![]() |
كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
|
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
بلد أيوب ورد في أول السفر "كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب (أي 1: 1). وأنه "كان أعظم بني المشرق" (أي 1: 3). إذن كان أيوب يعيش في بلاد المشرق. فما هي أرض عوص، موطنه؟ ذكر اسم (عوص) ونسبه مرتين في سفر التكوين: 1- قيل إن عوص هو ابن آرام بن سام بن نوح (تك10: 22، 23). 2- وقيل إن (عوص) هو بكر ناحور (أخي أبينا إبراهيم) من امرأته ملكه (تك 22: 20، 21). وإلى إسم عوص هذا انتمت أرض عوص، سواء كان حفيد سام بن نوح، أو كان ابن أخي إبراهيم. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
زمن أيوب قيل إنه عاش في الفترة ما بين نوح وإبراهيم. ولكن لو فحصنا العصر الذي عاش فيه أصحابه: أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماتي (أنظر ص 36، 37)، لوجدنا أنه عاش بعد عيسو ويعقوب. وعلى أية الحالات لابد أنه عاش في عصر الآباء البطاركة الأول، قبل موسى وأخيه هارون. فما هي الأدلة على ذلك؟ والتي هي نفس الأدلة التي تبرهن على أن سفر أيوب كان أقدم من أسفار موسى الخمسة؟ ... نذكر من هذه الأدلة: 1- كان أيوب في عصر ما قبل الكهنوت الهاروني. كان قبل العصر الذي انحصر فيه الكهنوت في بني هارون حسب أمر الرب لعبده موسى (خر40: 13- 15) (لا8: 12، 13). ولم يكن أيوب من بني هرون (عد3: 2-4) (1أي6: 3-15) بل كان في العصر الذي كان فيه الأب هو كاهن الأسرة: ذلك أنه كما ورد في الاصحاح الأول من سفره "وكان بنوه يذهبون ويعملون وليمة في بيت كل واحد منهم في يومه.. وكان لما دارت أيام الوليمة، أن أيوب أرسل فقدسهم، وبكر في الغد وأصعد محرقات على عددهم كلهم. لأن أيوب قال: ربما أخطأ بنيّ وجدفوا على الله في قلوبهم. هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام" (أي 1: 4، 5). وهذا هو النظام الذي كان يحدث في أيام الآباء الأول (الآباء البطاركة، رؤساء الآباء) نوح، وإبراهيم، وإسحق، ويعقوب. أولئك الذين كانوا يقدمون الذبائح عن أنفسهم وعن أبنائهم. ومما يثبت هذا أنه كان يقدم محرقات. وكان هذا هو ما يفعله الآباء الأول، كانت ذبائحهم كلها محرقات. أما منذ عهد موسى وهارون، فقد وجدت أيضًا أنواع أخرى من الذبائح يقدمها الناس عن خطاياهم، مثل ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم (لا4، 5)، بالإضافة إلى المحرقات، والفصح (خر12)، مع طقوس معينة... 2- لم يرد اسم أيوب في كل قوائم الآباء منذ موسى. لم يرد اسمه في كل سلسلة الأنساب التي سجلت نسل الأسباط الإثنى عشر، سواء في سفر العدد (عد1-4) ولا في القوائم التي وردت في السفر الأول لأخبار الأيام (1 أي 1-9) مما يدل على أنه قبل ذلك العصر كما لم يرد في أية سلسلة أنساب أخرى لذلك الزمان. 3- لم يرد في سفر أيوب أية أشارة عن تلك العصور. فعلى الرغم من أن أليفاز التيماني قال لأيوب "إلى أي القديسين تلتفت؟" (أي5: 1). وقال له بلدد الشوحي "اسأل القرون الأولى، وتأكد مباحث آبائهم (أي 8: 8). وقال له صوفر النعماتي "أما علمت هذا منذ القديم، منذ وُضع الإنسان على الأرض.." (أي20: 4).. إلا أنه لم يذكر واحد من هؤلاء اسم أحد من قديسى العهد القديم ليستشهد به. 4- كذلك في الكلام عن عظمة الله، لم يُذكر شيء في سفر أيوب عن المعجزات العجيبة التي صنعها الله مع شعبه!! لم يذكر أي شيء مثلًا عن شق البحر الأحمر، أو عن العجائب والضربات العشر التي أجراها الله في مصر، ولا عن ضربة الصخرة ففجرت ماء، ولا عن المن والسلوى، ولا عن السحابة التي تظللهم نهارًا، وعمود النار الذي كان يهديهم ليلًا، ولا عن معجزات الله في حروبهم مع الأمم الوثنية. كل ما ذكر في سفر أيوب في اثبات قوة الله، هو قوة الله في الخلق، وفي السيطرة على الطبيعة، وما يخص الحيوانات والطيور العجيبة، والجبال والسماء وكواكب الصبح.. وما أشبه ذلك.. حتى في حديث الله مع أيوب، أو في حديث أليهو معه، لإقناعه بعظمة العليّ القدير. حادثة تاريخية واحدة ذكرها أيوب وهو يشتهي لو كان قد مات بعد ولادته مباشرة. قال "حينئذ كنت قد نمت مستريحًا، مع ملوك ومشيري الأرض الذين بنو أهرامًا لأنفسهم" (أي 3: 13، 14). والمعروف أن الأهرامات العظيمة مثل هرم سقارة المدرج، وهرمي دهشور وميدوم، والأهرامات الثلاثة الكبرى كانت في الفترة من 3500 ق.م.، 3000ق. م. أي قبل موسى النبي بزمان، هذا الذي قهر فرعون في الأسرة التاسعة عشرة لقدماء المصريين..! 5- يستدل على عصر أيوب الصديق، من عامل الأعمار في ذلك الزمان... المعروف أنه حينما حلت التجربة بأيوب كان شيخًا، وكذلك كان أصحابه الثلاثة. ولذلك قال لهم أليهو بن برخئيل البوزي، لما بدأ يتكلم: "أنا صغير في الأيام وأنتم شيوخ، لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدي لكم رأيي. قلت الأيام تتكلم وكثرة السنين تظهر حكمة .." (أي 32: 6، 7). فلو كان عمر أيوب وقت التجربة 70 أو 80 سنة، فماذا كان عمره حينما توفى؟ يقول الكتاب إن أيوب بعد التجربة "عاش مائة وأربعين سنة. ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال" (أي 42: 16). هذا بالإضافة إلى عمره أثناء التجربة (70 أو 80). فيكون العمر الذي عاشه أيوب حوالي 210 عامًا أو أكثر. وهو أكبر من عمر كل من إبراهيم وإسحق ويعقوب!. لقد عاش أبونا إبراهيم 175 سنة (تـك: 25: 7). وعاش ابنه إسحق 180سنة (تك 35: 28). وعاش يعقوب 130 سنة حين قابل فرعون (تك47: 9). وعاش بعدها 17 سنة، فتكون كل أيام حياته 147 سنة (تك47: 28). وعاش يوسف 110 سنة (تك 50: 25). أما أيوب فعاش أزيد من 210 سنة. إذن هو من جيل الآباء الأول (حتى موسى عاش 120 سنة) (تث 34: 7)... |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
لماذا جُرِّب أيوب؟ السؤال الذي يتبادر إلى أذهان الكثيرين هو: لماذا جرّب أيوب؟ لم تكن التجربة المزدوجة التي أحاطت به، بسبب خطية ارتكبها.. فقد شهد الله نفسه له مرتين إنه "ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم، يتقي الله، ويحيد عن الشر" (أي 1: 8) (أي 2: 3). بل إن الله في سفر حزقيال النبي، وضع أيوب الصديق ضمن الثلاثة الكبار الذين لهم قدر كبير في شفاعتهم، أعني نوح ودانيال وأيوب (حز 14: 14، 16). فإذا كان أيوب رجلًا كاملًا ومستقيمًا، فلماذا كل المتاعب التي أصابته؟ ماذا كانت مشكلته؟ لم تكن له مشكلة. إذن لماذا حدث ما حدث؟ المشكلة أنه كان رجلًا بارًا، ويعرف عن نفسه أنه بار! كان يثق في داخل نفسه أنه بار.. كان بره أمام عينيه في كل ما حدث له. وكان بره أمام عينيه في كل ما دار بينه وبين أصحابه الثلاثة من حوار ساخن استمر 28 إصحاحًا، واختتم بهذه العبارة "فكفّ هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب، لكونه بارًا في عيني نفسه"(أي 32: 1). وكان هذا البر الذاتي أيضًا هو سبب العتاب الطويل الذي كان بينه وبين الله، مما سنشرحه بتفصيله... ولقد أراد الله أن ينقذه من هذا البر الذاتي. هذه واحدة. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
عظمة أيوب النقطة الثانية هي أن أيوب كان رجلًا عظيمًا محترمًا من الجميع... كانت تحيط به مظاهر الاحترام والتوقير والعظمة من كل ناحية. ويقول عنه الكتاب إنه كان "أعظم كل بني المشرق" (أي 1: 3). وكان غنيًا جدًا: كانت مواشيه سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمس مائة فدان بقر، وخمس مائة أتان. وكان خدمه كثيرين جدًا" (أي1: 3). وكل هذا يعطينا فكرة أن الغنى لا يتنافى مع البر.. فمن الممكن أن يكون الإنسان غنيًا، وفي نفس الوقت يكون كاملًا ومستقيمًا، مثلما كان أيوب. بالإضافة إلى كل هذا، كان أيوب سعيدًا كربّ أسرة لقد "وُلد له سبعة بنين وثلاث بنات" (أي 1: 2). وقد عاش أيوب في عصر ما قبل أبينا إبراهيم، أبي الآباء والأنبياء، في العصر الذي كان فيه ربّ الأسرة هو كاهن الأسرة، يقدم الذبائح عنها. وهكذا قيل عن أيوب – بالنسبة إلى أولاده – إنه "أرسل فقدّسهم، وبكّر في الغد، وأصعد محرقات على عددهم كلهم، لأن أيوب قال: ربما أخطأ بنيّ، وجدفوا على الله في قلوبهم! هكذا كان أيوب يفعل كل الأيام" (أي 1: 5). وهنا نلمح نقطة أخرى قد تشير هي أيضًا إلى البر الذاتي! لماذا يا أيوب تقدم محرقات عن خطايا أولادك، ولا تقدم عن نفسك معهم؟! تقول "ربما أخطأ بني".. وأنت ألم تفكر أنك ربما أخطأت في شيء؟! أم تعرف عن نفسك أنك رجل كامل ومستقيم، تتقي الله وتحيد عن الشر!! |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
غنى أيوب نتابع كلامنا عن عظمة أيوب وغناه، فنقول أيضًا: لقد أعطاه الغنى فرصة للإحسان والكرم، فأصبح محاطًا بمعجبين ومحبين وفقراء كثيرين ينالون الرحمة من يديه... كانت الحياة سهلة أمامه، هينة مبهجة. يعيش في الفردوس، دون أن يدخل مطلقًا إلى بستان جثسيماني.. وكأنه ينصب له خيمة على جبل التجلي! كان يعيش إلى جوار شجرة الحياة، ولم يتعود على حمل الصليب بعد. كان من الذين دخلوا إلى ملكوت الله، والباب واسع والطريق رحب، بدون خطية. ولقد أراد له الله أن يجرّب الطريق الضيق، والصليب والجلجثة.. يجرب الأحزان والضيقات، ليأخذ بركة الضيقات. لقد أخذ بركة الغنى، فليأخذ إذن بركة الفقر أيضًا.. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
الشيطان والتجربة عاش في بهجة الحياة زمنًا، إلى أن حان موعد التجربة. وجاء الوقت الذي يواجه فيه الصليب. ولكن كيف ذلك؟ بدأت تجربته بحسد الشيطان له: وكذلك حدث لأبينا آدم وأمنا حواء من قبل. حسدهما الشيطان وعمل على إسقاطهما. وهكذا نقول في القداس الإلهي "الموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس..". ودائمًا يريد الشيطان بنا شرًا، ولكن الله برحمته يحوّل هذا الشرَ إلى خير. وهذا نفس ما حدث لأيوب. أراد الشيطان أن يضره. واستغل الله حسد الشيطان لكي يرفع أيوب إلى درجة أعلى وأسمى. فينجيه وينقيه. الشيطان أراد أن يؤذي أيوب من جهة، لعل هذا الإيذاء من ناحية أخرى، تكون نتيجته أن يجدف أيوب على الله، ويصبح خاسرًا للدنيا والآخرة. أما الله فقد سمح للشيطان أن يجرب أيوب لكي يتمجد أيوب أكثر فأكثر، ويصبح مثالًا يقتدى به (يع5: 11) وتمنحه التجربة شهرة كبيرة، وتقدمه درسًا للأجيال، تكون نهايتها بركة مضاعفة له... عجيب هو موقف الله من الشيطان في سفر أيوب! فيه الكثير من تواضع الله، ومن مبدأ تكافؤ الفرص. سمح الله للشيطان أن يمثل بين يديه، وأن يندس وسط أولاد الله (أي 1: 6). بل أكثر من هذا، سمح له أن يكلمه وأن يجادله، وأن يشتكي أمامه ضد ابن عزيز عليه هو أيوب. بل سمح له أن يأخذ منه سلطانًا ضد هذا الرجل الكامل المستقيم، وأن يخرج ليخرّب ويقتل..! قال له الله "من أين جئت؟ فأجاب "من الجولان في الأرض ومن التمشي فيها" (أي 1: 7). وكان الشيطان في تلك الإجابة يذكر نصف الحقيقة. فلم يذكر أنه خلال ذلك الجولان في الأرض، كان يضلّ الناس ويسقطهم، ويخرب بيوتًا كثيرة. فتعرض الله لعمل الشيطان، وأراد أن يظهر له ضعفه، فسأله "هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ لأنه ليس مثله في الأرض" في كل الأرض التي تتمشى فيها... جميل أن الله يفتخر بأولاده ويمتدحهم، ويتحدى الشيطان بهم. إن كان الشيطان قد أسقط كثيرين، فإن أيوب ليس مثلهم لأنه ليس مثله في الأرض. إنه نوعية أخرى، رجل كامل ومستقيم. فهل رأيت أيها الشيطان هذه التحفة الجميلة التي اسمها أيوب؟ هل جرّبت حيلك معه؟ هل قدرت عليه؟ هل صعدت إلى مستوى محاربته؟ وقطعًا كان الشيطان قد مرّ عليه وفشل.. ولكنه لكي يخفي خجله من فشله، حاول أن يبرر ذلك بقوله "هل مجانًا يتقي أيوب الله؟"(أي 1: 9). "أليس أنك سيَّجت حوله وحول بيته من كل ناحية. باركت أعمال يديه، فانتشرت مواشيه في الأرض. ولكن أبسط يدك الآن ومسّ كل ماله، فإنه في وجهك يجدف عليك" (أي 1: 10، 11). وكان الشيطان يكذب في هذا الإدعاء. فقد كان أبونا آدم معه أكثر مما كان مع أيوب، وسقط. إذن بركة الغنى ليست هي التي تحفظ من السقوط. كما أنها لم تحفظ سليمان بعد ذلك بزمن طويل (جا 2). كان الله واثقًا من أيوب وقوة احتماله، فسمح للشيطان أن يجربه. وقال للشيطان "هوذا كل ماله في يدك. ولكن إليه لا تمد يدك".. إنما سماح بشرط، له حدود.. وخرج الشيطان ليعمل في غير رحمة. يضرب بعنف.. لا ضربة واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثًا، وإنما بتخريب شامل!! ضربات حاسد حقود. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
لماذا وكيف كانت التجربة، وما هي نتائجها وظلت الأخبار تتوالى على أيوب قاسية مريرة. لم يمت له ابن واحد، بل كل الأبناء وكل البنات، مرة واحدة!.. ريح شديدة (أثارها الشيطان).. وصدمت زوايا البيت الأربع، فسقط على الغلمان وماتوا (أي 1: 19). وكل أملاك أيوب ضاعت أيضًا.. البقر والأتن "سقط عليها السبئيون وأخذوها، وضربوا الغلمان بحد السيف. والجمال أخذها الكلدانيون، وضربوا الغلمان بحد السيف. والغنم والرعاة، نزلت نار من السماء وأحرقت الكل (أي1: 14-19) واستطاع الشيطان – لما أخذ إذنًا – أن يفعل كل ذلك... ياللهول. حقًا إن الشيطان – وإن كان قد فقد نقاوته – إلا أنه لم يفقد طبيعته كواحد من الملائكة "المقتدرين قوة" (مز 103: 20). ينزل نارًا من السماء، تحرق الغنم والغلمان. ويثير ريحًا شديدة عبر القفر تصدم البيت فيسقط، ويموت كل الذين فيه. ويسخر السبئيين والكلدانيين لتنفيذ مشيئته، فينهبون ما لغيرهم ويقتلون الغلمان. ويخرب كل بيت أيوب. ولو كان أيوب شخصًا عاديًا لسقط ميتًا أمام كل هذا.. أما أيوب فقد احتمل كل هذا ولم يجدف على الله، بل قال عبارته المشهورة: "الرب أعطى، الرب أخذ. ليكن اسم الرب مباركًا" (أي 1: 21). ما أعمق هذه الروحانية، نتعلمها من أيوب الصديق: كثيرون يقولون "ليكن اسم الرب مباركًا" عندما يعطيهم الله... ولكن قليلون هم الذين يباركون اسم الرب، حينما يأخذ الله منهم ما سبق أن أعطاه...! ولكن أيوب شكر الرب وبارك اسمه، بعد أن أخذ الله منه كل شيء..! ولم يقل السبئيون أخذوا، ولا الكلدانيون أخذوا، بل الرب أخذ! إنه يتعامل مع الله وحده، لا مع السبئيين ولا مع الكلدانيين. وكل ما يفعله الناس ضده، لابد قد مرّ على الله ضابط الكل. فإن كان الله قد سمح بأن يأخذوا كل ماله، فليكن اسم الرب مباركًا. إنني لا أملك كل ما معي، إنما أنا مجرد وكيل على ما أعطانيه الله. هو أعطى، وهو أخذ. بحكمة يعطي، وبحكمة يأخذ. أما أنا فماذا أقول. "عريانًا خرجت من بطن أمي، وعريانًا أعود إلى هناك". إن عبارته هذه، هي التي أوحت أبياتًا من الشعر قيل فيها: قد دخلت الكون عريانًا فلا قنيةَ أملك فيه أو غِنى وسأمضي عاريًا عن كل ما جمع العقل بجهل واقتنى عجبًا هل بعد هذا نشتهي مسكنًا في الأرض أو مستوطنا. وهكذا كانت مشاعر أيوب الصديق. وكأنه يقول: ما كنت أملك شيئًا من كل هذا حينما وُلدت. وسوف أترك كل شيء حينما أغادر هذا العالم عريانًا. الله أودعني وديعة، ثم سمح أن يأخذ الله وديعته، ليكن اسم الرب مباركًا. "في كل هذا لم يخطئ أيوب، ولم ينسب إلى الله جهالة" (أي 1: 22).. ولكن من هول الكارثة يقول الكتاب عن أيوب إنه: "مزق جبته، وجزّ شعر رأسه، وخرّ على الأرض وسجد" (أي 1: 20). "مزق جبته لهذه الكارثة التي تمزق قلب أي إنسان: على الأقل موت أبنائه السبعة وبناته الثلاث في يوم واحد. ولكنه سجد على الأرض إجلالًا للرب الذي أعطى وأخذ.. ولم يقل الكتاب إنه صرخ أو بكى، أو نعى أولاده.. ولكن قسوة الشيطان الم تقف عند حد ولم يكتف بهذا! ولم يخجل من فشله في محاربته لأيوب البار. وعاد يقف أمام الله في غير حياء ويقول له: "جلد بجلد. وكل ما للإنسان يعطيه لأجل نفسه. ولكن أبسط الآن، ومسّ عظمه ولحمه. فإنه في وجهك يجدف عليك" (أي2: 4، 5). قال هذا ردًا على قول الرب عن أيوب".. إلى الآن هو متمسك بكماله، وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب". إن الشيطان لا ييأس في محاربته. فمهما فشل، يعاود الكرة مرة أخرى.. والعجيب أن الله أعطاه فرصة أخرى رغم مكابرته. وقال له عن أيوب "ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسه" (أي 2: 6). أي: لا مانع من أن تمس جسده. ولكن لا تمس عقله ولا حياته. نفسه ليست في يدك. وللمرة الثانية يضع الرب حدودًا للشيطان في عمله. وخرج الشيطان من لدن الرب، وبكل قسوة "ضرب أيوب بقرح ردئ من باطن قدمه إلى هامته. فأخذ أيوب لنفسه شقفة ليحتك بها scrape himself، وهو جالس في وسط الرماد" (أي 2: 7، 8).. كانت التجربة قد بلغت قمتها، ولكنها لم تبلغ نهايتها. وإذا بزوجته تسخر منه لأنه لا يزال محتفظًا بكماله وطلبت إليه أن يجدف على الله ويموت. فأجابها بحكمة وصبر: "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. هل الخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل"؟! (أي 2: 10). وكلمة الشرّ هنا تعني المتاعب والضيقات. وكلمة الخير تعني الخيرات.. يقول الكتاب "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). فهل أخطأ بغير شفتيه؟ بلسانه أظهر كامل التسليم للمشيئة الإلهية. ولكن ماذا كان في قلبه؟ |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
انفعالات داخل نفسية أيوب قدمت له زوجته اقتراحًا يمس علاقته بالله، فرفضه، ووبخها قائلًا تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات. هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!"(أي2: 10). في هذا الموقف كان أيوب أحكم من جده آدم، في التعامل مع امرأته. آدم خضع لزوجته في كسر وصية الله. وقال في تبرير كسره للوصية, "المرأة التي جعلتها معي، هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تك3: 12). أما أيوب فرفض أن يستمع لامرأته، بل وقف منها موقف المعلم والمؤدب، وقال لها "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات"، كإحدى "العذارى الجاهلات" اللاتي وقفن خارج عرش الله (مت 25: 2، 11). أيقول أحد: هل هذه خطية إدانة لأنه وصفها بإحدى الجاهلات؟ كلا. فهذه حقًا إدانة، ولكنها ليست خطية إدانة. لأنه من حقه – بل من واجبه – أن يدينها باعتباره "رأس المرأة" (1كو11: 3). ولأنها تجاوزت الحد بقولها" إلى الآن أنت متمسك بكمالك؟! (إلعن) الرب ومت" (أي 2: 9) كإحدى الترجمات: Curse God and die. "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي2: 10). بشفتيه قال كلامًا حكيمًا، يدل على حياة التسليم، وقبول كل ما يفعله الله معه. ولكن هل في داخله كان كذلك؟ هذا ما سنبحثه معًا... قال "هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!". وكلمة الخير كما تعني الفضيلة، تعني هنا الخيرات الأرضية، أو نعم الله وإحساناته إليه. كذلك كلمة (الشر) كما تعني الخطية، تعني هنا المصائب والضيقات التي حلت به. لهذا قيل عن أصحابه الثلاثة إنهم "لما سمعوا بكل (الشر) الذي أتى عليه، جاءوا.. ليرثوا له ويعزوه"(أي 2: 11). ولما رآه أصحابه هكذا، ظهر ما في قلبه من مرارة وسخط.. قيل إن أصحابه "قعدوا معه سبعة أيام وسبع ليالِ، ولم يكلمه أحد بكلمة، لأنهم رأوا أن كآبته كانت عظيمة جدًا" (أي 2: 13). وقد تبدو الكآبة شيئًا طبيعيًا في حالته بعد التجربة الشديدة التي مرت به. وقد قال القديس بولس الرسول عن متاعبه هو وزملائه في الخدمة "مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين" (2كو4: 8). ولكن أيوب كان متضايقًا جدًا من الداخل... كانت التجربة الثانية الخاصة بصحته، قد هزته من الداخل. وهناك فرق ملحوظ في ردود فعله في التجربتين: قال في التجربة الأولى "الرب أعطى، والرب أخذ. فليكن اسم الرب مباركًا" (أي 1: 21). ولكنه لم يقل هكذا بالنسبة إلى صحته في التجربة الثانية. يكفي أنه لم يجدف على الله، ولم يخطئ بشفتيه. ولكنه لم يحتمل أن يراه أصحابه وهو "جالس في وسط الرماد، يمسك شقفة ويحتك بها" (أي 2: 8). حتى أنهم لما رأوه "لم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم وبكوا. ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابًا فوق رؤوسهم نحو السماء" (أي2: 12). وكان موقفًا مؤثرًا لنفسيته.. نعم، هناك من يحتمل المذلة، ولا يحتمل أن يراه الناس ذليلًا! وهكذا أيوب لم يحتمل أن يكون موضع الإشفاق، بعد أن كان موضع التمجيد. بدأ تعب أيوب، حينما جاءه أصحابه الثلاثة، ورأوه في مذلته. لقد كان محطمًا، ولا أحد من معارفه يدري. فلما جاء أصحابه يعزونه، عزّ عليه أ، أنكشف أمامهم.. حتى أنهم مزقوا ثيابهم رثاءً لحالته. لا شك أن حالته الاجتماعية قد تغيرت العكس تمامًا، من حيث موقف الناس منه، هذا الذي قال عنه فيما بعد "ليتني كما في الشهور السالفة، وكالأيام التي حفظني الله فيها.. حين كنت أخرج إلى الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي. رآني الغلمان فاختبأوا، والشيوخ قاموا ووقفوا. العظماء أمسكوا عن الكلام.. صوت الشرفاء اختفى.." (أي 29: 2- 10). أما الآن فهو جالس على الرماد، يحتك بشقة..! لهذا بعد السبعة أيام لجلوس أصحابه معه، يقول الكتاب: "بعد هذا فتح أيوب فاه، وسبّ يومه.." (أي 3: 1). وقال "ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه، والليل الذي قال: قد حُبل برجل. ليكن ذلك اليوم ظلامًا. لا يعتني به الله من فوق، ولا يشرق عليه نهار.. لا يفرح بين أيام السنة، ولا يدخلن في عداد الشهور.." (أي3: 3-6).. أخذ أيوب يخرج ما في نفسه من مرارة... في بادئ الأمر كانت شفتاه مغلقتين على ما في داخل قلبه من تعب نفسي. وقد سمح الله لأيوب بمجئ أصحابه إليه ليكشف ما في داخله. وإذا بهذا القديس يلعن اليوم الذي وُلد فيه..! لماذا تلعن يوم ولادتك يا أيوب البار؟! في بادئ الأمر كانت شفتاه مغلقتين على ما في داخل قلبه من تعب نفسي. وقد سمح الله لأيوب بمجيء أصحابه إليه ليكشف ما في داخله. وإذا بهذا القديس يلعن اليوم الذي وُلد فيه..! لماذا تلعن يوم ولادتك يا أيوب البار؟! يقول "لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني؟ لمَ لمْ أمت من الرحم؟! عندما خرجت من البطن لمَ لم أسلم الروح.."(أي3: 10، 11). أهذه هي حياة التسليم التي قال عنها لزوجته: "هل الخير من الله نقبل، والشر لا نقبل؟!" (أي 2: 10). لقد كان صليبًا ثقيلًا على أيوب. ولكن رحمة الله كانت تريد أن تخرج من هذا المر شيئًا حلوًا. إن الله لا ينظر إلى الحاضر الذي نحن فيه، بقدر ما ينظر إلى المستقبل الذي نصل إليه. إنه ينظر إلى عذابات القديسين في ضوء أكاليل سيأخذونها فيما بعد. نعم، لقد قبلَ أيوب التجربة، ولكن التجربة سببت له تعبًا داخليًا. فقد يقبل إنسان أن تجرى له عملية جراحية. ولكن هذا لا يمنع من أن تسبب له العملية آلامًا، فيصرخ ويقول آه. كانت آلامه فوق الاحتمال، جسديًا ونفسيًا. فمن ذا الذي يستطيع أن يحدث له كل ذلك: أن يموت كل أبنائه وبناته في يوم واحد، وأن يخرب بيته، ويفقد صحته وكرامته، دون سبب يستدعي هذا كله؟! هل يحدث كل هذا لشخص، ولا يتألم ولا يشكو؟ إنه قد يصبر، ولكن الألم شيء طبيعي، فهل لا يشكو في كثرة آلامه؟! هل لا يئن؟! إن الله "يعرف طبيعتنا، يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14). لذلك لم يغضب الله من أيوب في كل ما قال. بل إنه – تبارك اسمه – بعد انتهاء التجربة، وبخ أصحاب أيوب الثلاثة قائلًا لهم".. لم تقولوا فيّ الصواب كعبدي أيوب" (أي 42: 7). هل كانت انفعالات أيوب مركزة في لعنة يومه؟ كلا طبعًا. بل ظهرت له انفعالات أخرى كثيرة... منها حديثه مع أصحابه وتضايقه منهم، ووصفهم بأنهم "أطباء بطالون" و "معزون متعبون" كما سنشرح فيما بعد... كما ظهر ذلك في عتابه الطويل مع الله... وأيضًا في افتخاره ببره الذاتي، ردًا على ما قد اتهمه به أصحابه من اتهامات باطلة، أمكنهم بها أن يثيروه ويخرجوه عن هدوئه... لم يذكر الكتاب أخطاء لأيوب قبل التجربة. أما بعدها، فالأمر يحتاج إلى كثير من التأمل. قبل التجربة قال عنه الرب إنه رجل كامل ومستقيم. أما بعد التجربة، فماذا قال عنه أليهو الصديق الرابع؟ (أي 32- 37). وماذا قال عنه الله؟ (أي 38 – 41). هذا ما سوف نراه في آخر هذا الكتاب بمشيئة الرب. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
أصحاب أيوب أصحاب أيوب الذين أخطأوا كانوا ثلاثة: أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماتي. فمن كان هؤلاء؟ وإلى أي عصر ينتمون؟ وإلى أي بلد؟ وما موقع بلادهم؟ 1- أليفاز التيماني: واضح من اسمه أنه ينتمي إلى تيمان. ويذكر لنا سفر التكوين أن تيمان هو ابن اليفاز، وأن اليفاز هو ابن عيسو من زوجته عدا (تك 36: 10، 11)، (1أي1: 35، 36). ويبدو أن قبيلة تسمت باسم تيمان، إذ يذكر نفس الإصحاح من سفر التكوين أن "اليفاز بكر عيسو أمير تيمان" (تك 36: 15). وواضح أنه على اسمه (على اسم أليفاز الجد) تسمى أليفاز التيماني الصاحب الأول لأيوب الصديق ومكان تيمان -كما يذكر قاموس الكتاب في موقع الأنبا تكلا- هو شمالي آدوم (تك 36: 16). 2- بلدد الشوحي: ربما ينتسب أيضًا إلى شوح ابن أبينا إبراهيم من زوجته قطورة (تك 25: 2). ويبدو أن أبناء شوح كونوا قبيلة ينتمي إليها بلدد الشوحي. وكانت هذه القبيلة قرب أرض عوص (التي منها أيوب الصديق). 3- صوفر النعماتي(1): ويلقب صوفر "بالنعماتي" فلعله كان من قبيلة تسمى "نعمة" أو من بلدة اسمها "نعمة"، ولكن حيث أن أيوب وأصحابه لم يكونوا من فلسطين، فمن غير المحتمل أن يكون من "نعمة" في غربي يهوذا (يش 15: 41). والخلاصة: يكون أصحاب أيوب الثلاثة من نسل أبينا إبراهيم. ولكنهم بلا شك عاشوا قبل عصر موسى وهارون. وذلك لأنهم ما كانوا ضمن الشعب الإسرائيلي الذي عاصر فرعون مصر. ولا سكنوا في أي بلد في أرض الموعد... على أنه قد ظهر صديق رابع، ظل صامتًا طوال الحوار الذي دار بين أيوب وأصحابه الثلاثة. ولم يتكلم إلا في إصحاح 32 وما بعده. ولم يرد عليه أيوب. بل كان الله هو الذي تكلم بعده. إنه أليهو بن برخئيل البوزي من عشيرة رام. فمن هو هذا الصديق الرابع؟ 4- أليهو بن برخئيل البوزي: معنى إسمه (أليهو) هو الله. ولقبه (البوزي). فمن هو بوز؟ يذكر سفر التكوين أن أبانا إبراهيم كان له أخ اسمه ناحور (تك 11: 27). وأن ناحور كان له ابنان من زوجته ملكة هما عوص بكره، وبوز أخوه (تك 22: 20، 21). ربما إلى بوز ينتمي أليهو. من أرض عوص كان أيوب (أي 1: 1). وذكر اسم (عوص) في موضع آخر، هو عوص ابن آرام بن سام بن نوح (تك 10: 22، 23). وأرض (عوص) تقع بين دمشق وآدوم في صحراء سوريا... _____ |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
أخطاء أصحاب أيوب ماذا كان الخطأ الذي وقع فيه أصحاب أيوب الثلاثة؟ أولًا: ظنوا أنهم يتكلمون معه بصراحة، وكان أسلوبهم في تلك (الصراحة) أسلوبًا جارحًا مؤلمًا. بدأوه بقول أليفاز التيماني لأيوب "إن امتحن أحد كلمة معك، فهل تستاء. ولكن من يستطيع الامتناع عن الكلام؟!" (أي 4: 2). أي هل سوف تستاء من صراحتي معك؟! ومع ذلك فأنا لا أستطيع أن أصمت ولا أتكلم معك (بصراحة)!! ثانيًا: اعتقدوا في صراحتهم أن أيوب قد أخطأ إلى الله ولذلك عاقبه الله بهذه التجربة!! وكان ذلك اتهامًا ظالمًا. وهكذا قالوا له "أذكر من هلك وهو برئ؟! وأين أبيد المستقيمون كما رأيت أن الحارثين إثمًا، والزارعين شقاوة، يحصدونها" (أي 4: 7، 8). والمعروف طبعًا أن أيوب لم يخطئ إلي الله، ولم يزرع إثمًا ولا شقاوة! بل قال الله عنه أنه ليس مثله في الأرض. رجل كامل ومستقيم يتقي الله، ويحيد عن الشر" (أي 1: 8). وكرر الله هذه الشهادة عنه (أي 2: 3). أذن تجربة أيوب لم تكن عقوبة لأيوب علي خطية. بل أن الله قال عنه للشيطان بعد التجربة الأولي "وإلي الآن هو متمسك بكماله وقد هيجتني عليه لأبتلعه بلا سبب" (أي 2: 3) حقًا، ما أكثر الاتهامات الظالمة للأبرار والصدقين في كل متاعبهم ومشاكلهم وأمراضهم، كما لو كانت عقوبة من الله!! بينما الكتاب يقول: " كثيرة هي بلايا الصديق،من جميعها ينجيه الرب. الرب يحفظ جميع عظامه، وواحد منها لا تنكسر" (مز 34: 19، 20). ونلاحظ أن هذا المزمور كان أيضًا نبوءة عن السيد المسيح في كل ما أصابه من آلام وضيقات.. من أمثلة الاتهامات الكاذبة التي اتهموا بها أيوب: قول أليفاز التيماني له: " لأنك ارتهنت أخاك بلا سبب، وسلبت ثياب العراة. ما لم تسق للعطشان، وعن الجائع، منعت خبزًا" (أي 22: 6،7). وطبعًا كل هذا افتراء عليه، لأنه كان كريمًا شفوقًا علي المساكين (أي 29: 16- 19). وقال عنه صوفر النعماتي "لأَنَّهُ رَضَّضَ الْمَسَاكِينَ، وَتَرَكَهُمْ، وَاغْتَصَبَ بَيْتًا وَلَمْ يَبْنِهِ" (سفر أيوب 20: 19)، " لأنه لم يعرف في بطنه قناعه" (أي 20: 19، 20). ثالثًا: أشعروه أيضًا بأنه يجب أن يقبل تأديب الله، وليس له مجال في استجابة لصلاته أو تشفع بالقديسين. وهكذا قال له أليفاز التيماني في قسوة " أدع الآن، فهل من مجيب؟! وإلي أي القديسين تلتفت؟! "هوذا طوبى لرجل يؤدبه الله فلا ترفض تأديب القدير" (أي 5: 1، 17). كذلك فإن بلدد الشوحي - بدلًا من أن يعزيه في موت أبنائه - قال له " هل الله يعوج القضاء أو القدير يعكس الحق؟! إذ أخطأ إليه بنوك، دفعهم إلي يد معصيتهم" (أي 8: 3، 4) فكأنما موت كل الأولاد السبعة والبنات الثلاثة، كان بسبب خطايا كل منهم، وبعدل واستحقاق..! رابعًا: أيضًا بلدد الشوحي حتي أراد أن يثبت استحقاق أيوب للعقوبة من واقع التاريخ ومن قول الآباء: فقال له " نحن نعلم.. فهلا يعلمونك ويقولون لك " يقولون: " هكذا سبل كل الناسين الله، ورجاء الفاخر يخيب.. يستند إلي بيته، فلا يثبت " هوذا الله لا يرفض الكامل، ولا يأخذ بيد فاعلي الشر" (أي 8: 8- 20). وكأنه ألصق بأيوب كل هذه الصفات الشريرة، مثل: الفاخر، والناسين الله، وفاعلي الشر!! أي تأثير لكل هذا علي رجل كامل مستقيم! خامسًا: نري صوفر النعماتي يطلب إليه التوبة ليرحمه الله! فيقول له " ليت الله ويتكلم ويفتح شفتيه معك.. فتعلم أن الله يغرمك بأقل من أثمك" (أي 11: 5، 6) . ثم يتابع كلامه معه فيقول " أن أبعدت الإثم الذي في يدك، ولا يسكن الظلم الذي في خيمتك، حينئذ ترفع وجهك بلا عيب، وتكون ثابتًا ولا تخاف.." (أي 11: 14، 15). سادسًا: ما كان مناسبًا أن يكلموه بهذا الأسلوب الجارح، وهو مجرب يقاسي كل الأثم المحيط به.. ولهذا قال لهم أيوب " قد سمعت كثيرًا مثل هذا معزون متعبون كلكم.. أنا أستطيع أن أتكلم مثلكم، لو كانت أنفسكم مكان نفسي" (أي 16: 11، 4). بل قال لهم "ليتكم تصمتون صمتًا، فيكون صمتكم لكم حكمة" (أي 13: 5). بل ترجاهم قائلًا "حتي متي تعذبون نفسي، وتسحقونني بالكلام، هذه عشر مرات أخزيتموني. لم تخجلوا من أن تحكرونني.. وهبني ضللت، علي تسقر ضلالتي" (أي 19: 2-4). بل قال لهم أكثر من هذا: تراءفوا أنتم علي يا أصحابي، لأن يد القدير قد مستني" (أي 19: 21). سابعًا: كانت بعض أقوالهم فيها روح الشماتة: وهذا لا يتفق مطلقًا مع كونهم أصحابه، ولا يتفق مع شعورهم الأول حين "رفعوا أصواتهم وبكوا. ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابًا فوق رؤسهم" (أي 3: 12). ولكنهم عندما دخلوا معه حوار، نري أسلوبهم قد تغير. فيقول له صوفر النعماتي".. إن الله يغرمك بأقل من إثمك" (أي 11: 6). ويقول عنه أليفاز التيماني " لا يأمل الرجوع من الظلمة، وهو مرتقب للسيف " " يسكن مدنًا خربة، بيوتًا غير مسكونة عتيدة أن تصير رجمًا " قبل يومه يتوفي، وسعفه لا يحضر" (أي 15: 22، 32). ثمانية عشر إصحاحا كانت مجادلات أصحاب لأيوب معه واتهامهم له، وردوده عليهم. أثاروه كثيرًا.. فماذا كانت ردود فعل الإثارة؟! |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
قسوة أصحاب أيوب عليه، واتهاماتهم الظالمة أصحاب أيوب مصممون علي أن تجربته هي عقبة من الله له علي خطاياه. فأكثروا باطلًا. واستطاعوا أن يثيروا أيوب، فأخذ يدافع عن نفسه.. وعبارة أن الله يعاقب علي إثمه، جعلته يعاتب الله، ويسأله ما هي خطيتي؟! بل جعلتني أيضًا يبرر نفسه ويتحدث عن فضائل!! وبرز هنا عمل الله في أن يقوده إلي انسحاق القلب. ولما وصل أيوب إلي هذا الانسحاق، انتهت تجربته، ورد الله سبيه. هذا هو ملخص تجربة أيوب كلها فلندخل في التفاصيل. مسألة حسد الشياطين لأيوب علي كماله واستقامته، هذه لم تكن في تفكير أصحاب أيوب. كذلك شهادة الله لم تكن في معرفة أصحاب أيوب. كذلك شهادة الله لم تكن في معرفة أصحاب أيوب. وعلي الرغم من أنهم في بدء تجربة أيوب، حزنوا عليه " ورفعوا أصواتهم وبكوا. ومزق كل واحد جبته وذروا ترابًا فوق رؤسهم.." (أي 2: 12).. ألا أنهم عادوا وتفكروا في الأمر وتأملوا في تجربة.. ورأوا أنه لابد قد أخطأ أيوب إلي الرب، فواجبهم كأصدقاء أن يصارحوه بذلك، ويقوده إلي التوبة، حتى يغفر الرب له!! لكن كلامهم كان مثيرًا إلي أبعد الحدود، لم يحتمله أيوب. قالوا " من هو الإنسان حتى يزكوا، أو مولود المرأة حتى يتبرر؟! (أي 15: 14).. إن الله يعرف كل شيء " هوذا الله في علو السموات.. هل من وراء الضباب يقضي؟!" (أي 22: 12، 13) " هوذا قديسوه لا يأتمنهم والسموات غير طاهرة بعينه، فبالحري مكروه وفاسد الإنسان الشارب الإثم كاماء. الشرير كل أيامه" (أي 15: 15-20). هذا يقوله أليفاز التيمانى. ثم يقول لأيوب " أن رجعت إلي القدير تبني. أن ظلمًا عن خيمتك "(أي 22: 23). وينصحه قائلًا " اقبل الشريعة من فيه، وضع كلامه في قلبك" (أي 22: 22). ويعزف بلدد الشوحي علي نفس الوتر فيقول لأيوب " نعم نور الأشرار ينطفئ، ولا يضئ لهيب ناره. النور يظلم في خيمته، وسراجه ينطفئ" (أي 18: 5، 6). ويتابع كلامه فيقول عنه كإنسان شرير " ذكره يبيد من الأرض، ولا أسم له علي وجه البر.. لا نسل له، ولا عقب له بين شعبه. إنما تلك مساكن فاعلي الإثم. وهذا مقام من لا يعرف الله" (أي 18: 17- 21). فهل كلام كهذا ينطبق علي أيوب؟! هل هو من فاعلي الإثم، أو هو إنسان لا يعرف الله؟! وهل يستحق أن يبيد ذكره وأسمه ونسله؟!.. بل أكثر من هذا - حيثما يتحدث أيوب عن مرارة نفسه في تجربته - يقول له بلدد الشوحي " أيها المفترس في غيظه، هل لأجلك تخلي الأرض أو يتزحزح الصخر من مكانه؟! "(أي 18: 4). وبنفس القسوة وأسلوب التحطيم، يكلمه صوفر النعماتي موبخًا بكلام يشبه الشماتة به في مذلته.. فيقول له " أما علمت هذا من القديم، منذ وضع الإنسان علي الأرض: أن هتاف الأشرار من قريب، وفرح الفاجر إلي لحظة؟ ولو بلغ السماوات طوله، ومس رأسه السحاب!.. عين أبصرته، لا تعود تراه، ومكانه لم يراه بعد.. فخبزه في إمعانه يتحول. مرارة إصلاح في بطنه. قد بلغ ثروة فيتقأها. الله يطردها من بطنه. سم الإصلاح يرضع. يقتله لسان الأفعى" (أي 20: 4-16). ويتابع كلامه الجارح فيقول:" تأكل نار لم تنفخ. ترعي البقية في خيمته. السموات تلعن إثمه. والأرض تنهض عليه. تزول غله بيته.. هذا نصيب الإنسان الشرير من عند الله" (أي 20: 27- 29) ويسألهم أيوب الصديق أي شر فعل؟! فيقول لهم " أن كنتم بالحق تستكبرون علي، فثبتوا علي عاري" (أي 19: 5). ويقول لهم أيضًا " احتملوني وأنا أتكلم، ثم بعد ذلك استهزأوا" (أي 21: 3) " كيف تعزونني باطلًا، وأجوبتكم بقيت خيانة؟! (أي 21: 34). ويرفع وجهه إلي السموات ويقول " هوذا في السموات شهيدي، وشاهدي في الأعالي. المستهزئون بي هم أصحابي" (أي 16: 19، 20) " فغزوا علي أفواههم، لطموني علي كفي تعييرًا. تعانوا علي جميعًا" (أي 16: 10). ويقول لهم علموني فأنا أسكت. وفهموني في أي شيء ضللت؟.. وأما التوبيخ منكم، فعلي أي شيء يبرهن؟! (أي 6: 24، 25) ويعاتبهم أيوب مرة في رقه، ومرة في عنف، ويناقشهم. ويقول لهم".. رأيتم ضربه ففزعتم. هل قلتم أعطوني شيئًا من مالكم، ارشوا من أجلي؟ أو نجوني من يد الخصم، أو من يد العتاة افدوني؟" (أي 6: 21- 23) "تحفرون حفرة لصاحبكم؟!.. أرجعوا، لا يكونن ظلم" (أي 6: 27، 29). أنا أستطيع أن أتكلم مثلكم، لو كانت أنفسكم ملكا نفسي. بل كنت أشددكم بفمي، وتعزية شفتي تمسككم" (أي 16: 4، 5). ولما ازدادوا في كلامهم واتهاماتهم له، كلمهم في شده وقال: "صحيح أنكم أنتم شعب، ومعكم تموت الحكمة. غير أنه لي فهم مثلكم. لست أنا دونكم" (أي 12: 2، 3) " ما تعرفونه، عرفته أنا أيضًا. لست دونكم. لكني أريد أن أكلم القدير، وأن أحاكم إلي الله. أما أنتم فملفقوا كذب. أطباء بطالون كلكم" (أي 13: 2-4). ولما سمعهم يهاجمونه باسم الدفاع عن الله وعظمته وعدله، قال لهم إن هذه (محاباة لله) لا يقبلها. وهكذا قال "اسمعوا الآن حجتي، واضعوا إلي دعاوى شفتي: أتقولون لأجل الله ظلمًا، وتتكلمون بغش لأجله؟! أتحابون وجهه،أم عن الله تخاصمون.. أم تختالون كما يختال الإنسان؟! توبيخًا يوبخكم إن حابيتم الوجوه خفية. فهلا يرهبكم جلاله، ويسقط عليكم رعبه" (أي 13: 6- 11). ثم يقول لهم " خطبكم أمثال رماد، وحصون من طين. اسكتوا عني فأتكلم، وليصبني مهما أصاب "(أي 13: 12، 13). ويرد عليه أليفاز التيماني في كبرياء وشماتة: فيقول لأيوب: أن فمك يستذنبك لا أنا، وشفتيك تشهدان عليك ماذا تعرفه، ولا نعرفه نحن؟ وماذا تفهم وليس هو عندنا؟" عندنا الشيخ والأشيب، أكبر أيامًا من أبيك" (أي 15: 6-10). أصحاب أيوب لم يفهموا الدالة التي يعاتب بها الله! فقال له أليفاز التيماني " لماذا يأخذك قلبك؟ ولماذا تختلج عيناك، حتى ترد علي الله، وتخرج من فيك أقوالًا؟!" (أي 15: 12، 13). ويتابع كلامه ضده فيقول " الشرير يتلوى كل أيامه.. لأنه مد علي الله يده، وعلي الدير تجبر.. فيسكن مدنًا خربة" (أي 15: 20- 28). " لا يستغني ثروته، ولا يمتد في الأرض مقتناه.. لأن السوء يكون أجرته. قبل يومه يتوفي، وسعفه لا يخضر.. ينثر كالزيتون. حبل الرشوة. حبل شقاوة، وولد إثمًا" (أي 15: 29- 35). |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
أيوب يشكو سوء حاله قال " ضربتي أثقل من تنهدي " أي 22: 2) " مصيبتي أثقل من رمل البحر" (أي 6: 2،3). ولعل أبلغ ما قاله عن مرضه: "أنا كمتسوس يبلي، كثوب أكله العث "(أي 13: 28). " عظمي قد لصق بجلدي ولحمي" (أي (19: 20) " الآن انهالت نفسي علي وأخذتني أيام المذلة؟ الليل ينخر عظامي في" (أي 30: 16، 17) " إذا اضطجعت، أقول متي أقوم الليل يطول، وأشبع قلقًا حتى الصبح.. لبس لحمي الدود" (أي 7: 4، 5) " روحي تلفت، أيامي انطفأت. إنما القبور لي.. كلت عيني من الحزن وأعضائي كلها كالظل" (أي 17: 1، 7) " أحمر وجهي من البكاء، وعلي هدبي ظل الموت "(أي 16: 16) " أهوال لله مصطفة ضدي" (أي 6: 4). ما هي قوتي أنتظر؟! وما هي نهايتي حتى أصبر نفسي؟! هل قوتي قوة الحجارة؟! هل لحمي نحاس؟! (أي 6: 11، 12) ويبدو أنه فقد الأمل في الشفاء وانتظر الموت.. وهكذا قال "إذا مضت سنون قليلة، أسلك في طريق لا أعود منها" (أي 16: 22) "رجوت الهاوية بيتًا لي وفي الظلام مهدت فراشي وقلت للقبر أنت أبي وللدود أنت أمي وأختي "(أي 17: 13، 14) " فأين إذن آمالي من يعاينها؟! تهبط إلي مغاليق الهاوية، لإذ ترتاح معًا في التراب (أي 7: 7) " السحاب يضمحل ويزول. هكذا الذي ينزل إلي الهاوية، لا يصعد. لا يرجع بعد إلي بيته، ولا يعرفه مكانه بعد" (أي 7: 9، 10) " الحجارة تبليها المياه، وتجرف سيولها تراب الأرض. وكذلك أنت (يا الله) تبيد الإنسان (أي 14: 19). وهكذا وجد أيوب من حقه أن يشكو، فقال: " أنا أيضًا لا أمنع فمي. أتكلم بضيق روحي. أشكو بمرارة نفسي "(أي 7: 11) " قد كرهت نفسي حياتي. أسيب شكواي. أتكلم في مرارة نفسي.." (أي 10: 1). " الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعبًا يخرج كالزهر ثم ينحسم ويبرح كالظل ولا يقف "(أي 14: 1، 2) "أيام أسرع من عداء. تفر ولا تري خيرًا "(أي 9: 25) أيوب يعتبر نفسه يتعامل مع الله في مرضه. لم يقل إنها ضربة من الشيطان، إنما قال عن الرب " قد طرحني في الحل، فاشتهيت التراب والرماد" (أي 30: 19) ولذلك صلي إلي الرب وقال في عتاب " الليل أصرخ فما تستجيب لي. أقوم فما تنتبه إلي. تحولت إلي جاف من نحوي. بقدرة يدك تضطهدني "(أي 30: 20، 21) كذلك شكا من مشاكله الاجتماعية وبع الناس عنه. فقال " قد أبعد عني أخوتي، ومعارفي مني ". " أقارب قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني". " نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا " عبدي دعوت فلم يجب. بفمي تضرعت إليه " " تكهني مكروه عند امرأتي. وخممت عند أبناء أحشائي " " الأولاد أيضًا قد رذلوني، إذا قمت يتكلمون علي " " كرهني كل رجالي. والذين أحببتهم انقلبوا علي" (أي 19: 13- 19). لكل هذا دخل أيوب في عتاب مع الله. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
أربع جولات للشيطان ضد أيوب كان الشيطان يبذل كل جهده لتحطيم أيوب من كل ناحية: في التجربة الأولي، أمكن أن يحطمه ماديًا وعائليًا. وفي التجربة الثانية، أمكن أن يحطمه صحيحًا. وكان كل ذلك بسماح من الله (أي 1، 2). ولكن تتعبه جدًا عبارة قالها الرب عن أيوب وهي " إلي الآن هو متمسك بكماله" ((أي 2:3). فكيف يمكن إذن زحزحته عن هذا الكمال؟ كانت الجولة الثالثة للشيطان، هي أن يحطم أيوب إيمانيًا. واستخدم ذلك امرأة أيوب، لتثنيه عن إيمانه، وهي متعجبة كيف هو "متمسك بعد بكماله" (أي 2:9). وقطعًا كان الشيطان يتكلم من فمها.. غير أن أيوب البار صدها صدها في حزم، قائلًا لها: "تتكلمين كلامًا كإحدى الجاهلات.." (أي 2: 10). وبدا أن الشيطان قد انهزم في الجولات الثلاث كلها. ولكنه -كعادته- لم ييأس واستمر في محاربة أيوب.. وكانت الجولة التالية للشيطان أن يحطم أيوب نفسيًا وروحيًا وأن يستخدم في ذلك أصحاب أيوب من ناحية، وقسوة المرض وطول مدته من ناحية أخرى.. وقد شملت هذه الجولة باقي سفر كله. فما هي الفكرة الخطيرة التي وضعها الشيطان في أذهان أصحاب أيوب وزودها ببراهين، ونطق بها ألسنتهم..؟ الفكرة التي أثار بها الجو كله. وكانت موضع حوار بين أيوب وأصحابه استمر 28 إصحاحا، وخرج بها أيوب عن هدوئه؟ تلك الفكرة الشيطانية، هي أن التجربة سببها الخطية. وبالتالي لابد أن يكون أيوب خاطئًا.. ولولا ذلك ما كان الله قد سمح بأن يجرده من أولاده، ومن ماله ومملكاته كلها، ومن صحته أيضًا! وكان ذلك يبدو كلامًا منطقيًا يتفق مع عدل الله..! وهكذا كانت كلمة الشيطان علي فم الشيطان علي أليفاز التيماني، أول المتكلمين من أصحاب أيوب " أذكر من هاك وهو برئ؟! وأين أبيد المستقيمون؟" (أي 4: 7). وبالتالي يكون أيوب في كل شفائه، إنما يحصد نتيجة طبيعته لما زرعه من إثم. وهكذا أكمل أليفاز حديثة قائلًا " كما قد رأيت: أن الحارثين إثمًا، والزارعين شقاوة يحصدونها" (أي 4: 8) وكان اتهام أيوب بأنه خاطئ يستحق تأديب الله أمرًا يسعد الشيطان. يسعده كلون من الشماتة في أيوب، ولو بطريق الإدعاء! ويسعده أن ذلك رد علي وصف أيوب بأنه " رجل الكامل ومستقيم، يتقي الله ويحيد عن الشر" (أي 1: 8)، وأنه "إلي الآن هو متمسكٌ بكماله" (أي 2: 3). كما أن هذا الاتهام سوف يثير أيوب ويتعبه. وهذا أيضًا يسعد الشيطان، وبخاصة لو كثرت الاتهامات ومست بر أيوب وسمعته التي يحرص عليها.. وقد كان. بدأ أصحاب أيوب يكيلون له الاتهامات في قسوة. وأحدثت الاتهامات تأثيرها، وبدا أيوب يثور ويرد.. مشكلته أنه قيل الإثارة. تأثر بها، وأخذ يدافع عن نفسه. وكان خيرًا له لو أنه صمت، وترك الله يدافع عنه.. نعم، ليته صمت فما أعمق قول سليمان الحكيم " لا تجاوب الجاهل حسب حماقته لئلا تعدله أنت (أم 26: 4). في بادئ الأمر، رد علي أصحابه في هدوء. ولما زادت اتهاماتهم له بأنه خاطئ. ويحتاج إلي توبة، وسردوا عليه ألوانًا من الاتهامات، حينئذ ثار عليهم وقال لهم "أما أنتم فملفقو كذب، أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتًا، ويكون ذلك لكم حكمة" (أي 13: 4، 5). إلي أن قال لهم "معزون متعبون كلكم. هل من نهاية لكلام فارغ "(أي 16: 2، 3). وكان الشيطان فرحًا جدًا بهذا الصراع ين أيوب وأصحابه، يغذيه أحيانًا. وكان سعيدًا بإثارة أيوب. ولكن القصة لم تتم فصولًا. هناك ما هو أخطر. لم يكن سبب الإثارة فقط أنه خاطئ. بل بالأكثر إن الله ضده يعاقبه، "ويغرمه بأقل من إثمه" (أي 11: 6). ويبدو أن أيوب - للعجب الشديد - دخلت الفكرة إلي ذهنه أن الله يقف ضده، وأنه سبب كل متاعبه!! فدخل في عتاب شديد وطويل مع الله..! إنها مشكلة جديدة وقع فيها أيوب: أن الله قد جعله خصمًا له وأن الله يستذنبه، لكي يتبرر فيما أوقعه فيه من متاعب!! والظاهر أن تكرار ما سمعه من أفواه أصحابه، جعل هذا الفكر يزحف إلي ذهن أيوب وإلي قلبه ومشاعره، ويعاتب الله عليه.. كيف حدث ذلك؟ هذا ما سنشرحه الآن بالتفصيل.. ربما بسبب إيمانه أن كل شيء من الله.. سواء كان بإرادة الله، أو بسماح منه.. لذلك قال قبلًا" هل.. الشر من الله لا نقبل؟ (أي 2: 10). إذن هو مؤمن أن كل الشرور (أي المتاعب) التي أصابته هي من الله "وفي كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). وهكذا فإن في التجربة الأولي، لما أخذت منه أملاكه كلها وأولاده قال ".. الرب أخذ" (أي 1: 21). |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
أيوب يعاتب الله عتابًا طويلًا شديدًا فماذا كان موقفه من الرب الذي أخذ، والشر الذي أصابه؟ يبدو أنه لم يقبل ذلك الشر كما قال، بل عاتب الرب عليه. أكبر دليل، وأول دليل، أنه بعد الكآبة الشديدة التي حلت عليه، أخذ يسب يومه، ويقول " ليته هلك اليوم الذي ولدت فيه.." (أي 3: 3). ولماذا؟ " لأنه لم يغلق أبواب بطن أمي، ولم يستر الشقاوة عن عيني "(أي 3: 10). لأني إرتعابًا أرتعب فأتاني، والذي فزعت منه جاء علي "" لم أطمئن، ولم أسكن، ولم استرح، وقد جاء الرجز" (أي 3: 25، 26). إذن هو لم يقبل ذلك الشر، بل اكتأب كآبة عظيمة جدًا (أي 2: 13). وارتعب وفزع، ولم يطمئن بشفتيه" (أي 2: 10). شفتاه لم يصدر منهما خطأ. أما قلبه فلم يسترح! وفي عتابه مع الله، نسب إليه كل المتاعب.. "يرضي الله أن يسحقني. يطلق يده فيقطعني" (أي 6: 9). "ذاك الذي يسحقني بالعاصفة، ويكثر جروحي بلا سبب "(أي 9: 17). "لا يدعني آخذ نفسي، ولكن يشبعني مرائر "(أي 69: 18). "وقال للرب " كتبت علي أمورًا مرة، وورثتني آثام صباي" (أي 13: 26). "جعلت رجلي في المقطورة، ولا حظت مسالكي.. وأنا كمتسوس يبلي، كثوب أكله العث" (أي 13: 27، 28) , وكان يشعر بشدة ما فعله الله به، ويشكو.. ويقول "أزل عني كرامتي، ونزع تاج رأسي" (أي 19: 9). " كنت مستريحًا فرعرعني ونصبني له غرضًا. شق كليتي ولم يشفق. سفك مرارتي علي الأرض" (أي 16: 12، 13). "أوقفني مثلًا للشعوب. وصرت للبصق في الوجه" (أي 17: 6). "هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا. فقط أزكي طريقي قدامه" (أي 13: 15). " في عذاب لا يشفق. أني لم أجحد القدوس "(أي 6: 10) هو أيضًا يطلب من الله أن يكف عنه، يريحه قبل موته. فيقول له " قد ذبت.. كف عني، لأن أيامي نفخة" (أي 7: 16). "حتي متي لا تلتفت عني ولا ترهبني ريثما أبلغ ريقي ؟" (أي 7: 19). " بعد يديك عني، ولا تدع هيبتك ترعبني" (أي 13: 21). (أن كان (الإنسان) أيامه محدودة، وعدد أشهره عندك، وقد عينت أجله فلا يتجاوزه، عنه، إلي أن يسر كالأجير بانتهاء يومه" (عب 14: 5، 6). " ليرفع عني عصاه، فلا يبغتني رعبه" (أي 9: 34). ويقول لله أيضًا " أليست أيامي قليلة؟ اتركني. كف عني فأتبلج قليلًا، قبل أن أذهب فلا أعود" (أي 10: 20) ويعلن أيوب أن الله يعاديه، ويخاصمه: فيقول له "لماذا تحجب وجهك عني، وتحسبني عدوًا لك؟ (أي 13: 24). ويقول " أضرم علي غضبه وحسبني كأعدائه" (أي 13: 24). ويقول " أضرم علي غضبه، وحسبني كأعدائه" (أي 19: 11). ويقول أيضًا " فاعلموا إذن أن الله قد عوجني، ولف علي أحبولته. ها أني أصرخ ظلمًا فلا استجاب. أدعو وليس حكم. قد حوط طريقي، فلا أعبر سلبي ألقي ظلامًا" (أي 19: 6- 8) ويقول له " لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني؟" (أي 10: 2) ويقول " غضبه افترسني. واضطهدني" (أي 16: 9). ويقول لله: تستذنبني، وأنت تعلم أني برئ.. "في علمك أني لست مذنبًا، ولا منقذ من يدك" (أي 10: 7). " كم لي من الأثام والخطايا ؟ علمني ذنبي وخطيتي" (أي 13: 23). ويقول لأصحابه".. أريد أن كلم القدير، وأن أحاكم إلي الله" (أي 13: 3). ثم يقول لله " أدع أجيب، أو لم أتكلم فتجاوبني" (أي 13: 22). " تبحث عن إثمي، وتفتش عن خطيتي" (أي 10: 6). " أن تبررت يحكم علي فمي. وأن كنت كاملًا يسيذنبني (أي 9: 20). " أن قلت أنسي كربتي، وأطلق وجهي وأتبلج، أخاف من كل أوجاعي، عالمًا أنك لا تبرئني" (أي 9: 27، 28). " أنا مستذنب، فلماذا أتعب عيثًا ؟ ولو اغتسلت في الثلج، ونظفت يدي بالأشنان، فإنك في النقع تغمسني، حتي تكرهني ثيابي (أي 9: 29-31) " أحسن عندك أن تظلم ؟ أن ترذل عمل يديك وتشرق علي مشورة الأشرار" (أي 10: 3). ويقول له: وإن فرض وأخطأت أليست عندك مغفرة؟ فيقول لله "أن أخطأت تلاحظني، ولا تبرئني من إثمي" (أي 10: 14). " إن أذنب فويل لي. وأن تبررت لا أرفع رأسي "، " أني شعبان هوانًا، وناظر مذلتي" (أي 10: 15). " أأخطأت؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس ؟ لماذا جعلتني عاثورًا لنفسك حتى أكون علي نفسي حملًا؟!" (أي 7: 20). " ولماذا لا تغفر ذنبي، ولا تزيل إثمي ؟! لأني الآن اضطجعت في التراب. تطلبني فلا أكون" (أي 7: 21). ويقول".. كيف يتبرر الإنسان عند الله؟! إن شاء أن يحاجه، لا يجيبه عن واحد من ألف. هو حكيم القلب وشديد القوة" (أي 9: 2- 4). ويعاتب الله قائلًا أنك قوي. فماذا أفعل إزاء قوتك وعظمتك؟! " لأني وأن تبررت، لا أجاوب، بل أسترحم دياني" (أي 9: 15). " هوذا يمر علي فلا أراه. ويجتاز فلا أراه. ويجتاز فلا أشعر به. إذا خطف،فمن يرده؟! ومن يقول له: ماذا تفعل؟! " الله لا يرد غضبه. ينحني تحته أعوان رهب. فكم بالأقل أنا أجاوبه، وأختار كلامي معه!!" (أي 9: 11- 14). إن كان من جهة قوة القوى، يقول هأنذا.وأن كان من جهة القضاء، يقول: من يحاكمني؟!" (أي 9: 19). " عنده الحكمة والقدرة. له المشورة والفطنة. هوذا يهدم فلا يبني. يغلق علي إنسان، فلا يفتح. يمنع المياه فتيبس. يطلقها فتقلب الأرض "، " يحل مناطق الملوك، ويشد أحقاءهم بوثاق.." (أي 12: 13- 18). ثم يقول لله " إن ارتفع تصطادني كأسدًا! ثم يعود وتتجبر عليّ" (أي 10: 16). ثم يقول له: مَنْ أنا حتى تطاردني؟! "أتُرعِب ورقة مندفعة؟! وتطارد قشًا يابسًا؟!" (أي 13: 25). " ما هو الإنسان حتى يعتبره، وحتي تضع عليه قلبك، وتتعهده كل صباح وكل لحظة؟!" (أي 7: 17، 18). " إن قلت إن فراشي يعزيني، مضجعي ينزع كربتي، تريعني بالأحلام، وترهبني برؤى" (أي 7: 13، 14). ثم يسأل: لماذا إذن ولدت. ويقول لله: تذكر أنك جبلتني. "يدك كونتانى وصنعتاني كلي جميعًا. أفتبتلعني؟! أذكر أنك جبلتني كالطين. افتعيدني إلي التراب؟! (أي 10: 8، 9). " فلماذا أخرجتني من الرحم؟! كنت قد أسلمت الروح، ولم ترني عين. فكنت كأن لم أكن، فأقاد من الرحم إلي القبر" (أي 10: 18، 19). ثم يحتار، إذ ليس مصالح بينه وبين الله. فيقول عن السيد الرب "فإنه ليس إنسانًا مثلي، فأجاوبه، فنأتي جميعًا إلي المحاكمة. ليس بيننا مصالح، يضع يده علي كلينا!!" (أي 9: 32، 33). كل ذلك يقوله أيوب، شاعرًا أن الله قد اقتحمه ، وأنه قد سلمه إلي أعدائه. فيقول "يقتحمني أقتحامًا علي اقتحام. يعدو علي كجبار" (أي 16: 14). ويقول أيضًا دفعني الله إلي الظالم، وفي أيدي الأشرار طرحني.أحاطت بي رماته (أي 16: 11، 14). ويقول له " خربت كل جماعتي. فبضت علي. وجد شاهد" (أي 16: 7، 8). ولعله يقصد أصحابه الذين شهدوا ضده.. وفي كل ذلك يبرر أيوب نفسه. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
التبرير والتبرئة | أيوب يبرر نفسه أمام أصحابه وأمام الله · أنها مشكلة تعرض لها سفر أيوب علي فم وأصحابة " كيف يتبرر الإنسان أمام الله "؟ّ · فأليفاز التيماني يؤكد أن الإنسان لا يتبرر، فيقول: " من هو الإنسان حتى يزكو؟! والمرأة حتى يتبرر؟! هوذا القديسون لا يأتمنهم، السموات غير طاهرة بعينيه فبالحري مكروه وفاسد، الإنسان الشارب الإثم كالماء"(أي 15: 14-16). " هوذا عبيده لا يأتمنهم، وإلي ملائكته ينسب حماقة" ( أي 4: 18). · وبلدد الشوحي يكرر نفس المعني تقريبًا، فيقول: " كيف يتبرر الإنسان عند الله؟! وكيف يزكو مولود المرأة! هوذا نفس القمر لا يضئ، والكواكب غير نقية في عينيه. فكم بالحري الإنسان الرمة! وابن آدم الدود "(أي 25:4-6) *أيوب يسأل نفس السؤال فيقول : " صحيح قد علمت أنه كذا. فكيف يتبرر الإنسان عند الله؟!" (أي 9: 2). · ويري أيوب أنه مستذنب، ولا يبرئه الله. · فيقول: لأني وأن تبررت، لا أجاوب، بل استرحم دياني" (أي 9: 15) ويقول لله " أخاف من كل أوجاعي، عالمًا أنك لا تبرئني" (أي 9: 28). بل إنه يقول أكثر من الثلج، ونظفت يدى بالأشنان، فإنك في النقع تغمسني، حتى تكرهني ثيابي!" (أي 9: 29، 30). ويعاتب الله الذي يستذنبه، مع علمه ببراءته. فيقول له " أن أخطأت تلاحظني، ولا تبرئني من إثمي "(أي 10: 14). " في علمك أني لست مذنبًا ولا منقذ من يدك" (أي 10: 7). " معصيتي مختوم عليها في صرة، وتلفق علي فوق إثمي!!" (أي 14: 17). ويتجرأ فيقول " لا تستذنبني. فهمني لماذا تخاصمني" (أي 10: 3). " أحسن عندك أن تظلم! أن ترذل عمل يديك!" (أي 10: 3). · وهو لذلك، يريد أن يحاكم إلي الله، ويحسن الدعوى أمامه. فيقول "أريد أن أكلم القدير، وأحاكم إلي الله"، "هوذا يقتلني لا أنتظر شيئًا، فقط أزكي طريقي قدامه" (أي 13: 3، 15). " من يعطيني أن أجده، فآتي إلي كرسيه " " أحسن الدعوى أمامه، واملأ فمي حججًا. " فأعرف الأقوال التي بها يجيبني، وأفهم ما يقوله" (أي 23: 3، 4). " هناك كان يحاجه المستقيم، وكنت أنجو إلي الأبد من قاضى" (أي 23: 7) , " أتكلم فتجوبني. كم لي من الآثام والخطايا؟! أعلمني ذنبي وخطيتي" (أي 13: 23). " أحمر وجهي من البكاء، وعلي هدبي ظل الموت. مع أنه لا ظلم في يدي، وصلاتي خالصة" (أي 16: 16، 17) هأنذا قد أحسنت الدعوى أنني أتبرر "(أي 13: 18). " كامل أنا لا أبالي. رذلت حياتي" (أي 9: 21). ومع ذلك فإن الله " الكامل والشرير، هو يفنيهما (أي 9: 21، 22). |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
اتهامات وافتخار | أيوب يفتخر بماله من بر وكمال وعظمة قوبل أيوب الصديق باتهامات مرة وظالمة من أصحابه، وبخاصة من أليفاز التيماني. أثارته الاتهامات الكاذبة. وكان رد فعلها هو الافتخار. · قال له أليفاز في قسوة وإدعاء كاذب: "هل علي تقواك يوبخك (الله)؟! أو يدخل معك في المحاكمة أليس شرك ارتهنت أخاك بلا سبب وسلبت ثياب العراة! ماء لم تسق العطشان، وعن الجوعان منعت خبزًا! الأرامل أرسلت خاليات، وذراع اليتامى انسحقت! لأجل ذلك حواليك فخاخ ويريعك رعب بغتة" ثم يدعوه إلي التوبة والرجوع إلي الله قائلًا له " أن رجعت إلي القدير تبني إن أبعدت ظلمًا عن خيمتك" (أي 22: 4-23) ويقول له وعنه صوفر النعماتي: " أما علمت هذا منذ القديم أن.. فرح الفاجر إلي لحظة، ولو بلغ السماوات طوله، ومس رأسه السحاب.." "قد بلغ ثروة فيتقأها. الله يطردها من بطنه.. " لأنه رضض المساكين وطردهم، واغتصب بيتًا ولم يبنه.." " السموات تعلن إثمه، والأرض تنهض عليه". " تزول غله بيته، تهرق في يوم غضبه". " هذا نصيب الإنسان الشرير من عند الله.." (أي 20: 4- 29). · لهذا أخذ أيوب يرد عليهم شارحًا كماله وبره. فيقول " حي هو الله.. إنه مادامت نسمتي في، ونفخة الله في أنفي، لن تتكلم شفتاي إثمًا، ولا ينطق فمي، بغش "(أي 27: 3، 4).".. حتى اسلم روحي، لا أنزع كمالي عني" (أي 27: 5). " تمسكت ببري ولا يعير يومًا من أيامي (أي 27: 6). ويقول عن السيد الرب: " لأنه يعرف طريقي. إذا رجلي، إذا جربني أخرج كالذهب (أي 23: 10) بخطواته استمسكت رجلي، حفظت شريعته ولم أحد "" من وصية شفتيه لم أبرح. أكثر من فريضتي ذخرت كلام فيه " " أما هو فوحده، من يرده؟! نفسه تشتهي فيفعل "(أي 23: 11- 13). · أنفرد أيوب بالكلام خمسة إصحاحات (من 26 إلي 31). وكان أصعب كلامه في الافتخار هو إصحاح 29) وما بعده. · كان جوهر افتخاره مركزًا علي عظمته، وعلي بره: · قال" ليتني كما في الشهور السالفة، وكالأيام التي حفظني الله فيها. حين أضاء سراجه علي رأسي، وبنور سلكت الظلمة. كما كنت في أيام خريفي، ورضا الله علي خيمتي. والقدير بعد معي، وحولي غلماني إذ غسلت خطواتي باللبن، والصخر سكب لي جداول زيت.." (أي 29: 2-6) هنا يتذكر العظمة القديمة التي فقدها. وقلبه يشتهيها! فيقول " حين كنت أخرج إلي الباب في القرية، وأهيئ في الساحة مجلسي. رآني الغلمان فأختبأوا، والشيوخ قاموا ووقفوا" (هنا العظمة التي عاشها. وماذا أيضًا؟) يقول " العظماء أمسكوا عن الكلام، ووضعوا أيديهم علي أفواههم. صوت الشرفاء اختفي، ولصقت ألسنتهم بأحناكهم ". [ لماذا كل هذه الخشية والمهابة التي أصابت كل هؤلاء العظماء، حينما ظهرت يا أيوب، وهيأت في الساحة مجلسك؟! ] يقول " لأن الأذن سمعت فطوبتني. والعين رأت فشهدت لي "(أي 29: 11). [هنا كان الخطر الذي هدد حياة أيوب روحيًا]. الكرامة التي يعيشها كل يوم، والعظمة التي تحيط به من كل جانب. وأيضًا البر الذي تتميز به حياته، والذي يفتخر به، ويستعرض أعماله الصالحة، ويردد بها علي اتهامات أصحابه له، فيقول: " لأني أنقذت المسكين المستغيث، واليتيم ولا معين له " " بركة الهالك حلت علي، وجعلت قلب الأرملة يسر ". [ أي أن الإنسان الذي كان علي وشك الهلاك، وأنقذته أنا من الضياع، هذا حلت بركته علي، بدعائه لي بالخير..].. إلي أن يقول: " لبست البر فكساني. كجبة وعمامة كان عدلي" (أي 29:14). نعم، هذه هي مشكلة أيوب: كان يعرف عن نفسه أنه بار، ثم صار يتحدث عن بره، حينما أثاره أصحابه باتهاماتهم.. وهكذا يتحدث عن نفسه في التفاصيل أعماله الصالحة، فيقول: " كنت عيونًا للعمي، وأرجلًا للعرج". " أب أنا للفقراْ. ودعوى لم أعرفها، فحصت عنها" (هنا يتحدث عن وضعه كقاض يفحص الأمور. ويراعي العدل بين الناس ].ويتتبع ذلك بقوله:" هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانه خطفت الفريسة "(أي 29: 15-17). ثم يتحدث عن أصله وكرامته، ووضعه كملك بين الناس. فيقول " أصلي كان منبسطًا إلي المياه. والطل بات علي أغصاني، أي كان كشجرة امتدت جذورها. حتى وصلت إلي المياه الباطنية. فلم تعد محتاجة إلي الري والسقيا، لأن أصولها في المياه، وأكثر من هذا أيضًا، كان الطل (الندى)علي أغصانها من فوق.. إلي أن يقول عن وضعة بين الناس: " كنت أجتاز طريقي، وأجلس رأسًا. وأسكن كملك في جيش كمن يعزي النائحين "(أي 29: 25). هذه العظمة، عظمة من يجلس رأسًا وملكًا، وكانت سمة الأيام السالفة، التي كان فيها رضا القدير علي خيمته والصخر سكب له جداول زيت. ولكن ماذا عن حالته الآن؟ قال أيوب عبارة. صدقوني في أول مرة قرأتها، لم استطع مطلقًا أن أصدق أنها خرجت من فم أيوب!! قال: " وأما الآن فقد ضحك علي أصاغرى أيامًا. الذين كنت استنكف من أن أجعل آباءهم مع كلاب غنمي!!" (أي 30: 1) إلي هذا الحد وصل مفعول العظمة في قلب أيوب؟! يستنكف من أن يجعل آباءهم مع كلاب غنمه!! أما الآن -فهو يقول- "وأما الآن فصرت أغنيتهم. وأصبحت لهم مثلًا" يكرهونني. يبتعدون عني، وأمام وجهي لم يمسكوا عن البصق" (أي 30: 9، 10). " الآن انهالت نفسي علي، وأخذتني أيام المذلة.. قد طرحني في الوحل، فأشتهيت التراب والرماد (أي 30: 16، 19). نعم شتان بين حاله الكرامة والعظمة، وحال المذلة والوحل!! ويعود أيوب إلي التحدث عن أعماله الصالحة. ويجلب علي نفسه اللعنات، إن كان قد فعل كذا وكذا. ويشمل هذا كل إصحاح 31 من سفر أيوب. وبه تكمل أقواله مع أصحابه الذين استمعوا إليه صامتين.. بدأ بقوله " عهدًا قطعت لعيني، فكيف أتطلع في عذراء؟! " وقال عن الرب " أليس هو ينظر طرقي، ويحصي جميع خطواتي " " ليزني في ميزان الذهب، فيعرف الله كمالي" (أي 31: 6). وهذا تأكيد لما قاله من قبل " لأنه يعرف طريقي: إذا جربني، أخرج كالذهب" (أي 23: 10)، وأيضًا تأكيد لما قاله من قبل عن كماله " كامل أنا لا أبالي "(أي 9: 21).".. لا أنزع كمالي عني "(أ] 27: 20). أما عن استجلاب اللعنات علي نفسه، أن كان قد فعل كذا وكذا. فيقول " أن كنت قد سلكت الكذب، وأسرعت رجلي إلي الغش.." إن حادت خطواتي عن طريق.".. " أن غوى قلبي علي امرأة، أو كمنت علي باب قريبي.." " أن كنت رفضت حق دعواهما علي.." " أن كنت منعت المساكين عن مرادهم.. أو أكلت لقمتي وحدي، فما أكل منها اليتيم..".. فليحدث لي كذا وكذا " أن كنت قد جعلت الذهب عمدتي، أو قلت للأبريز أنت متكلي..".. فليحدث لي كذا وكذا.. " أن كنت قد فرحت ببلية مبغضي، أو شمت حين أصابه سوء.." "غريب لم يبت في الخارج. فتحت للمسافر أبوابي". · ويختم أيوب افتخاره بأن يتحدى كل من تهمه، فيقول: " من لي بشكوي كتبها خصمي: فكنت أحملها علي كتفي. كنت أعصبها تاجًا لي (أي 3: 35، 36). أمام كل هذا الافتخار والبر الذاتي، سكت أصحاب أيوب، ولم يتابعوا الحوار معه بعد. وفي ذلك يقول الوحي الإلهي: " فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن محاربة أيوب، لكونه بارًا في عيني نفسه "(أي 32: 1). فما الذي حدث بعد ذلك؟ وكيف انتهت قصه أيوب وتجربته؟ |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
بار في عيني نفسه هكذا قال الوحي الإلهي " فكف هؤلاء الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب، لكونه بارًا في عيني نفسه" (أي 32: 1).. حقًا إنه من الصعب التحاور مع إنسان يكون بارًا في عيني نفسه. ولم يكن هذا الشعور أصحابه الثلاثة فقط، بل إن الصديق الرابع (أليهو) الذي كان صامتًا بينهم لم يستطع أن يقاوم صمته بعد ما لاحظه من البر الذاتي لأيوب. وهنا يقول الكتاب: " فحمي غضب أليهو بن برخئيل البروزى من عشيرة رام. علي أيوب حمي غضبه، لأنه حسب نفسه أبر من الله! وعلي أصحابه الثلاثة حمي غضبة، لأنهم لم يجدوا جوابًا واستذنبوا أيوب" (أي 32: 2، 3). |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
كلام أليهو إليهو يعلمنا احترام الكبار، ولكن ليس فوق الحق. كان صمت طول مدة الحوار بين أيوب وأصحابه " لأنهم كانوا أكثر منه أيامًا" (أي 32: 4)، أي أكبر منه سنًا، ولكن " لما رأي أنه لا جواب في أفواه الرجال الثلاثة"، " وليس من حاجج أيوب " حينئذ حمي غضبه" (أي 32: 5، 12). فقال لهم " أنا صغير الأيام، وأنتم شيوخ. لأجل ذلك خفت، وخشيت أن أبدى لكم رأيي. قلت الأيام تتكلم، وكثرة السنين تظهر حكمة" (أي 32: 6، 7). فلما لم يظهروا تلك الحكمة، اضطر أن يتكلم.. يبدو أليهو- في تجربة أيوب - إنسانًا ذا هيبة يكلم أولئك الشيوخ بسلطان. ولم يجادله أحد. كان كمن يمثل الله. وقد رد علي أيوب في كثير من أقواله، ووبخه. كان أيوب قد قال " أريد أن أحاكم إلي الله "(أي 13: 3)" وأحسن الدعوى أمامه" (أي 23: 4). وقال لله "لا تدع هيبتك ترهبني" (أي 13: 21) فرد عليه أليهو في مهابته وقال " إن استطعت فأجبني، وأحسن الدعوى أمامي. أنتصب. هأنذا - حسب قولك - عوضًا عن الله. أنا أيضًا من الطين تقرصت. هوذا هيبتي لا ترهبك، وجلالي لا يثقل عليك "(أي 33: 5-7). وبدأ أليهو يناقش أيوب، ويرد علي كل نقطة. وواجهه: " قلت أنا برئ بلا ذنب. زكي أنا ولا إثم لي. هوذا يطلب علي علل عداوة، يحسبني عدوًا له.. يراقب كل طرقي "" ها أنك في هذا لم تصب "(أي 33: 9-12). وأفحمه بنقطتين: أولًا - إن الله لا يناقش في أحكامه. ذا قال له "لماذا تخاصمه؟ لأن كل أموره لا يجاوب عنها" (أي 33: 13). والنقطة الثانية هي أن الله " يؤدب بالوجع " ليمنع الإنسان الكبرياء والمجد الباطل. وهكذا قال عن الله:" ليحول الإنسان عن عمله، ويكتم الكبرياء عن الرجل، ليمنع نفسه عن الحفرة "(أي 33: 17- 19) " ليرد نفسه من الحفرة، ليستنير بنور الأحياء" (أي 33: 30). ومن العبارات الهامة التي نطق بها أليهو، ما ذكره عن الفدية، والقيامة، والإنقاذ من التجربة والموت.. إنها كلمات يقولها لأيوب عن عمل الله " يعلن للإنسان استقامة " يتراءف عليه. ويقول أطلقه من الهبوط إلي الحفرة، قد وجدت فديه " يصير لحمه أغضن من لحم الصبي، ويعود إلي أيام شبابه "يصلي إلي الله فيرضي عنه، ويعاين وجهه بهتاف. فيرد علي الإنسان بره "(أي 33: 24- 26). ومن أجمل كلماته المعزية، قوله لأيوب: " تكلم، فإني أريد تبريرك" (أي 33: 32). ويتبعها بقولة " وإلا استمع أنت لي. أنصت فأعلمك الحكمة " عجيبة هذه العبارة يقولها إليهو في مهابة لشيخ مثل أيوب! ولكنه كما قلت: كان يمثل الله في مواجهة أيوب، بل كان يمهد لمخاطبة الله له.. كيف إذن علمه الحكمة؟ بتوبيخ وبنصيحة. أما النصحية فهي، لكي يرد الله عليه بره:" يغني بين الناس ويقول: قد أخطأت وعوجت المستقيم، ولم أجاز عليه. فدي نفسي من العبور إلي الحفرة "(أي 33: 26- 28). وأيضًا أيوب لم يحسن التخاطب مع الله، كما شرح أليهو: " هل لله قال: احتملت. لا أعود أفسد. ما لم أبصر، فأريه أنت. إن كنت قد فعلت إثمًا، فلا أعود أفعله.." (أي 34: 31، 32). وهكذا فإن أليهو وبخ أيوب، فقال عنه: " إن أيوب يتكلم بلا معرفة، وكلامه ليس بتعقل " أضاف إلي خطيته معصية. يصفق بيننا، ويكثر كلامه علي الله" (أي 34: 35، 37). " لأن أيوب قال: قد تبررت، ونزع الله حقي.. جرحي عديم الشفاء من دون ذنب "" فأي إنسان كأيوب، يشرب الهزء كالماء؟!" (أي 34: 5- 7). ووبخه قائلًا " أتحسب هذا حقًا؟! قلت أنا أبر من الله!!" (أي 35: 2)." إن كنت بارًا، فماذا أعطيته؟! أو ماذا يأخذه من يدك؟!" (أي 35: 7). وختم هذا الجزء من كلامه بقوله " فغر أيوب فاه بالباطل، وكبر الكلام بلا معرفة "(أي 35: 16). ودافع أليهو عن عدل الله وعظمته فقال: " حاشا لله من الشر، وللقدير من الظلم. لأنه يجازي الإنسان علي فعله " " فحقًا إن الله لا يفعل سوءًا، والقدير لا يعوج القضاء" (أي 34: 10- 12)." لا يحابي بوجوه الرؤساء.. لأن عينيه علي طرق الإنسان، وهو يري كل خطواته "(أي 34: 19، 21) هوذا الله عزيز، ولكنه لا يرذل أحدًا "" لا يحول عينيه عن البار" (أي 36: 5، 7) " هوذا الله يتعالي بقدرته. من مثله علمًا؟!.. أو من يقول له: قد فعلت شرًا؟! (أي 36: 22، 23). و يختم أليهو حديثة مع أيوب، بقوله: " أنصت إلي هذا يا أيوب وتأمل بعجائب الله " القدير لا ندركه، عظيم القوة والحق وكثير البر. لا يجاوب "(أي 37: 14، 23). المهم في كل ما قاله أليهو، أن الله لم يقل عليه إنه جانب الصواب، مثلما قال عن صوفر بلدد وأليفاز.. كان كلامه صوابًا. وكان تمهيدًا بما قاله الله لأيوب، يحسن بنا جدًا أن نشرح خطة الله - تبارك اسمه - في قصة تجربة أيوب، ولماذا سمح بها؟ وماذا كانت حكمته؟ |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
حكمة الله وخطته كان الله يري أمورًا تجارب أيوب بالبر وبالعظمة. · الغني الواسع الكبير، الذي كان فيه " أعظم كل بني المشرق" (أي 1: 3) إذ كان له سبعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمسة مئه فدان بقر، وخمسة مئه أتان. وكان خدمة كثيرين جدًا (أي 1: 3) · وكانت له الأسرة الكبيرة: سبعة بنين وثلاث بنات (أي 1: 2) · ومن جهة البر "كان كاملًا ومستقيمًا، يتقي الله ويحيد عن الشر" (أي 1: 8). وكان يحسن إلي الأرامل واليتامى، ويشفق علي الفقراء كان عيونًا للعمي، وأرجلًا للعرج وأبًا للفقراء (أي 29: 12-16). · وكل هذا جعله محبوبًا جدًا من المساكين، ومحترمًا جدًا من العظماء يهابه الكل ويمتدحونه. الأذن سمعت فطوبته،و العين رأت فشهدت له (أي 29: 7- 11). في كل هذا، كان الله يريد إنقاذه من العظمة والبر الذاتي. وكان لابد لتنفيذ ذلك من عملية تجريد واسعة النطاق. فلما حسد الشيطانأيوب، سمح له الله بضربه من أجل خير أيوب روحيًا، لينقذه من العظمة والبر، ويريه أنه من الممكن أن يخطئ، وأن يتعب من التجربة، وأن يفتخر ويدافع عن نفسه.. ثم بعد ذلك يعيد الله بناءه الروحي، علي أساس من الانسحاق.. وقد كان: فتم تجريده من كل ما يملك: من البقر والأتن والغنم والجمال، ومن البيت الذي يسكنه. كما جرده أيضًا من بنيه وبناته، ثم جرده أيضًا من احترام الناس له. حتى أن أصدقاءه الذين بكوا أولًا إشفاقا عليه، عادوا فجرحوه كثيرًا واتعبوا نفسيته، واعتبروه خاطئًا يعاقبه الله ويحتاج إلي توبة. وفي محيط آسرته: أقاربه خذلوه، ومعارفه نسوه. وأصبح يدعو عبده فلا يجيبه، فيتضرع إليه وأصبح رائحته مكروهة عند امرأته (أي 19). أما عن نفسيته في الداخل فكشف له الله كيف هي ضعيفة تتأثر بالاتهام وتثور وحتي مع الله كيف أنه في عتابه له يتهم الله بالظلم وبأنه يستذنبه وهو يعلم ببراءته، ويفتش له علي خطية وكيف أنه يفتخر ويقول: أنا بار. أنا كامل. التهم التي توجه إلي، أنا أضعها تاجًا فوق رأسي. إذا جربني أخرج كالذهب.. حتي أن أصحابه الثلاثة كفوا عن الحوار معه، لأنه بار في عيني نفسه، ولأنه حسب نفسه، ولأنه حسب نفسه أبر من الله (أي 32: 1، 2) ولدرجة أن أليهو قال عنه " الله يغلبه لا الإنسان "(أي 32: 13). فكان لا بد من أن يتدخل الله. |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
تدخل الله الله الذي بدأ بتجريد أيوب من المال والصحة واحترام الناس، تدخل أخيرًا لكي يجرده من العظمة والبر الذاتي. لكي ينقيه ويطهره، ويعيد إليه كماله، من جهة. ولكي يرد سبيه، وينهي هذه التجربة المرة لصالحه. وأيضًا ليهبه حياة بارة مؤسسة علي انسحاق القلب. وهكذا بعد أن انتهي أليهو بن برخئيل البوزى من أعداد الطريق قدامه، كرسالة يوحنا المعمدان في أن يهيئ للرب شعبًا مستعدًا (فيما بعد) [ لو 1: 17].. أخيرًا تكلم الرب من العاصفة، ليرد أيوب إلي طقسه. بدأ الله بإشعار أيوب بضعفه وجهله، وظلمه للتدبير الإلهي. فقال " من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة؟! "(أي 38: 2).. بداية حاسمة، وكأنها الخاتمة.. قطعًا إن الذي لا يدرك حكمة التدبير الإلهي، إنما يقع في الظلم، وفي الجهل بقاصد الله الخيرة.. ثم سخر به الله قائلًا " أشدد الآن حقويك كرجل. أسالك فتعلمني!! أين كنت حين أسست الأرض؟ أخبر إن كان عندك فهم! من وضع قياسها؟ لأنك تعلم!! (أي 38: 3- 5). وظل الله يسأل أيوب أسئلة في الخليقة حتى أعجزه. وحتى قال أيوب في انسحاق " ها أنا الحقير، فماذا أجاوبك؟! وضعت يدي علي فمي. فمرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد" (أي 40: 4، 5). واستمر الرب في توبيخ أيوب، وفي مزيد من الأسئلة، قائلًا له: " الآن أشدد حقويك كرجل. أساله فتعلمني (فاعرفني)": " العلك تناقض حكمي؟! تستذنبني لكي تتبرر أنت!!" (أي 40: 7، 8). وقال له مرة أخري في سخرية " تزين الآن بالجلال والعز، والبس المجد والبهاء!! فرق فيض غضبك، وانظر كل متعظم وأخفضه. انظر إلي كل متعظم وذلله" (أي 40: 10- 12). وكانت هذه العبارة، تذكر أيوب بأنه كمتعظم، يلزمه أن يخفضه الله ويذلله، وكأنه وضع نفسه موضع الله! وقال له أيضًا في سخرية " أنا أيضًا أحمدك، لأن يمينك تخلصك!!" (أي 40: 14).. واستمر في كلامه، إلي أن ذكر من هو " ملك علي كل بني الكبرياء "(أي 41: 34). |
رد: كتاب أيوب الصديق، ولماذا كانت تجربته؟ لقداسة البابا شنودة الثالث
انسحاق أيوب وانتهاء التجربة نجح الله في خطته، وأوصل أيوب إلي انسحاق القلب من الداخل. وبه كانت التجربة قد وصلت إلي هدفها الروحي، فانتهت مدتها. وهكذا " أجاب أيوب الرب فقال: قد علمت أنك تستطيع كل شيء ولا يعسر عليك شيء.." (أي 42: 2). " ولكني قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها" (عبارة نطقت بما لم أفهم، اعترف فيها أيوب بأخطائه في كل ما قاله لأصحابه، وما قاله لله، واعتبر أنها خطية جهل. وأنه كان يتكلم كإحدى الجاهلات، كما قال لامرأته قبلًا (أي 2: 10) والقياس مع الفارق. وأنه فعلًا " الشر لم يقبل " بل ثار عليه واحتج وحزن وشكا، وتغير عما قاله قبلًا. وكان في وضع فاقد لحياة الشكر ولحياة التسليم!! طبعًا هناك فرق بين الكامل المستقيم قبل التجربة (أي 1: 8). وأيوب بعد التجربة الذي قال له أليهو "ها أنك في هذا لم تصب "(أي 33: 12). وعبارة " عجائب فوقي لم أدركها " التي قالها في انسحاق.. لعلها تعني أيضًا عجائب الرب في مقاصده الإلهية، وسماحه بهذه التجربة لخيره وتنقيته ومكافأته.. هذه أيضًا لم يدركها، فتكلم بما لم يفهم.. عبارة عجائب لم أعرفها، تقدم لنا مبدأً روحيًا هو: هناك أمور في حكمة الله، علينا أن نقبلها، وأن كنا لا نعرفها.. كان أيوب يقول قديمًا في تعجب واستنكار: " هل الخير من الله نقبل والشر (أي المتاعب) لا نقبل؟! (أي 2: 10). ولكن مشكلته في تجربته، أنه انتقل من مبدأ القبول إلي مبدأ الفهم والإدراك. فأصبح ما لا يدركه، يتكلم بأقوال ضده. ولكنه في انسحاق شعر بذلك الخطأ. لأن هناك حكمة من الله، قد لا ندركها، هي عجائب فوق فهمنا ولكن علينا أن نقبلها.. وهكذا قال لله بعد ذلك "اسمع الآن وأنا أتكلم. أسألك فتعلمني". هنا لا يقف من الله موقف المحاور والمجادل وألم جاوب والمناقش. وإنما في اعترافه بجهله، يقف كتلميذ يقول لله "أسألك فتعلمني". لقد تجرد هنا من فهمه، حسب قول الوحي الإلهي فيما بعد " وعلي فهمك لا تعتمد" (أم 3: 5). وكما اعترف بجهله، وبنطقه بما لم يفهم، كذلك وجد واجبًا عليه أن يرفض ذاته وأشياء كثيرة فقال: لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد" (أي 42: 6). يرفض كل أفكاره أثناء احتجاجه. يرفض ما قاله في تبرير نفسه. يرفض عبارة أنا كامل، وعبارة أنا بار. يرفض ما قاله عن عداوة الله له، واتخاذه خصمًا له. يرفض عبارة يستذنبني، وفي علمه أنني بار. يرفض عبارات: يفترسني. يقتلني. أهوال الله مصطفة ضدي. يرفض أيضًا كل ما قاله عن عظمته (أي 29، 30). ويندم علي ذلك. في التراب والرماد. حقًا بعد ما عرفته يا رب عن عظمتك غير المحدودة، وأصبحت في نظر نفسي - مجرد تراب ورماد. ولما وصل أيوب إلي التراب والرماد ورفض الذات، انتهت تجربته. بقي عليه قبل أن يرد الله سبيه، وأن يصلي من أجل أصحابه أولئك الذين قال عنهم أنهم "معزون متعبون، وأطباء بطالون"، وقال عن حديثهم معه " أما من نهاية لكلام فارغ!" وأمر الرب أليفاز التيماني وصاحبيه أن يذهبا إلي أيوب، لكي يصلي من أجلهم ويشفع فيهم، ولا يصنع معهم الرب حسب حماقتهم (أي 42: 8) قائلًا لهم "لأنكم لم تقولوا في الصواب كعبدى أيوب". نلاحظ أن أيوب - لما تاب وندم - لم يذكر له الرب ما وقع فيه من أخطاء بعد التجربة. كما قال الرب في سفر أرمياء النبي "أصفح عن إثمهم، ولا أذكر خطيتهم بعد" (أر 31: 34). وكما قال في سفر حزقيال النبي " كل معاصيه التي فعلها لا تذكر عليه. في بره الذي عمل يحيا" (حز 18: 22). " ورد الرب سبي أيوب، لما صلي لأجل أصحابه "، "وزاد الرب علي كل ما كان لأيوب ضعفًا ً" (أي:42: 10) وبارك الرب آخر أيوب أكثر من أولاه". ووهبه الله ضعفًا في الغنم والإبل والأتن التي فقدها (أي 42: 12) (أي 1: 3). ولكنه لم يعطه ضعفًا في البنين والبنات، لأنهم لم يفقدوا. هم أحياء " ليس موت لعبيدك يا رب، بل هو انتقال". وهكذا بقي لأيوب بعد التجربة سبعه بنين وثلاث بنات، كما كان له من قبل. فيكون الضعف هو عدد ما رزق به بعد التجربة. مع عدد الذين ماتوا.. أما الميزة والمكافأة، فهي قول الكتاب " ولم توجد نساء جميلات كبنات أيوب في كل الأرض" (أي 42: 15). هل نتجرأ ونقول: أعطاه أيضًا ضعفًا في العمر، إذ عاش بعد التجربة 140 سنة (أي 42: 16) إذا افترضنا أن عمره كان أثناء التجربة 70 عامًا... حقًا كما قال يعقوب الرسول: " قد سمعتم بصبر أيوب، ورأيتم عاقبة الرب. لأن الرب كثير الرحمة ورؤف "(يع 5: 11). نتعلم من تجربة أيوب، أن لكل تجربة نهاية. لا توجد مشاكل أو متاعب في صعود إلي مالا نهاية. إنما المتاعب لها شكل هرمي، يصل إلي قمته ثم ينحدر. ويعجبني قول أيوب في عمق تجربته: " قد علمت أن ولي حي، والآخر علي الأرض يقوم. وبعد أن يفني جلدي هذا، وبدون جسدي، أري الله "(أي 19: 25، 26). ولكن سمح الله له أن يراه، قبل أن يفني جلده، وقبل خروج روحه من جسده. فقال للرب " بسمع الأذن سمعت عنك، والآن رأتك عيني "(أي 42: 5). |
الساعة الآن 08:47 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025