![]() |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
أطفال بيت لحم الشهداء بدأ العهد الجديد بشهادة فاخرة للمسيح يسوع، تزامنت مع ميلاده الإلهي، إنها شهادة شُهداء بيت لحم الأطفال الذين استُشهِدوا من أجل المسيح دون أن يدروا وهم لم يعرِفوا أن يتكلموا بعد، وذويهم يبكون موتهم كشُهداء، والمسيح جعلهم خليقين بأن يكونوا له شهودًا، مُتسربلين بالثِياب البِيض كجيش... أي هبة عظيمة هذه!! وبأي استحقاقات فاز هؤلاء الأطفال بالنُّصرة؟ إنهم وهم لم يعرفوا أن يتكلموا بعد صاروا شهود إيمان للمسيح وإذ أعضاؤهم لم تَزَل غضَّة لم تكن كُفئًا لخوض المعارِك بعد، إلاَّ أنهم فازوا بإكليل النَّصر.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
مفهوم كلمة "شاهد" استُعمِلت كلمة ”شاهِد“ في العهد الجديد كما يتضح في (مر 14: 63 ؛ مت 26: 65)، بمعنى الشهادة أمام القضاء والمُحاكمات لذلك صاح رئيس الكهنة قائِلًا: ”ما حاجتنا بعد إلى شهود“، كذلك الحال في أعمال الرسل (6: 13) عن شهادِة الزور التي أُقيمت ضد إستفانوس رئيس الشمامِسة، وكذلك جاء لكلمة ”شاهِد“ استعمال هام في رسالِة بولس الرسول ”أمسِك بالحياة الأبدية التي إليها دُعِيت أيضًا واعترفت الاِعتراف الحَسَن أمام شهودٍ كثيرين“ (1تي 6: 12)، وهو اعتراف المعمودية وربما الرسامة التي قَبَلَهَا تيموثاوس وبُناءًا عليها استلم التقليد. ولكن لوقا البشير أعطى كلمة ”شاهِد“ بُعدًا جديدًا عندما ذكر قول السيِّد المسيحلتلاميذه ”وأنتم شهود لذلك“ (لو 24: 48)، وعاد في سِفر الأعمال يُؤكد نفس الحقيقة ”ستنالون قُوَّة للشهادة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شُهودًا“ (أع 1: 8)، فشهادِة التلاميذ تبدأ من أورشليم حتى أقصى الأرض وهي عن وقائِع حياة المسيح وآلامه على الأرض، كما اتضح من أول كرازةلبطرس الرسول بعد حلول الروح القدس مُخاطِبًا الشعب ”يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شُهود لذلك. ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامهُ الله من بين الأموات ونحن شُهود لذلك“ (أع 2: 32 ؛ 3: 15). فكان شرط التلمذة للرب يسوع هو ”الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا يصيرُ واحد منهم شاهِدًا معنا بقيامتهِ“ (أع 1: 21 – 22). لقد صار الواقِع الإنجيلي إعلان روحي، فليست الشهادة شهادة لعقائِد ولا لأساطير ولا لتأمُلات ولا لفلسفات بل لأحداث أخذت واقِعها في ظِل التاريخ. فأصبحت الكرازة الإنجيلية شهادة، والشهود لهم صِفة مُميزة إذ عاصروا الأحداث واختيروا خصيصًا لهذا الغرض، واُعطوا كل الإمكانيات التي تُهيِّئ لهم الشهادة بها (لو 24: 48 ؛ أع 5: 32)، وقُوَّة الشهادة رهن لموعِد الآب من السماء لذلك عليهم أن يلبثوا في أورشليم حتى يلبسوها. وبحلول الروح القدس يوم الخمسين انطلقت الشهادة بقوَّة، فالجماعة الرسولية شهود رؤية عاينوا ولمسوا ”يسوع الذي من الناصرة..جَالَ يصنع خيرًا.. نحن شُهود بكل ما فعل“ (أع 10: 38 – 39)، وللتأكيد على المغزى الخلاصي لهذه السيرة مُجمله ”أوصانا أن نكرِز للشعب ونشهد بأنَّ هذا هو المُعيَّن من الله ديَّانًا للأحياء والأموات له يشهدُ جميع الأنبياء أنَّ كل من يُؤمِن به ينال باسمِهِ غُفران الخطايا“ (أع 10: 42-43). ونتقابل مع معانٍ أخرى كثيرة عن الشهادة في حقبِة العهد الجديد، فقد استمرت آلام المسيح الرأس في حياة المُؤمنين به أعضاء جسده المُمجد السِّرِّي، فهم أنبياء العهد الجديد ”فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم“ (مت 5: 12)، وكان لابد لأعضاء جسد المسيح (الكنيسة) أن يُعدُّوا لحَمْل الصليب كشرط للتلمذة والتَّبعيَّة لهم (مر 8: 34 ؛ مت 6: 29 ؛ لو 9: 23)، لكي يحيوا بحسب الروح والإيمان الذي سُلِّمَ إليهم مرة (يه 3). ركِّزِت الأناجيل دومًا على مصير التلاميذ وما ينتظرهم من ألم واضطهاد اقتداءً بالسيِّد والمُعلِّم (مر 13: 9 – 13 ؛ مت 24: 9 – 13 ؛ لو 21: 12 – 19)، وكان بطرس ويعقوب أول مثالين، وإذ ليس التلميذ أفضل من مُعلِّمه لذا كان من الحتمي أن يتألم تلاميذ المسيح كما تألم هو ”إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم“ (يو 15: 20)، فليس للمسيحي على الأرض سوى الآلام والموت ويُؤكد التلميذ بولس أنه سيقوم ويحظى بمجد المسيح ”مُتمثلين بنا وبالرب“ (1تس 1: 6)، وفي سِفر الأعمال وكذا في الرسائِل البولُسيَّة Pauline epistles أي رسائِل بولس الرسول، يتضح الجانِب الكفاري في آلام الإنسان المسيحي، فلم يعُد الاضطهاد سبب حزن أو خوف بعد، بل غدًا متوقعًا كسِمة أساسية للعصر المسيحي الذي يحيونه، بعد أن صار الألم بركة ومجد، والاضطهاد من أجل المسيح فرح وسرور.. ونرى التلاميذ فَرِحين مُتهللين عند بِدء اضطهاد هيرودس أغريباس سنة 44 ميلادية، كما فَرِحوا عندما حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه (أع 5: 41، قابِل 9: 16). كلمة ”شاهِد“ في كتابات القديس يوحنا الرَّائي: ونظرة إلى الاستعمال الخاص لكلمة ”شهادة“ في كتابات القديس يوحنا الإنجيلي نرى كيف تطور مفهوم كلمة ”شهادة“ حتى انتهى إلى إعلان المضمون الأساسي للإنجيل الذي اعتُبِر من وجهة نظر الإيمان واقِع عملي أسَّسهُ الله، واقِع على أعلى مستوى يستحيل التحقُّق منه على مستوى الحدث الأرضي. وقارِئ إنجيل يوحنا ورسائِله يحِس أنَّ كاتِبها شاهِد عيان للأحداث ومُتلامِس معها ”قد رأينا ونشهد ونُخبِركم“ (1يو 1: 2)، فالشهادة للمسيح بحسب فِكْر يوحنا الإنجيلي تعتمِد على الإيمان به ”من يُؤمِن بابن الله فعنده الشهادة في نفسه“ (1يو 5: 10). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
القديس إسطفانوس أول الشهداء نتقابل مع كلمة ”شهيد“ لأول مرة بمعناها الكنسي التقليدي ”شهيد“ في قول الرسول بولس عن إستفانوس ”وحين سُفِكَ دم إستفانوس شهيدك كنت أنا واقِفًا وراضيًا بقتله“ (أع 22: 20)، لقد شهد إستفانوس للحق الإنجيلي وقدَّم بُرهانًا على الإيمان المسيحي أقوى من كل شهادة الرؤية والحِس واللمس. فإستفانوس لم يكن ضمن التلاميذ لكن لمَّا اختير ضمن السبعة شمامسة ظهرت قوَّة شهادته في محاورته مع اليهود، وكيف كان يفحمهم حتى امتلأوا حقدًا مُفترين عليه، وفي لحظِة استشهاده ”شَخَصَ إلى السماء وهو مُمتلِئ من الروح القدس فرأى مجد الله ويسوع قائِمًا عن يمين الله“، ومن فَرَحه بهذه الرؤية الفريدة صاح للجموع الحاقِدة ”ها أنا أنظُر السموات مفتوحةً وابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله“ (أع 7: 55 – 56)، نعم لقد شاهد المسيح في المجد فصار بعد ذلك شهيدًا. وموت المسيح في منظور إستفانوس الشهيد، يُمثِّل ذروة آلام الأنبياء في العهد القديم ”أي الأنبياء لم يضطهدهُ آباؤُكم وقد قتلُوا الذين سبقوا فأنبأوا بمجيء البار الذي أنتم الآن صرتم مُسلِّميهِ وقاتليهِ“ (أع 7: 52)، وامتثالًا بمسيحه صلى رئيس الشمامسة إستفانوس من أجل أعدائِهِ طالِبًا لهم الصفح (أع 7: 60)، لذلك مُنِح أن يرى مجد المسيح في لحظات استشهاده الأخيرة (أع 7: 56)، وكما في رؤيا حزقيال، رأي ابن الإنسان قائِمًا عن يمين الله، فاستفانوس شهيد ونبي، وكان يُلقب ”بالشهيد الكامِل The perfect martyr“ في تقليد الكنيسة في القرن الثاني. وكثيرًا ما أشار الدارِسون إلى مغزى ودلالِة الآيات التي تصِف استشهاد إستفانوس، فعندما بدأ يتحدث مع السنهدرين Senhedrin صار وجهه كوجه ملاك (أع 6: 15)، وهكذا أعلن مجد الله المحفوظ للأبرار الذين سيشتركون في الحكم يوم الدينونة. ونرى في القديس إستفانوس سِمات ثلاث حدَّدها بعض الشارحين فيما بعد تُميِّز الشُهداء وتجعل للكنيسة الحق في إطلاق هذا اللقب عليهم:- 1. الامتلاء من الإيمان والروح القدس (أع 7: 5)، فالشهادة للمسيح ليست بالعقل والذاكرة أو بالكلام إنما بالروح القدس روح الحق الذي من عند الله ينبثِق ويشهد للمسيح ويذكُر بكل أقواله وأعماله ”هو يشهدُ لي وتشهدون أنتم أيضًا“ (يو 15: 26 – 27)، لأنه لا يقدِر أحد أن يقول أنَّ يسوع رب إلاَّ بالروح القدس (1كو 12: 3)، لذلك لم يحظَ إستفانوس بمجرد رؤية لما لا يُرى بل قدَّم دليلًا على انسكاب الروح القدس الذي كان بدوره يُعلِن نهايِة الدهر بحسب التقليد. 2. الكرازة بالمسيح والمُجاهرة العلانية بالإيمان، والدعوة للتوبة ونوال نعمة المعمودية على اسم المسيح (أع 7: 37، 51). 3. تقديم الحياة بالكامِل كبرهان على صِدق الشهادة بالصلاة والصفح وطلب الغُفران وعدم التذمر ورؤيِة المجد العتيد بفرح (التجلي الرؤيوي)، تلك هي الشهادة لآلام المسيح وشَرِكَة المجد العتيد أن يُعلن. الكرازة الإنجيلية والشهادة في بدايات المسيحية: ارتبط تحمُّل الآلام من أجل الإيمان والكرازة في ذهن القديس بولس بعمل الشهادة witnessing للإيمان، فلكلٍ منهما نفس الدرجة من الأهمية وهما مُتحايكين معًا لا ينفصِلا عن بعضِهما البعض. فبعد صعود السيِّد المسيح، استمرت الشهادة خلال الروح القدس الذي يشهد للمسيح (يو 15: 26)، ويتكلم على أفواه المسيحيين عندما يقفون أمام الوُلاة والملوك، تمامًا مثلما تكلم قديمًا على أفواه الأنبياء. وقد كان المجيء الثاني، في فِكر المسيحي الأول، يتضمن استعلان المسيح كقاضي المسكونة كلها، الذي سيأتي إلى العالم في نار لهيب ويُجازي لأنَّ له النقمة على الذين لا يعرفونه، يسكُب سخطه ونقمته على الأمم التي لم تعرِفه (أر 10: 25). وقُرب نهايِة القرن الأول، عندما كان الاضطهاد قد بدأ فعلًا، كتب الرسول بولس رسالته إلى العبرانيين، وكتب يوحنا الرائي رؤياه. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات والكتب الأخرى).وهو منفي في بطمُس، وكلاهُما (أي العبرانيين والرؤيا) يُلخِص ويُقدِّم لنا رؤيِة الكنيسة الأولى للاستشهاد، بعد أن اصطبغا بالصبغة المجيئية الانقضائية (الأسخاتولوچية). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في رسالة بولس الرسول إلى العبرانيين يتضح في رسالِة بولس الرسول إلى العبرانيين الارتباط المُباشِر بين آلام وموت المسيحيين وبين طبيعة وموت المسيح الكفارية ويستهِل بولس الرسول رسالته بأنَّ المسيح قد مات (عب 1: 3) لأنه بدون سفك دم لا تحصُل مغفرة (عب 9: 22)، والمسيح ربنا المُصارِع العظيم الذي غلب الشيطان وسحق رأسه إلى الأبد وجعلنا نتحارب مع عدو مهزوم بعد أن انتزع الغلبة لحسابنا وطرحه أرضًا هو ذبيحة كل الذبائِح.. لقد صار المسيح كمال الذين يشهدون للحق بالإيمان، فسدُّوا أفواه الأُسود (11: 33)، ورُجِموا ونُشِروا (11: 37) (إشعياء النبي)... إنها إشارة إلى المسيح رئيس الإيمان ومُكمِّلهُ الذي احتمل الآلام من أجل السرور الموضوع أمامه.. وتلك هي دعوتنا أن نُحاضِر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا (12: 1) وأن نُقاوِم حتى الدم مُجاهدين ضد الخطية (12: 4)، لأنَّ الارتداد هو دوس دم ابن الله (10: 29)، هو خطية جميع الخطايا وأفظعها. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في سفر الرؤيا يكتُب لنا القديس يوحنا في سفر الرؤيا من منظور مَنْ عاين نهايِة الدهر، ورأى ملكوت الله قد أتى فعلًا، لقد كان هو نفسه منفي من أجل كلمة الله ومن أجل شهادِة يسوع المسيح (1: 2)، لذا فقد كانت له شَرِكَة في مصير هؤلاء الذين شهدوا فعلًا (6: 9 ؛ 12: 17 ؛ 20: 4)، وفي نظرته إلى حِفْظ وصايا الله وإلى الشهادة ليسوع المسيح كان يراهُما شيئًا واحدًا (12: 17)، وكانت الشهادة Witness بالنسبة له، هي السبيل إلى الاستشهاد Martyrdom. ورأى تحت المذبح نِفوس الشُهداء (6: 9)، وأنتيباس الأمين الذي اضطهده أوچين ففاز بإكليل الشهادة (12: 13)، بدم الخروف وبسبب كلمة الشهادة حتى الدم. لقد طالب الشُهداء بالانتقام ”حتى متى أيها السيِّد... لا تقضي وتنتقِم لدمائِنا“، لكن هناك العتيدين أن يقتلُوا مثلهم وهكذا امتدت الشهادة وستمتد إلى مجيء المسيح عندما يشترِك معه الشُهداء في القضاء فيُلقي عَبَدِة الأوثان في البُحيرة المُتقِدة بالنار والكبريت الذي هو الموت الثاني (21: 8). |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في المنظور الكنسي إنَّ الشُهداء تابِعون للمسيح ربنا الشهيد الأول الذي أطاع حتى الموت موت الصليب، ووضع نفسه طواعية باختياره وإرادته ”لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخُذها أيضًا“. لذلك قَبَل الشُهداء الآلام بإرادتهم محبة فيمن مات من أجل خلاصِهِم فبكَّروا إلى ساحات العذاب باختيارِهِم وقبولهم ”التكريس والاختيار“، إنه التعبير عن المحبة الصادِقة المُكرسة والمُخصصة للمسيح، التي هي ركيزة حمل الشهادة لمُخلِّصنا الصَّالِح، إنه تقديس النَّفْس وتقديمها إيجابيًا بالموافقة والقبول الكامِل، لأنَّ الشهادة أولًا وقبل كل شيء مُشاركة واتحاد مع المسيح الذبيحة الكاملة الحقيقية والتي بدونها لن تُقبل أيَّة ذبيحة، إنه الاتحاد الكياني والصميمي بشخص المسيح ربنا وإلهنا ومُخلِّصنا ومَلِكنا كلنا. هؤلاء الشُهداء غلبوا الشيطان بدم الحمل وبكلمة شهادتهم ولم يحبُّوا حياتهم حتى الموت، وحفظوا لنا وديعة الإيمان مع كل سحابِة المُعترفين، وديعة نقية بلا عيب أو انحراف، لذلك لاقوا الكثير من الأهوال والأتعاب لأجل ثباتِهِم في الإيمان المُسلَّم مرَّة للقديسين.. وفي الوقت الذي كان فيه الوُلاة والحُكام يتفننون في تعذيبهم، كانت الكنيسة ثابتة صامدة غير مُتزعزِعة... وبالرغم من نهش الذئاب لها، كان الحِملان في السراديب تحت الأرض يصلُّون ويتقدمون للأسرار، ويصومون (جماعيًا) من أجل هذه الذئاب!!! فالكنيسة في مُستودع الشُهداء وأُم الشُّهداء جميعًا، التي أعدَّت من أولادها قديسين وجعلت من أعضائها شهود وشُهداء، غرست فيهم التلمذة على الإنجيل ورضَّعِتهم لبن العقيدة العديم الغِش، ودرَّبِتهم على النُسك والبتولية والأصوام، وعلَّمتهم المحبة والصلاة والسلوك بوداعِة الحِملان، وجعلتهم يُمارِسون الشَرِكَة والأغابي والتسبيح ورعايِة المُحتاجين ومُساندة الأعضاء الضعيفة والمُرتدَّة... لذلك اجتمع شعب إسنا كله مع أسقفه، وتناولوا من الأسرار الإلهية استعدادًا لمعركِة الاستشهاد، فدم يسوع المسيح هو الذي أعطى للشهادة قُوَّة وجسارة عجيبة، دم المسيح المسفوك في كأس التناول هو الذي يُعطي للشُّهداء القُدرة على سفك دمائِهِم، جسد المسيح المكسور على المذبح من أجل خلاصنا في الصينية، هو الذي يهِبهُم النعمة والقوَُّة والمعونة والغلبة وشَرِكَة الحياة الأبدية وعدم الفساد وغُفران الخطايا... |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الاستشهاد سرّ كنسي تعتبِر الكنيسة شهادِة الدم معمودية، فهي سِر من أسرارها يُعادِل سِر المعمودية، والموعوظ الذي يُسفك دمه قبل أن يتعمَّد يُحسب استشهاده عِمَادًا (حسب تعبير المُدافِع ترتليان). فالاستشهاد صبغة أي (بابتِزما) معمودية، لذلك يقول العلاَّمة ترتليان في مقال (ترياق العقرب) الذي كتبه ضد الغنوسيين الذين يُسميهم بالعقرب لأنهم كانوا يستهينون بالاستشهاد: ”إنَّ الاستشهاد ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية“. ويقول العلاَّمة أوريجانوس السكندري عن الاستشهاد بسفك الدم باعتباره واسِطة للنعمة، إنه ”واحد من سبع طُرُق لمغفِرة الخطايا“، ويقول أيضًا ”عالمين أنَّ خطايانا التي اقترفناها بعد المعمودية يرفعها استشهادنا بالدم فهو معمودية الدم الثانية“. ويعتبِر العلاَّمة أوريجانوس الاستشهاد امتدادًا لصلاة جحد الشيطان التي نُصليها في ليتورچيا المعمودية، فيقول: ”فإذا كنا قد جحدنا آلهة الأوثان والشيطان، كيف نحنِث ذلك مرة أخرى؟..... وإذا أنكرنا المسيح على الأرض، فسيُنكرنا حتمًا في السماء، أمَّا الذين يعترفون به علنًا، فسيأخذهم معه في الفردوس“. وأكَّد القديس كبريانوس على سرائِرية الاستشهاد عندما قال: ”في استشهاد الموعوظين بسفك الدم تقوم الملائكة بطقس التعميد، لأنَّ عِمَاد الماء هو مغفرة الخطية وعِمَاد الدم هو إكليل الفضائِل...“. ويقول أيضًا القديس كيرلُس الأورشليمي ”أي إنسان لم يقبل المعمودية ليس له خلاص إلاَّ الشُهداء، الذين يدخلون الملكوت بدون الماء، لأنَّ المُخلِّص في تقديمه الخلاص للعالم على الصليب طُعِن في جنبه فأفاض منه دم وماء، فالذين يعيشون في وقت السلام يلزمهم أن يعتمِدوا بالماء، والذين في وقت الاضطهاد يعتمِدون بدمِهِم، لأنَّ الرب اعتاد أن يدعو الاستشهاد عِمَادًا، قائِلًا ”أتشربان الكأس التي أشربها أنا وتصطبِغان (تعتمِدان) بالصِبغة (بالمعمودية) التي أصطبِغ بها أنا“ (مر 10: 38)“. وهناك علاقة سِريَّة حميمة بين سِر الافخارستيا والاستشهاد، فالشهيد إذ يرى في التناوُل السِر الذي تتحقق بواسطته الشَرِكَة مع الله في المسيح يسوع، لأنَّ كل من يأكل منه يحيا به وتكون له الحياة الأبدية ”يُعطَى عنَّا خلاصًا غُفرانًا للخطايا وحياةً أبدية لكل من يتناول منهُ“.يُقبِل على الموت بيقين عدم الموت ورجاء الحياة الأبدية التي لا يقوى عليها الموت، وأيضًا لا تكمُل احتفالات الكنيسة بتذكارات الشُهداء إلاَّ بالافخارستيا. ولأنَّ الاشتراك في سِر الافخارستيا هو شَرِكَة في موت المسيح، وقيامته بالأكل من جسد الرب المكسور ودمه المبذول المسفوك، لذا فمسيرة الشهيد مُتماثلة تمامًا مع وليمة العشاء الرباني، فهي تستمِد كل قيمتها من آلام المسيح ربنا، فيُصبِح المسيح بالنسبة للشهيد ليس الإله الصامِت المُمتلِئ غموضًا بل هو ذاك الذي أدركناه، الذي هو غايِة الطريق، الألفا والأوميجا، الذي بالرغم من أنَّ طبيعته واحدة إلاَّ أنها تطلب كثيرين، ليتمتعوا بغِناه ومجده وشَبَعه وقُوَّته اللانهائية والغير موصوفة. والاستشهاد ذبيحة افخارستيَّة اختبرها القديس أغناطيوس الأنطاكي الذي وصف الاستشهاد وصفًا ليتورچيًا:- ”الشهادة ضحية كفَّارية أُقدِّم نفسي ذبيحة، حِنطة تصير خُبزًا“ لذلك قدَّم الشهيد أغناطيوس نفسه ذبيحة وقُربانًا للذي قدَّم نفسه ذبيحة وقُربانًا من أجلِنا. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في المبنى الكنسي والمذبح في المبنى الكنسي أصبح دعوة للاستشهاد، والتناوُل هو الدُّعامة الروحية لمواجهة تجرُبة الاستشهاد، ومن عصر الاستشهاد المجيد تأتي صلاة تكريس رائِعة، في خدمة ليتورچية سِر المعمودية الخاصة بكنيستنا القبطية أُم الشُهداء، فقبل التغطيس مباشرةً: ”باسم الآب والابن والروح القدس... عبيدك الذين قدَّموا أبنائهم على مذبحك المُقدس الناطِق السمائي رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِكَ“. فالوالِدان يُقدِّما أبناءهم ذبيحة للرب، وتُقدَّم كل نفس ذبيحة للمسيح منذ اليوم الأول لولادِتها وعضويتها في الكنيسة، من خلال رَحِم الكنيسة التي هي المعمودية.. فهل نحن نعيش السِّر؟ وهل نعي طقوس كنيستنا ونُدرِك أعماقها المُذهِلة؟ وهل نحن بحق ذبائِح ومذابِح مُقدسة للسيِّد؟ رائِحة بخور تدخل إلى عَظَمَتِهِ.. ويُقدِّم التاريخ الكنسي القبطي المُمارسة العملية لهذه الصلاة، عندما يُحدِّثنا عن الأُم دُولاجي التي قدَّمت أولادها الأربعة ذبائِح حيَّة لله، والشهيدة رِفقة التي استشهدت مع أولادها الخمسة، وكذلك الشهيدة يوليطة التي قدَّمت ابنها كيرياكوس شهيدًا للمسيح، وزكريا الطفل الشهيد الذي من أخميم، الذي أُحرِقَ هو وأبوه وبسببهما آمن كثيرون. ولأنَّ الكنيسة كنيسة شهادة شُيِدَت على دِماء الشُهداء، أي الجماعة الحيَّة، لذلك احتفظ لنا القديس إيرينموس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو ”مجمع الشُهداء أو Conciliabula Martyrum“، الذي كان يُزيِّن بالزهور وأغصان الشجر في المناسبات الخاصة بتذكارات الشُهداء.. واحتفظ لنا المُؤرِخون المسيحيون في القرن الرابِع بحقيقة هامة وهي إكرام الشُهداء، وكانت الكنيسة الجامِعة في كل مكان تشعُر بجِراح الاضطهاد، ولكنها كانت ترفع رأسها في اعتزاز، فقد خرجت من حمَّام الدم مُعترِفة بالإيمان الرسولي، ولذلك عندما جاء السلام بمشور ميلان سنة 317 م، الذي سمح للمسيحيين بممارسة عبادتِهِم، سارعوا بالبحث عن أماكن استشهاد الرُّسُل والآباء الذين ماتوا تحت التعذيب، وأقاموا عليها كنائِس كانت تُسمَّى Martyrium، وهكذا سجَّل لنا المُؤرِخ الكنسي أڤاميا في مدينة خلقدونية، أنه قد دُفِنَت شهيدة في نفس الكنيسة التي عُقِد فيها مجمع خلقدونية 451 م، بل سجَّل لنا يوسابيوس المُؤرِخ أنَّ كنيسة القيامة التي بناها الإمبراطور قسطنطين الكبير كانت تُسمَّى ”شهادِة المُخلِّص Martyrium Salvatoris“ لأنَّ رأس الكنيسة وعريسها الذي اقتناها له بالدم الكريم، أكمل عمله الخلاصي بالاستشهاد والشهادة. وهكذا اجتهد الإمبراطور قسطنطين بإقامِة عدد من الكنائِس في القسطنطينية جمع فيها ما أمكن الحصول عليه من أجساد الشُهداء. وعن هذه الحقيقة التاريخية يقول القديس أُغسطينوس أسقف هيبو: ”نحن لا نُشيِّد معابِد للشُّهداء كأنهم آلهة، وإنما نحن نُشيِّد أماكِن للتذكار لأنهم وإن كانوا قد ماتوا بالجسد، إلاَّ أنَّ أرواحهم حيَّة في المجد.. كما أننا لا نبني المذابِح في هذه الأماكِن لكي نُقدِّم عليها ذبائِح للشُّهداء لأننا لا نُقدِّم ذبائِح إلاَّ لإلهُّم وإلهنا وربنا ورب الجميع“. ومدح القديس أُغسطينوس أحد كهنته المعروف باسم أراديوس Eradius لأنه بنى كنيسة تذكارًا لشُهداء شمال أفريقيا على نفقته الخاصة. وإذا عُدنا إلى الوثائِق القديمة المُعاصِرة للاضطهاد، لوجدنا أنَّ سبب بُناء هذه الكنائِس إنما يعود إلى اضطهاد دقلديانوس، حيث كانت أغلب اجتماعات الكنائِس تُعقَد في المقابِر وحيث كانت كلمة ”المقابِر“ مُرادِف لاسم الكنيسة. وهذا الارتباط (بين الكنيسة والمقابِر) ارتباط تاريخي فقبل منشور ميلان كان المسيحيون يهربون إلى المقابِر ليُتمِّموا الصلوات والليتورچيات بها هربًا وخوفًا وتقديسًا للأسرار التي قد يعتدي عليها الأُمميون – راجِع القانون 34 من قوانين مجمع Eliberis وهو مجمع مكاني صغير عُقِد أثناء شدة الاضطهاد في عهد دقلديانوس – وهذا هو السبب في وجود تشريعات رومانية قديمة صدرت أثناء اضطهاد دقلديانوس، تمنع عقد اجتماعات في المقابِر وهو ما جاء في المُدونة القانونية الرومانية تحت بند (اجتماعات المقابِر): ”بخصوص اجتماع المسيحيين في المقابِر يمنع بُناء معابِد فوق القبور أو أن تُزيَّن هذه القبور بزينة خاصة، أو أن يحضر أسقف أو من يرأس اجتماع أو أن تُقام صلوات أو طقوس من أي نوع“..وبسبب هذه العادة القديمة ظهرت الكنائِس في المقابِر في عصر السلام، ومن المعروف أيضًا أنَّ القديس أُغسطينوس كان يعِظ في الكنيسة التي بُنِيَت فوق المكان الذي استشهد فيه القديس كبريانوس، والذي كان يُعرف باسم (قبر أو مزار كبريانوس) وهو الاسم الذي وُرِد في مجموعة عظات القديس أُغسطينوس (راجِع عظة 94، 237 في شرح المزمور 38 والتي أُلقِيَت في Cypriani Mensam مزار كبريانوس). ومن المعروف أيضًا أنَّ هذا المزار ضم أيضًا نفس المذبح الذي كان القديس كبريانوس الشهيد يُصلي عليه، والذي نُقِل إلى مكان استشهاده، ووُضِع في المزار حسب شهادِة القديس أُغسطينوس – (عِظة 113 من مجموعة العِظات المُتفرقة، المُجلد الخامِس عامود 1250 من كتابات أُغسطينوس) – حيث يقول: ”أنَّ أهل قرطاچنة اجتمعوا اليوم هنا في مزار الله حيث قبر الشهيد كبريانوس القرطاچي، في يوم الاحتفال بتذكار استشهاده“. ويذكُر أيضًا القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية: ”أنَّ شعب مدينة كاملة يخرُج كله مُسرِعًا إلى المقابِر حيث كنائِس (قبور) الشُهداء“. ويقول بفصاحتِهِ المعروفة ”أننا لا نُفارِق هذه القبور حتى تُستجاب الصلوات، هنا عند هذه القبور يخلع الملوك تيجانهم لكي يصلُّوا إلى الله طالبين النصر.. وهكذا نال الشُهداء والرُّسُل في موتِهِم كرامة الملوك“، ويقول أيضًا في نفس العِظة أنه في مدينة روما نفسها ”يُسرِع الملوك والأُمراء وكل العُظماء وقُوَّاد الجيش للصلاة في قبر صياد السمك (بطرس) وصانِع الخِيام (بولس)، أمَّا في القسطنطينية فإنَّ العُظماء من الملوك الذين يلبِسون التيجان، كانوا يتمنون أن يُدفنوا بجوار الشُهداء الذين كانوا في حياتهم أحيانًا من الخدم أو العبيد أو صيادي السمك“. وهكذا حوَّل الاضطهاد، القبر إلى كنيسة، وصار مكان الموت والعذاب بُقعة مُقدسة، بل صار اسم القبر مُرادِف للكنيسة والمذبح كما نرى عند سُقراط المُؤرِخ، والقديس البابا أثناسيوس الرسولي، ويبدو أنَّ هذه العادة القديمة بدأت في شمال أفريقيا، لأنَّ أوِّل إشارة لها وردت في كتابات ترتليان (حوالي 195) الذي أشار إلى أن قُنصُل شمال أفريقيا الروماني هو الذي منع المسيحيين من الاجتماع والصلاة في المقابِر، حيث كانت الكنائِس قد بدأت تنتشِر في المكان الذي يُدفن فيه الشُهداء، وفي شرح چيروم لسِفر حزقيال النبي يقول أنه وهو شاب صغير كان يدرس في روما، ويذهب للصلاة يوم الأحد في قبر الرسولين بطرس وبولس. ويربُط القديس أُغسطينوس بين المذبح والذبيحة، وبين جسد المسيح كذبيحة وبين الشُهداء، مُعتبِرًا أنَّ أقدر من يُمثِّل جسد المسيح كذبيحة هم الشُهداء!! لذلك كان المذبح يُسمَّى باسم واحد من الشُهداء، مثل كنيسة أُغسطينوس التي كانت تحتوي على مذبح باسم كبريانوس الأفريقي الشهيد... فالعلاقة والصِلة الروحية بين المسيح له المجد والشُهداء والمذبح هو السيِّد نفسه الذبيحة الباقية إلى الأبد، والذي جمع في نفسه الشُهداء والمُعترفين والقديسين جميعًا، وصار بالنسبة لهم الرأس (أف 1: 22)، الذي تنمو منه كل الأعضاء والتي هي بدورها أعضاء شهيدة تحمِل علامات المسيح وجوهر حياته الغالِبة للموت، هؤلاء جميعًا بسبب المعمودية والافخارستيا يتحوَّلون إلى ذبائِح حيَّة ناطِقة بالشهادة الحَسَنَة أو الموت، لذلك تُقام المذابِح بأسمائِهِم لتشبُّهِهِم بالمسيح المُخلِّص، ويُصبِح القداس إعلان شهادة أو استشهاد نقول فيه ونُردِّد: ”بموتِكَ يارب نُبشِر وبقيامتكَ المُقدسة...“. قبل استدعاء الروح القدس، تضع الكنيسة خِتم الاستشهاد أي الإيمان الصحيح على كل واحد فيها لكي يأتي الروح القدس ويُنير بقوَّتِهِ الإلهية معالِم هذا الخِتم بالذبيحة السماوية أي ذبيحة الشُّكر فيرى كل مُؤمِن كيف صار الحال الذي هو فيه، وكيف أنه مدعو للشهادة والتبشير بموت المسيح والاعتراف بقيامتِهِ وصعوده إلى السموات.. عندئذٍ نتحِد نحن كذبائِح بالذبيحة السماوية من خلال المعمودية والميرون والافخارستيا.. وهذا العالم السرائِري الكنسي (الاستشهاد) ليس لأحد عُذر التهرُّب منه (كما جاء بالدسقولية) لأنه ميلاد جديد تربح فيه النَّفْس حياتها الأبدية.. وكل المدعوين للمذبح مدعوين ليكونوا ذبائِح، لأنهم ليسوا من هذا العالم بل هم مُواطِنون سمائيون (مواطنيتهم في السماء)، وهم أعضاء إسرائيل الجديد المفدي، مُتحدين بالذبيحة الإلهية خلال المعمودية والافخارستيا.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الروح القدس والاستشهاد ارتبطت كلمة ”شهيد“ في العهد الجديد منذ استشهاد إستفانوس أوَّل الشُّهداء وحتى الآن، بقبول الموت من أجل الاعتراف بالمسيح كإله وخصوصًا إذا كان ثمن هذا الاعتراف هو الحياة كلها، تحقيقًا للقول ”لا يستطيع أحد أن يقول يسوع رب إلاَّ بالروح القدس“ (1كو 12: 3). وعلامِة حضور الروح القدس الأكيدة في الاستشهاد هي فرح الشُهداء في الضيق، وحُب المُعاندين، وعدم إدانِة أحد، والابتهاج بالتعبير لأنَّ روح المجد والله يحِل عليهم (1بط 4: 12).. لذلك أدَّى الشُهداء شهادتِهِم بقوة الروح القدس، ومن المُستحيل أن يشهدوا للمسيح ما لم يكن ذلك بالروح القدس، الذي صارت الشهادة والاستشهاد أسمى مواهِبه. ولأنَّ الكنيسة هي بيت الحمامة ومُستودع النعمة، والوسط الفريد والوحيد للروح القدس، لذلك يتربى الشُهداء داخِلها، حيث الروح القدس الذي يُقدِّس الأسرار، فحيث الروح القدس هناك تكون الكنيسة، وحيث الكنيسة هناك الروح القدس، والذين لا يتشاركون في الروح القدس لا يرضعون من لبن أُمهم الكنيسة المُقدسة مُربِيَة الشُهداء، ولا شهادة من غير فِعْل الله القدوس الذي يمنح الشُهداء قُوَّة الشِهادة.. |
رد: كتاب الاستشهاد في فكر الآباء "مارتيريا"
الشهادة في التاريخ الكنسي القبطي منذ استشهاد الآباء الأولين الرسولين وما بعدهم، والكنيسة تُعيِّد لهم، مُعتبِرة أنَّ يوم شهادتِهِم هو يوم ميلادهم الحقيقي، وهو ما نُسميه ”مولِد الشهيد“ وهذا التعبير قديم في كنيستنا التي تعتبِر موت الشهيد ليس موتًا بل حياة أبدية، ولهذا احتمل الشهيد الذي نُعيِّد لِتذكاره كل عذاب مُستعذِبًا الألم مُحتقِرًا الموت. لذلك نجد التاريخ الكنسي يُقنِّن أعياد الشُهداء ويُحدِّدها كنسيًا، لنجتمِع فيها ونحتفِل بتذكار ميلاد (استشهاد) الشهيد... بالفرح والتهليل مُتذكرين أنواع آلامه فيكون عِبرة لأبناء الكنيسة كلها.. ويتأكد هذا فيما قاله العلاَّمة ترتليان عن بولس الرسول وميلاده ثانيةً بميلاد جديد في روما لأنه جاز آلام الموت هناك.. من أجل هذا حرصت الكنيسة على إقامِة تذكار آلام الشُهداء في أيام استشهادهم مع عمل سِجِلاَت للتأريخ. وكان المُؤرِخون الأوائِل بغِيرة ونشاط زائِد يهتمون بجمع سِيَر الشُّهداء واستوداعها تاريخ الكنيسة، الأمر الذي حفظ لنا قدرًا كبيرًا من أعمال شهادتِهِم.. ويذكُر تاريخنا القبطي أنَّ أوَّل من دوَّن حوادِث الاستشهاد في تاريخ الكنيسة القبطية هو القديس يوليوس الأقفهصي كاتِب سِيَر الشُّهداء الذي عاش في زمن الطاغية دقلديانوس كشاهِد عيان وشهيد، واهتم جدًا بتحديد تاريخ شهادتهم لعمل تذكاراتِهِم الكنسية، وبكتابِة سِيَر أعمال استشهادهم. كان القديس يوليوس الأقفهصي ثريًا ويشغل منصِبًا كبيرًا في الأسكندرية، وأحب خدمة الأعضاء المُتألِمة، فخدم المُعترفين والشُهداء، يزورهم، يخفِّف آلامهم، يسِد احتياجاتهم، ويدفن أجسادهم.. ولأنه كان من الأثرياء، لذا كان يُساعده ثلاثمائة غُلام من الكَتَبَة والمُساعدين استخدمهم في تسجيل سِيَر الشُهداء وكتابتها وكان معه مِئتان من المُؤرخين.. وبعد أن استبقاه الله لهذا العمل العظيم، ظهر له السيِّد له المجد في رؤيا ليمضي إلى سمنود ويشهد له، وهناك صاحب استشهاده أعاجيب مُتنوعة، حتى قُطِعَت رأسه مع آخرين (ألف وخُمسمائة).. مُبارك الله ربنا، الذي استبقاه من أجل ثباتنا وتعزيتنا ومن أجل ملكوته الأبدي الذي أعدُّه للذين يُحبون ظهوره.. ويذكُر التقليد أنَّ سِيَر أعمال شُهداء مصر مُحتواه في سنكسار cuna[arion يُسمَّى بسنكسار الأسكندرية الجامِع أو سنكسار هيرونيموس، الذي يستنِد إلى سِجِل أعمال شُهداء يوسابيوس القيصري المُؤرِخ الكنسي المشهور.. وهناك أربعة تقاويم قبطية تم نشرها بواسطة العالِم ماي Mai، واثنان آخران بواسطة العالِم سلوان، وكذلك توجد أعمال شُهداء جَمَعْها مشاهير مؤرخي الأقباط كان آخرهم الأنبا ميخائيل أسقف أتريب ومليج.. ولِسِيَر الشُّهداء طبيعة تاريخية، تُسمَّى في الأصول التاريخية بأعمال الشُّهداء Acts of Martyrs = Acta Martyrum ويُسجل في هذه الأعمال الحوارات التي دارت في المحاكِم بين القُضاة أو الوُلاة وبين الشُهداء، وأنواع العقوبات، وكل ما حدث من أعمال شهادة كتراث للكنيسة وكِنز للبركة والتقوية والمعونة، فضلًا على تدوين كلِمات الشُهداء والرؤى التي تُعلَنْ لهم.. وهناك تقارير تاريخية ووثائِق كَتَبْها شهود العيان وسجَّلوا فيها بلغتِهِم ما سمعوه ورأوه، وكانت هذه التقارير تعتني بوصف آلام وعذابات الشُهداء وتُسمَّى بلغة التأريخ Passions or Martyria وكذا بعض القصص التي يرويها الآباء عن ظروف الاستشهاد في تعليم الشعب، وهذه القصص تُكتب غالِبًا في زمن مُتأخِر عن زمن الاستشهاد، وتُسمَّى بلغة التأريخ Legend أي رواية تاريخية. وهناك نوعان من روايات الاستشهاد، هما (أعمال) و(آلام) الشُهداء، فأعمال الشُّهداء تتضمن محاضِر جلسات المُحاكمة، والتي تحتوي على أسئِلة السلطات وأجوِبة الشُهداء عليها، مُسجلة بواسطة كَتَبِة المحكمة الرسميين، ثم الأحكام التي نطق بها القُضاة، تلك الوثائِق التي حُفِظَت في دواوين الدولة ومعروفة لدى الكُّتَاب الكنسيين مثل سيرة يوستينوس الشهيد، وسيرِة الشهيد كبريانوس.. وهذه المصادِر لها قيمتها التاريخية التي لا شك فيها بسبب واقعيتها وأصالتها.. أمَّا آلام الشُهداء فهي الروايات التي سَرَدْها شهود العيان المُعاصرين لها، ثم جُمِعَت ودُوِنَت بعد حدوثها بوقت قليل مثل قصة استشهاد بوليكاربوس، الذي سُرِدت سيرته قبل العيد السنوي الأوَّل لذكرى استشهاده... نصوص هذه الوثائِق التاريخية تحمِل لنا الأخبار كما سجلتها اليد الأولى، وتُعطينا أيضًا شهادة صحيحة عن إيمان الكاتِب والبيئة التي كان يتحرك فيها، ووعيه الخاص بتقوى الشُهداء.. وإلى جانِب التأريخ الخاص بالشُهداء، نجد أنَّ سِيَر الشُّهداء منذ العصور المُبكرة للكنيسة قد دخلت ضمن الصلوات الليتورچية القبطية، ولم يعُد من الممكن أن نحتفِل بتاريخ تِذكارهم إلاَّ في القداسات الإلهية. |
الساعة الآن 11:40 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025