكت في العمليات الحيوية.. على أن أروع وأبدع ما تشاهده في تلك المخلوقات الصغيرة هو عملية التوالد والانقسام.. لأنها تنقسم بعملية غاية في الدقة إلى نصفين متساويين تمام المساواة يصير كل منهما فردًا مشابهًا تمام التشابه لوالده" (60). وللمزيد عن نظرية التوالد الذاتي يُرجى الرجوع إلى كتابنا: مدارس النقد والتشكيك ج 3 ص 226 - 237.
ثانيًا : هل يمكن أن تكوّن الصدفة الخلية الأولى؟ هذا ما نادت به نظرية التطوُّر، فقال " تشارلز روبرت داروين" (1809-1882م) أن أصل جميع الكائنات الحيَّة هو جرثومة واحدة تطوَّرت من حال إلى حال، ومع مرور الأزمان الطويلة تنوَّعت حتى خرج منها جميع الكائنات الحيَّة على الأرض من نباتات وأسماك وزواحف وطيور وحيوانات وبشر، ويقولون أن هذه الخلية الحيَّة (الجرثومة) وجدت منذ ملايين السنين،متغافلين أن الأرض منذ ملايين السنين كانت كتلة غازية ملتهبة تتراوح حرارتها بين 1500 - 3000 درجة مئوية، وهذا يعني استحالة الحياة حينذاك، ومن يستطيع أن يتصوَّر مهما طالت الأزمان أن الخلية الحيَّة الواحدة تظل تتطوَّر نحو هدف معين فتكون أنسجة وأعضاء وأجهزة كلٍ في مكانه وكلٍ يؤدي وظيفته، ومُخ يدير كل الأمور يتكون من 10 بليون خلية، بينما يتكون الإنسان من 80 ترتليون خلية، منها الخلايا التي تكون الجلد غير الخلايا التي تكون اللحم غير الخلايا التي تكون العظم.. إلخ. هل الصدفة العمياء تصنع كل هذا الإعجاز؟!!
ويشرح " هنري م. موريس " فكرة نظرية التطوُّر ثم يعلق عليها قائلًا " تفرض هذه النظرية وجود شكل ابتدائي مكوَّن من خلية حيَّة واحدة من المرجح أن تكون قد نشأت بالصدفة نتيجة إتحاد بين مواد غير حيَّة ظهرت مصادفة، ومن هذه الخلية نشأت بالتدريج النباتات واللافقاريات عديدة الخلية، ثم الأسماك، والحشرات، والحيوانات البرمائية، ثم الزواحف، ثم الطيور، والثدييات، وأخيرًا الإنسان.. والآن فلنتأمل بصدق هذا الرأي:
هل يمكن أن تحدث حياة من إتحاد مواد غير حيَّة تم مصادفة؟ واضح أن هناك خللًا خطيرًا في هذا الفرض.. ولكي يتغلب داروين على هذا الخلل، أفترض بكل بساطة أن الحياة ظهرت في وقت ما في الماضي عندما تهيأت " الظروف " الملائمة، وهو فرض غير أمين، لأنه ما هو المقصود بالظروف؟ وإن كانت قد حدثت في الماضي، فما الذي يمنع حدوثها الآن؟! وكمحاولة لخلق مادة حيَّة من مواد غير حيَّة، تم إجراء آلاف التجارب بواسطة علماء من شتى أنحاء العالم ومن جميع التخصصات، ولكن دون جدوى أو نجاح.. لقد عجزت (نظرية التطوُّر) عن إيجاد الدليل الكافي على كيفية حدوث التطوُّر، وقد افترضت تفسيرات عديدة عن طريق عدد كبير من الباحثين والدارسين، ورغم ذلك فإن ميكانيكية عملية التطوُّر لازالت غامضة كما كانت منذ مئات السنين" (61).
وكيف يمكن للفكر أن يبرز من المادة؟! وكيف يمكن للمادة أن تتحوَّل إلى تفكير ووجدان؟! وكيف تمنح المادة الأمل والرجاء للإنسان؟! وكيف يمكن للمادة أن تصل للتنسيق العجيب في الكون..؟! إلخ.

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:55 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل هناك أدلة تثبت بطلان نظرية التطوُّر؟

س52: هل هناك أدلة تثبت بطلان نظرية التطوُّر؟
ج: من المستحيل أن يكون الإنسان وليد تطوُّر القردة، فبين الإنسان والحيوان هوة سحيقة لا يمكن عبورها، كما سنرى بعد قليل، وفيما يلي نعرض باختصار شديد لبعض الأدلة على بطلان نظرية التطوُّر:
1- تفترض نظرية التطوُّر أن هناك صراعًا قائمًا بين الكائنات، ينتهي بالبقاء للأقوى والأصلح الذي يتناسل وينتشر، أما الأضعف فأنه يتعرض للانقراض، والحقيقة أن القاعدة العامة والأصل في الحياة هو التعاون والتآزر وليس الصراع، فالحشرات التي تتغذى على رحيق الأزهار، تتعاون مع هذا النبات إذ تنقل حبوب اللقاح من الذكور للأناث، والبكتريا التي تعيش في أمعاء الحيوانات تساعدها في عمليات هضم السيلولوز، ومما يُذكر أنه في شمال السودان يعيش طائر يُعرف بالسقد، يظل واقفًا يقظًا على رأس التمساح، فإذا لاح في الأفق فريسة أو عدو، يصيح حتى يوقظ التمساح من سباته، وعندما يفترس التمساح فريسته يفتح فاه لهذا الطائر الصديق ليتغذى على بقايا الطعام العالقة بأسنان التمساح، ويلتقطها ببراعة فائقة وهكذا يستمر التعاون بينهما، وأيضًا ليس دائمًا يكون البقاء للأقوى والأصلح، فالأمر يخضع لعوامل عديدة، وقد يتعرض الكائن الأقوى للموت بينما يظل الكائن الضعيف كالفيروسات حيًّا، ومما يُذكر أن فيرس الأيدز وأنفلونزا الخنازير في منتهى الضعف ولكنهما يقضيان على الإنسان، وهل ننسى أن بعوضة ضعيفة قضت على الإسكندر الأكبر أعظم ملوك العالم؟ ورغم أن الصراع دائر بين الحيوانات المتوحشة وبين الحيوانات الأليفة مثل الحملان والغزلان، ولكن مازالت هذه الحيوانات الأليفة متواجدة ولم تنقرض، ولو كان البقاء للأقوى دائمًا، فلماذا انقرضت الزواحف الضخمة مثل الديناصورات؟!

2- لو تطوَّرت اللافقاريات إلى فقاريات فمن أين أتت بالهيكل العظمي؟! ولو أن الزواحف تطوَّرت إلى الطيور، فمن أين أتت بالريش والجهاز الهضمي والتنفسي الخاص والدم الحار؟! وكذلك الوضع بالنسبة للحيوانات غير الثديية لو تطوَّرت لحيوانات ثديية، فمن أين لها بالأثداء؟! وأيضًا الحيوانات غير المشيمية لو تطوَّرت إلى حيوانات مشيمية وهلم جرا..
3- التطوُّر والتهجين يؤدي إلى تغييرات في الصنف، ولكن النوع يظل ثابتًا، فيمكن إنتاج أصناف عديدة من الحمام، ولكنه سيظل حمامًا، لن يتحوَّل إلى عصافير ولا إلى صقور، وقال البروفسور " باتسون": "أن المساعي المتواصلة التي بُذلت في صبر وطول أناة لم تسفر عن دليل واحد يؤيد تطوُّر الأنواع إلى أنواع أخرى، وكل طريق جديد وثقوا فيه أنه يوصلهم إلى دليل، إذ به طريق مسدود.. فنحن لم نستطع أن نرى يومًا كيف يحصل التغيُّر من نوع إلى نوع، أما التغيُّر في ذات النوع الواحد (من حيث الشكل أو الحجم أو اللون) فهذا نشاهده كل يوم، لكننا لسنا نشاهد تغييرًا في أصل النوع. فتغيُّر النوع ذاته عن أصله لا يزال أمرًا غامضًا كل الغموض، مع أنه جوهري بالنسبة لنظرية التطوُّر" (62).
4- مازالت بعض الكائنات الأولية مثل الأميبا والطحالب الزرقاء والأسفنجيات والرخويات كما هي.. فلماذا لم تتطوَّر إلى أصناف أرقى؟!. وأيضًا الحفريات قد أثبتت أن الكائنات الحيَّة منذ وجودها على الأرض لم تشوش ولم تختلط ببعضها، فكل كائن حافظ على جنسه، وتحقق تمامًا قول سفر التكوين " فأخرجت الأرض عشبًا وبقلًا يبذر بذرًا كجنسه وشجرًا يعمل ثمرًا بذره فيه كجنسه" (تك 1: 13).. " وكل طائر ذي جناح كجنسه" (تك 1: 21).. " فعمل الله وحوش الأرض كأجناسها والبهائم كأجناسها وجميع دبابات الأرض كأجناسها" (تك 1: 25).
5- قال التطوريون أن عملية التطوُّر أستغرقت زمنًا طويلًا يصل إلى 2000 مليون سنة، بينما قرَّر العلماء أن الأرض حينذاك كانت مازالت كتلة ملتهبة تستحيل الحياة عليها، فكيف تم التطوُّر؟! هذا من جانب ومن جانب آخر أن العصر الجليدي ساد فترة على الأرض، وقال " كارل دانبر " أن العصر الحديث الدافئ Recent بدأ منذ 4000 - 7500 سنة مقدَّرة بواسطة الطريقة الإشعاعية Radioadive Dates (الجيولوجيا الحديثة طبعة 1960م ص 391) وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "لقد أمكن الآن تقدير زمن " العصر الجليدي " بعد أن كان ذلك يُفترض اعتباطًا. فقد انتهى " ج. ف. رايت" و"وينشل " وآخرون إلى هذه النتيجة وهي أن العصر الجليدي في أمريكا - وبالتالي في أوربا - لا يرجع إلى أكثر من ثمانية أو عشرة آلاف سنة، ومتى ثبت ذلك، فإن تاريخ الإنسان يصبح داخل حدود معقولة" (63).
ويقول "ج. و. داوسون": "أن كوكبنا الأرضي يبدو أنه لم يصبح مناسبًا للإنسان إلاَّ منذ آلاف قليلة من السنين " وقال العلماء مثل " كارل دانبر": "أنه قد مرَّ بالأرض عصر جليدي دام مليون سنة وهو عمر العصر البلاستوسين، وأنه كان له أربعة امتدادات غطت معظم وجه البسيطة، تخللها ثلاثة انحسارات" (الجيولوجيا التاريخية ص 391) (64).
6- يعجز الدارونيون عن توضيح كيفية تكون الأعضاء النافعة من خلال التطوُّر دفعة واحدة، لأن العين لو مرت بمراحل تطوُّر فأنها تكون عديمة الفائدة طالما لم تصل إلى مرحلة الكمال بعد، وكذلك خرطوم الفيل لو تصوَّرنا أنه مرَّ بمراحل تطوُّر فماذا تكون فائدته عندما كان يبلغ عدة سنتيمترات، ويقول "دكتور حليم عطية سوريال": "وخرطوم الفيل واحد من أمثلة عديدة حيرَّت داروين وأنصاره المعاصرين له نذكر منها الأسماك الكهربائية المعروفة بالرعاد والأسماك المنيرة التي تعيش في قاع المحيط، والحشرات السامة، والحشرات المُقلّدة التي يشبه لونها لون النباتات، وغيرها من الحيوانات التي لها مميزات خاصة. فإن جميع تلك المميزات لابد أن تكون اكتسبت دفعة واحدة حتى تكون مفيدة" (65).
ويقول "وليم بالي " سنة 1802م " أنه من غير المقنع على الإطلاق أن شيئًا قد تطوَّر بالصدفة ليصبح مناسبًا للغرض الذي وُجِد من أجله.. كعين الإنسان مثلًا، وهنا يصبح من المقنع القول بأن هناك قوة مرشدة وراء تكوين هذا العضو وهذه القوة ببساطة من الله" (66) وأعترف داروين أنه لو ثبت أن الأعضاء المُعقَّدة لا يمكن أن تأتي عن طريق التطوُّر فستنهار نظريته بالكامل (راجع أصل الأنواع ص 99).
ومن الطريف أن إحدى الحشرات وهي "الخنفساء القاذفة" ترد على داروين، وهذه الخنفساء يبلغ طولها سنتيمتر واحد، وتعيش في أمريكا اللاتينية، وعندما تشعر بالخطر تفرز مادتي بيراوكسيد الهيدروجين والهيدروكينون، ثم تُدخِل هاتين المادتين في غرفة داخل جسمها ليتفاعلا مع مادتين أخرتين يقومان بدور العامل المساعد، وينتج عن هذا التفاعل سائل حارق يندفع من أنف هذه الخنفساء تجاه من يهاجمها فتصيبه بالعمى.. فكيف تطوَّر هذا النظام الدفاعي العجيب بمجرد الصدفة وبشكل عشوائي ليصل إلى ما هو عليه الآن؟!
7- لو عرف داروين قوانين الوراثة التي أُكتشفت بعده، ولو جاء داروين بعد مندل Gregor Mendel (1822 - 1884م) لتخلى داروين عن نظريته في التطوُّر وهو هادئ ومطمئن البال، والحقيقة أن قوانين مندل للوراثة كانت ضربة قاسية لنظرية التطوُّر، وأكتملت باكتشافات القرن العشرين حول الجينات وتركيب جزئ الـDNA الذي يحمل الصفات الوراثية للكائن، ويقول "هارون يحيى": "وكان حريًّا بهذه التطوُّرات أن تؤدي إلى إلقاء نظرية التطوُّر في مذبلة التاريخ، ولكن هذا لم يحدث نظرًا لإصرار دوائر معينة على تنقيح النظرية وتجديدها والارتفاع بها إلى منار العلم. ولن نفهم مغزى هذه الجهود إلاَّ إذا أدركنا أن وراء النظرية أغراضًا أيديولوجية أكثر من كونها اهتمامات علمية"

Mary Naeem 07 - 07 - 2014 04:57 PM

رد: كتاب رحلة إلى قلب الإلحاد
 
هل يمكن أن يكون الإنسان وليد تطوُّر القردة؟

س53: هل يمكن أن يكون الإنسان وليد تطوُّر القردة؟
ج: قال التطوُّريون أن الإنسان هو نتيجة تطوُّر أنواع من القردة، فأجسام بعض القردة مثل الأورانج والغوريلا ضخمة مثل جسم الإنسان، وقامة بعض القردة كالشمبانزي معتدلة مثل الإنسان، ودم بعض القردة كالليمور (النساس) يشابه دم الإنسان.
وبالرغم من أن الإنسان قريب من القردة في الأمور السابقة، وأيضًا في الناحية السيكولوجية، ولكن هناك فروق ضخمة بين الإنسان والقردة لا يمكن غض البصر عنها، ومن أهم الاختلافات بين الإنسان والقردة ما يلي:
أ - الشعر:

يُولد الإنسان بجلد أملس ثم ينمو لديه الشعر، بينما تُولد القردة بجلد مُشعر، وهذا الشعر يصاحب الحيوان طوال حياته.
ب- المشي على أربع:

بينما تمشي القردة على أربع، فإن الإنسان يمشي على قدميه فقط، وذلك لأن تركيب اليدين والقدمين في الإنسان يختلف عن الحيوان، ولهذا يمشي الإنسان معتدل القامة تمامًا بدون أي عناء، ويقول "الدكتور حليم عطية سوريال": "أن الإنسان مخلوق منتصب القامة يمشي على قدمين والقرد حيوان يمشي على أربع، وهذا فرق عظيم لأن انتصاب قامة الإنسان يستدعي تركيبًا مخصوصًا لقدميه وطول طرفيه السفليين وهيئة عموده الفقري بل وتركيب هيكله العظمي كله، ويمكن القول أن قدم الإنسان بمفرده عضو فريد لا شبيه له في المملكة الحيوانية" (68).

ج- القفز والتسلق:

تتسلق القردة الأشجار بسهولة ويسر وسرعة ورشاقة، يساعدها في هذا تركيب الأصابع، واستخدام الذيل كيد خامسة، أما الإنسان فلا يستطع أن يباري القرد في هذا، ولا حتى الأفارقة الذين يقطنون الغابات لا تصل مهارتهم وسرعتهم إلى مهارة وسرعة القردة، لأنهم لا يملكون ما تمتلكه القردة من تركيب جسماني يساعدها على القفز والتسلق.
د - حجم الجمجمة:

هناك فرق كبير بين جمجمة القردة وجمجمة الإنسان، فجمجمة الإنسان أكبر من جمجمة القرد بأكثر من ست مرات، فنسبة جمجمة القردة المتقدمة كالشمبانزي إلى جمجمة الإنسان الأسترالي الأصلي (أدنى أنواع البشرية) = 16: 99، بينما تبلغ نسبة جمجمة الإنسان الأسترالي الأصلي إلى أكثر الناس تقدمًا 99: 112، فواضح أن الفرق بينهما بسيط (13 نقطة) بينما الفرق بين القردة والإنسان الأسترالي (83 نقطة) فالإنسان إذًا يتميز بكبر حجم الجمجمة واستدارتها، وصغر الفكين وعدم بروزهما للأمام، ووجود الذقن، وضمور عضلات صوان الأذن.
ه- المخ:

(1) يبلغ وزن مخ أرقى أنواع القردة 400 جم، بينما يبلغ وزن مخ أدنى أنواع البشر 1400 جم.
(2) في القردة تجد المخ خلف الرأس ومقابل الوجه، بينما في الإنسان يوجد المخ فوق العمود الفقري.
(3) عدد الخلايا العصبية في مخ القردة نصف مليون خلية، بينما في الإنسان تبلغ الضعف.
(4) نسبة حجم المخ إلى حجم النخاع الشوكي في الأسماك 2: 1 وفي الزواحف 5ر2: 1 وفي الطيور 3: 1 وفي الثدييات 4: 1، بينما تقفز في الإنسان إلى 33: 1، وهو يؤكد التمايز العظيم للإنسان عن بقية الكائنات.
و - العقل:

يتميز الإنسان عن القردة بنسبة الذكاء العالية، والقدرة على التفكير والإدراك والتحصيل والتطوير والتعليل، والتمييز، وربط الظواهر بالأسباب والاستنتاج، والابتكار والارتقاء، والسيطرة على الكائنات والبيئة.. إلخ. مما جعل الإنسان ملكًا على الخليقة وعندما قال التطوُّريون أن الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد هو إنسان بجسم الإنسان الحالي، ولكنه أضعف في العقل، تساءل " الدكتور حليم عطية": "كيف يمكن لمخلوق ضعيف الجسم وضعيف العقل أن يعيش وحوله الأسد والفيل والدب والنمر وغيرها من الحيوانات المفترسة، فعمري أن هذا المخلوق لا يصلح لشيء إلاَّ أن يكون فريسة ولقمة سائغة لها" (70).
والذي يقول أن الإنسان وليد تطوُّر المادة، وقد وُجد بدون خالق، في الحقيقة هو لا يُعمِل عقله، فأقل شيء يُقال أن من خواص المادة أنها لا تشعر ولا تفكر ولا تحس، فهل الماء عندما يتحوَّل إلى جليد يتألم؟! أو عندما يتحوَّل إلى بخار يتأوه؟! والهيدروجين عندما يحترق هل يحس؟! فهل تغيرت خواص المادة عندما صارت كائنًا حيًّا فأصبحت تحس وتشعر؟! وكيف تهب المادة غير العاقلة عقلًا للكائنات الحيَّة؟! وقال " بردياييف": "أن الماركسيين لم يحاولوا أبدًا أن يفسروا كيف يمكن للوجود المادي أن يتحوَّل إلى تفكير ووجدان؟!" (71) وكيف تهب المادة التي لا إرادة لها، بل تسير بحسب نواميس الطبيعة الثابتة، أن تهب الإنسان حرية الإرادة..؟! أنظر للإنسان الذي يفكر ويشعر بذاته بالرغم أن معظم الخلايا التي عاش بها منذ عشر سنوات قد تغيَّرت، ومع هذا فالإنسان كما هو لم يشعر أنه صار إنسان آخر، ومازال يربط حاضره بماضيه، لأنه يتمتع بروح خالدة تهبه الحياة، وعندما تخرج يتحوَّل الجسد إلى جثة هامدة، فمخ الإنسان الميت لتوه هو هو لم يتغير كثيرًا، ومع ذلك فقد توقف عن العمل تمامًا.. لماذا؟ لأن الروح قد فارقته ففارقته الحياة، وأصبح مجرد مادة لا تحس ولا تشعر ولا تفكر ولا تدرك.. إلخ.
ومهما اقتربت بعض أنواع القردة مثل الشمبانزي والأورانج من الإنسان، من جهة التشريح والدم والإصابة ببعض الأمراض، لكن مازالت الهوة سحيقة بينهما، والفارق النفسي يفوق مليون مرة الفروق التشريحية، فمن الناحية النفسانية نرى الإنسان سيد الخليقة بلا منازع رغم أن جسده أضعف كثيرًا من كثير من الحيوانات، فهو لا يمتلك قوة الحيوانات المتوحشة ولا إبصار الصقر الثاقب الذي يُكبّر الصورة ثمانية أضعاف، ولا ولا.. ورغم هذا فهو مَلك الخليقة كلها، وقد أقرَّ العلماء أنه من المستحيل أن يكون عقل الإنسان هو تطوُّر لعقل القردة، فالفرق ليس في كمية الذكاء ولكن في نوعه، فالإنسان طراز آخر، مما دعى " والاس " Wallace شريك " داروين " في ابتكار نظرية التطوُّر أن يعترف بأن تحوُّل القردة إلى إنسان لا يمكن حدوثه بدون تدخل إلهي (راجع دكتور حليم عطية سوريال - تصدع مذهب داروين ص 52 - 57).
وقال العالِم الألماني " فون باير " أن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة هو بلا شك ضرب من الجنون، حيث ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد، كما أنه لا يوجد دليل على هذا الرأي المُضحك من جهة الاكتشافات الحفرية، وقال " فيركو" أستاذ علم الأنثربولوجيا " يجب عليَّ أن أُعلن بأن جميع الترقيات الجسيمة التي حدثت في علم الأنثربولوجيا السابقة على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقردة تبعد عن الاحتمال بعدًا كاملًا. فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع فهو الذي يجب أن يكون الإنسان الأقرب إلى أسلافه، نجد إنسانًا مشابها لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة أنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء إذا ما كان لهم رأس مثله" (راجع القمص بولس عطية - دراسات في علم اللاهوت ص 28، 29).
ز - النُطق:

الإنسان هو الكائن الوحيد الناطق الذي يُعبر عن أفكاره بكلماته، ويُعبر عن سروره بابتساماته وضحكاته، ويعبر عن أسفه بحزنه ودموعه، ويستطيع أن يتواصل مع الآخرين، ناقلًا تراثه الحضاري، فدُعي الإنسان بالحيوان الناطق الضاحك، وحتى الببغاء الذي يُكرّر بعض الكلمات يعجز عن النطق بكلمات جديدة، معبرًا بها عن نفسه. وكل حيوان له صوته الذي لم ولن يتغير قط، فالكلاب مازالت تنبح لن تصهل كالخيل يومًا، ولن تصدر مواء القطط يومًا.

ح - التدين:

عندما خلق الله الإنسان على صورته ومثاله وضع بداخله حقيقة وجوده، ولذلك نجد الإنسان يسعى دائمًا نحو الله، والإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه الشعور الخفي بوجود الله، ودائب البحث عنه، ولذلك أرتبط بالعبادات منذ فجر حياته، وقد تجد مجتمعًا بدائيًا يعيش في الجبال أو الغابات بدون مدارس ولا مستشفيات ولا محاكم ولا مسكن مستقر ولا أية وسائل حضارية تساعده على تنظيم حياته، ولكن لن تجده بدون التعبد لإله معين، وما الديانات الوثنية إلاَّ هي محاولات بحث الإنسان عن الله، ولا تجد أي قبيلة بدائية ليس لديها ميول دينية، ولن ترى قردًا يقف منتصبًا يصلي، فالشعور الخفي بوجود الله شعور عام بين جميع الأجيال على مر التاريخ، هو شعور دفين داخل النفس البشرية كقول الحكيم " جعل الأبدية في قلوبهم" (جا 3: 11) ولهذا يقول داود النبي " يا الله إلهي أنت إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" (مز 63: 1) وقال القديس " أغسطينوس": "أن الله نصب في داخل الإنسان ديوانًا جعل العقل قاضيًا، والضمير مدَّعيًا، والفكر شاهدًا، وكتب بأصبعه آيات وجوده، ووحدانيته، وأزليته، وعنايته بالعالم" (72) كما قال أيضًا " إن قلوبنا ستظل مضطربة إلى أن تستريح فيك يا الله"، ويقول "ترتن": "هذا الاعتقاد غريزي في الإنسان وهو جزء من طبيعته البشرية.. فمما يؤكد لنا أنه غريزي هو كونه قويًا في الجميع، حتى في الذين يشهدون دفن أحبائهم في القبر! وهنا نسأل أنفسنا: هل يُعقل أن يغرس الله في الإنسان اعتقادا مثل هذا لو كان باطلًا" (73).
ومن الطريف يقول "وورمبلاند": "إني أعرف مُلحدًا وظيفته إلقاء المحاضرات الإلحادية، ومنها كان يكسب عيشه، كان قبل كل محاضرة يرفع وجهه إلى الله مُصليًا طالبًا إنجاح مجهوده" (74) ويقرُّ العلامة " كلارك" (1675-1729) تلميذ وصديق داروين في كتابه " إثبات وجود الله " قائلًا: لأجل أن أُثبت وجود الله أستلفت نظر القارئ إلى أننا نحمل أنفسنا فكرة عن الأبدية اللانهائية، وهي فكرة يستحيل علينا أن نلاشيها أو نطردها من عقولنا، وهي صفات يجب أن يكون موصوفًا بها كائن موجود (راجع الأسقف إيسيذورس - الإخاء والسلم بين الدين والعلم ص 37 - 43).
ويقول "ريتشار وورمبلاند": "أن النفس البشرية في هذا الوجود بدون الله هي أشبه ما تكون بجبل من الجليد في وسط محيط العالم، وما أغبى أن يظن الإنسان في نفسه أنه لا يزيد عن نتيجة تفاعلات بعض العناصر الكيماوية. إننا بحاجة إلى أب مُحب، إلى أب سماوي يهبنا الدفء والنور والمحبة" (75).
وقال الفيلسوف الفرنسي " ديكارت" (1596-1650) " إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت ذاته بوجود ذات واجبة كاملة. وأراني مضطرًا للاعتقاد بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال وهي الله.. إني لم أخلق ذاتي بنفسي، وإلاَّ كنتُ أعطيتها سائر صفات الكمال التي أدركها. إذًا أنا مخلوق بذات أخرى، وتلك الذات يجب أن تكون حائزة على جميع صفات الكمال" (76).
ط- الطبيعة الأدبية والضمير:

يتمتع الإنسان بطبيعته الأدبية في الحب الأسري والصداقة والإيثار والتضحية، ويتمتع بالأخلاق والبُعد عن الوحشية، ويتذوق الفن والموسيقى، وكل هذا يفتقده الحيوان، وستجد المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام المقالات والكتب الأخرى. وقال الفيلسوف "عمانويل كانت": "شيئان يملأن نفسي روعة وإعجابًا لا يفتان يتحددان وهما السماء ذات النجوم فوق رؤوسنا، والشريعة الأدبية في داخلنا" (77).
أما الضمير فقد أودعه الله في داخل الإنسان، فهو يعبر عن صوت الله، والضمير مثل العين التي تميز بين الأبيض والأسود، فهي لم تصنع هذين اللونين، ولكنها فقط تميز بينهما، وهكذا الضمير فهو يميز بين الخطأ والصواب، فيرفض الخطأ ويقبل الصواب، وعندما يهم الإنسان بفعل الشر يشعر وكأن هناك يدًا تمسك به، وعندما يغالب هذا الشعور ويفعل الشر، يقع تحت وطأة تأنيب الضمير حتى أن الموت يصبح أخف وطأة من عذاب الضمير، وهذا ما حدا ببعض المجرمين الذين لم تكتشف الشرطة أمرهم، للاعتراف وتلقي العقوبة، حتى لو وصلت إلى حد الأشغال الشاقة المؤبدة أو الإعدام. وقد يحتج البعض قائلًا: إن ما أراه أنا خطأ بحكم ضميري قد يراه غيري صوابًا، والعكس صحيح.. أقول له أن الضمير في الأصل هو ضمير صالح، ولكن اشتهاء الشر يقلب المعايير، ويتصرف الإنسان طبقًا لما خزنه العقل من مبادئ وأحكام وما تلقاه في نشأته الأولى، فحكم الضمير هو حكم نسبي وليس حكمًا قاطعًا، وكلما كان الضمير صالحًا كلما كان نقيًا وحساسًا. وجاء في كتاب " نظام التعليم " مجلد (1) ص 150، ومجلد (2) ص 140 - 146 " لو لم يكن الضمير من كيان الإنسان لما أمكن للتربية أن توجده فيه، ولكان الإنسان، في هذه الحالة، مثل الحيوان لا يتقيد بناموس أدبي، وكما أن الإنسان المولود أعمى لا يقدر أن يميز الألوان، ولا الأصم أن يميز الأصوات كذلك، لو وُلد الإنسان بغير ضمير لكان كائنًا غير مسئول لعجزه عن التمييز بين الخير والشر، وهذا غير الواقع لأن الضمير أصلي في الإنسان.. وليس أدل على وجوده من ميل المخطئ للندم عن خطئه والاعتراف به ولو كان جريمة، ويلزم في حكم الضمير علينا فيما يجب وما لا يجب، وجود شريعة أدبية سلطانها من فوق، وإننا رعايا حكومة أدبية عليا، الضمير سفيرنا فينا فمن هو هذا الحاكم الذي هذه شريعته، وهذا سفيره فينا؟ مَن هو..؟ ألاَّ يضطرنا هذا التسليم بوجود قوة أدبية حاكمة موجهة خلف الوقائع في الكون؟ نعم! بل وتضطرنا للتسليم بأن هذه القوة عاقلة وأدبية لأنها جعلت في الإنسان ناموسًا يأمره بأن يفعل الصواب، ويشعره بالذنب وعدم الراحة حين يفعل الخطأ.. وهذه القوة العاقلة الأدبية لا يمكن أن تكون مادة، لأن المادة لا تعقل، ولا تسن قانونًا، فهي، إذًا، كائن عاقل أدبي قادر غير محدود، وليس هو سوى الله" (78).
ى - التناسل:

بينما ترتبط الثدييات الأدنى بموسم مُعين للتناسل فإن الإنسان لا يرتبط بموسم معين.


الساعة الآن 08:40 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025